مقدمة
القسم الأول: أزمة الإمبراطور
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
القسم الثاني: أزمات البلاط
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرين
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الخاتمة
مقدمة
القسم الأول: أزمة الإمبراطور
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
القسم الثاني: أزمات البلاط
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرين
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الخاتمة
فاتنة الإمبراطور
فاتنة الإمبراطور
فرانسوا جوزيف إمبراطور النمسا السابق وعشيقته كاترين شراط
تأليف
نقولا الحداد
مقدمة
الملوك يعشقون والرعايا يشاغبون
الإفراط كالتفريط كلاهما هادم، إذا لها الحكام بشهواتهم وتمادوا في بذخهم وترفهم، شقي الرعايا وتعسوا تحت نير أولئك الحكام. فلا تلم الجمهور إذن حين يغضب غضبة الحنق والحقد.
الإمبراطوار «فرنسوا جوزف» الذي كان يحسبه الناس ملكا مسالما طيبا، قضى حياته الطويلة عاشقا لممثلة حسناء تدعى «ماري شراط»، خسر بسببها زوجته وابنه. في هذه الرواية تقرأ العجب العجاب من دسائس البلاط النمساوي بين الممثلة الحسناء ووصيفة الإمبراطورة، وفي الوقت نفسه ترى مرسحا من السياسة النمساوية الداخلية ونشاط الحزب الاشتراكي.
نقولا الحداد
مصر في أول مارس سنة 1922م
القسم الأول
أزمة الإمبراطور
الفصل الأول
عريضة استرحام وعريضة غرام
في ربيع سنة 1890 كان الإمبراطور فرنسوا جوزف ملك النمسا والمجر مستلقيا في مقصورته الخاصة على مقعد من الدمقس، وكاتب سره فون شلر ينتظر في غرفته الخارجية طنين الجرس الكهربائي لكي يلبي أمر سيده في الحال، فيدخل ويدفع إليه أوراقا ويتناول منه أوراقا. ففي إحدى الدفعات أمره الإمبراطور أن يستدعي وزير الحقانية في الحال.
وما هي إلا دقائق معدودة حتى وافى الوزير والتمس أمر ملكه، وكان الإمبراطور لا يزال يقرأ ورقا بين يديه، فاستمر يقرأ إلى أن انتهى، ثم رفع نظره إلى الوزير وهو يضرب بقفا كفه على الورق الذي في يده، وقال: ماذا فعلتم بقضية شاب شراط هذا؟ - أظن الجلسة غدا يا مولاي؟ - تظن؟ والقضية ضد متطاول على التاج! - مولاي إن جهلي ميعاد القضية لا يدل على قلة اهتمامي بها، وإنما لا يخفى على جلالتكم أن تعيين مواعيد القضايا مختص بالمحكمة، والذي أعلمه أن ميعادها غدا، ومخافة أن أكون مخطئا أقول أظن. - وما ظنك في الحكم على الجاني؟ - وماذا يكون الحكم بغير العقوبة القصوى على من تبلغ به القحة أن يتطاول على مقام جلالة الإمبراطور السامي بقول هراء؟ - وما هي العقوبة القصوى؟ - العقوبة على من يقذف باسم جلالة الإمبراطور الأعظم الأشغال الشاقة من 3 سنين إلى خمس، وسيكون الحكم بالسنين الخمس على شاب شراط. - وهل البينات موفورة؟ - عندنا عدد ممن سمعوا خطاب ذلك الوقح. - إذن فليكن الحكم عشر سنين بالأشغال الشاقة.
فازدرد الوزير لعابه وقال: مولاي، إن ذلك الوقح الخسيس يستحق الموت، ولكن القانون ...
فعبس فيه الإمبراطور قائلا: أنا القانون. - ونحن نخضع لهذا القانون، فهل يأمر جلالة الإمبراطور بإصدار أمر عال بتعديل المادة؟ - عجبا عجبا، تناقشني في مسألة خاصة بي، الحكم سيصدر باسمي في قضية ضد متواقح على تاج النمسا، فيجب أن يكون شاب شراط عبرة لمن يعتبر.
فانحنى الوزير لدى الإمبراطور بكل إجلال، وخرج مكفهرا، وبقي الإمبراطور وحده يفكر ويقلب بعض الأوراق، وبعد بضع دقائق ضغط على الزر الكهربائي فدخل كاتب السر ودفع إلى الإمبراطور بعض الأوراق وتناول منه بعضا آخر. وأول ما وقع عليه نظر الإمبراطور بطاقة مذهبة الحواشي باسم مدام آلدار فون كيس، فسأل كاتب السر: ما شأن هذه المرأة؟ - ترجو يا مولاي أن ترفع بنفسها إلى مقامكم السامي عريضة استرحام، وهي تنتظر صدور أمركم الكريم بقبول امتثالها.
ففكر الإمبراطور هنيهة ثم قال: دع السيدة تنتظر في البهو. - سمعا وطاعة.
