Fatwas of Sheikh Muhammad Al-Amin Al-Shanqiti
من فتاوى العلامة محمد الأمين الشنقيطي
ژانرها
مقدمة فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد المختار -حفظه الله ووفقه- ابن فضيلة الشيخ العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي -طيب الله ثراه-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن الأخ في الله/ أحمد بن محمد بن محمد بسيوني -وفقه الله- قد قرأ عليَّ الأوراق التي كتبها الوالد الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي ﵀، المشتملة على إجابته عن الأسئلة الواردة إليه من قبل فضيلة الشيخ محمد الأمين بن محمد الخضر بن مايابا ﵀، ومقدمته لها، وتعليقاته عليها اللطيفة، وقد أنبأت عن نباهته، ودقة فهمه، وحسن أخلاقه -جزاه الله خيرًا-، وأكثر من أمثاله.
وكتبه
محمد المختار بن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
في الحرم النبوي يوم ١٩/ ٩ / ١٤٢٥ هـ
مقدمة / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير النبيين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذه الرسالة القيمة تضمنت ثلاثة أسئلة أجاب عنها فضيلة الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي (ت ١٣٩٣) -صاحب كتاب أضواء البيان، طيب الله ثراه-.
المسألة الأولى: مقر العقل في الإنسان.
والمسألة الثانية: هل يشمل لفظ المشركين أهل الكتاب.
والمسألة الثالثة: هل يجوز دخول الكافر مساجد الله غير المسجد الحرام.
وهذه المسائل وجهها الشيخ محمد الأمين بن الشيخ محمد الخضر بن مايابى (^١) -رحمهما الله- برسالة خطية لسماحة الشيخ محمد الأمين، فأجاب عنها ﵀، وطيب ثراه- خطيًّا كذلك.
وقد نُشِرَ الجزء الخاص بمقر العقل فقط في مجلة طبية دون تعليق عليها، دفعها إليَّ أحد الإخوة -دفع الله عنه السوء والمكروه-، وقد وقع فيها بعض التصحيف، وتبين ذلك بالمقابلة مع النسخة الأصلية (^٢).
_________
(^١) هو القاضي محمد الأمين بن الشيخ محمد الخضر بن عبد الله بن أحمد بن مايابى الجكني الشنقيطي، شغل عدة مناصب في الأردن، ثم جاور في آخر حياته في مكة والمدينة، توفي بالمدينة المنورة في ١٦/ ٦/ ١٤١٠ هـ، ودفن بالبقيع، وله ترجمة بكتاب أعلام الشناقطة في الحجاز والمشرق للأستاذ بحيد الإدريسي (ص ٢٢٠، ٢٢١)، وكتاب حجاج ومهاجرون (علماء بلاد شنقيط - موريتانيا - في البلاد العربية وتركيا) للدكتور حماه الله ولد السالم الشنقيطي (ص ١٥٨: ١٦٧)، وقد ترجمه ترجمة موسعة الأستاذ جعفر العقيلي في كتابه "سماحة الشيخ محمد الأمين مايأبى الشنقيطي العالم المربي والسياسي الناشط والدبلوماسي المصلح"، وقد طبع مؤخرا عام ٢٠١٦ م بدار الآن ناشرون، ووالده هو الشيخ محمد الخضر مؤلف كتاب كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري، ومشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني، وقمع أهل الزيغ والإلحاد عن الطعن في تقليد أئمة الاجتهاد، وهو مفتي المالكية بالمدينة المنورة، توفي عام ١٣٣٥ هـ، انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٦/ ١١٣)، وانظر: الأعلام الشرقية لزكي محمد مجاهد (٢/ ١٤٦). (تنبيه: أضفت بعض المعلومات في هذه الحاشية، بعد مقدمة شيخنا د. محمد المختار -وفقه الله-).
(^٢) طبعت الرسالة مفردة، وكذا ضمن آثار الشيخ محمد الأمين ﵀ مؤخرا، دون الاعتماد على الأصل الذي بخط الشيخ ﵀، كما طبعت كذلك ضمن كتاب مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الجكني الشنقيطي-رحمه الله تعالى- (ص ٨٤: ١٠٩)، وكل من طبع هذه الفتاوى اعتمد على النسخة التي بخط الشيخ أحمد بن أحمد المختار، التي فيها السقط. (تنبيه: أضفت هذه الحاشية بعد مقدمة شيخنا د. محمد المختار -وفقه الله-).
مقدمة / 2
ومن خلال مطالعة الرسالة يظهر أن الشيخ -طيب الله ثراه- كتبها من حفظه، وهذا ليس بغريب عليه ﵀ فقد حوى من العلوم الشيءَ الكثيرَ، وكان في درسه كأن العلوم بين عينيه يُخرج منها ما شاء ويدع ما شاء، والمطلع على هذه الرسالة يدرك قيمةَ الشيخِ العلمية، وقوة حجته، وسعة اطلاعه، ويظهر هذا جليًّا في المصادر الكثيرة التي رجعت لها لتوثيق المادة العلمية.
ويدرك كذلك دقة الشيخ ﵀ في عرضه للمادة العلمية؛ فقد يذكر استدلالًا فيه مطعن من جهة صحته روايةً، أو من جهة صحة الاستدلال به، ثم يقول عَقِيْبَه: على القول بذلك. ولعل القارئ الكريم يدرك كذلك أدب الشيخ الجم مع طلاب العلم من جميل عباراته باستخدام صيغة الجمع في خطابه للشيخ محمد الأمين بن الشيخ محمد الخضر -رحمهما الله-.
والفوائد التي نجنيها من كلمات الشيخ -برَّد اللهُ مضجعَه- تربو على ما ذكرت بكثير، فضلًا عن الاستفادة العلمية من الفتاوى التي بمثابة البحوث المصغرة التي تأتي على أطراف المسائل، ولقد كان بمقدرة الشيخ ﵀ أن يزيد في الأدلة، لكنه أَظْهَرَ علةَ عدم الاستزادة، فقال في أحد المواضع: " .. ولنكتف بما ذكرنا خشية الإطالة المملة".
ولقد اشتد الشيخ ﵀ في بعض المواضع على القائلين بأن العقل في الدماغ، وما أراد إلا الفلاسفة والمنطقيين، ولقد ذكرت هذا الكلامَ؛ حتى لا يأتي مَنْ لا يعرف قدرَ الرجال العظام، ويوجه الطعنات للعلماء الأعلام، فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله الملك العلام.
وقبل الكلام على طريقتي في التعليق على رسالة الشيخ ﵀، فأحمد الله أولًا وآخرًا، ثم أتوجه بالشكر لمن دفع إليَّ رسالة الشيخ -طيب الله ثراه-، وهي بخط تلميذ الشيخ ﵀، وهو الشيخ/ أحمد بن أحمد المختار -حفظه الله-.
كما أتوجه بالشكر كذلك لأبناء الشيخ ﵀ شيخنا د/ عبد الله -حرس الله مهجته-، فإنه لم يبخل عليَّ بوقته ونصحه، والشيخ د/ محمد المختار -حرس الله مهجته-فقد قرأت عليه الرسالة والتعليقات والمقدمة في المسجد النبوي الشريف في مجلسين، ولم يبخل عليَّ بوقته ونصحه، وقد زودني -سلمه الله- بالنسخة التي كتبها الشيخ ﵀ بخطه، أسأل الله أن يبارك في عمرهم وعملهم.
والشكر والدعوات دائمة وموصولة لكل مَنْ أعانني في كل أموري، وأسأل الله أن يجزي الجميعَ خير الجزاء.
مقدمة / 3
عملي في الرسالة:
١ - نسخت الرسالة التي بخط الشيخ / أحمد بن أحمد المختار -حفظه الله-، ثم لما زودني الشيخ د/ محمد المختار -سلمه الله- بالنسخة التي بخط الشيخ ﵀ قابلتهما، فوجدت سقطًا كبيرًا يوازي صفحة تقريبًا، ووجدت كذلك بعض الاختلافات فأثبتها، وذكرت في الحاشية الاختلاف، وسميت التي بخط الشيخ: (الأصل)، والأخرى: (أ).
٢ - ذكرت أرقامَ الآيات القرآنية وسُوَرَها.
٣ - قمت بتخريج الأحاديث التي صرح الشيخ ﵀ بذكرها، وكذلك التي أشار إليها، وإن زدت في الحاشية حديثًا أو أثرًا فإني أخرجه.
٤ - نسبة الأقوال إلى قائليها من أهل العلم، وكذلك القراءة إلى مَنْ قرأ بها، وهو موضع واحد فقط، وقد لا أجد القول منسوبًا إلى قائله إلا بواسطة أو اثنتين من الكتب، وهو غالبًا بسبب فقدان الواسطة، وإذا زدت قولًا في الحاشية فإني أعزوه إلى قائله.
٥ - أجتهد في عزو أقوال الشيخ ﵀ إلى مكانها في كتبه، مثل أضواء البيان، والعذب النمير وهو من كلامه ﵀، إعداد الشيخ الدكتور/ خالد السبت -حفظه الله ووفقه-، وغيرهما.
٦ - إذا ذكر الشيخ كلامًا ثم وجدته برمته أو بنحوه في كتاب عزوته إليه.
٧ - استشهد الشيخ ﵀ بمراقي السعود في موضعين، فعزوت إلى شرح الشيخ عليه، والموسوم بـ نثر الورود؛ لزيادة الفائدة.
٨ - ذكر الشيخ ﵀ بيتًا من الرجز في آخر الرسالة، ولم أجده في الدواوين والمجموعات الشعرية، ولكن وجدته في المحكم لابن سيدة ولسان العرب منسوبًا لابن الأعرابي ﵀، فاجتهدت أن أجده بغير واسطة، أو أن أجده في كتب تلاميذه فلم أجده -حسب بحثي واطلاعي-، وهذا عذري في عزو البيت.
٩ - اعتمدت في بيان الغريب على لسان العرب، وهو موضع واحد.
مقدمة / 4
موضوع الرسالة:
تضمنت الرسالةُ ثلاثةَ أسئلةٍ لا أعرف لأحدها رسالةً مستقلةً.
