ومن أجل هذا لم يخطئ كثيرا من حصر مقياس رقي الأمة في مقدار تغلبها على طبيعة بلادها، وتعديل نفسها حسب ما يحيط بها؛ لأنها لا تصل إلى ذلك إلا بمقدار كبير من العلوم الطبيعية يمكنها من الانتفاع بأرضها وجوها، وبقدر وافر من العلوم الاقتصادية يبين لها كيف تستغل منابعها، وبمقدار صالح من النظم السياسية والاجتماعية والأخلاقية يهيئ للأفراد سبل الانتفاع بما حولهم، ويعهم خير إعداد للنظر في مصالحهم.
فليتساءل الشرقي في ضوء هذا: أين هو نفسه، وأين هو في أمته، وأين أمته في العالم؟
كتابة المقالات
هنالك أنواع من المقالات يصح أن نسميها مقالات علمية بالمعنى الواسع، فتشمل المقالات الاجتماعية كما تشمل بحث مسألة أدبية بحثا علميا؛ وهذا النوع سهل على الكاتب متى تيسرت له أدوات البحث من كتب ومراجع ونحوها، وتوفر له حسن الاستعداد من معرفة بمناهج البحث وأساليبه؛ فكل وقت صالح لكتابة مثل هذه المقالات وإعدادها ما لم يكن الكاتب في حالة استثنائية من مرض ونحوه.
وهناك نوع من المقالات هي المقالات الأدبية بالمعنى الخاص، وأعني بها الأدبية أدبا إنشائيا صرفا لا أدب بحث ودرس؛ وهذه أصعب من الأولى من حيث إنها تتطلب - فوق حسن الاستعداد - «المزاج الملائم»؛ فليس الكاتب في كل وقت صالحا لها، بل لا بد أن يكون مزاجه ملائما للموضوع الذي يريد أن يكتب فيه؛ فإن كان الموضوع فكها مرحا فلا بد أن يكون مزاج الكاتب كذلك فكها مرحا، وإن كان الموضوع عابسا حزينا فلا بد أن يكون مزاج الكاتب من هذا القبيل؛ ولذلك قد يمر على الكاتب الأديب أوقات وخلع ضرسه أهون عليه من كتابة مقال، وإذا هو حاول ذلك فكأنما يمنح من بئر أو ينحت في صخر؛ ذلك لأن هذه المقالة الأدبية لا بد أن تنبع من عاطفة فياضة، وشعور قوي؛ فإذا لم يتوفر هذا عند الكاتب خرجت المقالة فاترة باردة لا يشعر منها القارىء بروح، ولا يحس منها حرارة وقوة. ولا يكفي عند الكاتب وجود عاطفة قوية، بل لا بد أن تكون هذه العاطفة من جنس الموضوع الذي يريد معالجته. فويل له إن أراد رثاء وقلبه ضاحك مرح، أو أراد فكاهه وقلبه بائس حزين. ومن أجل هذا يحاول الكتاب أن يؤقلموا نفوسهم للموضوع أولا، فيستلهموا كتابا أو قصيدة أو منظرا طبيعيا أو نحو ذلك من الوسائل الصناعية - إن عدموا الوسائل الطبيعية - حتى تهيج مشاعرهم من جنس الموضوع، ثم يأخذوا في الكتابة، فتتدفق معانيهم، وتغزر أفكارهم ومشاعرهم.
وشأنهم في ذلك شأن كل فنان من موسيقي ومصور ومثال، فهؤلاء لا يحسنون الإخراج إلا في ساعات خاصة هي ساعات هياج مشاعرهم من جنس موضوعهم. •••
أما موضوع «المقالات الأدبية» فكل شيء في الحياة صالح لأن يكون موضوعا، من الذرة الصغيرة إلى الشمس الكبيرة، ومن الرذيلة إلى الفضيلة، ومن كوخ الفلاح إلى قصر الملك، ومن الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، ومن أقبح قبيح إلى أجمل جميل، ومن الحياة إلى الموت، ومن الزهرة الناضرة إلى الزهرة الذابلة، ومن كل شيء إلى كل شيء.
والكاتب الفني من استطاع أن يجد من كل شيء موضوعا يجيد فيه ويستخرج إعجاب القارىء، ومن استطاع أن يجد من كل شيء نواة يؤلف حولها ما يصلح لها حتى يخرج موضوعه منسقا تنسيقا يبهر السامع والقارىء؛ وهو في تأليفه قد يضم الشيء إلى إلفه، وقد يضمه إلى نقيضه، وقد يصل به الكلام في الذرة إلى الكلام في الشمس، وقد يصل به الكلام في النملة إلى الكلام في الله، ولكن القارىء لا يشعر بمفارقات ولا يشعر بهوة بين أجزاء الكلام، ويسير مع الكاتب كأنه في حلم لذيذ أو قصة محبوكة.
والفرق بين كاتب وكاتب في شيئين : التلقي والإذاعة؛ فالفرق في التلقى هو أن الكاتب قد يكون دقيق الحس، يسمع حفيف الأشجار ودبيب النمال، ويرى دقيق الأشياء في الظلماء، ويرى قلوب الناس في أعينهم، ودخائلهم في صفحات وجوههم؛ وقد يرى بأذنه ويسمع بعينه، وقد يرى ما لا يرى الناس، ويسمع ما لا يسمع الناس، وقد يدرك الجمال بتفاصيله، ويدرك القبح بتفاصيله، حتى كأنه قد منح من الحواس ما لا يمنحه الناس، وكأن حواسه ليست خمسا وإنما هي خمسون أو خمسمائة أو ما شئت؛ على حين أن أخاه الكاتب الآخر لم يمنح هذا القدر من الحس، ولم يبلغ هذا المبلغ من الذوق، قد فاق المألوف من الناس، ولكن إلى حد، وتسامى ولكن بمقدار.
ويفضل الكاتب الكاتب أيضا في التلقي من ناحية أن كاتبا قد تعدد مناحي إدراكه تعددا متشعبا؛ فالطبيعة توحي إليه بأسرارها، والمجتمع يملي عليه بواطنه، والحياة كلها لا تضن عليه بخفاياها، والملح والفكاهات تدخر له أحسن ما لديها، والجد لا يضن عليه بخير ما عنده؛ فهو مستودع الأسرار، وملتقى البحار والأنهار، ومن يأمنه كل على سره، ويفضي إليه بما يضن به على غيره؛ على حين أن أخاه الكاتب قد يصل إلى بعض الأسرار، ويدرك بعض الاتجاهات ويعجز عن إدراك البعض؛ قد يجيد فهم الطبيعة ولا يفهم للمجتمع سرا، وقد يجيد فهم الجد ولا يفهم الدعابة، ذكي في أمر وغبي في آخر، منير في جانب مظلم في جانب.
صفحه نامشخص