وخرج الكاتب وبقي الإمبراطور يقلب الأوراق، ثم جعل يقلب البطاقة الذهبية والرائحة العطرية تنبعث منها، وبعد دقائق نهض وتمشى في غرفته إلى أن بلغ مدخل البهو، وأزاح الستار قليلا؛ فلمح امرأة كأنها البدر على غصن يرتجف تحت خطرات النسيم، فأشفق على اضطراب المرأة ووجلها قبيل مقابلة الملك الذي تخفق لهيبته القلوب، ولما رآها قد لمحته تقدم، فتقدمت المرأة خطوتين وهي تتداعى تحت ثقل الرهبة، حتى لم تعد تحملها ساقاها، فارتمت جاثية ورفعت يديها بورقة ملفوفة كالدرج ولم تنبس ببنت شفة. فألقى الإمبراطور يده على كرسي وقال: إنك يا امرأة في حضرة ملك عادل، فما هي ظلامتك؟
فأجابت بصوت خافت متهدج: مولاي إني أخاف من العدل، وأرجو الرحمة وجلالتك رحوم وعادل معا. - ماذا تريدين؟ - أتوسل إلى رحمتك أن تعفو عن أخي، فما هو مذنب وإنما طيشه ونزقه مذنبان. فارحمه لكي يتعلم من رحمتك أن يكون حكيما وعاقلا. - من هو أخوك؟ - هو شاب شراط النادم المستغفر، وجلالتك أولى بالمغفرة والصفح.
فتقدم الإمبراطور خطوة واحدة وهو يبتسم، وأمسك تلك اليد العاجية التي ترفع العريضة ورفعها، فارتفعت المرأة معها وهي لا تزال ترتجف، وقال لها: لقد أجبت التماسك يا سيدة، وأنتظر أن تقدمي لي شكرك في حين آخر.
فانحنت المرأة لديه حتى كادت تبلغ الأرض، وتراجعت إلى الوراء، والإمبراطور عاد من حيث أتى وهو يفكر باسما متهللا.
بعد يومين جاء وزير الحقانية والتمس الامتثال لدى الإمبراطور، ولما وقف بين يديه دفع إليه صحيفة وقال: هذا نص الحكم على شاب شراط بالأشغال الشاقة عشر سنين يا مولاي.
فتناول الإمبراطور الحكم وتلاه، ثم تناول قلما وكتب تحته: «لقد عفونا عن شراط.» ووقعه بإمضائه ودفعه إلى الوزير، فلما اطلع الوزير على الكتابة بهت ونظر إلى الإمبراطور مستغربا، فابتسم الإمبراطور قائلا: أجل، يجب أن يعرف الناس أن قضاءهم صارم وأن إمبراطورهم حليم رحيم، فأصدر أمرك بإخراج شراط من السجن في هذه الساعة.
فانحنى الوزير وخرج مدهوشا.
الفصل الثاني
نفحات الهوى
في ضحى اليوم التالي دفع كاتب السر إلى الإمبراطور فرنز جوزف بطاقة مدام آلدر فون كيس، فلما رآها الإمبراطور لم يتمالك أن ابتسم ثم قال: قل لهذه السيدة أن تأتي الساعة الرابعة بعد الظهر. - معها يا مولاي فتى تقول إنه أخوها. - بل قل لها أن تأتي وحدها ولا داعي لامتثال أخيها. •••
ولما حانت الساعة الرابعة كانت مدام آلدار كيس ماثلة لدى الإمبراطور فرنز جوزف وهي أربط جأشا من قبل، وقد جمعت في نفسها كل ما عندها من الأبهة والجلال، واستتمت كل ما لها من الحسن والجمال. وكان الإمبراطور يبالغ في الابتسام ليخفي ما يبدو من هيبته الرهيبة مخافة أن ينفر تلك الحمامة الوديعة.
فأمرها أن تجلس على كرسي في مقربة منه، فكان مقابلا لجانبها الأيمن؛ ولهذا كانت معظم الوقت ملتفتة إليه إلا نادرا، ولما جلست قال باسما: عسى ألا يكون قد راعك حكم المحكمة عند صدوره يا مدام. - إنه لحكم عادل يا صاحب الجلالة والعدل، لا يروع بل يطأطئ الرأس له احتراما، وإنما حلم جلالتكم يرفع الرأس للدعاء ويخفق له الفؤاد حبورا. إن أهل فينا بل بلاد النمسا كلها تلهج اليوم بالثناء على جلالة إمبراطورها الذي يؤدب الخطأة من رعيته بالحلم والصفح.
وكان الإمبراطور يتهلل بشرا وبهجة، فقال: لقد أحسنت في طلب العفو لأخيك يا مدام؛ لأني كنت مصمما على تأديبه في الحبس، لو لم يثر هذا البهاء في قلبي عاطفة الحلم والشفقة.
فتوردت المرأة وقالت مستقدمة كل ما تستطيعه من اللطف والرقة: إن الحلم والشفقة خلقة في جلالة مولانا الإمبراطور. - وللغضب مكان حتى في قلب الملاك يا مدام، ونحن الرجال أقرب إليه منكن، ولا يطفئ سورة غضبنا إلا رذاذ من ماء جمالكن.
فاكفهرت المرأة قليلا، وقبل أن تجد جوابا لهذا القول قال الإمبراطور: أظن زوجك من أسرة معروفة، أظنه من النبلاء، فإني أتذكر اسم كيس.
فأغضت المرأة قليلا ثم قالت: نعم، إنه من نبلاء هنجاريا المخلصين لجلالة مولاي. - ولكني لا أذكر أني رأيته في البلاط. - ربما لم يستحق هذا الشرف العظيم. - مهما يكن السبب فقد أصبح يستحقه منذ الآن. - إن تعطفات مولاي سلسلة لا تنتهي. - إذن أنتظر أن أراكما في التشريفات القادمة.