السؤال الأول: محل العقل، وثمرة الخلاف في هذه المسألة ما ذكره الزركشي ﵀، فقال: "وما يتفرع على الخلاف في أن محله ماذا؟ ما لو أُوضِح رجلٌ فذهب عقلُه، فعند الشافعي ومالك يلزمه دية العقل وأرش الموضحة؛ لأنه إنما أتلف عليه منفعة ليست في عضو الشجة تبعًا لها، وقال أبو حنيفة: إنما عليه دية العقل فقط؛ لأنه إنما شَجَّ رأسه، وأتلف عليه العقل الذي هو منفعة في العضو المشجوج، ودخل أرش الشجة في الدية" (^١).
السؤال الثاني: هل يدخل أهل الكتاب في عموم المشركين؟، ولهذا السؤال ارتباط بالسؤال الثالث، وهو: هل يجوز دخول المشركين مساجد الله غير المسجد الحرام؟، فبدخول أهل الكتاب في عموم المشركين يصير الحكم واحدًا في المسألة الثالثة.
وستجد نفسك في رياض نضرة، تتنسم أريج الفقه والتفسير والأصول والمنطق، وأنت بين يدي الشيخ-﵀ وهو يجيب على هذه الأسئلة.
وختامًا: فبما ذكرت أكتفي، ولست بعملي أحتفي، وبالله أستعين فإنه خير ولي، وأسأله سبحانه أن يغفر لي ما صدر مني من خطأ جلي، أو لحن خفي.
وأسأل الله أن يتقبل مني هذا العمل قبولًا حسنًا، وأن يجعله لي ذخرًا في خزائن رحمته، وأن يجعله خالصًا لوجهه، ولا يجعل لأحد فيه شيئًا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
وكتب
أبو عبد الله
أحمد بن محمد بن محمد بسيوني
-غفر الله له-
_________
(^١) البحر المحيط (١/ ٩٠)
مقدمة / 5
من فتاوى فضيلة الشيخ العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي الجكني
﵀ وطيب ثراه
صاحب تفسير أضواء البيان
١ - مسألة مقر العقل من الإنسان.
٢ - هل يشمل لفظ المشركين أهل الكتاب.
٣ - هل يجوز دخول الكافر مساجد الله غير المسجد الحرام.
تقديم
فضيلة الشيخ الدكتور محمد المختار بن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
وفقه الله
اعتنى بها، وعلق عليها
أبو عبد الله
أحمد بن محمد بن محمد بسيوني
غفر الله له
مقدمة / 6
هذه فتوى فضيلة الشيخ محمد الأمين عما استفتاه فيه الشيخ محمد الأمين بن الشيخ محمد الخضر عن مقر العقل ومسائل أخرى
نقله من خطه
أحمد بن أحمد المختار.
هذا ما كُتِبَ أعلى النسخة التي بخط الشيخ أحمد بن أحمد المختار، المشار إليها بنسخة (أ)، وهي منقولة عن الأصل، فما وقع فيها من اختلاف فهو سبق نظر من الناسخ، والله أعلم.
مقدمة / 7
نص سؤال الشيخ القاضي محمد الأمين بن محمد الخضر الشنقيطي ﵀- الموجه للشيخ العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي ﵀ (^١).
حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي
المحترم
بعد السلام عليكم: أبدي أنه أمامي الآن مسألتين، بحثت عن شخص يمكنه إيضاحهما بما يتفق والدين والواقع مؤيدا بالأدلة الشرعية والعقلية، فرأيت أن ذلك الشخص هو فضيلتكم، ولهذا أرجوكم التفضل بذلك لما لها من الأهمية في هذه الأيام، وإشغالها مجالس كثير من الفكريين والعقلاء.
١ - تعلمون أن القرآن صرح بأن محل العقل القلب: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: ١٧٩]، والحديث: "ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". وتعلمون أن الإمام أبا حنيفة يرى أن محل العقل الدماغ، وكذلك الحكماء، وأن البعض ذهب إلى أن الدماغ أداة من أدوات القلب، فما المخرج في ذلك.
٢ - تعلمون أن الله تعالى قال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ...﴾ [التوبة: ٢٨]، وتعلمون أن القرآن فرَّق بين المشركين وأهل الكتاب: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾ [المائدة: ٨٢]، وتعلمون أن سيدنا عمر بن عبد العزيز أمر بإلحاق أهل الكتاب بالمشركين في عدم دخول المسجد الحرام، وأن عطاء ﵁ جعل المسجد يشمل الكل، وعلى هذا درج المسلمون إلى الآن، فما هو سند سيدنا عمر، وما هو النهج الديني في ذلك؟
ولكم من الله الأجر والثواب، ومني الشكر مع جزيل التحية.
_________
(^١) والسؤال مكتوب بالآلة الكاتبة على ورقة تحمل اسم وشعار سفارة المملكة الأردنية الهاشمية بجُدَّة -إذ كان الشيخ محمد الأمين بن الشيخ محمد الخضر وقتها هو القائم بأعمال السفير-، وحملت رقم (١/ ١٧) بتاريخ: ٢٣/ ٤/ ١٣٨٩ هـ، ٨/ ٧/ ١٩٦٩ م.
مقدمة / 8
إجابة الشيخ العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي -طيب الله ثراه-.
مقدمة / 9
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب المعالي أخي المكرم الشيخ محمد الأمين بن الشيخ محمد الخضر -حفظه الله ووفقه-
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد:
فقد وَصَلَنَا خطابكم الكريم بتاريخ (٢٣/ ٤/ ٨٩ هـ) (^١)، وفهمنا ما سألتم عنه، والجواب -حفظكم الله ووفقكم- عن المسألة الأولى التي هي محل العقل هو ما ستراه، ولا يخفى على معاليكم أن بحث العقل بحث فلسفي قديم، وللفلاسفة فيه مائة طريق باعتبارات كثيرة مختلفة، غالبها كله تخمين وكذب وتَخَبُّط في ظلام الجهل، وهم يسمون الملائكة عقولًا، ويكثرون البحث في العقول العشرة المعروفة عندهم، ويزعمون أن المؤثر في العالم هو العقل الفيَّاض، وأن نوره ينعكس على العالم كما (ينعكس نور) (^٢) الشمس على المرآة، فتحصل تأثيراته بذلك الانعكاس، ويبحثون في العقل البسيط الذي يمثل به المنطقيون للنوع البسيط، إلى غير ذلك من بحوثهم الباطلة المتعلقة بالعقل من نواح شتى (^٣)، ومن تلك البحوث قول عامتهم إلا القليل منهم: إن محل العقل الدماغ، وتبعهم في ذلك قليل من المسلمين، ويُذْكَر عن الإمام أحمد أنه جاءت عنه رواية بذلك (^٤)، وعامة علماء المسلمين على أن محل العقل القلب، وسنوضح إن شاء الله تعالى حجج الطرفين، ونبين ما هو الصواب في ذلك.
اعلم (أولًا) (^٥) -وفقني الله وإياك- أن العقل نور روحاني تدرك به النفس العلوم النظرية والضرورية (^٦)، وإن مَنْ خَلَقَه وأبرزه من العدم إلى الوجود، وزين به العقلاء وأكرمهم به، أعلم بمكانه الذي جعله فيه من جهلة الفلاسفة الكفرة الخالية قلوبهم من نور سماوي وتعليم إلهي، وليس أحدٌ بعد الله أعلمَ بمكان العقل من النبي ﷺ الذي قال في حقه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم، الآية (٣، ٤)]، وقال تعالى عن نفسه: ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ﴾ [البقرة، الآية (١٤٠)].
والآيات القرآنية والأحاديث النبوية في كل منهما التصريح بكثرة بأن محل العقل القلب، وكثرة ذلك وتكراره في الوحيين لا يترك احتمالًا ولا شكًا في ذلك، وكل نظر عقلي صحيح يستحيل أن يخالف الوحي الصريح، وسنذكر طرفًا من الآيات الكثيرة الدالة على ذلك وطرفًا من الأحاديث النبوية، ثم نبين حجة من خالف الوحي من الفلاسفة ومَنْ تبعهم، ونوضح الصواب في ذلك -إن شاء الله تعالى-.
واعلم أولًا: أنه يغلب في الكتاب والسنة إطلاق القلب وإرادة العقل، وذلك أسلوب
_________
(^١) هكذا بالأصل، وفي (أ): (٢٣/ ١/ ١٣٨٩).
(^٢) في (أ): (تنعكس الشمس).
(^٣) راجع: معيار العلم في فن المنطق لأبي حامد الغزالي (ص ٢٨٧: ٢٩٠)، والمبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين لسيف الدين الآمدي (ص ١٠٦: ١٠٨)، وانظر كذلك: بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية (ص ٢٨٢)، ومنهاج السنة النبوية (١/ ١٨٤)، الصفدية (١/ ١٤)، (٢/ ٢٥٢) ودرء تعارض العقل والنقل (١/ ٣٦، ٣٣٧)، (٥/ ٨١، ١٧٤، ٣٤١، ٣٨٤: ٣٨٧)، (٧/ ١٢٦، ٣٦٨، ٣٨٨، ٣٩٠)، (١٠/ ٨٤، ١٨١، ٢١٩).
(^٤) قال القاضي أبو يعلى في كتابه العدة (١/ ٨٩، ٩٠): "ومن الناس من قال: هو الدماغ، وقد نص أحمد ﵀ على مثل هذا القول فيما ذكره أبو حفص ابن شاهين في الجزء الثاني من أخبار أحمد بإسناده عن فضل بن زياد، وقد سأله رجل عن العقل: أين منتهاه من البدن؟، فقال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: العقل في الرأس، أما سمعت إلى قولهم، وافر الدماغ والعقل"، وقال المرداوي في التحبير (١/ ٢٦٢): "والمشهور عن الإمام أحمد أن العقل في الدماغ، نقله ابن حمدان، لكن أكثر الأصحاب قطعوا عن أحمد في الدماغ، ولم يحكوا عنه فيه خلافًا، وهذا القول اختاره من أصحابنا الطوفي، والحنفية". وقد جعل الطوفي في شرحه على مختصر الروضة (٢/ ١٥٩) للإمام أحمد روايتين، وكذلك الزركشي في البحر المحيط (١/ ٨٨)، قال الطوفي: "وقالت الفلاسفة والحنفية: الدماغ، والأول (أي القلب) منقول عن أحمد والشافعي ومالك. وراجع لقول الحنفية: "كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي" لعلاء الدين البخاري (٤/ ٢٦٣)، وتيسير التحرير لأمير بادشاه (٢/ ٢٦١)، ولكن قال البزدوي: "أما العقل فنور يضيء به طريقه، يبتدأ به من حيث ينتهي إليه دَرْك الحواس، فيبتدئ المطلوب للقلب، فيدركه القلب، يتأمله بتوفيق الله تعالى" كشف الأسرار (٢/ ٧٣١)، وعَرَّف السرخسي في أصوله (١/ ٣٤٦، ٣٤٧) العقل بأنه: "نور في الصدر به يبصر القلب عند النظر في الحجج".
