نحتاج إلى مؤتمرات تبيد الخوف إلا الخوف من الذل والعار، وتبيد السيطرة إلا احتراما لخلق أو قانون. •••
ما أصعب هذه المؤتمرات، وما أشقها، وما أحوجنا إليها! إنها تتكون من رجال من أمة واحدة، ولكنها أصعب من مؤتمر مثلث فيه كل الدول؛ لأنها مؤتمرات لا تلغي قانونا موضوعا، ولكنها تلغي أخلاقا موروثة، وتقاليد سمرها الزمان، وتحطم أوتادا سهر عليها الحاكم الظالم المستبد حتى صلبت الأرض عليها. •••
لست أومن بنظرية العمال العاطلين حتى يصعب على الأجنبي والمصري الحصول على العيش الرغد على السواء. فأما وقد سهل تحصيل العيش الأجنبي وصعب على المصري، فليست النظرية - إذا - نظرية عمال عاطلين، ولكنها نظرية فقر في الأخلاق، وجهل بفن الحياة. •••
فهل لنا وقد نجحنا في مؤتمر الامتيازات الأجنبية أن نوجه هممنا لمعالجة أختها الامتيازات التي هي من نوع آخر علنا ننجح أيضا؟
علي بك فوزي
لم يتجل لي وفاء المصري وإخلاصه كما رأيته أول أمس في جنازة أستاذي وصديقى علي بك فوزي. فقد استقبل النعش في محطة مصر عدد كبير من أصدقائه، وساروا في مشهده يعزي بعضهم بعضا، إذ أبى الفقيد أن يكون له ولد أو مال أو جاه، فكان أول مشهد عظيم رأيته لله وحده؛ وكان أنبل ما رأيت منظر أحمد باشا شفيق، وقد تقدمت به السن وصعب عليه السير، يتحامل على صديق ويسير من المحطة إلى جامع الكخيا، ثم أسلم عليه وأسأله: هل تعرف الفقيد؟ فيقول: لا، لم أره في حياتي، ولكني سمعت بنبل أخلاقه فرأيت وفاء للفضيلة أن أسير في جنازنه. •••
رحمة الله عليه، فقد كان أمة وحده، ولم أر له نظيرا في كل من عاشرت. ولئن كان أكثر الناس نسخا متشابهة من كتاب تافه مطبوع، فقد كان نسخة خطية من كتاب قيم نادر. متمدن على آخر طراز من طرز المدنية في ملبسه وأناقته وآدابه ولباقته، متصوف إلى آخر حدود التصوف في زهادته واحتقاره للمال والجاه والمناصب، وفوق ذلك كله في روحانيته السامية.
لم يفخر في حياته بنسب؛ على أنه كان جديرا أن يفخر به لو وجد الفخار مدخلا إلى نفسه، فقد كان جد أبيه المملوك الشارد الذي قفز بفرسه من القلعة. وناهيك بعظمة المماليك أيام سطوتهم.
ولم يفخر بعلمه وهو الواسع العلم العميق التفكير؛ يجيد العربية إجادة قل أن يكون له فيها نظير، ويتكلم الإنجليزية كأحد أبنائها، ويحذق الفرنسية والألمانية والتركية. ثم لا ينظر إلى اللغات على أنها مقاصد بل على أنها وسائل للثقافة، فاتخذ هذه اللغات كلها أداة يتعرف بها الثقافات المختلفة ويقف على أحسن ما ألف فيها؛ هذا إلى صحة في النقد وقوة في الملاحظة وشخصية بارزة لا تخضع لأي مؤلف مهما عظم، ومع هذا كله تجلس إليه إن لم تكن تعرفه فكأنه أمي غبي جاهل بكل شيء؛ فهو ذهب خالص غطي بقشرة من طين لا تعرفه حتى تحكه وتصل إلى باطن نفسه، ولا يكون ذلك إلا لتلاميذه وخلصائه. وحتى مع هؤلاء يقدم إليك نتيجة معارفه الواسعة وتفكيره العميق وهو مختف وراء ذلك، يحاول ألا يشعرك بنفسه، وإنما يشعرك بالفكرة نفسها، فكأن كلمة «أنا» لم تكن في معجمه. •••
عرفته أول أمره أستاذا لي بمدرسة القضاء يدرس لنا التاريخ الإسلامي. وتطاير إلينا قبل قدومه أخبار منثورة عن تاريخ حياته: أنه تخرج في مدرسة المعلمين، ثم سافر في بعثة إلى إنجلترا، ثم عاد منها بعد أن نال إجازة من جامعتها، وهي أوصاف لم نتحمس لها كثيرا، فكنا قد شاهدنا بعض من سافروا إلى أوروبا ورجعوا بشهاداتهم الضخمة وألقابهم العديدة، وكانوا كالبندقة الفارغة، منظر ولا مخبر، ورواء في العين، ولا شيء في اليدين؛ فقلنا: لعله أحد أولئك الذين لم يكسبوا من أوروبا إلا اعوجاجا في اللسان ورطانة في الألفاظ وإنكارا لعظمة أي شيء مصري، وعصبية لكل تافه أجنبي.
صفحه نامشخص