فصمتت المرأة كأنها حارت ماذا تجيب، فاستغرب الإمبراطور وقال: هل من مانع؟ - أجل يا مولاي، إني أخجل أن أقول إن الفون كيس لا يستحق هذه النعمة. - عجبا! - وليس في وسعي أن أبلغ إليه بشراها. - عجبا، عجبا! - لقد هجرني منذ عام يا مولاي. - السبب؟ السبب؟ - إنه مقامر مسراف، وبدلا من أن ينفق علي وعلى ولدنا أراني مضطرة أن أنفق عليهما، وأن ألقم فم قماره المفغور على الدوام. أرجو أن يصفح مولاي عن جسارتي في أن أشكو من زوجي، ولكن إذا كنت لا أشكوه إلى ولي النعم ومنصف الجميع، فلمن أشكوه؟
فظهرت ملامح الغضب على محيا الإمبراطور وقال: لا بد أن يكون الفون كيس في منتهى الحمق والطيش، وإلا فلا أفهم كيف يستطيع رجل عاقل أن يغضب ملاكا كريما.
فاشتد ازمهرار المرأة واستمر الإمبراطور يتكلم فقال: إني سأبذل جهدي في تقويم عوج هذا الأحمق، وكيف تنفقين عليه يا مدام؟ هل لك مورد تليد؟ - كلا يا مولاي، وإنما لي مورد طريف؛ إني أكسب رزقي باستحقاق. - تشتغلين؟ - أمثل في ملعب «ستات».
فحملق الإمبراطور قليلا وقال: إذن ممثلة؟ - نعم يا مولاي. - وأظنك كوكبة الملعب.
فامتقعت باسمة وقالت : كذا يلقبني الجمهور، ولكني لا أثق أني أستحق هذا اللقب قبل أن يوافق عليه جلالة الإمبراطور. - إني أود أن أراك تمثلين في ملعب هوفبرغ الإمبراطوري، أما رآك مديره تمثلين؟ - لا بد أن يكون قد رآني. - أما طلب إليك أن تنضمي إلى جوقته؟ - ربما فعل بأسلوب غير صريح، ولعل الله رام أن يكون حصولي على هذا الشرف العظيم بأمر جلالتكم لا باختيار مدير الملعب. - إذن سأراك تمثلين في ملعب هوفبرغ؟ - إن نعم مولاي متوالية، فلا يمكن أن يشملها شكر وحمد. - سأوعز إليه أن يطلب مدام فون كيس. - بل كاترين شراط يا مولاي؛ لأنه منذ هجرني زوجي استعرت اسمي القديم، وبه أنا معروفة عند جماعة الممثلين والجمهور. - حسنا جدا، وأود أن تحافظي على هذا الاسم اللطيف، إلا إذا كنت ترغبين في إصلاح الأمر بينك وبين زوجك.
وهنا كان نظر الإمبراطور منحرفا عن جهة الممثلة، ولكنه لمح أنها أطرقت وهي تقول: كنت أود أن يكون علاج هذا الموضوع ناجعا؛ ولكني جربت كل علاج بلا جدوى، فيعز علي أن يغدق مولاي نعمة نصحه على من لا يقدرها قدرها.
فابتسم الإمبراطور وقال: ما دمت غنية عنه فدعيه حتى يرعوي من نفسه، وما دمت ذات صلة بالبلاط فأنت في غنى عنه. - إن رضى مولاي لهو الغنى، بل هو السعادة التي يحلم بها الكثيرون ويستحقها القليلون، ولكن قد ينالها من لا يستحقها أيضا.
فضحك الإمبراطور قائلا: كأنك تنتقدين على الإمبراطور وضع الشيء في غير محله، أو أنه يخطئ في منح عطاياه.
فاكفهرت قليلا ثم قالت: بل أعني أن جلالة مولاي حليم جدا يسبغ النعمة على من يستحقها ومن لا يستحقها، لكي يبذل غير المستحقها جهده في أن يجعل نفسه مستحقا لها.
فقهقه الإمبراطور قائلا: كأنك تقولين إن الإمبراطور يمنح الجزاء سلفا. - كذا كذا يا مولاي. - إذن هذا جزاء حسناء ملعب هوفبرغ العتيدة.
وأخذ من جيبه علبة يدل ظاهرها على نفاسة ما في باطنها ودفعها إليها، فنهضت حالا وجثت بين يديه وتناولت العلبة خافقة الفؤاد، فأمسك الإمبراطور فرنسيس جوزف كفها وضغطها وهو يرفعها حتى وقفت معه. فانحنت مدام شراط على كفه وقبلتها وهو يضغط بكفيها على صدره، ثم قال: أود أن أرى حسناء هوفبرغ تستحق أكثر من هذه الهدية.
فابتسمت عن ثغرها وقالت: ستبذل حسناء هوفبرغ جهدها في أن تكون أمة مخلصة ولائقة للعبودية لجلالة إمبراطورها.