(^٥) ساقطة من (أ).
(^٦) انظر تعريف الشيخ ﵀ للعقل بنصه في الكليات للكفوي (ص ٦١٨، ٦١٩)، وذكره الشيخ ﵀-في شرحه على منظومته في المنطق (١ ل) ﴿مخطوط﴾، فقال: "والعقل نور روحاني به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية".
1 / 1
عربي معروف؛ لأن من أساليب اللغة العربية إطلاق المحل وإرادة الحال فيه كعكسه (^١)، والقائلون بالمجاز (^٢) يسمون ذلك الأسلوب العربي مجازًا مرسلًا، ومن علاقات المجاز المرسل عندهم المحلية والحالية (^٣) كإطلاق القلب وإرادة العقل؛ لأن القلب محل العقل، وكإطلاق النهر الذي هو الشَّق في الأرض على الماء الجاري فيه، كما هو معلوم في محله.
و(هذا) (^٤) بعض نصوص الوحيين:
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ...﴾ الآية [الأعراف، الآية (١٧٩)]، فعابهم اللهُ بأنهم لا يفقهون بقلوبهم، والفقه الذي هو الفهم لا يكون إلا بالعقل، فدلَّ ذلك على أن القلب محل العقل، ولو كان الأمر كما زعم الفلاسفة لقال: لهم أدمغة لا يفقهون بها.
وقال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج، الآية (٤٦)]، ولم يقل: فتكون لهم أدمغة يعقلون بها، ولم يقل: ولكن تعمى الأدمغة التي في الرؤوس كما ترى.
فقد صرح في آية الحج هذه بأن القلوب هي التي يُعْقَل بها، وما ذلك إلا لأنها محل العقل كما ترى، ثم أكَّد ذلك تأكيدًا لا يترك شبهة ولا لبسًا، فقال تعالى: ﴿وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج، الآية (٤٦)]، فتأمل قوله: التي في الصدور، تفهم ما فيه من التأكيد والإيضاح.
ومعناه أن القلوب التي في الصدور هي التي تعمى إذا سَلَبَ الله منها نور العقل، فلا تميز بعد عماها بين الحق والباطل، ولا بين الحسن والقبيح، ولا بين النافع والضار، وهو صريح (في أن) (^٥) الذي يميز به كل ذلك هو العقل، ومحله القلب.
وقال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء، الآية (٨٨، ٨٩)]، ولم يقل بدماغ سليم.
وقال تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ...﴾ الآية [البقرة، الآية (٧)]، ولم يقل: على أدمغتهم.
وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ...﴾ الآية [الكهف، الآية (٥٧)]، (ومفهوم) (^٦) مخالفة الآية أنه لو لم يجعل الأكنة على قلوبهم لفقهوه بقلوبهم، وذلك لأن محل العقلِ القلبُ كما ترى، ولم يقل: إنا جعلنا على أدمغتهم أكنة أن يفقهوه.
وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ...﴾ الآية [ق، الآية (٣٧)]، ولم يقل: لمن كان له دماغ.
وقال تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ...﴾ الآية [البقرة، الآية (٧٤)]، ولم يقل: ثم قست أدمغتكم، وكون القلب إذا قسا لم يُطِعْ صاحِبُه الله، وإذا لانَ أطاع الله، دليل على أن المميز الذي تراد به الطاعة والمعصية محله القلب كما ترى، وهو العقل.
وقال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ...﴾ الآية [الزمر، الآية (٢٢)]، وقال تعالى: ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ...﴾ الآية [الحديد، الآية (١٦)]، ولم يقل: للقاسية أدمغتهم، ولم يقل: فطال عليهم الأمد فقست أدمغتهم.
وقال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ...﴾ الآية [الجاثية، الآية (٢٣)]، ولم يقل: وختم على سمعه ودماغه.
_________
(^١) ذكر القاضي أبي يعلى في العدة (١/ ٨٩) أنه يطلق القلب ويراد العقل للمجاورة بينهما؛ لأن العرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان مجاورًا له أو كان بسبب منه، وقال تلميذه أبو الخطاب في التمهيد (١/ ٤٩) مؤكدًا لكلام شيخه: "والدليل عليه أنا نسمي النَّجْو غائطًا، وإن كان هذا اسم لمحل الغائط، وهي الأرض المنخفضة، وإنما لأجل المجاورة سمي به، وكذلك تسمى المزادة راوية، وإن كان هذا اسم الجمل، وإنما لأجل المجاورة".
وقال-﵀ في شرحه على منظومته في المنطق (٥ ل) ﴿مخطوط﴾: " ... لأن المعاني إنما تدرك بالقلوب، والمراد بها العقول من تسمية الشيء باسم محله".
(^٢) والشيخ -طيب الله ثراه- ممن يقولون بعدم جواز المجاز في القرآن، وله رسالة في هذا الموضوع بعنوان "منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز".
(^٣) المجاز المرسل: هو ما كانت العَلاقَةُ بَيْنَ ما اسْتُعْمِل فيه وما وُضِعَ له مُلابَسَة غيرِ التشبيه، وعلاقة المحلية: تسمية الحال باسم محله، والحالية عكس ذلك، راجع المجاز المرسل وعلاقاته في المفتاح للسكاكي (ص ٣٦٥)، تلخيص المفتاح للخطيب القزويني مع البغية للصعيدي (ص ٧٩، ٨٧).
(^٤) في (أ): (هذه).
(^٥) في (أ): (بأن).
(^٦) في (أ): (ومفهومه).
1 / 2
وقال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ...﴾ الآية [الجاثية، الآية (٢٣)]، ولم يقل: ودماغه.
وقال تعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ...﴾ الآية [الفتح، الآية (١١)]، ولم يقل: ما ليس في أدمغتهم.
وقال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ ...﴾ الآية [النحل، الآية (٢٢)]، ولم يقل: أدمغتهم منكرة.
وقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ...﴾ الآية [سبأ، الآية (٢٣)]، ولم يقل: (_) (^١) عن أدمغتهم.
وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد، الآية (٢٤)]، ولم يقل: (_) (^٢) على أدمغة أقفالها.
وانظر ما أصرحَ آية القتال (^٣) هذه!، في أن التدبر وإدراك المعاني به إنما هو القلب، ولو جُعِلَ على القلب قُفْلٌ لم يحصل الإدراك، فتبين أن الدماغ ليس هو محل الإدراك كما ترى.
وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ...﴾ الآية [الصف، الآية (٥)]، ولم يقل: أزاغ الله أدمغتهم.
وقال تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد، الآية (٢٨)]، ولم يقل: تطمئن أدمغتهم.
وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ...﴾ الآية [الأنفال، الآية (٢)]، ولم يقل: وجلت أدمغتهم، والطمأنينة والخوف عند ذكر الله كلاهما إنما يحصل بالفهم والإدراك، وقد صرحت الآيات المذكورة بأن محل ذلك القلب لا الدماغ، وبَيَّنَ في آيات كثيرة أن الذي يدرك الخطر فيخاف منه هو القلب الذي هو محل العقل لا الدماغ، كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ...﴾ الآية [الأحزاب، الآية (١٠)]، (وكقوله) (^٤) تعالى: ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ﴾ [النازعات، الآية (٨)]، وإن كان الخوف تظهر آثاره على الإنسان.
وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ...﴾ الآية [الأعراف، الآية (١٠٠)]، ولم يقل: (_) (^٥) على أدمغتهم.
وقال تعالى: ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا ...﴾ الآية [الكهف، الآية (١٤)]، وقال تعالى: ﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ...﴾ الآية [القصص، الآية (١٠)].
(و) (^٦) الآيتان المذكورتان فيهما من الدلالة على أن محل إدراك الخطر المسبب للخوف هو القلب كما ترى لا الدماغ، والآيات الواردة في الطبع على القلوب متعددة، كقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ...﴾ الآية [المنافقون، الآية (٣)]، ولم يقل: فطبع على أدمغتهم، [(وقوله) (^٧) تعالى: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ...﴾ الآية [التوبة، الآية (٨٧)]، ولم يقل: على أدمغتهم] (^٨).
وقال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ...﴾ الآية [النحل، الآية (١٠٦)]، والطمأنينة بالإيمان إنما تحصل بإدراك فضل الإيمان وحسن نتائجه وعواقبه، وقد صرح في هذه الآية بإسناد ذلك الاطمئنان إلى القلب الذي هو محل العقل الذي هو أداة النفس في الإدراك، ولم يقل: ودماغه مطمئن بالإيمان.
وقال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ...﴾ الآية [الحجرات، الآية (١٤)]، ولم يقل: في أدمغتكم.
وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ...﴾ الآية [المجادلة، الآية (٢٢)]، فقوله: ﴿ولما يدخل الإيمان في قلوبكم﴾، وقوله: ﴿كتب في قلوبهم الإيمان﴾، صريح في أن المحل الذي يدخله الإيمان في المؤمن، وينتفي عنه دخوله في الكافر، إنما هو القلب لا الدماغ.
وأساس الإيمان إيمان القلب، لأن الجوارح كلها تبع له، كما قال ﷺ: " (إن) (^٩) في الجسد مضغة، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" (^١٠)، فظهر (لك) (^١١) دلالة الآيتين المذكورتين على أن المصدر الأول للإيمان القلب، فإذا آمن القلب آمنت الجوارح بفعل المأمورات وترك المنهيات؛ لأن القلبَ أميرُ البدن، وذلك يدل دلالة واضحة على أن القلب ما كان كذلك إلا لأنه محل العقل الذي به الإدراك والفهم كما ترى.
