[خطبة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على سوابغ النعماء وترادف الآلاء، المتفضل بإرسال الأنبياء لإرشاد الدهماء، والمتطول بنصب الأوصياء لتكميل الأولياء (1)، والمنعم على عباده بالتكليف المؤدي إلى أحسن الجزاء، ورافع درجات العلماء، ومفضل مدادهم على دماء الشهداء، وجاعل أقدامهم واطئة على أجنحة ملائكة السماء، أحمده على كشف البأساء ودفع الضراء، وأشكره في حالتي الشدة والرخاء
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله في الخطبة: «المتفضل بإرسال الأنبياء لإرشاد الدهماء، والمتطول بنصب الأوصياء لتكميل الأولياء».
(1) إنما نسب الإرشاد إلى الأنبياء والتكميل إلى الأوصياء لأن الأنبياء يبتدئون بالهداية والدلالة على الدين، وأكثر الخلق قبل بعثهم على الضلال فكانوا أولى بنسبة الإرشاد المنسوب إلى الدهماء وهم أكثر الخلق. وأما الأوصياء فإنما يقامون بعد تحقق الدين وإرشاد الأنبياء إليه فكانوا بمنزلة المكملين لمن حصل له الإرشاد من الأنبياء وهم الأولياء ومن في معناهم من متبعي الحق
صفحه ۳
وصلى الله على سيد الأنبياء محمد المصطفى وعترته الأصفياء صلاة تملأ أقطار الأرض والسماء.
أما بعد فهذا كتاب قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام، لخصت فيه لب
عند المصنف (1) فكانوا أولى بوصف التكميل.
واعلم أن على العبارة سؤالا مشهورا وهو: «أن إرسال الأنبياء والأوصياء واجب على الله تعالى عند المصنف (2) وفريقة (3) فكيف يجعله تفضلا وتطولا إذ هما دالان على جواز خلافه» (4).
وأجاب المصنف عن ذلك لولده، الإمام فخر الدين حين أورد عليه ذلك: «بأن إرسال الأنبياء موقوف على خلق المكلفين وتكميل عقولهم وخلق الشهوات لهم والقدرة وذلك كله تفضل فلما كان الأصل المبني عليه تفضلا كان الفرع أولى بالتفضل» (5).
وفيه نظر، إذ لا يلزم من التفضل بالأصل التفضل بالفرع، بل كثيرا ما يحصل بينهما الاختلاف في ذلك. وهو يظهر من جميع ما ذهبت المعتزلة (6) والإمامية (7) إلى وجوبه على الله تعالى للمكلفين. وفي غيره من الشواهد أن مملوك الغير وحيوانه لا يجب على غيره نفقته ولا شراؤه فإذا اشتراه وجب ذلك عليه، مع أن الأصل المبني عليه وهو الشراء غير واجب والإنفاق الواجب فرعه، وغير ذلك مما حكمه واضح ، بل لا يندفع السؤال إلا إذا
صفحه ۴
الفتاوى خاصة وبينت فيه قواعد أحكام الخاصة، إجابة لالتماس أحب الناس إلي وأعزهم علي، (1) وهو الولد العزيز «محمد»، الذي أرجو من الله تعالى طول عمره
جعل التفضل أعم مما يجب ولو بضرب من التجوز.
قوله: «إجابة لالتماس أحب الناس إلي، وأعزهم علي.».
(1) جعله أحب الناس إليه وأعزهم عليه المفيد باعتبار صيغة أفعل التفضيل انحصار الأحبية فيه الشامل للأنبياء والأئمة، حصر إضافي بقرينة المقام والمذهب مخصوص بمن عدا من يجب حبه أزيد من ولده، أو بالإضافة إلى أهل زمانه وأقاربه وأصحابه. ولا يدفع ذلك من تخصيص آخر بالقرينة كما لا يخفى، وقد ورد في الحديث: «لا يكمل إيمان المؤمن حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من نفسه وولده» (1).
واعلم أن الظاهر أن ولده (قدس سره) لم يسأله تصنيف الكتاب لأجل انتفاعه به ذلك الوقت، لأنه كان صغير السن عن أهليته، فإن مولده سنة اثنتين وثمانين وستمائة، وقد عد المصنف (رحمه الله) هذا الكتاب من جملة مصنفاته في الخلاصة (2)، وذكر ذلك في سنة اثنتين وتسعين وستمائة، فيكون سن ولده (رحمه الله) حينئذ دون عشر سنين (3)، وقد ذكر ذلك في كثير من كتبه المطولة وغيرها، وتاريخ ابتدائها قبل بلوغه ما ذكرناه من السن.