الفصل الثالث
زوبعة زعزعت فؤادا
ما هي إلا بضعة أشهر حتى جعلت جرائد فينا تطنطن بما سيراه الجمهور في الملعب الإمبراطوري هوفبرغ من سمو موضوع الرواية وعظم مقامها، ومن أبهة حسناء الملعب مدام كاترين شراط وجمالها وبراعتها في التمثيل. وما صدق أهل فينا أن حان موعد افتتاح الملعب الإمبراطوري بالثوب الجديد حتى اكتظ الملعب بنبلاء المدينة وسراتها، ولا سيما لأن الإمبراطور فرنز جوزف والإمبراطورة زوجته كانا في المقصورة الإمبراطورية.
في الفصل الأول ظهرت مدام كاترين شراط فدوى الملعب بالتصفيق لجمالها وجلالها، وكان كلما بدا في تمثيلها معجب صفق لها الجمع حتى الإمبراطور نفسه، ولم يستثن من التصفيق إلا الإمبراطورة.
ولما انتهى الفصل الأول تنحى الإمبراطور إلى القاعة الإمبراطورية المختصة بالتدخين، حيث مثل لديه بعض كبار حكومته؛ أما الإمبراطورة فبقيت في المقصورة بالرغم من إلحاح الإمبراطور عليها أن تتنحي إلى القاعة الأخرى، ثم أمرت أحد الحارسين في باب المقصورة أن يستدعي مدير الملعب، فلبى المدير الأمر في الحال، وراعه ما رآه من عبوسة الإمبراطورة، ولا سيما لأنها لم تأمره بالجلوس، بل بقي ماثلا لديها مثول العبد أمام سيده، فقالت: أرى كل شيء جديدا الليلة. - نعم يا صاحبة الجلالة، فإننا نبذل ما في الوسع لجعل الملعب الإمبراطوري في مقدمة ملاعب أوروبا، فالرواية جديدة وبعض الممثلين جدد أيضا. - والملابس جديدة أيضا؟ - نعم، فعسى أن تكون جلالة الإمبراطورة راضية عن اعتنائنا بإتقان كل شيء.
وكانت الإمبراطورة تزداد تقطيبا فقالت: من صنع ملابس الممثلة مدام شراط؟
فاختلج مدير الملعب إذ أدرك النقطة التي تسدد إليها غضب الإمبراطورة وقال: صنعت يا مولاتي في المصنع الإمبراطوري. - حيث تصنع ملابس الإمبراطورة؟
فاختبل الرجل وحار فيما يجيب، واستأنفت الإمبراطورة الكلام قائلة : لم يبق إلا أن تأتوا بالإمبراطورة نفسها وببطانتها إلى الملعب لكي تسروا الشعب.
فانحنى الرجل وكاد يجثو على الأرض وهو يقول: يا صاحبة الجلالة، لو لم يكن جلالة الإمبراطور قد أذن بأن تصنع ملابس الممثلة مدام شراط في المصنع الإمبراطوري، لكنت ألغي هذه الملابس في الحال. - وقد بلغت القحة منكم أن تستأذنوا جلالة الإمبراطور في أمر لا يدري من شئونه شيئا؛ لأنه من خصائصي. - عفوك يا مولاتي يا ذات الجلالة، إني أستأذن جلالته في إبدال الملابس.
فتغيظت الإمبراطورة شديد التغيظ وقالت: ألا تزال تزج جلالة الإمبراطور في هذه المسألة بعد أن صرحت لك عن إرادتي؟ - ليكن ما تشائين يا جلالة الملكة. - كفى كفى.
فانحنى الرجل أمامها وخرج مرتبكا، وذهب توا إلى داخل المسرح واستدعى مدام شراط قائلا: انزعي ملابسك حالا والبسي ما تشائين من ملابس الملعب الأخرى.
فذعرت المرأة قائلة: لماذا لماذا؟ - جلالة الإمبراطورة غير راضية.
فاكفهرت مدام شراط وارتبكت في الأمر وترددت قائلة: ماذا تقول؟ جلالة الإمبراطورة؟ - لا وقت الآن لقص التفاصيل، يكفي أن أقول لك اخلعي هذه الملابس إرضاء لجلالتها. - هل درى جلالة الإمبراطور بذلك؟ - ليس ذلك من شأن جلالته.
فتقطبت مدام شراط قائلة: ليس من شأن جلالته؟ إذن من شأن من هذا؟ لا نعلم بسلطة فوق سلطة جلالة الإمبراطور، يجب أن نستأذن جلالته في نقض إذنه، وإلا فتتحمل وحدك تبعة هذا النقض.
فتحير المدير واشتد ارتباكه، ثم خرج وأوعز إلى كبير أمناء الإمبراطور أن يستأذن له في مقابلة خاصة قبل رفع الستار عن الفصل الثاني، وفي دقيقة كان المدير في حضرة الإمبراطور وحده فقال: إن جلالة الإمبراطورة غاضبة لظهور مدام شراط بملابس من صنع المصنع الإمبراطوري الخاص، ويصعب جدا إبدال الملابس في أثناء التمثيل. فإذا كانت جلالتها تأذن بتأجيل إبدال الملابس منذ الليلة القادمة نمنع القال والقيل بشأن إبدالها النهائي.
فعبس الإمبراطور وفكر هنيهة ثم ابتسم وقال: استمروا في شغلكم وجلالة الإمبرطورة ترضى بما يرضى به الإمبراطور.
