م على شرح ما به للطبيب
مثل هذا الشعر القوي الأصيل لا يرضي أدباء التميع أو أدباء الرقة والظرف الذين يحصرون عنايتهم في شعر ابن مطروح والشاب الظريف ومن جرى مجراهما، حتى ليحصروا الشعر في النكتة البارعة وفي الطراوة والموسيقى المجارية لها، صادفين عن الشعر المتين المنقب في خفايا النفوس المعبر عن أصالة الحياة. •••
لا بد للفنان المعبر من أدوات التعبير الملائمة، فلا مفر له إذن من استيعاب فنون الأدب وتقصيها حتى يشتمل عليها، وحينئذ له أن يستقل بديباجته التي هي رمز شخصيته، وأما الروح الفنية ذاتها فطبيعة فطرية وإن صقلها الاطلاع والتجربة والمرانة.
والطلاقة الفنية صفة فطرية في كل فنان موهوب، وهو إذا بدأ تقليدي النزعة - كما يقع كثيرا - فسرعان ما تعلن شخصيته استقلالها فتتجلى الطلاقة لا في مناحيه وحدها بل في ديباجته أيضا. ولسنا بحال من أنصار الفوضى اللغوية أو النظمية، ولكننا نعذر الفنان الضليع إذا أبت طبيعته الخالقة أن تقف عند المعايير والمقاييس المقررة ورفضت النزول إلى مستوى الجماهير بل أرسلت فنها طليقا معتزا بشخصيته مهيبا بالخاصة قبل أن يهيب بالدهماء ومرتفعا بالجماهير عن طريق أولئك الخاصة والمريدين الذين ينوبون عن الفنان في نشر رسالته.
قد يستجيب الفنان وقد لا يستجيب لرغبات الجماهير وفقا لطبيعته الفنية، ولكن الفنان الصادق لن يضحي بفنه لمجرد إرضاء الجماهير ولا لأي اعتبار، وإنما هو يضحي بالشهرة الميسورة وبالمتع التي في متناول يده إنصافا لفنه. فلا يثنيه ما يعاب على اتجاهاته الخاصة وعلى لغته وعلى أخيلته من أصالة غريبة، لأن فنه هو من نبع نفسه وموجه أولا وأخيرا إلى نفسه وإلى خلصاء نفسه، وهو إذا التفت إلى النقد فإنما لفتته فنية محضة جامعة بين المبالاة وعدمها؛ مبالاة من ينشد الكمال ويهمه كما يهم الصوفي أن يقف على آراء الناقدين المخلصين، وعدم المبالاة بنفور المغرضين أو أنصار التقليد العازفين عن كل إبداع وتجديد، ناسين ما وراء ذلك من خلق ثروة فنية جديدة للغتهم بدل الاكتفاء بالقديم المعاد.
لن يعرف الفن غير الفنان. وإذا كان الفن في طبيعته هو الصورة الحية للوجود وما خلف الوجود، فهو بالنسبة للفنان ملاذ روحي يهرع إليه فرارا من شقاء الحياة، فيستمد الأمل والثقة بالمستقبل. فالشاعر الموهوب الذي يقرض الشعر في شتى الأغراض إنما يصور الحياة وما خلفها مما ينعكس في مرآة نفسه، وتلك الصور على تقاربها أو تباينها هي ملجأ لوجدان الشاعر ومتنفس له. فكيف يطالب الشاعر بعد ذلك بأن يتحول تحولا آليا لإرضاء الجماهير، كأنما الشعر ليس من نفس صاحبه، وكأنما هو ليس بالمجهود العصبي العنيف حتى ولو كان مرتجلا ارتجالا؟ •••
يرى تاجور أن الناس في هذا العصر المادي الآلي السريع الحركة الدائم التجارب والتقلب بعيدون عن تذوق العمل الفني وتقديره التقدير الصحيح، إذ لا وقت عندهم لشيء من ذلك، وهم عاجزون تبعا لهذه الحالة عن تفهم الجمال الفني وعن التعبير عنه، وهو ينفي أن للنهضة العلمية أثرا في هذه الحالة التي يعدها من أعراض الشيخوخة، فإن الحاسة الشعرية في رأيه من صفات الشباب، فإذا ما فارقت بيئة من البيئات فقل: إنها في دور الشيخوخة الفنية.