وأما قول ولده، فخر المحققين، في شرح الخطبة: «إني لما اشتغلت على والدي في المعقول والمنقول، وقرأت عليه كثيرا من كتب أصحابنا التمست منه تصنيف الكتاب.» (4).
فهو عجيب بعد ما نقلناه من التاريخ.
صفحه ۵
بعدي، وأن يوسدني في لحدي، (1) وأن يترحم علي بعد مماتي كما كنت أخلص له الدعاء في خلواتي، رزقه الله سعادة الدارين وتكميل الرئاستين، فإنه بر بي في جميع الأحوال، مطيع لي في الأقوال والأفعال، والله المستعان وعليه التكلان.
وقد رتبت هذا الكتاب على عدة كتب:
قوله: «وأن يوسدني في لحدي»
(1) إسناد التوسيد إليه مجازي باعتبار السببية، وهو كناية عن الدعاء بأن يبقي بعده ويحضر جنازته لا مباشرة توسيده في لحده، لأن دخول ذي الرحم مع غير المرأة مكروه كما سيأتي (1). ويمكن أن يريد ذلك ويختار كونه مستثنى كما ذهب إليه بعض الأصحاب (2) وقد ورد في بعض الأخبار (3).
صفحه ۶
[كتاب الطهارة]
[كتاب الطهارة] [وفيه مقاصد عشرة:] [المقصد الأول في المقدمات] [المقصد الثاني في المياه] [المقصد الثالث في النجاسات] [المقصد الرابع في الوضوء] [المقصد الخامس في غسل الجنابة] [المقصد السادس في الحيض] [المقصد السابع في الاستحاضة] [المقصد الثامن في النفاس] [المقصد التاسع في غسل الأموات] [المقصد العاشر في التيمم]
صفحه ۷
كتاب الطهارة (1) وفيه مقاصد:
[ [المقصد الأول في المقدمات]
[المقصد] الأول في المقدمات وفيه فصول:
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
(1) الحمد لله على نعمه وإفضاله والصلاة على سيدنا محمد وآله. وبعد فهذه تعليقة خفيفة المئونة، كثيرة المعونة على حل بعض مشكلات القواعد وتقييد مطلقه والإشارة إلى المختار من مواضع إشكاله وخلافه، حيث يفتقر إلى تفصيل وتطويل عن مجرد الفتوى بالقوة والضعف، وإلا جعلناه مفردا في محل آخر نقتصر فيه على المختار من فتاويه.
ولنصدره بالبحث عن تعريف الطهارة على وجه مبسوط، لأنه من المواضع المهمة وقد طال فيه كلام الأئمة، فذكرنا منه ما يناسب المقام مع ما حضرنا فيه من الكلام، وعلى الله قصد السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قوله: «كتاب الطهارة» (2).
(1) قال الشهيد (رحمه الله) في حاشية الكتاب:
صفحه ۹
[الفصل الأول في أنواعها]
[الفصل] الأول في أنواعها الطهارة: غسل بالماء أو مسح بالتراب متعلق بالبدن على وجه له صلاحية التأثير في العبادة. (1) وهي وضوء وغسل وتيمم. وكل واحد منها إما واجب أو ندب.
فالوضوء يجب للواجب من الصلاة والطواف ومس كتابة القرآن.
الكتاب اسم لما يجمع المسائل المتحدة بالجنس المختلفة في النوع.
والمقصد اسم لما تطلب فيه المسائل المتحدة في النوع المختلفة في الصنف، ومثله الباب والفصل.
والمطلب هو المائز بين المسائل المتحدة في الصنف المختلفة في الشخص (1).
قلت: هذا الاصطلاح لا يتم، لأن المصنف- (رحمه الله)- نفسه قد جعل بعض الكتب مقاصد وبعض المقاصد كتبا وكذلك الفصول والمطالب فضلا عن غيره. والحق أن جنسية المسائل ونوعيتها وغيرها أمور اعتبارية تختلف باختلاف الاعتبار وهو منشأ اختلاف النظر في عنوان الأبواب، فلا يتم ما ذكره من الاصطلاح على إطلاقه.
قوله: «الطهارة غسل بالماء أو مسح بالتراب، متعلق بالبدن على وجه له صلاحية التأثير في العبادة».
(1) اصطلح أصحابنا (2) رحمهم الله على إطلاق الطهارة على كل واحد من الوضوء والغسل والتيمم على وجه يبيح العبادة ولو بالصلاحية، وقد اختلفوا في تعريفها اختلافا
صفحه ۱۰
..........