وقال تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ...﴾ (^١٢) الآية، فأسند الإثم بكَتْمِ الشهادة للقلب، ولم يسنده للدماغ، وذلك يدل على أن كتم الشهادة الذي هو سبب الإثم واقع عن عمد، وأن محل ذلك العمد القلب، وذلك لأنه محل العقل الذي يحصل به الإدراك وقَصْد الطاعة وقصد المعصية كما ترى.
وقال تعالى في حفصة وعائشة ﵄: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ...﴾ الآية [التحريم، الآية (٤)] (^١٣)، أي: مالت (^١٤) قلوبكما إلى أمرٍ تعلمان أنه ﷺ يكرهه، (سواءً) (^١٥) قلنا: إنه تحريمه شرب العسل الذي كانت تسقيه إياه إحدى نسائه (^١٦)، أو قلنا: إنه تحريمه جاريته مارية (^١٧)، فقوله: صغت قلوبكما: أي: مالت، يدلُّ على أن الإدراك، وقصد الميل المذكور محله القلب، ولو كان الدماغ لقال: فقد صغت أدمغتكما كما ترى.
ولما ذكر كل من اليهود والمشركين أن محل عقولهم هو قلوبهم، قررهم الله على ذلك؛ لأن كون القلب محل العقل حق، وأبطل دعواهم من جهة أخرى، وذلك
_________
(^١) زاد في (أ): (إذا فزع).
(^٢) زاد في (أ): (أم).
(^٣) هي سورة محمد، اشتهرت بهذا الاسم، وأوردها هكذا المؤلف في تفسيره أضواء البيان، ولم أجد هذه التسمية في المأثور، إلا ما أورده السيوطي في الدر المنثور (١٣/ ٣٤٩)، قال: "أخرج ابن الضريس عن ابن عباس، قال: نزلت سورة القتال بالمدينة"، وبالرجوع لفضائل القرآن لابن الضريس لم أجدها بهذه التسمية.
(^٤) في (أ): (وقوله).
(^٥) زاد في (أ): (ونطبع).
(^٦) ساقطة من (أ).
(^٧) في (أ): (وكقوله).
(^٨) ما بين المعقوفين مكرر بالأصل.
(^٩) في (أ): (وإن) بزيادة الواو.
(^١٠) أخرجه البخاري في صحيحه (٥٢)، ومسلم في صحيحه (١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير-﵄.
(^١١) في (أ): (بذلك).
(^١٢) سورة البقرة، الآية (٢٨٣).
(^١٣) والآية نزلت في عائشة وحفصة، والدليل ما أخرجه البخاري في صحيحه (٢٤٦٨)، ومسلم في صحيحه (١٤٧٩) من حديث ابن عباس ﵄ أنه سأل عمر بن الخطاب ﵁ عن المرأتين اللتين قال الله تعالى فيهما: إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما، فأخبره بأنهما عائشة وحفصة.
(^١٤) راجع: أضواء البيان (٨/ ٣٧٥)، وقد جاء هذا التفسير عن قتادة بإسناد صحيح، أخرجه الطبري في تفسيره (٢٣/ ٩٤)، وعبد الرزاق في تفسيره (٢/ ٣٠٢)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (١٤/ ٥٨٠) لعبد بن حميد، وقد جاء أيضًا عن ابن عباس؛ عزاه السيوطي في الدر المنثور (١٤/ ٥٨٠) لابن المنذر، وقال البخاري: "باب: إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما، صغوت وأصغيت: ملت، ﴿لتصغى﴾ [الأنعام: ١١٣]: لتميل".
(^١٥) في (أ): (وسواء) بزيادة الواو.
(^١٦) انظر: صحيح البخاري (٥٢٦٧).
(^١٧) انظر: السنن للنسائي (٧/ ٧١)، والمستدرك للحاكم (٢/ ٤٩٣)، وقد مال الحافظ ابن حجر-﵀-في فتح الباري (٨/ ٦٥٧) لاحتمال كون الآية نزلت في السببين، وراجع: تفسير ابن كثير (٤/ ٣٨٦).
1 / 3
يدل بإيضاح على أن محل العقل القلب.
أما اليهود -لعنهم الله- فقد ذكر الله ذلك عنهم في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ...﴾ الآية [البقرة، الآية (٨٨)] (^١)، فقال تعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ...﴾ الآية [النساء، الآية (١٥٥)]، فقولهم: قلوبنا غُلْف (بسكون اللام) (^٢) يعنون أن عليها غلافًا، أي: غشاء يمنعها من فهم ما تقول، فقررهم الله على أن قلوبهم هي محل الفهم والإدراك؛ لأنها محل العقل، ولكن كذبهم في إدعائهم أن عليها غلافًا مانعًا من الفهم، فقال على سبيل الإضراب الإبطالي (^٣): ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ...﴾ الآية [النساء، الآية (١٥٥)].
وأما على قراءة ابن عباس: قلوبنا غُلُف (بضمتين) (^٤)، يعنون أن قلوبهم كأنها غلاف محشو بالعلوم والمعارف، فلا حاجة لنا إلى ما تدعونا إليه (^٥)، وذلك يدل على علمهم بأن محل العلم والفهم القلوب لا الأدمغة.
وأما المشركون فقد ذكر الله ذلك عنهم في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ ...﴾ الآية (^٦) [فصلت، الآية (٥)]، فكانوا عالمين بأن محل العقل القلب، ولذا قالوا: ﴿قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، ولم يقولوا: أدمغتنا في أكنة مما تدعونا إليه، والله لم يكذبهم في ذلك، ولكنه وبخهم على كفرهم بقوله: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ...﴾ الآية [فصلت، الآية (٩)].
وهذه الآيات التي أُطْلِقَ فيها القلب مرادًا به العقل؛ لأن القلب هو محله، أوضح الله (ذلك) (^٧) المراد منها بقوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ...﴾ الآية [الحج، الآية (٤٦)]، فصرح أنهم يعقلون بالقلوب، وهو يدل على أن محل العقل القلب دلالة لا مطعن فيها كما ترى.
وقال تعالى: ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ...﴾ الآية [الشورى، الآية (٢٤)]، ولم يقل: يختم على دماغك.
وقال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ...﴾ الآية [الأنعام، الآية (٤٦)]، ولم يقل: وختم على أدمغتكم.
وقال تعالى في النحل: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [النحل، الآية (١٠٨)]، وقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ...﴾ الآية [الحجرات، الآية (٣)]، ولم يقل: امتحن أدمغتهم.
وقال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ...﴾ الآية [الحجرات، الآية (٧)].
والآيات بمثل هذا كثيرة، ولنكتف منها بما ذكرنا؛ خشية الإطالة المملة.
وأما الأحاديث المطابقة للآيات التي ذكرنا الدالة على أن محل العقل القلب، فهي كثيرة جدًّا، كالحديث الصحيح الذي (ذكرتم) (^٨)، والذي فيه: "أَلا وهي القلب ... "، ولم يقل (فيه) (^٩): ألا وهي الدماغ.
وكقوله ﷺ: "يا مُقَلِّبَ القلوب، ثَبِّتْ قلبي على دينك" (^١٠)، ولم يقل: يا مقلب الأدمغة ثبت دماغي على دينك.
وكقوله ﷺ: "قلب المؤمن بين أُصْبِعَين من أَصابع الرَّحمن ... " (^١١) الحديث، وهو مِن أحاديث الصفات، ولم يقل: دماغ المؤمن ... إلخ.
والأحاديث بمثل هذا كثيرة جِدًّا، فلا نطيل بها الكلام (^١٢).
وقد تبين مما ذكرنا أن خالق العقل وواهبه للإنسان بَيَّنَ في آيات قرآنية كثيرة أن محل العقل القلب، وخالقه أعلم بمكانه من كفرة الفلاسفة، وكذلك رسوله ﷺ كما رأيت.
أما عامة الفلاسفة إلا القليل النادر
_________
(^١) ولعل الشيخ -طيب الله ثراه- يريد آية النساء (١٥٥)، ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ...﴾ الآية، بدليل ما أورده بتتمة الآية.
(^٢) وهي قراءة متواترة، قرأ بها كل القراء العشرة من طريق الشاطبية والدرة والطيبة.
(^٣) الإضراب الإبطالي: هو نفي الحكم عما قبل (بل)، وإعطاؤه لما بعدها. راجع الأصول في النحو لابن السراج (٢/ ٥٧، ٢١١)، شرح التسهيل لابن مالك (٣/ ٣٦٨)، شرح عمدة الحافظ لجمال الدين محمد بن مالك (ص ٦٣٠).
(^٤) وقرأ بها أيضًا الأعرج وابن هرمز وابن محيصن واللؤلؤي عن أبي عمرو، راجع تفسير البحر المحيط (١/ ٤٣٦)، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاجي (١/ ١٦٩).
(^٥) راجع في توجيهها المصدرين السابقين، و"القراءات الشاذة" للشيخ عبد الفتاح القاضي ﵀ (ص ٢٧، ٢٨).
(^٦) زاد في (أ): ﴿... وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ...﴾.
(^٧) ساقطة من (أ).
(^٨) في (أ): (ذكر).
(^٩) ساقطة من (أ).
(^١٠) أخرجه مسلم في صحيحه (٢٦٥٤) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ بنحوه، وجاء بهذا اللفظ من حديث جمع من الصحابة، منهم أنس بن مالك: أخرجه أحمد في مسنده (١٢١٠٧) وغيره بإسناد صحيح، وجاء عن غيره أيضًا راجع السنة لابن أبي عاصم، ومعه ظلال الجنة للعلامة الألباني ﵀ (١/ ٩٨ - ١٠٤)، والشريعة للآجري (ص ١٣٧، ٣١٦، ٣١٧).
(^١١) لم أجده بهذا اللفظ -مع اشتهاره عند جماعة من المصنفين-، إلا عند الحكيم الترمذي في كتابه الأمثال (ص ١٣٩) معلقا من حديث عبادة بن الصامت-﵁ مرفوعا، وهو بمعنى الحديث الذي قبله.
(^١٢) وقد وردت آثار عن بعض الصحابة تؤكد أن العقل في القلب، منها: ما ورد عن عليّ بن أبي طالب-﵁ أن عياض بن خليفة سمعه يوم صفين يقول: "إن العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في الطحال، والنَّفّسَ في الرئة". وهذا الخبر أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وبوب له البخاري بـ باب العقل في القلب، والأثر حسنه الشيخ الألباني-﵀ في صحيح الأدب المفرد (٢٠٦).