فانحنى مدير الملعب وخرج متنفسا الصعداء. وأما الإمبراطور فعاد إلى المقصورة وجلس إلى جانب الإمبراطورة، ولم تخف عليه كآبتها، وما هي إلا دقائق قليلة حتى ارتفع الستار عن الفصل الثاني واستؤنف التمثيل، ولو كان الإمبراطور إلى يسار الإمبراطورة لسمع ضربات قلبها وهي تنتظر ظهور مدام شراط.
وما طال الوقت حتى ظهرت مدام شراط بالثوب عينه الذي ظهرت فيه في الفصل الأول، فما كان من الإمبراطورة إلا أن نهضت على قدميها كأن قوة غير منظورة أوقفتها، وقالت: أود أن أرتاح في غرفتي يا سيدي. - عجبا! - إني تعبة غير مسرورة، إذا شئت يا سيدي أن تبقى فأذهب وحدي في حاشيتي.
وما تمهلت لحظة بل خرجت على الأثر حتى ارتبك الحرس، فخرج الإمبراطور آخذا بيدها وقال: الحرس إلى القصر.
فأسرع الحراس الذين عند باب المقصورة وأرسلوا الأمر إلى الحراس المنتظرين في الإيوان الخاص بهم، فركب هؤلاء في الحال وحفوا بالمركبة الإمبراطورية التي درجت في الحال بالإمبراطور والإمبراطورة إلى القصر.
وما أشارت الإمبراطورة إلى سر تغيظها حتى أقنعها الإمبراطور بأن الملعب إمبراطوري؛ فلا حرج أن يكون فيه كل ما يليق بالإمبراطورية، ولم تجسر الإمبراطورة أن تمس الموضوع الذي كان يلعب بظنونها.
وقد مرت أيام فصل التمثيل ومدام شراط تظهر بالثوب الذي كان قذى في عيني اليصابت بنت دوق بافاريا وملكة النمسا.
الفصل الرابع
رذاذ دهاء على جذوة غيرة
في ذات يوم تأخر الإمبراطور فرنز جوزف في الصيد خلافا لعادته، فلعب الفأر في صدر إليصابات الإمبراطورة، فكانت تطوف في قاعات القصر على غير هدى وهي تلاهي نفسها هنا وهناك بما ترى وما تنظر، ولكن ثورة القلق كانت سائدة، ومتى كان القلق قلق غيرة فلا ينجي منه حول ملك ولا طول دولة.
لم يعد الإمبراطور إلى القصر حتى ضحى اليوم التالي، بعد أن ورد إلى الإمبراطورة بلاغ رسمي أن الإمبراطور قضى ليلته في قصر شن برن لسبب تأخره في الصيد.
وبعد أن دخل الإمبراطور إلى غرفته الخاصة استلفت نظره ما صادفه من تغير بعض الأشياء في مواضعها، فاستدعى إحدى الوصيفات وسألها: هل دخل أحد إلى هذه الغرفة؟ - نعم يا مولاي، جلالة الإمبراطورة أقامت فيها برهة وهي قلقة لطول انتظارها عودة جلالتكم.
وخرجت الوصيفة وبقى الإمبراطور يفحص ما في الغرفة، ولما أبدل ملابسه قصد إلى خدر الإمبراطورة ودخل إليها هاشا باشا، ولم تخف عليه آمائر كآبتها، فقال بعد أن جلس إلى جانبها: إني متأسف لاضطراري إلى التأخر يا إليصابات، فإن القنص كالقمار يغري، سواء في حالتي الإقبال والإدبار، ولكني توفقت كل التوفيق وستتغدين اليوم من صيدي.
فقالت وهي لا تزال عابسة: لا ريب عندي أنك كنت موفقا، ولست أنتظر طعام الغداء برهانا على توفيقك.
فقال محاولا مضاحكتها: بالطبع، إن تأخري وحده يكفي برهانا على توفيقي. - لا ريب أن توفيقا كتوفيقك يوجب هذا التأخر. - أليس كذلك؟ - من غير بد. - لو كان في وسعك أن تتحملي مشقات المطاردة يا إليصابات لكنت آخذك معي.
فتبرمت قائلة: إن صيدك يا سيدي لا يستلزم مطاردة، فهو موجود تحت أمرك، ولو كنت موجودة معك لنفر صيدك منك، فخير لك أن أبقى بعيدة عن ...
فابتسم الإمبراطور مكفهرا قليلا ثم قال: عماذا؟ - عن حيث يوجد صيدك. - أين؟ - في هيتزنغ.
فقال الإمبراطور مغضوضيا: أحب الصراحة يا إمبراطورة.
فأجابت ممتقعة: وأنا أحبها أيضا. - إذن ماذا تعنين في هيتزنغ؟ - أعني أن مدام شراط هناك. - وغيرها كثيرون هناك أيضا. - ولكنها في الصرح الصغير. - وهبي الأمر كذلك. - في الصرح الذي أهديتها إياه. - لا أرى أمرا مستهجنا في أن يهدي الإمبراطور هدايا ثمينة لنوابغ رعاياه تشجيعا لهم ومكافأة لاجتهادهم، وقد علمت أن كل أهل فينا يطنبون في تمداح الممثلة مدام شراط؛ فرأيت من الواجب أن أهديها هدية. - ليس المستهجن أن يهدي الإمبراطور هدايا لنوابغ رعاياه، وإنما المستهجن أن يهدي الإمبراطور صرحا لكاترين شراط مجاورا لقصر شن برن العظيم. - لا أرى هجنة في ذلك إذا اتفق أن الصرح قريب من القصر. - ولا ترى هجنة في أن ينفتح بين القصر والصرح طريق خاص؟ - هذا الطريق فتح قبل أن يهدى القصر. - نعم، ولكن فتح بعد أن نوي إهداؤه. - وما معنى كل ذلك يا إليصابات ؟ - معناه أن مدام شراط تؤخر الإمبراطور في الصيد ليلة.