عظيما لا يكاد يوجد معه تعريف سليم عن الطعن، حتى لجأ بعضهم (1) إلى أن المراد من تعريفها اللفظي لا الصناعي فلا يشترط فيه الاطراد والانعكاس.
ولنتكلم على تعريف المصنف هاهنا تحقيقا وتحريرا:
فقوله: «غسل بالماء» بمنزلة الجنس يدخل فيه غسل النظافة والنجاسة وغيرهما، ويدخل فيه الغسل مطلقا وبعض أعضاء الوضوء.
وقوله: «أو مسح بالتراب» يدخل فيه مسح الإناء أو غيره بالتراب، ويدخل فيه التيمم، وأتى ب«أو» للتنبيه على عدم اجتماع الطهارة المائية والترابية غالبا، أو على أن كل واحد من الغسل والمسح متناول لنوع من أنواع الطهارة المعرفة، أو يجعل بمعنى الواو كما هو في بعض اللغات (2) لا للتردد.
والباء في قوله: «بالماء» للإلصاق والآلة، وفي قوله: «بالتراب» للآلة لا غير لأن إلصاقه عندنا غير مستحق.
وقوله: «متعلق بالبدن» صفة للغسل والمسح، وأفرده مع كونه صفة لهما نظرا إلى مدلول «أو» فإنها لأحد الشيئين فأيهما وقع كان متعلقا، أو إلى كل واحد منهما على انفراده.
وقوله: «على وجه» يجوز تعلقه ب«متعلق» وبقوله: «غسل أو مسح» على حد قوله:
«متعلق» والأول أرجح عند جمهور النحاة في تنازع العاملين (3).
والهاء في قوله: «له» يتبع هذا التعلق فيعود إلى التعلق المدلول عليه باسم الفاعل
صفحه ۱۱
..........
أو إلى نفسه على الأول، وإلى الغسل أو المسح على الثاني، والأولى عوده إلى «وجه» لأنه أقرب وأشد ملاءمة للمعنى، وعلى الأول والأخير الجملة وصفية لأن متعلقها نكرة، وعلى الوسط يجوز كونها حالية ووصفية، لكون المرددين نكرتين موصوفتين.
وأتى ب«صلاحية التأثير» دون نفس التأثير، ليندرج فيه غسل مثل الحائض ووضوؤها والوضوء المجدد ونحوه مما لا يؤثر بالفعل بل بالصلاحية، بمعنى أنه لو اقترن به ما يتم به اعتبار التأثير أو خلا عن الموانع منه لأثر. وعلق التأثير بالعبادة دون الصلاة كما فعل غيره (1) لأنها أعم، وقد يؤثر بعض الطهارات في غير الصلاة ولا يؤثر فيها:
كالتيمم لخروج الجنب من المسجدين، ووضوء الحائض للكون في مصلاها ذاكرة، وغير ذلك مما لا يبيح الصلاة. وفي هذه المحترزات دلالة على أنه حاول فيه الاطراد والانعكاس وأنه يختار كونه أحد الثلاثة مع صلاحيته للإباحة لا مطلقا، ولكن في دلالة الصلاحية على ما يريد منها خفاء، لأنه إن أراد بالصلاحية الفعل- بحيث يكون مؤثرا في الإباحة كغسل الجنابة أو جزء المؤثر كغسل الحائض- انتقض بالأغسال المندوبة أجمع، وما لا يبيح من أفراد الوضوء كالتجديد عنده (2) ووضوء الحائض عند الكل (3) والوضوء للنوم ولجماع المحتلم وغيرها.
وإن أراد بالصلاحية ما يشمل الفعل والقوة ويعم القريبة والبعيدة، بمعنى أنه لو اقترن بالفرد المذكور من الطهارة ما يجب اقتران غيره به، لأثر دخل الجميع حتى وضوء
صفحه ۱۲
..........