1 / 4
منهم، فإنهم يقولون، إن محل العقل الدماغ، وشذت طائفة من متأخريهم فزعموا أن العقل ليس له مركز مكاني في الإنسان أصلًا، وإنما هو زماني محض لا مكان له، وقول هؤلاء أظهر سقوطًا من أن نشتغل بالكلام عليه.
ومن أشهر الأدلة التي يستدل بها القائلون إن محل العقل الدماغ: هو أن كل شيء يؤثر في الدماغ يؤثر في العقل، ونحن لا ننكر أن العقل قد يتأثر بتأثر الدماغ، ولكن نقول بِمُوْجَبِه، فنقول: سَلَّمْنَا أن العقل قد يتأثر بتأثر الدماغ، ولكن لا نسلم أن ذلك يستلزم أن محله الدماغ، وكم من عضو من أعضاء الإنسان خارج عن الدماغ بلا نزاع، وهو يتأثر بتأثر الدماغ كما هو معلوم، وكم من شلل في بعض أعضاء الإنسان ناشئ (من) (^١) اختلال واقع في الدماغ، فالعقل خارج عن الدماغ، ولكن سلامته مشروطة بسلامة الدماغ، كالأعضاء التي تختل باختلال الدماغ، فإنها خارجة عنه مع أن سلامتها (يشترط) (^٢) فيها سلامة الدماغ كما هو معروف (^٣)، وإظهار حجة هؤلاء والرد عليها على الوجه المعروف في آداب البحث والمناظرة (^٤)، أن حاصل دليلهم أنهم يستدلون بقياس منطقي من الشرطي المتصل المركب من شرطية متصلة لزومية واستثنائية يستثنون فيه نقيض التالي فينتج لهم في زعمهم دعواهم المذكورة التي هي نقيض المُقَدَّم، وصورته أنهم يقولون: لو لم يكن العقل في الدماغ لما تأثر بكل مؤثر على الدماغ، لكنه يتأثر بكل مؤثر على الدماغ، ينتج العقل في الدماغ، وهذا الاستدلال مردود بالنقض التفصيلي الذي هو المنع، وذلك بمنع كُبْرَاهُ التي هي شرطيته، (فبقول) (^٥) المانع: (امنع) (^٦) قولك: "لو لم يكن العقل في الدماغ لما تأثر بكل مؤثر (على) (^٧) الدماغ"، بل هو خارج عن الدماغ مع أنه يتأثر (بتأثر) (^٨) الدماغ كغيره من الأعضاء التي تتأثر بتأثر الدماغ، فالربط بين التالي والمقدم غير صحيح، والمحل الذي يتوارد عليه الصدق والكذب في الشرطية إنما هو الربط بين مقدمها وتاليها، فإن لم يكن الربط صحيحًا كانت كاذبة، والربط في قضيتهم المذكورة كاذب، فظهر بطلان دعواهم، وهناك طائفة ثالثة، أرادت أن تجمع بين القولين (^٩)، فقالت: إن ما دلَّ عليه الوحيُ من كون محل العقل هو القلبَ = صحيح، وما يقوله الفلاسفةُ ومَنْ وافقهم من أن محله الدماغ = صحيح أيضًا، فلا منافاة بين القولين، قالوا: ووجه الجمع أن العقل في القلب كما في القرآن والسنة، ولكنَّ نوره يتصاعد من القلب فيتصل بالدماغ، وبواسطة اتصاله
_________
(^١) في (أ): (عن).
(^٢) في (أ): (مشروطة)، ولعلها اشتبهت عند النقل بالتي قبلها.
(^٣) قال القاضي أبو يعلى في كتابه العدة في أصول الفقه (١/ ٩٣): "وما ذكروه من زوال العقل بضرب الرأس، فلا يدل على أنه محله، كما أن عصر الخصية يزيل العقل والحياة، ولا يدل على أنها محله، وقول الناس: إنه خفيف الرأس وخفيف الدماغ فهو أن يبس الدماغ يؤثر في العقل، وإن كان في غير محله، كما يؤثر في البصر وإن كان في غير محله"، وراجع: التمهيد لتلميذه أبي الخطاب (١/ ٤٨).
(^٤) انظر "آداب البحث والمناظرة" للمؤلف -برد الله مضجعه- (١/ ٩٢، ٩٣)، وقال الشيخ ﵀ عن القضية الشرطية وأقسامها في منظومته نور الهدى:
شرطية ما ركبت من جملتين ... فطرفاها ضمنا قضيتين.
والحكم فيها أبدًا معلق ... كلو بدت سلمى لزال القلق.
وانقسمت هذي إلى متصلة ... لدى الشيوخ وإلى منفصلة
وطرفا هذي بكل حال ... لديهم مقدم وتالي
وذات الاتصال ما قد حكما ... بصحبة التالي بها المقدما
مقدم الشرطية المتصلة ... مهما تكن صحبة ذاك التالي له
لموجب قد اقتضاها كسبب ... فهي اللزومية ثم إذ ذهب
موجب الاصطحاب ذا بينهما ... فالاتفاقية عند العلما
(^٥) في (أ): (فتقول).
(^٦) في (أ): (منع).
(^٧) في (أ): (في).
(^٨) في (أ): (بكل مؤثر على) بدلًا منها.
(^٩) نقل القاضي أبو يعلى في العدة (١/ ٨٩) عن أبي الحسن التميمي ﴿راجع ترجمته في النجوم الزاهرة (٤/ ١٤٠)، والمنهج الأحمد (٢/ ٦٦)﴾ في كتابه العقل، أنه قال: "الذي نقول به: إن العقل في القلب، يعلو نوره إلى الدماغ، فيفيض منه الحواس ما جرى في العقل"، وجاء عن غيره، راجع: شرح الكوكب المنير (١/ ٨٤)، والمسودة (ص ٥٥٩).
1 / 5
بالدماغ يصدق عليه أنه في الدماغ من غير منافاة؛ لكون محله هو القلب، قالوا: وبهذا يندفع التعارض بين النظر العقلي الذي زعمه الفلاسفة وبين الوحي، واستدلَّ بعضُهم لهذا الجمع بالاستقراء غير التام، وهو المعروف في الأصول بإلحاق الفرد بالغالب، وهو حجة ظنية عند (جماعات) (^١) من الأصوليين، وإليه أشار صاحب مراقي السعود في كتاب الاستدلال في الكلام على أقسام الاستقراء بقوله:
وَهُوَ (فِي) (^٢) البَعْضِ إِلَى الظَّنِّ انْتَسَبْ ... يُسْمَى لُحُوقَ الفَرْدِ بالذي غَلَبْ (^٣)
ومعلوم أن الاستقراء هو: تَتَبُّعُ الأفراد حتى يغلبَ على ظنه أن ذلك الحكمَ مُطَّرِدٌ في جميع الأفراد، وإيضاح هذا أن القائلين بالجمع المذكور بين الوحي وأقوال أهل الفلسفة في محل العقل، قالت جماعة منهم: دليلنا على هذا الجمع الاستقراء غير التام، وذلك أنهم قالوا: تتبعنا أفراد الإنسان الطويل العنق طولًا مفرطًا زائدًا على المعهود زيادة بينة، فوجدنا كلَّ طويلِ العنق طولًا مفرطًا ناقصَ العقل؛ وذلك لأن طول العنق طولًا مفرطًا يلزمه بُعْد المسافة بين طريق نور العقل الكائن في القلب وبين المتصاعد منه إلى الدماغ، وبُعْد المسافة بين طرفيه قد يؤدي إلى عدم تماسكه واجتماعه، فيظهر فيه النقص، وهذا الدليل كما ترى ليس فيه مقنع، وإن كان يُشَاهَدُ مِثْلُهُ في الخارج كثيرًا.
فَتَحَصَّلَ من هذا أن الذي يقول: إن العقل في الدماغ وحده، وليس في القلب منه شيء، أن قوله في غاية البطلان؛ لأنه مكذب لآيات وأحاديث كثيرة كما ذكرنا بعضه، وهذا القول لا يتجرأ عليه مسلم إلا إن كان لا يؤمن بكتاب الله ولا بسنة رسوله ﷺ، وهو إن كان كذلك ليس بمسلم.
ومَنْ قال: إنه في القلب وحده وليس في الدماغ منه شيء، فقوله هو ظاهر كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، ولم يقم دليل جازم قاطع من نقل ولا عقل على خلافه، [*وادعاء بعض متأخريهم أنهم راقبوا المفكر وقت تفكيره، وتوصلوا ببعض الأجهزة لمحل الحركة الفكرية فوجدوه في الدماغ، وذلك يدل على أنه في الدماغ، فليس فيه مقنع، ولو كان لا يخالف الوحي، فكيف وهو يخالف كلام الله ورسوله ﷺ ولا ملازمة بين الحركة والإدراك، ولا مانع من كون الحركة في الدماغ، والإدراك في القلب، ولو كانت الحركة تستلزم أن يكون محلها محل الإدراك، فإن القلب أكثر حركة من الدماغ، وإن قالوا: القلب يتحرك دائمًا، والحركة الدماغية تختص بوقت الفكر، فهي أخص بالإدراك من القلب، فالجواب بالمنع، بل الأنسب أن يكون الإدراك بما هو أكثر حركة؛ إذ لا مانع من أن حركته وقت التفكير هي التي بها الإدراك؛ ولأن الإنسان لا يخلو غالبًا من تفكير، وحركته وقت النوم الذي ليس فيه تفكير لا يمتنع عقلًا الإدراك بحركته وقت التفكير، والوحي يشهد له؛ لأن محل الإدراك في القلب، وعلى كل حال فالعقل السليم لا يجزم باستلزام الحركة محل الإدراك، والآيات القرآنية التي قدمنا تدل على أن محل العلم والفقه الذي هو الفهم بكثرة هو القلب، ومما يوضح ذلك ترتيبه نفي العلم والفقه بالفاء على الطبع على القلب، والفاء من حروف التعليل، كقولهم: سرق فقطعت يده، أي: لعلة سرقته، وسها فسجد، أي: لعلة سهوه.