فتململ الإمبراطور وكظم غيظه وقال متضاحكا: إنك تتهمين الإمبراطور تهمة تعاقبين عليها. - أود أن تكون تهمة كاذبة وأتحمل العقاب بصبر. - إني أنكر كل ما تعزينه إلي، وما أكرمت هذه الممثلة إلا مكافأة لنبوغها بعد أن مدحها الجمهور، وصار الشعب يلومني إذا لم أتعطف عليها بهدية. - ولكن لا تنس يا إمبراطور أن مدام شراط لم تنل مدح الجمهور لو لم تظهر في الملعب الإمبراطوري ممثلته الأولى، ولم تظهر فيه كذلك إلا بعد أن أمر الإمبراطور بذلك. فقد أوجدتها لكي تكافئها. - لو لم تكن أهلة للثناء لما نالته، ولو أمر ألف إمبراطور.
فابتسمت قليلا ثم قالت: عسى أن يكون كلامي افتراء، ولكن ما معنى إهداء الصرح بعد إهداء الوفير من الحلي. - كل تلك الحلي التي أهديتها لمدام شراط لا تليق بأن تكون هدية إمبراطور النمسا لنابغة ممثلاتها. - حسنا، وهل الصرح لائق بذلك؟ - بالطبع. - والعقد؟ - أي عقد؟ - عقد اللؤلؤ النفيس الذي لم تهد الإمبراطورة مثله حتى ولا يوم عرسها. - ما شأنه؟ - هدية لمدام شراط أيضا؟
فازمهرت عينا الإمبراطور قليلا ثم قال: لا علم لي بهذي الهدية. - عجبا أتنكر؟ - لم أهدها عقدا قط، ولا علم لي بعقد لمدام شراط. - لم تهدها إياه بعد، ولكنك لا تنكر أنك أعددته هدية لها. - وبهذا تفترين علي أيضا يا إليصابات. - عجبا هل تريد أن أقنعك بالمحسوس؟ - نعم. - إذن قم معي.
وأمسكت بيده فتبعها، حتى دخلت إلى غرفته وتقدمت توا إلى مكتبه، وأخذت المفتاح من المكان الذي كان مخبئا فيه، وفتحت الدرج وقالت: انظر هذه العلبة. - نظرتها؟ - العقد فيها، أليس العقد فيها؟ لعلك أخفيته. ثم تناولت العلبة وفتحتها فظهر فيها عقد من اللؤلؤ يساوي عشرة آلاف جنيه، وقالت: هذا العقد لمدام شراط أيضا.
فقال: من قال لك أنه لها؟ - إذن لمن هو؟ - اقرئي ما كتب على المادليون الألماسي الذي علق فيه.
فأنعمت الإمبراطورة النظر وقرأت الكتابة مدهوشة، فإذا هي:
هدية من الإمبراطور فرنز جوزف إلى زوجته الإمبراطورة اليصابت تذكارا لعيد ميلادها.
ثم التفتت إليه مبهوتة وقالت: عجيب، تأملت هذا العقد جيدا، ونظرت في هذا المادليون فلم أر فيه هذه الكتابة، بل لم أر فيه هذا البهاء الباهر، فكأنه غير ما رأيته.
فابتسم الإمبراطور وقال: لا بدع أن لا ترى هذا المادليون كما رأيتيه الآن يا مدام؛ لأن وساوس صدرك أظلمت بصرك، ولو كنت تنفين هذه الوساوس من نفسك لكنت ترين الإمبراطور كما هو لك.
فابتسمت وقالت: أحقيق أن ما في صدري وساوس لا حقائق يا فرنز؟ أتمنى أن أكون مخطئة وألتمس منك الصفح، إن هذه الهدية ثمينة يا فرنز ولكن إخلاصك عندي أثمن جدا.
ثم ارتمت عليه وقبلته، فقبلها وهي تقول له: سامحني يا فرنز سامحني.
فقال: إني أسامح سوء ظنك، ولكني لا أغفر لك بحثك في غرفتي واطلاعك على دخائلي الخصوصية. - أما أنا، فأسمح لك أن تطلع على كل شيء في غرفتي الخاصة، فلا تجد إلا كل برهان على إخلاصي لك.
فقال باسما: أجل، ولكن لا يخفى عليك أن هذه الغرفة غرفة رئيس المملكة كلها، وأما غرفتك فغرفة ربة القصر فقط. - إذن هلم بنا إلى غرفتي حيث أكون صاحبة الأمر والنهي. - سمعا وطاعة يا ذات الجلالة.
ومشى معها إلى غرفتها وهي تبالغ في ملاطفته، ثم جلسا فقالت: «أود أن أفعل في مملكتي الصغيرة هذه ما يسرك، فقل ماذا تريد أن أفعل؟» - أريد أن تأمري وتنهي. - إذن نشرب كأسا معا. - نشرب.