الحائض، والمصنف لا يجعله طهارة (1)، والنص مصرح (2) به. وما قيل- من الفرق بين ما يمنع الإباحة بحال كوضوء الحائض وما أخل فيه بشرط لو أتي به لكان مبيحا فإنه صالح بالقوة ومن ثم قال جمع بإباحة المجدد (3). ومنهم من اقتصر على القربة (4) فأباح ما اشتمل عليها- إنما يفيد اختلافها بالقوة والضعف لا دخول أحدها في الصلاحية دون الآخر. وقول بعضهم بإباحة المجدد وآخرين بالاكتفاء بالقربة لا دخل له في الصلاحية عند من لا يقول به إلا بالقوة المذكورة وهي مشتركة. وعلى تقدير خروج وضوء الحائض بالنص يبقى وضوء المحتلم والنوم ونحو هما مما لا يبيح بالفعل، ومن الإشكال العام أنهم يحترزون في التعريف عن كثير من أنواع الوضوء والغسل، ثم يقسمون الطهارة إلى واجبة ومندوبة ويقسمون المندوبة إلى ما يرفع وما لا يرفع فيدخلون في التقسيم ما لا يدخلون في التعريف، وهو تجوز فاحش.
إذا تقرر ذلك فاعلم أن العلامة نصير الدين القاشي قد أورد على تعريف المصنف عشرين إيرادا، وأكثرها في غاية الجودة (5)، والمحقق السعيد الشهيد ردها إلى سبعة عشر، وأجاب عنها أجمع بأجوبة متكلفة غالبا (6)، ونحن نشير إليها وإلى ما فيها ونكملها بما يمكن
صفحه ۱۳
..........
وروده على التعريف طردا وعكسا إن شاء الله تعالى.
أ: يخرج بقوله: «غسل بالماء» غسل الارتماس، لأن الغسل بالماء هو إجراؤه على البدن ولم يحصل هاهنا إلا تباعد أجزاء الماء عن أمكنتها ليخلو للبدن الداخل فيه مكان يشغله، ومرور البدن على الأجزاء المائية وإن حصل لكنه ليس بغسل.
ب: يخرج الوضوء بالمسح فيما إذا كان الوجه واليدان مجروحة وعليها جبائر لا يمكن نزعها ولا إيصال الماء إلى البشرة، فإن الحكم هاهنا المسح بالماء وهو خارج عنه.
ج: يخرج الوضوء مطلقا فإنه مركب من غسل بالماء ومسح به، وكل مركب من شيئين (1) متغايري الوجود لا يصدق كل منهما على ذلك المركب، فلا يصدق على الوضوء أنه غسل بالماء، وظاهر أنه ليس مسحا بالتراب.
وهذه الثلاثة واردة على عكسه.
وجواب شيخنا الشهيد عن الجميع واحد وهو «ان المراد بالغسل الإمساس بالماء، وهو شامل للكل فلا يلزم استعمال المشترك والحقيقة والمجاز» (2) حيث إنه مستعمل في الإمساس مع الجريان وعدمه.
وفيه نظر، لأن الغسل حقيقة شرعية في الإمساس مع الجريان، وبدونه يسمى مسحا لا غسلا، والعرف دال عليه أيضا وكلام أهل اللغة لا ينافيه وإن لم يدل عليه أيضا. وأما الإمساس فهو جنس للغسل والمسح، فلا يجوز تعريفه به وحده من دون فصل يخرج ما شاركه فيه لأنه أعم، ولو سلم ثبوت ما ادعاه لغة لم يضر، لأن الحقائق الشرعية مجازات لغوية لا يصح استعمالها في التعريف، نعم قد يتمحل دخول غسل الارتماس من حيث تحقق الجريان حقيقة أو حكما بتعاقب الجريان على البدن، أو بخروجه من الماء بعد دخوله
صفحه ۱۴
..........
فيه ونحو ذلك.
د: ينتقض في طرده بأبعاض الطهارة كغسل الرأس في الغسل والوجه في الوضوء، فإن التعريف صادق عليه مع أنه ليس بطهارة، لأنها منحصرة عندهم في الثلاثة.
وجوابه (رحمه الله) أن الأبعاض «ليس لها الصلاحية المذكورة» (1) هذا لفظه.
وفيه أن الصلاحية هنا على ما ذكره هي الصلاحية المطلقة متناولة للقريبة والبعيدة التامة والناقصة حتى تتناول غسل الجنابة وغسل الحائض ووضوؤها، ولا فرق حينئذ بين وضوء الحائض وبعض وضوء المحدث، ولا بين غسلها وبعض غسل الجنابة من حيث الصلاحية للتأثير في العبادة وإن افترقا من حيثية أخرى. وأبعد منه الحكم بصلاحية الأغسال المسنونة والوضوءات التي لا تبيح العبادة، دون أبعاض الطهارة التي تبيح بجملتها. ما هذا إلا عين العناية أو التكلف والقول بأن وضوء الحائض وغسلها- مثلا- كل منهما نوع تام وعبادة مستقلة بخلاف الأبعاض، لا يدل على انتفاء الصلاحية رأسا كما لا يخفى.