ومن الآيات التي قدمنا قوله تعالى في التوبة: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة، الآية (٨٧)]، فترتيبه: ﴿فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ بـ "الفاء" على قوله: ﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ يدل على أن نفي الفقه الذي هو العلم عنهم، علته الطبع على القلب، ونظيره قوله في سورة المنافقين: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ ...﴾ [المنافقون، الآية (٣)]، فرتب عدم الفقه على الفقه بـ "الفاء" على الطبع، ونظيره قوله في التوبة أيضًا: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة، الآية (٩٣)]، فرتَّب أيضًا نفيَ العلم بـ "الفاء" على الطبع على قلوبهم، فدلَّ على أن الطبعَ على القلب هو علةُ عدمِ الفهم،
أي: فهم لا يفقهون؛ لعلة الطبع على قلوبهم، فهم لا يعلمون؛ لعلة الطبع على قلوبهم، والآيات القرآنية لم تجعل للدماغ أثرًا في العلم ولا في الفهم ألبتة كما ترى*] (^٤).
ومَنْ جمع بين القولين، فقوله جائز عقلًا ولا تكذيب فيه للقرآن ولا للسنة، ولكنه يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه، ولا دليل عليه من النقل، فإن قام عليه دليل من عقل أو استقراء محتج به فلا مانع من قبوله، والعلم عند الله تعالى، وهذا ما يتعلق بالمسألة الأولى (^٥).
وأما الجواب على المسألة الثانية:
فهو أن ما ذكرتم من أنَّ القرآن (العظيم) (^٦) فَرَّقَ بين المشركين وبين أهل الكتاب، واستشهدتم لذلك بآية المائدة: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ...﴾ الآية [المائدة، الآية (٨٢)]، فهو كما ذكرتم؛ لأن العطف يقتضي بظاهره الفرق بين
_________
(^١) في (أ): (جماعة).
(^٢) في (أ): (لدى)، والصواب الأصل، المراقي مع النثر (ص ٥٦٧).
(^٣) البيت عبارة عن تعريف الاستقراء غير التام، وهو أن يكون ثبوت الحكم في الكليات بواسطة إثباته بالتتبع في بعض الجزئيات الخالية عن صورة النزاع، ولكن يشترط فيه أن يكون ثبوت الحكم للبعض يفيد ظن عموم الحكم، ولو كان البعض المستقرأ أقل على التحقيق، ومثاله: ما ذكره الشافعي وغيره من أن سن الحيض تسع سنين، وأن أقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر ونحو ذلك فقد صرح علماء الشافعية بأن مستند الشافعي في جميع ذلك هو الاستقراء، ومعلوم أن الشافعي لم يستقرئ من حال نساء العالم إلا النزر القليل بالنسبة لما لم يستقرئ، وقوله: يسمى لحوق الفرد: يعني أن الاستقراء الناقص (غير التام) يسميه الفقهاء إلحاق الفرد بالأغلب. انظر: نثر الورود للشيخ ﵀ (ص ٥٦٧).
(^٤) ما بين المعقوفين، من قوله ﵀: "وادعاء بعض متأخريهم ... "، إلى قوله: " ... كما ترى" = ساقط من (أ).
(^٥) مراجع هذه المسألة البحر المحيط للزركشي (١/ ٨٨ - ٩٠)، إحكام الفصول في أحكام الأصول (١/ ١٧١) الحدود في الأصول (ص ١٠١) كلاهما للباجي، التحبير شرح التحرير في أصول الفقه للمرداوي (١/ ٢٦٢)، شرح مختصر الروضة للطوفي (٢/ ١٥٩)، العدة في أصول الفقه لأبي يعلى (١/ ٨٩ - ٩٠)، التمهيد لأبي الخطاب (١/ ٤٨)، شرح الكوكب المنير (ص ٢٤ - ٢٦)، ذم الهوى (ص ٥)، الأذكياء (ص ١٠، ١١) كلاهما لابن الجوزي، أدب الدنيا والدين للماوردي (ص ٦)، تهذيب الأسماء واللغات للنووي (٣/ ٣٤)، الأشباه والنظائر لابن السبكي (٢/ ١٨)، شرح اللمع للشيرازي (١/ ١٥١)، المسودة لآل تيمية (٢/ ٩٧٧)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (٩/ ٣٠٣)، التبيان في أقسام القرآن لابن القيم (ص ٤٠٤ - ٤٠٥)، عمدة القاري للعيني (٣/ ٢٧٠)، أضواء البيان (٥/ ٧١٥)، العذب النمير (١/ ١٤٧ - ١٤٨)، المعجم الفلسفي (٢/ ٨٤ - ٨٨)، العقل مجالاته وآثاره في ضوء الإسلام (ص ٣٧)، عقلك مم يتركب وكيف يعمل لـ مصطفى هيكل (ص ١٢)، قصة الفلسفة لـ ويل ديورانت (ص ٧٧٣).
(^٦) ساقطة من (أ).
1 / 6
المعطوف والمعطوف عليه، وقد تكرر في القرآن عطف بعضهم على بعض، كالآية التي تفضلتم بذكرها، وكقوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ ...﴾ الآية [البينة، الآية (١)]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ...﴾ الآية [البينة، الآية (٦)]، وقوله تعالى: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ...﴾ الآية [البقرة، الآية (١٠٥)]، وقوله تعالى: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ...﴾ الآية [آل عمران، الآية (١٨٦)]، إلى غير ذلك من الآيات.
وظاهر العطف يقتضي المغايرة بين المتعاطفين؛ لأن عطف الشيء على نفسه يحتاج إلى دليل خاص يجب الرجوع إليه مع بيان المسوغ لذلك كما هو معلوم في محله، وما تفضلتم بذكره من أن عمر بن عبد العزيز ﵁ (أنه) (^١) أمر بإلحاق أهل الكتاب بالمشركين في عدم دخول المسجد الحرام (^٢)، فمستنده المسوغ له أن الله -جل وعلا- صَرَّحَ في سورة التوبة أن أهل الكتاب من يهود ونصارى من جملة المشركين، (وإذ) (^٣) جاء التصريح في القرآن العظيم بأنهم من المشركين، فدخولهم في عموم (آية) (^٤): ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ...﴾ الآية [التوبة، الآية (٢٨)]، لا إشكال فيه، وآية التوبة التي بَيَّنَ الله فيها أنهم من جملة المشركين، هي قوله (جل وعلا) (^٥): ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا
_________
(^١) هكذا بالأصل، وساقطة من (أ)، والأَوْلَى حذفها.
(^٢) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (٦/ ٥١٢ - ٥١٣)، والبيهقي في سننه (١٠٣٨٠)، وابن جرير في التفسير (١١/ ٣٩٨)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (٨/ ٣٠٨) لأبي الشيخ، وفيه: كتب عمر بن عبد العزيز أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ...﴾ الآية [التوبة: ٢٨]، وراجع: حلية الأولياء (٥/ ٣٢٥، ٣٢٦)، المصنف (٢/ ٥٢٧)، (١٠/ ٢٣).
(^٣) في (أ): (وإذا).
(^٤) في (أ): (قوله تعالى).
(^٥) في (أ): (تعالى).
1 / 7
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة، الآية (٣٠، ٣١)]، فتأمل قوله في اليهود والنصارى: ﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ يظهر لك صدق اسم الشرك عليهم، فيتضح إدخالهم في عموم: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾.
ووجه الفرق بينهم بعطف بعضهم على بعض، هو أنهم جميعًا مشركون، والمغايرة التي سَوَّغَتْ عطف بعض المشركين على بعض، هي اختلافهم في نوع الشرك، فشرك المشركين غير أهل الكتاب كان شركًا في العبادة؛ لأنهم يعبدون الأوثان، وأهل الكتاب لا يعبدون الأوثان، فلا يشركون هذا النوع من الشرك، ولكنهم يشركون شرك (ربوبيةٍ) (^١)، كما أشار له تعالى بقوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ...﴾ الآية [التوبة، الآية (٣١)]، ومن اتخذ أربابًا مِن دون الله فهو مشرك به في ربوبيته، وادعاء أن عزيرًا ابنُ الله، والمسيحَ ابنُ الله مِنَ الشرك في الربوبية، ولما كان الشرك في الربوبية يستلزم الشرك في العبادة، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة، الآية (٣١)] (^٢)، وما ذكرتم من أن عطاء ﵀ جعل المسجد يشمل الحل (^٣)، وأن المسلمين درجوا على ذلك إلى الآن (^٤)، فهي مسألة: هل يجوز دخول الكفار لمسجد من مساجد المسلمين غير المسجد الحرام المنصوص على منع دخولهم له بعد عام تسع من الهجرة في قوله تعالى: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ...﴾ الآية [التوبة، الآية (٢٨)]، والعلماء مختلفون هل يجوز دخول الكفار مسجدًا غير المسجد الحرام أو لا، فذهب مالك وأصحابه (^٥) ومَنْ وافقهم (^٦) إلى أنه لا يجوز أن يدخل الكافر مسجدًا من مساجد المسلمين مطلقًا،
(واستدلوا) (^٧) لذلك بأدلة منها: آية التوبة (^٨)، وإن كانت خاصة بالمسجد الحرام، فَعِلَّةُ حكمها (تقتضي) (^٩) تعميمه في جميع المساجد، وقد تقرر في الأصول أن العلة قد تعمم معلولها تارة، وقد تخصصه تارة، كما أشار إليه صاحب مراقي السعود، بقوله في الكلام على العلة (_) (^١٠):
وقد تُخَصِّصُ وقد تُعَمِّمُ ... لأصلها لكنها لا تَخْرِمُ (^١١)
وإذا علمت أن العلة تعمم معلولها الذي لفظه خاص، فاعلم أن مسلك العلة المعروف بـ مسلك الإيماء والتنبيه (^١٢)، دل على أن علة منع قربان المشركين المسجد الحرام بعد عام تسع أنهم نجس، وذلك واضح من ترتيب الحكم بالنهي عن (قربانها) (^١٣) بـ "الفاء"، على كونهم نجسًا في قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ...﴾ الآية، ثم رتب على ذلك بـ "الفاء" قوله: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ...﴾ الآية، ومعلوم أنَّ جميعَ المساجد تجب صيانتُها عن دخول النَّجسِ فيها، فكونهم نجسًا يقتضي تعميم الحكم في كل المساجد.