ويلوح لنا أن هذه مظاهر عارضة في سيرة الأمم تبعا للظروف العامة فيها، وهي غالبا من رد الفعل لما قبلها، ومن العجيب أن هذه المظاهر قد تتحول من نقيض إلى نقيض، فقد تشغل المشاكل الاقتصادية أو الحربية أو السياسية أمة من الأمم شغلانا كبيرا فتصرفها إلى حد ما عن الأعمال الفنية الصرفة، وإن بقيت جذوة الفن تحت الرماد، وقد تكون نفس هذه المشاكل مما ينفخ ذلك الرماد فإذا بالفن مشتعل الجذوة يستعان به في غير مجاله أو يلجأ إليه للترفيه عن النفوس الكميدة. فالفن في ذاته عزاء كبير وسلوى عظيمة ومهذب خطير للذوق ونبراس لجمال الحياة، وهو إلى جانب ذلك وسيلة حيوية جليلة الخطر يمكن الانتفاع بها في خارج الدائرة الفنية المحضة. وسواء أكان هذا الفن شعرا أم موسيقى أم تصويرا أم نحتا أم غير ذلك، فكل هذه الاعتبارات جارية الأحكام عليه. وقد كان الفن منذ عهود الإنسان الأولى رفيقه في صورة من الصور وسيبقى رفيقه ومعينه، متحولا من مثال إلى آخر حسب العوامل الداعية إليه والمؤثرة فيه. وللشعر في كل هذا نصيبه، ولكن بديهي أن تكون العناية به نسبية بعد أن انقضى زمن التكسب بالشعر ولم يبق من وسائل الارتزاق التقليدي، وليس في هذا صدوف عن الشعر بل ارتفاع بمستواه عن درك التصنع والابتذال. وتاجور نفسه قد لقي ما لقي من الترحيب العالمي به بناء على منزلته الشعرية. والحرب العالمية نفسها كان للشعر نصيبه الطبيعي في ثقافتها ودعايتها. ولكن من الإسراف أن ننتظر من الشعر أن يحل محل سواه من عوامل التكوين أو التهذيب للأمم، وحسبنا أن لا تنكر عليه مكانته الطبيعية وما نرى أنها منكورة.
نعم لا ننكر أن بعض الأدباء يرى في الشعر ثرثرة فارغة، ولكن ذلك الحكم يوجه عادة إلى النظم المألوف الشائع المجرد من الروح الشعرية. وأما الشعر الإنساني الحي الذي يعالج الروح الإنسانية وينصر الفن عامة فهو عنصر من عناصر الحياة الذهنية، ولا يمكن التخلي عنه بتاتا، حتى ولو حولنا طاقته إلى فنون أخرى. ونحن لا ننكر أيضا - بل اعترفنا من قبل - أن جمهرة الأدباء لا ترضى عن الشعر الجديد، ولا تفهم من الشعر أكثر من أنه وسيلة خارجة عن الفن ومسرح للفكاهة وندوة للإخوانيات، وتحكم بأن الشعر الجديد المتعمق أو المتسامي لا حظ له من الحياة. ولكن هذا الحكم الرجعي لا يتمشى وملاحظات تاجور إلا تمشيا عرضيا، فالتاريخ الأدبي يثبت أن الشعر الفني القوي كان وما يزال وسوف يبقى عميق الأثر دائم التغلغل في حياة الشعوب وإن اعترض نفوذه وسلوكه من لا يفهمونه. ونحن في تعليقاتنا لا نعني غير هذا الشعر الحي ولا نحفل بسواه، ونؤمن بأن رسالته أبدية، فلا يمكن أن تستغني عنه أمة من الأمم أو بيئة من البيئات حتى ولو صدفت عنه وقتيا. فليؤمن الشعراء الحريون بهذه التسمية برسالتهم الفنية الإنسانية وليطلقوها حرة دون أن يبالوا بعزوف بيئاتهم لضعف في الشعور أو لخشونة في الذوق أو لتباين شديد في الطبائع أو لقلة استعداد للتحول الجديد، فكل هذا لن ينهض للحكم على مكانة الشعر الصحيح من الحياة المهذبة ولا على مبلغ أهليته للاعتزاز والخلود. •••
وقد يتمادى أولئك الجامدون في محاربة الشعر الحديث بينما ينادون بانعدام خطره! فقد طلب جماعة من الأشياخ محاكمة الشاعر صالح جودت لقصيدته «الإنسان الأول» التي صور فيها أوهام العقل الباطن في تفسير بدء الخليقة ونشوء الإنسان، كما لقينا قديما عنتا كبيرا إزاء قصيدتنا «الخالق الفنان» وأمثالها، مع أن مثل هذا الشعر من الشباب لا ينافي الإيمان الصميم.
صفحه نامشخص