ه: ينتقض في طرده أيضا بغسل النجاسة الخبثية عن البدن، فإن له صلاحية التأثير فيها من حيث إن النجاسة مانعة عن صحتها مع القدرة على إزالتها إن أريد مطلق التأثير.
وإن أريد التأثير التام بحيث لا يتوقف معه على أمر آخر خرج وضوء الحائض وغسلها وهو واضح.
وجوابه (رحمه الله): أن «المراد المؤثر المطلق في الاستباحة وغسل النجاسة توجد الاستباحة بدونه» (2) كما إذا تعذر غسل النجاسة.
وفيه: أن صلاحية التأثير أعم مما ادعاه، وإرادة ما ذكره محوج إلى إضمار في التعريف
صفحه ۱۵
..........
يجب الاحتراز عنه، وإن إمكان الانفكاك لو استلزم خروجه عن المطلوب لزم خروج الأنواع الثلاثة عن التعريف فلا تجد فردا يتعلق به، إذ كل واحد منها يمكن انفكاكه عن التأثير مع قيام الآخر.
و: ينتقض في طرده أيضا بمسح اليدين بالتراب على وجه يزيل النجاسة كأسفل القدم، أو يجففها حيث تعذر إزالتها رأسا كالموجودة في غيره، فإن العبادة تتوقف على تجفيفها حينئذ مع عدم كون ذلك طهارة.
وجوابه وما فيه كالسابق.
ز: في قوله: «غسل أو مسح» ترديد، وهو ينافي التحديد لأنه للتعريف، وفي الترديد إبهام وتشكيك.
وجوابه (رحمه الله) كغيره في نظائره أن الترديد في أقسام المحدود لا في الحد.
وفيه أنه واقع في أجزاء الحد ضرورة، والأولى أن يقال: إن الترديد في أقسام المحدود لا يفيد التردد ولا الشك، وفرق بين الترديد والتردد والغرض منه بيان أقسامه كما يقال:
الكلمة اسم أو فعل أو حرف، ومثله كثير. أو نقول: المراد بالترديد التقسيم كما قلناه وليس واقعا في الحد، لأن الترديد إنما هو في أحدهما معينا، أخص من أحدهما مطلقا فيكون غيره، وأحدهما مطلقا هو المعتبر في الحد ولم يقع فيه ترديد فلا ترديد في الحد.
والحاصل أن المراد كلما وقع على أحدهما كان طهارة، وغايته عدم الترديد.
ح: إن التقييد بالبدن يخرج الوضوء بالمسح على الجبائر، فإنه لا يتعلق بشيء من أجزاء البدن بل الجبائر التي عليه، مع أنه طهارة صحيحة.
وجوابه: «أن التعلق بالبدن أعم منه بواسطة وغيرها» (1).
صفحه ۱۶
..........
وفيه: أن الباء هنا تفيد الإلصاق فإنه معنى لا يفارقها، ومن ثم اقتصر سيبويه (1) عليه، فيختص بالتعلق الذي بغير واسطة، وأما الذي بواسطة فيحتاج إلى قيد يدل عليه لأنه خلاف الحقيقة. ولو سلم صلاحية غير الإلصاق من المعاني التي لا تدل عليه، جاء فيه محذورا لاشتراك المانع من استعماله في التعريف بغير قرينة جلية تعين المراد.
وفيه: أيضا استعمال المشترك في معنييه، وهو مجاز عند المصنف (2) وأكثر المحققين لا يستعمل في التعريف مطلقا.
ط: يخرج بالمتعلق بالبدن منهما ما لا يعمه كالوضوء والتيمم مطلقا، والغسل على بعض الوجوه.
وجوابه واضح، فإن «التعلق به يشمل جميعه وبعضه، وليس استعمالا له في الجميع والبعض على جهة الاشتراك، بل استعمالا للتعلق فيهما على البدن» (3).
وفيه: أنه هرب بذلك من استعمال المشترك في التعريف فوقع فيما هو أخفى منه، إذ لا يدل على إرادة الاستعمال فيهما على البدل دليل. وأيضا فمجرد استعماله فيهما على البدن لا يرفع الاشتراك إنما يرفع استعمال المشترك في معنييه معا. والأجود في الجواب أن يجعل مفهوم التعلق بالبدن قدرا مشتركا بين التعلق بكله وبعضه، وحينئذ فلا اشتراك في اللفظ بل في المعنى وهو غير ضائر.