واستدل مالك ومَنْ وافقه أيضًا على منع دخول الكفار المساجد مطلقًا بآية البقرة على بعض التفسيرات التي فُسِّرَتْ بها، وهي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ...﴾ الآية [البقرة، الآية (١١٤)]، فقد فُسِّرَ قولُهُ تعالى: ﴿أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا ...﴾ أي: ليس لهم دخول المساجد إلا مُسَارَقَةً خائفين من المسلمين أن يَطَّلِعُوا عليهم فيخرجوهم منها وينكلوا بهم (^١٤).
وفي تفسير الآية أقوال غير هذا (^١٥)، وسواء قلنا: إن تخريب المساجد حسي، كما فعلت الرومُ وبُخْتَنَصَّر بالمسجد الأقصى (^١٦) المشار إليه بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء، الآية (٧)]، أو قلنا: إن تخريب المساجد المذكور في الآية تخريب معنوي، وهو منع المسلمين من التعبد فيها، كما فعل المشركون بالنبي ﷺ وأصحابه عام الحديبية، كما قال تعالى: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...﴾ الآية [الفتح، الآية (٢٥)]،
_________
(^١) في (أ): (الربوبية)، بإثبات الألف واللام.
(^٢) راجع: المغني (١٣/ ٢٤٥)، تفسير القرطبي (٨/ ٧٢)، المحلى (٤/ ٢٤٤)، أحكام أهل الذمة لابن القيم (١/ ٣٩٩)، العذب النمير (٥/ ٢١٣٠، ٢٢٣٨ - ٢٢٤٢)، السلسلة الصحيحة للعلامة الألباني -رحم الله الجميع- (٣/ ١٢٥).
(^٣) هكذا بالأصل، وفي (أ): (الكل)، وهي مذكورة في نص سؤال الشيخ محمد الأمين بن محمد الخضر ﵀: "الحل"، ويوهم رسمها كذلك: "الكل". ولعل الشيخ ﵀ يريد (الحرم) بدليل أن الذي ورد عن عطاء حول هذا المعنى أخرجه عبد الرزاق (٩٩٨٠، ٩٩٨١، ١٩٣٥٦)، وابن جرير في تفسيره (١١/ ٣٩٨)، وابن أبي حاتم (٦/ ١٧٧٦)، والنحاس في ناسخه (ص ٤٩٧)، من طريق ابن جريج، وفيه أنه قال: "الحرم كله قبلة ومسجد، قال: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ لم يعن المسجد وحده، إنما عنى مكة الحرم"، وقال عطاء في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ "الحرم كله" كما في المصنف لعبد الرزاق (٥/ ١٥١)، وبنحو هذا جاء عن عمرو بن دينار؛ أخرجه عبد الرزاق (٦/ ٥٢)، والنحاس في ناسخه (ص ٤٩٧)، وورد أيضًا عن ابن عباس، ومجاهد وغيرهما، راجع: أخبار مكة للأزرقي (٢/ ١٠٦، ١٣٨، ١٣٩)، والفاكهي (٣/ ٣٦٥)، والدر المنثور (٤/ ٦٣١) -رحم الله الجميع-.
(^٤) ادعى ابن حزم في المحلى (٧/ ١٤٨) الإجماع على أن المراد بالمسجد الحرام في قوله تعالى ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ الحرم كله، وسيأتي بيانه.
(^٥) راجع: الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (١/ ١٣٩)، جواهر الإكليل (١/ ٢٣، ٢٦٧)، مواهب الجليل (٣/ ٢٨١)، أحكام القرآن لابن العربي (١/ ٣٣ - ١٠٧).
(^٦) وهو مروي عن الإمام أحمد ﵀، راجع المغني (٨/ ٥٣٢)، الآداب الشرعية لابن مفلح (٣/ ٤٠٦، ٤٠٧)، الإنصاف (٤/ ٣٣٩)، إعلام الساجد للزركشي (٣١٨ - ٣٢٠)، تفسير القرطبي (٢/ ٧٨).
(^٧) في (أ): (واستدل)، بحذف ولو الجماعة.
(^٨) يريد ﵀ قوله تعالى: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ...﴾ الآية [التوبة: ٢٨].
(^٩) في (أ): (يقتضي)، بالياء.
(^١٠) زاد في (أ): (بقوله).
(^١١) معنى البيت: أي أن العلة يجوز أن تخصص أصلها الذي استنبطت منه، وتعممه على الظاهر من مذهب مالك، انظر: نثر الورود (ص ٤٧٣).
(^١٢) الإيماء هو: اقتران الوصفِ (أو نظيرِه) بالحكم (أو نظيره على وجه)، انظر: نثر الورود (ص ٤٨٠).
(^١٣) في (أ): (قربان المسجد).
(^١٤) هذا التفسير مروي بنحو هذا اللفظ عن قتادة ﵀، أنه قال: هم النصارى، فلا يدخلون إلا مسارقة، إن قدر عليهم عوقبوا، أخرجه عبد الرزاق (١/ ٥٦)، وابن أبي حاتم (١/ ٢١١)، والطبري (٢/ ٤٤٦، ٤٤٧)، وإسناده صحيح.
(^١٥) في (أ): (هذه)، ولمعرفة الأقوال الأخرى راجع: تفسير الطبري (٢/ ٤٤٢ - ٤٤٧)، وأضواء البيان (١/ ٧٢، ٧٣).
(^١٦) راجع: تفسير الطبري (٢/ ٤٤٦، ٤٤٧).
1 / 8
وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ...﴾ الآية [الحج، الآية (٢٥)]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ...﴾ الآية [المائدة، الآية (٢)]، وقال تعالى: ﴿وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ...﴾ الآية [البقرة، الآية (٢١٧)]، ومن الآيات التي تشير إلى أن عمارة المساجد هي طاعة الله فيها، قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ...﴾ الآية [التوبة، الآية (١٨)].
وأما من قال من أهل العلم بجواز دخول الكفار جميع مساجد المسلمين غير المسجد الحرام (^١)، فقد احتجوا بأن الله إنما نهى عن ذلك في خصوص المسجد الحرام، في قوله: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ...﴾ الآية، وقالوا: ويفهم من تخصيص المسجد الحرام بالذِّكْرِ أنَّ غيرَهُ مِنَ المساجد ليس كذلك، واحتجوا لذلك بأن النبي ﷺ ربط ثُمَامة بن أَثَال سيد أهل اليمامة لما جيئ به أسيرًا في سارية من سواري المسجد وهو مشرك قبل إسلامه (^٢)، قالوا: وقد أنزل ﷺ وفد (_) (^٣) نجران بالمسجد في المدينة وهم نصارى (^٤)، (وقدوم وفد نجران متأخر) (^٥)؛ لأنهم أعطوا الجزية لَمَّا خافوا من المباهلة، والجزية إنما أنزلت في سورة براءة (^٦)، ونزولها كان في رجوعه ﷺ من غزوة تبوك، وغزوة تبوك (_) (^٧) سنة تسع بلا خلاف (^٨).
ومن قال من أهل العلم بأنه لا يجوز دخول الكافر مسجدًا من مساجد المسلمين إلا بأمان من مسلم (^٩)، فقد احتج لذلك بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ...﴾، قالوا: قوله: ﴿مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ﴾ يدل على أن مَنْ دخلها بأمانِ مسلمٍ فقد دخلها خائفًا، بحيث لا يتمكن من دخولها إلا بأمان مسلم لخوفه لو دخلها بغير أمان (^١٠)، وأما مَنْ قال من أهل العلم: إن قوله تعالى: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ...﴾ الآية، يشمل الحرم كله، ولا يختص بالمسجد الحرام المنصوص عليه في الآية (^١١)، فَحُجَّتُهُ هي ما علم من إطلاق المسجد الحرام وإرادة الحرم كله، كقوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...﴾ الآية [التوبة، الآية (٧)]، ومعلوم أن المعاهدة كانت في غير المسجد الحرام، بل كانت في طرف الحديبية (^١٢) الذي هو داخل في الحرم، كما قال غيرُ واحد (^١٣).
وقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...﴾ الآية [الإسراء، الآية (١)]، وكان الإسراء به من بيت أم هانئ (^١٤)، لا من نفس المسجد الحرام على القول بذلك (^١٥).
وكقوله تعالى: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ...﴾ الآية [المائدة، الآية (٩٥)]، والهدي ينحر في الحرم كله (^١٦)، وأكبر منحر مِنْهُ مِنَى.
وقوله تعالى: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ ...﴾ الآية [البقرة، الآية (٢١٧)]، وهم مُخْرَجُوْنَ مِن مكةَ لا مِن نفسِ المسجدِ، ونحو ذلك من الآيات، والعلم عند الله تعالى.
_________
(^١) وهو قول الظاهرية، قال ابن حزم: "ودخول المشركين في جميع المساجد جائز، حاشا حرم مكة كله، المسجد وغيره، فلا يحل البتة أن يدخله كافر"، المحلى (٤/ ٢٤٣)، وهو مذهب عبد الرزاق الصنعاني (المصنف ١/ ٤١٤ باب المشرك يدخل المسجد)، والبخاري (الصحيح - كتاب الصلاة- باب دخول المشرك المسجد)، والبيهقي (السنن الكبرى ٢/ ٤٤٤ باب المشرك يدخل المسجد غير المسجد الحرام) كما يفهم من تبويبهم، أما الأحناف فإنهم لا يفرقون بين المسجد الحرام وغيره، وفي رواية عندهم: منعُ عَبَدِ الأوثان من دخول المسجد الحرام دون بقية المساجد، بخلاف الذمي فإنه لا يمنع، وهو المنقول عن الإمام أبي حنيفة، راجع رد المحتار (٦/ ٣٣٧)، شرح السير الكبير (١/ ٣٦٦)، أحكام القرآن للجصاص (٤/ ٢٧٩)، بدائع الصنائع (٦/ ٥٧)، البحر الرائق (٥/ ١٩٤)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص ٣٦٩)، لباب المناسك وعباب المسالك (ص ٢٩٠)، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (٨/ ١٥٦).
(^٢) الحديث أخرجه البخاري، وأطرافه (٤٦٢، ٤٦٩، ٢٤٢٢، ٢٤٢٣، ٤٣٧٢)، ومسلم (١٧٦٤).