فأوعزت إليصابات في إحضار المشروب وتساقيا برهة وهما يتنقلان في أحاديث مختلفة، ثم قال: إذا كانت أوامرك ونواهيك قد انتهت فاسمحي لي أن أعود إلى مكتبي، حيث أرى بعض أشغال المملكة. - لك ذلك يا عزيزي. - أليس لك أمر آخر؟
ففكرت إليصابات هنيهة ثم قالت: نعم، نعم، لي رجاء لا أمر، وهو أن تعين البارون هرمن برجن ابن مربيتي مرثا في سكرتيرية البلاط.
ففكر الإمبراطور هنيهة ثم قال: سأنظر في الأمر يا عزيزتي. - ما كنت أظن الأمر يحتمل نظرا. - سأفعل ما يسرك. - إذن قبلني قبل أن تخرج.
الفصل الخامس
مرارة النفس
اختلت الإمبراطورة إليصابات في ذلك المساء في غرفتها وهي في منتهى الكآبة، وقلما جسرت واحدة من وصيفاتها أن تدخل عليها وهي لم تدع واحدة منهن قط.
وكانت الإمبراطورة قد اصطحبت معها من دوقية بافاريا مربيتها البارونة مرثا برجن؛ لأنها كانت تثق بها ثقتها بأمها، وكانت البارونة تحبها محبة الأم لابنتها؛ ولهذا كانت موضوع ثقتها وذات دالة عليها، وهي بين بطانة الملكة كانت الوحيدة التي تدخل على الإمبراطورة باستئذان أو بغير استئذان إذا لم يكن ثمة داع للاستئذان.
ففي ذلك المساء قلقت مرثا على الإمبراطورة لطول انفرادها في خدرها، فدقت على الباب مستأذنة أن تدخل، فتنهدت إليصابات ملء صدرها وقالت: تعالي يا مرثا تعالي، لعل الفرج عندك.
فدخلت مرثا ورأت امتقاع لون إمبراطورتها، فاكتأبت وقالت: عفوك يا سيدتي يا حبيبتي، هل من جديد يؤلمك؟ - آه يا مرثا يا عزيزتي، يا أمي يا معزيتي، لقد استوى القديم والجديد عندي، لقد تحققت الآن أنه ليس في الدنيا ما يكفل السعادة لإنسان حتى الملك نفسه لا يكفله، وربما كنت أشقى من أشقى أشقياء رعاياي. - هل ساءك جلالة الإمبراطور سوءة جديدة يا حبيبتي؟ - إن الإمبراطور يسوءني كل دقيقة من حياتي، ما دام ذا صلة بتلك الممثلة الساقطة. - هل تأكدت ... - لا شك أنه كان هناك، ولا يمكن أن تجوز علي تمويهاته.
فتأوهت البارونة قائلة: إنها لامرأة داهية، ولكن جلالته حاذق. وأعجب كيف ...
فقاطعتها الإمبراطورة قائلة: تبا لها من فاجرة، أليس لها زوج مسيطر عليها؟ - بلى لقد تحققت يا عزيزتي أن لها زوجا من نبلاء هنجاريا يدعى البارون الدر فون كيس. - عجبا! وهل يسكت هذا النبيل عن زيغان زوجته؟ لا أدري لماذا لا يحصنها في خدرها كما يليق بنبيل مثله؟
فابتسمت البارونة مرثا برجن ابتسامة هزء وقالت: لقد تلقفها من حمأة قذرة وبقيت في قذارتها. - تبا له، كيف يتسفل نبيل إلى حمأة؟ - ما هو بأطهر منها يا سيدتي. - تقولين إنه نبيل! - أجل، ومعظم الدرن في كثير من أهل النبل. - إذن ... - هل يعاب الدر فون كيس أكثر من جلالته؟
فوضعت إليصابات كفها على عينيها كأنها تريد أن تحجب عارا يقف أمامها وقالت: إنها لطعنة نجلاء من يدك يا مرثا، ولكنها الحقيقة، والحقيقة أشد إيلاما من الشبهة. فما رأيك يا مرثا إني أستطيع احتمال عار العودة إلى بافاريا ولا احتمال هذا المصاب. - صه يا حبيبتي، لا يلوحن في بالك هذا الخاطر؛ فإنه شر الضربات على المملكة وعلى أسرة هيسبرج. - آه لا أطيق، لا أطيق يا مرثا، هل يمكن الطلاق؟
ووضعت إليصابات وجهها في كفيها وبقيت تنحب، ومرثا لا تزال جالسة أمامها وقد تفجر الدمع من عينيها أسى على ربيبتها، ثم قالت: هوني عليك يا عزيزتي وخفضي عنك، فلكل أزمة مفرج.
فرفعت إليصابات رأسها وقالت: أليس في الإمكان إقناع ذلك النبيل الدر فون كيس أن يحصن امرأته في بيته؟ - خطر لي هذا الخاطر يا مولاتي، ولكني علمت أنه لولاها لكان بلا بيت، فهي التي تجمع وهو الذي ينفق؛ لأنه سفيه مسراف مقامر، فكيف يستطيع إرغامها على أن تلازم منزله؟ - هبي أننا ملأنا وطابه وأغريناه؟ - لا خسار في التجربة والاختبار، فإذا شئت ندس من يباحثه في الأمر. - لا تدخري وسعا في ذلك يا حبيبتي يا مرثا، يا أمي يا سلواني، أكاد أجن من جراء بختي وسوء طالعي.