ى: التعلق يطلق على معان كثيرة، يقال: المعلول متعلق بالعلة أي وجوده منها ويقال: العرض متعلق بمحله أي وجوده فيه، ويقال: الإضافة متعلق بالمضافين أي يتوقف تعلقها على تعلقهما، إلى غير ذلك من المعاني الواقعة في موارد استعمال هذه اللفظة إما بالاشتراك اللفظي أو بالحقيقة والمجاز، وليس في التعريف ما يعين المراد منها.
صفحه ۱۷
..........
وجوابه: أن «المراد به تعلق العرض بمحله» (1). وتحقيقه أن الطهارة إنما هي الغسل والمسح على الوجه المذكور، وهو عرض من مقولة الأفعال ومحله الجوهري البدن.
وفيه أن الإيراد يوجه من حيث استعمال اللفظ المشترك وإرادة أحد معانيه من غير قرينة صارفة أو معينة في التعريف، ولا يخفى خفاء هذه القرينة على تعيين المراد منه على ما يحتاج إليه، ومطلق القرينة غير كاف في ذلك بل القرينة الجلية لتتحقق الفائدة من التعريف.
يا: إن أريد أحد الأمرين من الغسل والمسح بعينه كان تعريفا لنوع الطهارة لا لطبيعتها، أو لا بعينه فلا يكون المعين طهارة، والمطلق لا يوجد إلا في ضمن مقيد.
«وجوابه: المراد المطلق، ولا يلزم من عدم وجوده بدون المقيد عدم إرادته» (2). والحاصل أن المعرف الماهية الكلية، والمعين منها طهارة من حيث إنه بعض أفرادها ووجودها في ضمنه، ولا يلزم منه عدم كونه طهارة كما يطلق الحيوان الكلي على الإنسان من حيث إنه من أفراده لا الحيوان الكلي المنقسم إليه وإلى غيره، وفيه بحث.
يب: الطهارة جنس لكل واحد من الثلاثة الداخلة في الغسل والمسح المذكورين، فتعريفها بهما تعريف للجنس بالنوع وهو دور (3).
وجوابه: منع النوعية أولا، لأن الغسل والمسح ليسا نفس الثلاثة وإن أفادها، وإنما يرد لو قيل: هي الوضوء أو الغسل أو التيمم كما صنع غيره. سلمنا النوعية لكن جاز أن تكون معرفة النوع ناقصة بحيث لا تتوقف على معرفة الجنس، ومعرفة الجنس مستفادة من معرفة الناقصة فلا دور.
والأولى في الجواب أن التعريف لا يعتبر فيه أخذ الجنس إلا إذا أريد التحديد، أما
صفحه ۱۸
..........
مطلق التعريف الشامل للرسم فلا، وحينئذ فيمكن رسم النوع على وجه لا يتوقف على الجنس فينتفي الدور، وهو واضح.
يج: الصلاحية مستدركة للاستباحة بوضوء الحائض عبادة ما كجلوسها في مصلاها ذاكرة فإنه عبادة، وكذا الوضوء المجدد له صلاحية أن تقع به الصلاة ويؤثر في عبادة وهي امتثال الأمر الوارد به ونحو ذلك، فلا يكون خارجا عن التعريف عن التعريف بدونها فلا يحتاج إليها.
«وجوابه: أن المراد بالعبادة المعهودة» (1) وهذه العبادات وأمثالها ليست بمعهودة.
وفيه: أنه مع إرادة العبادة المعهودة يخرج كثير من أفراد الطهارة عن الحد كالأغسال المسنونة وما لا يبيح من الوضوء، والمصنف لا يرتضي بإخراجها مطلقا.
يد: الصلاحية مشتركة بين القريبة والبعيدة، وليس في اللفظ ما يعين أحدهما، ولو عين خرج بعض الأقسام وهو ما دخل في غير المعينة.
وجوابه: المراد بها الصلاحية المطلقة الشاملة لهما، والتقريب ما تقدم.
يه: المؤثر في العبادة ليس إلا الإنسان بواسطة قواه، والطهارة إنما تؤثر في رفع المنع الشرعي الذي اقتضاه الحدث، وذلك الرافع ليس بعبادة، فالطهارة ليست صالحة للتأثير في العبادة.
وجوابه: أن في الكلام حذف المضاف تقديره «يؤثر في استباحة العبادة وحذف المضاف من المجازات المشهورة» (2).
وفيه: أنه لا يلزم من اشتهار مجازيته جواز استعماله في التعريف، بل لا بد من القرينة على إرادته، فإن ادعى حصولها فهي المسوغ لا اشتهار المجازية.
