لو أنصف الناس لاستغنوا عن ثلاثة أرباع ما في «الصيدليات» بالضحك، فضحكة واحدة خير ألف مرة من «برشامة أسبيرين» وحبة «كينين» وما شئت من أسماء أعجمية وعربية؛ ذلك لأن الضحكة علاج الطبيعة، والأسبيرين وما إليه علاج الإنسان؛ والطبيعة أمهر علاجا وأصدق نظرا وأكثر خنكة. ألا ترى كيف تعالج الطبيعة جسم الإنسان بما تمده من حرارة وبرودة، وكرات حمر وبيض، وآلاف من الأشياء يعالج بها الجسم نفسه ليتغلب على المرض ويعود إلى الصحة، ولا يقاس بذلك شيء من العلاج المصطنع.
فانفجار الإنسان بضحكة يجري في عروقه الدم؛ ولذلك يحمر وجهه، وتنتفخ عروقه؛ وفوق هذا كله فللضحكة فعل سحري في شفاء النفس وكشف الغم، وإعادة الحياة والنشاط للروح والبدن، وإعداد الإنسان لأن يستقبل الحياة ومتاعبها بالبشر والترحاب.
ولو أنصفنا - أيضا - لعددنا مؤلفي الروايات المضحكة والنكت والنوادر البارعة التي تستخرج منك الضحك وتثير فيك الإعجاب والطرب، وهؤلاء الذين يضحكون بأشكالهم وألاعيبهم وحركاتهم - أقول: لو أنصفنا لعددنا كل هؤلاء أطباء يداوون النفوس، ويعالجون الأرواح، ويزيحون عنا آلاما أكثر مما يفعل أطباء الأجسام، ولعددنا من يستكشف الضحكات في عداد من يستكشف دواء للسل أو للسرطان أو نحو ذلك من الأدواء المستعصية؛ فكلاهما منقذ للإنسان من آلام، مصلح لما ينتابها من أمراض.
والضحك بلسم الهموم ومرهم الأحزان؛ وله طريقة عجيبة يستطيع بها أن يحمل عنك الأثقال، ويحط عنك الصعاب، ويفك منك الأغلال - ولو إلى حين - حتى يقوى ظهرك على النهوض بها، وتشتد سواعدك لحملها. •••
ومن مظاهر رقي الأمم أن نجد نواحي المضحكات ملائمة لاختلاف الطبقات: فللأطفال قصصهم وألاعيبهم ومضحكاتهم، ولعامة الشعب مثل ذلك، وللخاصة وذوي العقول الراقية المثقفة ملاهيهم وأنديتهم ومضحكاتهم. فإن رأيت أمما - كأممنا الشرقية - حرم مثقفوها من معاهد الضحك، وكانت مسلاتهم الوحيدة أن ينحطوا ليضحكوا، أو يرتشفوا من الأدب الغربي والتمثيل الغربي ليضحكوا، فهي أمم ناقصة في أدبها، فقيرة في معاهدها؛ وهذا أيضا ضرب من ضروب الفلسفة المظلمة، فلنعد إلى الضحك. •••
تعال معي نتعاهد على أن نرعى في حياتنا جانب الضحك كما نرعى جوانب الصحة والمرض، وجانب الهزل بجوار جانب الجد، ولنتخذ علاجا في بعض أمورنا.
قال لي صديق مرة: إنه حاول أن يتغلب على همومه وأحزانه بعلاج بسيط فنجح؛ ذلك أنه إذا اشتد به الكرب، وتعقدت أمامه الأمور حتى لا يظن لها حلا، انفجر بضحكة مصطنعة فسري عنه وتبخرت همومه.
ويروى أنه كان عند اليونان فيلسوفان يلقب أحدهما الفيلسوف الضاحك، والآخر الفيلسوف الباكي؛ كان أولهما يضحك من كل شيء ضحك جد أحيانا، وضحك سخرية أحيانا. يضحك من سخف الناس ومن وضاعتهم وحقارتهم، ويبكي الثاني مما يضحك منه الأول.
وقرات مرة قصة لطيفة أن بئرا ركب عليه دلوان، ينزل أحدهما فارغا، ويطلع الآخر ملآن، فلما تقابلا في منتصف البئر سأل الفارغ الملآن: مم تبكي؟ فقال: وما لي لا أبكي؟ أخذ الرجل مائي وسيأخذه وسيعيدني إلى قاع البئر المظلم! وأنت مم تضحك وترقص؟ فقال الفارغ: وما لي لا أضحك؟ سأنزل البئر وأمتلئ ماء صافيا وأطلع بعد إلى النور والضياء.
وقد أراد مؤلف القصة أن يصور نفس الموقفين اللذين وقفهما الفيلسوف الضاحك والفيلسوف الباكي، وأن الحياة مليئة بأشخاص يتولون عملا واحدا، ثم هذا ينظر إليه من الجانب السار الفرح، وذاك ينظر إليه من الجانب الحزين القابض.
صفحه نامشخص