(^٣) زاد في (أ): (نصارى).
(^٤) أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة لابن هشام (١/ ٥٧٤)، ومن طريقه: ابن جرير في تفسيره (٦/ ١٥٢) قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: "لما قدموا-أي وفد نجران- على رسول الله ﷺ المدينة، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر ... " الحديث، قال الشيخ الألباني في تعليقه على فقه السيرة (ص ٤٥٩): "وهذا مرسل أو معضل"، والحديث ليس فيه أن النبي ﷺ أنزلهم المسجد، ولكن أنزل النبي ﷺ وفدَ ثقيف في المسجد، والحديث أخرجه أحمد في مسنده (١٧٩١٣)، وأبو داود في سننه (٣٠٢٦)، من طريق حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص، ورجاله ثقات، لكن الحسن البصري مع جلالته ﵀ مدلس، وقد عنعن، وقد تكلم في سماعه من عثمان، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (١/ ٤١٤) وغيره عن الحسن البصري مرسلا، وأخرجه ابن هشام في السيرة (٢/ ٥٤٠) عن ابن إسحاق معضلًا.
(^٥) في (أ): (وكان قدوم وفد نصارى نجران متأخرًا).
(^٦) أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره (٦/ ١٧٧٩) والطبراني في مسند الشاميين (٣٠٦٧) وغيرهما عن أبي هريرة ﵁: " ... فأنزل الله: وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء، فأحلَّ في الآية الأخرى التي تتبعها الجزية، ولم تكن تؤخذ قبل ذلك، فجعلها عوضًا مما منعهم من موافاة المشركين بتجاراتهم ... ".
(^٧) زاد في (أ): (كانت).
(^٨) راجع: تفسير الطبري (١١/ ٤٠٧)، الدر المنثور (٧/ ٢٣٣، ٣١١ - ٣١٢)، العذب النمير (٥/ ٢١٠٧).
(^٩) قال به بعض المالكية، راجع: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (١/ ١٣٩)، جواهر الإكليل (١/ ٢٣)، مواهب الجليل (٣/ ٢٨١)، شرح الخرشي على مختصر خليل (٢/ ١٤٤)، أحكام القرآن لابن العربي (١/ ٣٣)، وبه قال الشافعية، راجع المجموع تكملة المطيعي (١٨/ ٢٧٩)، مغني المحتاج (٤/ ٢٤٢)، والحنابلة في رواية، راجع: المغني (٨/ ٥٣١)، الإنصاف (٤/ ٢٤٢)، الفروع (٦/ ٢٧٦).
(^١٠) راجع المغني (٨/ ٥٣٢)، المحلى (٤/ ٢٤٣)، مجموع الفتاوى (١١/ ٤٧٥)، أحكام أهل الذمة (١/ ١٧٧)، الأحكام السلطانية لأبي يعلى (١٩٥)، وللماوردي (١٦٧)، تحفة الراكع والساجد للجراعي (١١٢)، تفسير القرطبي (٨/ ١٠٤)، أحكام القرآن لابن العربي (١/ ٣٣).
(^١١) تقدم أن هذا قول عطاء، وهو قول الإمام أحمد وإسحاق، كما في المسائل للكوسج (٩/ ٤٦٩٢) (٣٣٥٠)، وراجع: الروايتين لأبي يعلى (٢/ ٣٨٦)، الإنصاف (١٠/ ٤٦٦)، الفروع (٦/ ٢٧٦)، المغني (٨/ ٥٢٩ - ٥٣١)، أحكام أهل الملل للخلال (١/ ١٢٧)، الأحكام السلطانية لأبي يعلى (١٩٥)، الأحكام السلطانية للماوردي (١٦٧)، أحكام أهل الذمة (١/ ١٧٧)، زاد المعاد (٣/ ٤٣٤) كلاهما لابن القيم، أحكام القرآن للجصاص (٤/ ٢٨٠)، أحكام القرآن لابن العربي (٣/ ١٢٧٤)، تحفة الراكع والساجد للجراعي (١١٢)، القرطبي (٨/ ١٠٤)، الزرقاني (٣/ ١٤٢)، بدائع الصنائع (٢/ ٣٠١)، الحاوي الكبير (١٤/ ٣٣٥)، المجموع (٣/ ١٩٠)، وقد ادعى ابن حزم الإجماع على ذلك، المحلى (٧/ ١٤٨)، وكذلك ادعى الخطيب الشربيني في مغني المحتاج (٦/ ٦٧) إجماع المفسرين، وهو منقوض بما روي عن سعيد بن المسيب أن المراد المسجد نفسه، كما في المراسيل لأبي داود (ص ١٢٤)، وانظر تفسير الطبري (٦/ ٣٤٥).
(^١٢) وقال ياقوت في معجم البلدان (٢/ ٢٢٩): " ... وبعض الحديبية في الحل، وبعضها في الحرم ... وعند مالك بن أنس أنها جميعًا في الحرم ... "، وهو قول الشافعي، كما في الأم (٢/ ٣٤١)، واستنبط ذلك من قوله تعالى: ﴿وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾، قال: "والحرم كله محله"، وراجع أحكام القرآن للجصاص (٤/ ٢٨٠)، (٥/ ٦٢)، شفاء الغرام بأخبار المسجد الحرام (١/ ١١٤، ٥٠٣).
(^١٣) العذب النمير (٥/ ٢٢٣٨).
(^١٤) جاء في الحاوي الكبير (٤/ ٦٣) أن الإسراء من بيت خديجة ﵂، وهو مخالف للصواب.
(^١٥) لم يأت التصريح بأن النبي ﷺ أُسري به من بيت أم هانئ إلا في حديثها الذي أخرجه الطبري في تفسيره (١٥/ ٣) بسنده من طريق ابن إسحاق، قال حدثني محمد بن السائب عن أبي صالح باذام عن أم هانئ به، وفيه محمد بن السائب وهو الكلبي متهم بالكذب، ورمي بالرفض، وباذام ضعيف يرسل، وأخرجه ابن سعد في طبقاته (١/ ٢١٥)، وفي سنده الواقدي، وهو متروك مع سعة علمه، وأخرجه الطبراني في الكبير (٢٤/ ٤٣٢) من طريق آخر فيه عبد الأعلى بن أبي المساور، قال الهيثمي في المجمع (١/ ٧٦): "رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبد الأعلى بن أبي المساور متروك كذاب"، والمشهور أن النبي ﷺ أسري به من الحجر عند البيت، أخرجه البخاري (٣٨٨٧) من حديث مالك بن صعصعة، أن النبي حدثهم من ليلة أسري به، قال: بينما أنا نائم في الحطيم، وربما قال في الحجر، وأخرجه البخاري (٣٢٠٧)، ومسلم (١٦٤) بلفظ: "بينما أنا عند البيت"، وراجع الفتح (٧/ ٤٠٤)، ولكن جاء في حديث أبي ذر "فرج سقف بيتي وأنا بمكة" أخرجه البخاري (٣٤٩)، (١٦٣٦)، (٣٣٤٢)، ومسلم (١٦٣)، وعلى فرض صحة حديث أم هانئ، فيقال كما قال الحافظ في الفتح (٧/ ٤٠٤): "إنه [ﷺ] نام في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته، فنزل منه الملك إلى باب المسجد فأركبه البراق" فيكون قد أسري به من المسجد لا من غيره. وانظر إلى دقة الشيخ -طيب الله ثراه- في قوله: "على القول بذلك".
(^١٦) راجع: بداية المجتهد (٢/ ٣٢٣).
1 / 9
فَتَحَصَّلَ أَن محل العقل القلب، وأنه لا مانع من اتصال طرف نوره الروحاني بالدماغ، وعليه لا تخالف بين القولين، و(أن) (^١) هذا إن قام عليه دليل فلا مانع من (قبوله) (^٢)، ونحن لا نعلم عليه دليلًا مقنعًا، وأنَّ عمرَ بن عبد العزيز ألحقَ أهلَ الكتاب بالمشركين؛ لآية التوبة التي ذكرنا، وأنَّ جَعْلَ حكم جميع الحرم المكي كحكم المسجد (_) (^٣) دليلُه استقراءُ الآيات التي جاءت بنحو ذلك، وقد رأيتَ حُجَجَ مَنْ منعهم دخولَ المساجد غير المسجد الحرام ومَنْ أجازَ ذلك ومَنْ فَرَّقَ (^٤).
ولا يخفى أنَّ الذين يجزمون بأن محل العقل الدماغ، ولا صلة له بالقلب أصلًا أنهم في جهلهم، كما قالت الراجزةُ (في زوجها) (^٥):
شِنْظِيْرَةٌ (^٦) زَوَّجَنِيْهِ أَهْلِي ... مِنْ جَهْلِهِ يَحْسَبُ رَأْسِي رِجْلِي (^٧)
أ. هـ (_) (^٨).
_________
(^١) ساقطة من (أ).
(^٢) في (أ): (القول به).
(^٣) زاد في (أ): (الحرام).
(^٤) ولفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الله -حفظه الله- ابن المؤلف ﵀ رسالة بعنوان "حكم دخول غير المسلمين للمساجد، في ضوء الآيات التي تحدثت عن ذلك" ط. مكتبة العلوم والحكم- المدينة النبوية، رجح فيها قول المالكية ومَن وافقهم بالمنع من دخول المشركين المساجد كلها.
(^٥) في (أ): (لزوجها).
(^٦) الشنظير: السخيف العقل، وهو الشنظيرة أيضًا، والشنظير الفاحش الغلق من الرجال والإبل السيء الخلق، ورجل شنغير وشنظيرة بذيء فاحش، انظر لسان العرب لابن منظور (٧/ ٢١٢).
(^٧) هذا البيت نسبه ابن سيده في المحكم (٨/ ١٤٣) وابن منظور في لسان العرب (٧/ ٢١٢) لابن الأعرابي، وقال ابن منظور: أنشد ابنُ الأعرابيّ لامرأةٍ مِن العرب: شنظيرة زوجنيه أهلي ... من حُمْقه يحسب رأسي رجلي ... كأنَّه لم يرَ أنثى قبلي.
(^٨) زاد في (أ): (والحمد لله).
1 / 10