صفحه ۱۹
..........
يو: غسل التوبة عن الكفر والفسق بعدهما، لأن التوبة عنهما واجب مضيق لا يجوز الاشتغال قبله بمندوب، والمتأخر عن الشيء لا يكون مؤثرا فيه فلا يكون طهارة.
«وجوابه: التزام أنه ليس بطهارة» (1).
وفيه: أن هذا الالتزام لا يناسب باقي الكلام حيث عده من جملة الأقسام، وإرادة كون الطهارة المقسمة غير المعرفة خلاف المفهوم من السياق ويخل بالفهم على الإطلاق.
يز: إن أراد بالعبادة الكل خرج جميع الطهارات لأنه لا تأثير لها في مثل السواك والمضمضة والاستنشاق لأكل الجنب مثلا مع انه عبادة، وإن أراد البعض معينا أو غير معين فليس في اللفظ ما يدل عليه، وإن أراد بعضا ما- أي بعض كان- لزم الأول أو استدراك اللام (2) لأنه نكرة.
«وجوابه: أن اللام للعهد وهو المعين» (3).
وفيه: عدم ظهور هذا المعهود على وجه يكفي فيه إطلاقه، وقد تقدم الكلام على نظيره.
يح: يصدق التعريف على مضمضة الجنب ووضوئه.
وجوابه: ما ذكر قبله. وفيه ما فيه.
يط: الطهارة منقسمة إلى صحيحة وفاسدة، والفاسدة ليست داخلة في التعريف.
«وجوابه: المعرف خص الصحيحة» (4). والأولى في الجواب منع دخول الفاسدة في مفهوم الطهارة، والتقسيم لو سلم فتجوز في المجاز.
ك: كل تعريف صحيح إما حد أو رسم، وهذا التعريف ليس بشيء منهما فلا يكون صحيحا. أما انه ليس بحد، فلأن التعلق بالبدن نسبة بين الطهارة والبدن والنسبة متأخرة
صفحه ۲۰
..........
عن المنتسبين والمتأخر عن الشيء خارج عنه. وأيضا صلاحية التأثير إنما يلحق بعد تحقق حقيقته في نفسه، وكلما يلحق الشيء بعد تحقق حقيقته فهو خارج عن حقيقته فلا يكون حدا. وأما أنه ليس برسم، فلأن التام مشتمل على الجنس القريب والخاصة والناقص على الخاصة وغيرها دون الجنس القريب وهذا التعريف ليس له خاصة.
وجوابه: بأنه رسم «الخاصة مركبة من القيود المذكورة» (1). هذا لفظه وتنقيحه أن المعرف يشتمل على قيود أربعة كل واحد منها أعم من الطهارة:
أولها: الغسل بالماء، وهو شامل لغسل النجاسة وغيرها.
وثانيها: المسح بالتراب، وهو شامل لمسح الرجل به وغيره.
وثالثها: التعلق بالبدن، ومعلوم تعلق أمور كثيرة به.
ورابعها: الذي لا صلاحية التأثير في العبادة ويشرك الطهارة في باقي الشروط كالستر والاستقبال وعمومها وإن منع من كون كل واحد خاصة، لكن جاز أن تكون الخاصة مركبة من المجموع، وظاهر أنها بعد التركيب لا توجد في غير المعرف كما يقال: الخفاش طائر ولود، فإن كونه طائرا عرض عام وكذا الولود وحده ومع فرض اجتماعهما يصيران خاصة مركبة للخفاش فكذا هاهنا. ومع ذلك يحتمل أن يريد كونه رسما ناقصا لأنه تعريف بالخاصة وحدها على مذهب بعض المنطقيين في جوازه بها كذلك (2) بناء على أن القيود ليس فيها شيء ذاتي، كما صرح به الشهيد (رحمه الله) في حاشية الكتاب. ويحتمل أن يكون رسما تاما يجعل الغسل والمسح جنسا لها لأنهما ذاتيان بخلاف المتعلق والمؤثر فإنهما عرضيان كما سلف، وهذا هو الأظهر.
والعجب من الشهيد (رحمه الله) أنه في الشرح (3) عند ذكر هذه الإيرادات وجوابها ذكر
صفحه ۲۱
..........
في أول المبحث «أن الغسل والمسح بمنزلة الجنس والتعلق بالبدن، إلى آخره كالفصل» (1) وهو يشعر بكونه حدا. ثم ذكر في آخره عند جواب الإيراد «أن الخاصة مركبة» (2) كما أشرنا إليه، فيكون رسما ناقصا. وفي حاشية الكتاب اختار كونه رسما تاما، لكن استدل عليه بأن الغسل والمسح ليسا ذاتيين للطهارة وليسا جزئين لها وانما هما جزئيان، وإنما كان رسما تاما لاشتماله على الأربع. ولا يخفى عليك عدم استقامة الدليل نفيا وإثباتا، والأوجه ما ذكرناه من أنه رسم تام، لاشتماله على الجنس القريب والخاصة المركبة والله الموفق.
قوله: «الطهارة غسل بالماء أو مسح بالتراب متعلق بالبدن على وجه له صلاحية التأثير في العبادة».
قال الشهيد (رحمه الله) في حاشيته:
ليس حدا، إذ هو التعريف بالذاتيات والغسل والمسح ليسا ذاتيين للطهارة إذ ليس جزأين لها وإنما هما جزئيان، نعم هو رسم تام لاشتماله على الأربع. ولم يقل اسم، لئلا يكون تعريفا لفظيا، ولأن الاسم والمسمى واحد في الخارج وإن افترقا في التفضل، وعلة الشيء لا يكون نفسه.
قلت: فيه نظر من وجوه:
الأول: قوله: إن الغسل والمسح ليسا ذاتيين للطهارة، وتعليله بكونهما ليسا جز أين في موضوع المنع، لأن كلا من الأنواع الثلاثة مركب من الغسل والمسح وأشياء أخر- وهي الأمور المعتبرة فيها من الترتيب، والموالاة، وتعلقها بالأعضاء المخصوصة، ووقوعها على الوجه المخصوص- فيكون مطلق الغسل والمسح جزءا لها وإنما الجزء هو أحد الثلاثة، ولم يعبر به المصنف كما فعل غيره، وعلى تقديره فعدم ذاتيته ممنوع أيضا.
صفحه ۲۲
ويستحب للصلاة والطواف المندوبين، ولدخول المساجد، وقراءة القرآن، وحمل المصحف، والنوم، وصلاة الجنائز، والسعي في حاجة، وزيارة المقابر، ونوم الجنب، وجماع المحتلم، وذكر الحائض، والكون على الطهارة، (1) والتجديد.
الثاني: قوله: «نعم هو رسم لاشتماله على الأربع» الظاهر أنه يريد به العلل الأربع كما هو المعتاد ذكره في التعاريف الكاملة، وهي موجودة هاهنا بعضها بالتصريح وبعضها بالالتزام، لكن دلالتها على الرسم التام ظاهر الفساد، إذ قد يجامع الحد ولا يجامع الرسم التام كما لا يخفى. ويمكن أن يريد بالأربع الغسل والمسح وكونه متعلقا بالبدن وكونه له صلاحية التأثير في العبادة، ويريد أن هذه الأربع تجتمع منها خاصة مركبة تختص بالطهارة وإن كان كل واحد منها غير مختص وهذا مع كونه خلاف ظاهر إطلاق الأربع فيه أن الخاصة المركبة إنما يحصل بها الرسم الناقص لا التام. وأيضا الخاصة المركبة سواء تركبت من الأربع أو دونها فلا وجه للتعليل بالأربع إلا بيان الواقع.
الثالث: قوله أخيرا: «وعلة الشيء لا يكون نفسه» غير مرتبط بالمقام إلا بتكلف يحتاج تحريره إلى بسط في الكلام ومعه لا يتم.
قوله: «والكون على الطهارة».
(1) قال الشهيد (رحمه الله) في حاشيته:
«في قراءة الكون وجهان: الجر بالنسق على ما قبله فيكون في قوة يستحب الوضوء للكون على طهارة، وهو مشعر بجعل الكون على طهارة غاية، وهو مستنكر لتثليث غاية الوضوء إذ هي الرفع أو الاستباحة، والكون على طهارة لم يثلث به وليس ذلك مستلزما لهما لوجوده حال الغفلة عنهما وعن كل واحد منهما، وظاهر أنه ليس عين أحدهما، ولأن الكون على طهارة هنا هو الكون على وضوء، فيكون في قوة يستحب الوضوء للكون على وضوء، وظاهر فساده.
ويقرأ بالرفع وفيه وجهان: أحدهما معطوف على الضمير المستكن في يستحب.
وفيه أيضا مناقشة لأنه في قوة «يستحب الوضوء ويستحب الكون على طهارة» وفيه
صفحه ۲۳