الفصل السادس
ما خلونا بقدر أن قلت: أنت الح
فوافى فقلت كيم الطبيب
كانت الساعة الثامنة حين كان الإمبراطور فرنز جوزف جالسا جنب عشيقته كاترينا شراط في الصرح المسمى بصرح كيتي
Villa Kity - مشتقا من اسم كاترينا «صرح كيتي» - هدية الإمبراطور لها في جوار قصره الصيفي شرن برن، وكانت القاعة التي ضمتهما مزدانة بالرياحين والنفائس، وكان لديهما خوان جميل من خشب السنط، وقد بسطت عليه الصحاف والكئوس، ولم يكن يدخل عليهما إلا غلام زنجي ربي في الأستانة وانتقل من خدمة كبير إلى خدمة كبير حتى كان خادما عند سفير تركيا في فينا، فاقتبسه بعض صنائع كاترين شراط وجاءها به، وثبت في خدمتها لما كانت تغدقه عليه من النعم، ولما كانت تعفيه من الخدم؛ فكان شغله مقتصرا على تلبية نداء الجرس الكهربائي حين يكون الإمبراطور عندها.
وفي هذه اللحظة لا يكون أحد غيره من الخدم موجودا في الصرح؛ بل يطلق الخدم بعد أن يكونوا قد أعدوا كل ما هو لازم قبيل أن تطأ أقدام جلالته القصر.
في تلك الساعة كان فرنز جوزف مورد الوجنتين تحت فعل الكحل، ومزمهر العينين تحت فعل الغرام، وكاترينا تساقيه وتغازله وقد خف ثقل الجلالة فوق بخار الراح، ونزل عرش الصولة وارتفع عرش الصبابة، فألقت كاترين ذراعها العاجية حوق عنق فرانز، وقبلته قائلة: «دع العذول ده من فكرك.»
فقبل ثغرها وقال: «كدنا العذول ولا نلشي مرام».
فلثمته وقالت: الفؤاد مخلوق لحبك.
فلثمها وقال: والعيون على شان تراك.
فقالت: والنفوس تحيا بقربك.
فقال: والملوك تطلب رضاك.
ثم ضمها إلى صدره وقبلها في عنقها، فقالت: إن هذه القبلة في عنقي لأثمن عندي من العقد الموعود له.
فنظر فيها وابتسم قائلا: تعنين أنك تستغنين عن العقد؟ - إني أستغني عن كل شيء ما دام فرنز إلى جانبي. - إذن لا تأسفين إذا لم تحصلي على العقد؟ - بالطبع لا، وإنما آسف لأمر واحد. - وهو؟ - أن الملك ليس أوفى من وعد. - سآتيك بسواه. - والعقد نفسه؟ - أخذته الإمبراطورة. - مبارك عليها، فلها العقد ولي أنت، ولكن ... - أخذته هدية عيد ميلادها. - ولكنك قلت لي أنك هيأت لها مادليونا نفيسا جدا ونقشت فيه عبارة الهدية. - أجل ولقد أخذته بدل مادليون العقد.
ولم يخف على فرنز جوزف اضطراب مقلتي كاترينا شراط في محجريهما، فقال لها: لقد علمت أنها اكتشفت العقد في درج مكتبي الخاص، فلكي أدفع شبهتها نزعت مادليونه وعلقت فيه المادليون المعد لها، ولما جاءت بي إلى المكتب لتحجني وتريني برهانا على علاقتي بك كسفت؛ إذ وجدت أن العقد مهيأ لها لا لك، وهكذا قطعت لسانها فالعقد لها وأنا لك. - إني راضية بهذه القسمة. - ألا تطلبين ترضية مقابل خلف الوعد بالعقد يا كاترين؟ - ترضية؟ - نعم، ترضية علاوة على العقد الذي وعدتك به الآن بدلا من ذاك. - لا أطلب من مليكي ترضية بل فضلا ، فإذا كان قد اضطر أن يخلف وعده في مسألة العقد، فلا يضطر أن يخلفه إذا وعد بتعيين الفون در فلت ثاني سكرتير البلاط. - الفون در فلت؟ - نعم، فإن لهذا الفتى الغيور فضلا علي أود أن أكافئه عليه، وهو أصدق من يخدمني، ولا غنى لي عن فتيان مثله يقومون ببعض مهامي.
فارتبك الإمبراطور وقال: عجبا! إن مطالبك ومطالب الإمبراطورة متصادمة دائما؛ فقد طلبت مني قبلك مثل هذا الطلب لشخص آخر. - الأمر لك يا مولاي، بيد أني ألتمس أن أقول أنك وعدتني قبلها بالعقد وأخلفت وعدك لي؛ فليس عظيما أن تخلف وعدك لها بأمر صغير كهذا. - ليكن ما تريدي يا كاترين، فلا تستائي.
ثم تعانقا، وفي إبان عناقهما نقر الباب، فأجفل الإمبراطور وقال: هل يجسر الزنجي أن ... - إن في الأمر دسيسة، دعني أرى.
ثم نهضت وخرجت فتلقاها ألماس أغا الزنجي الخادم، وقال بالإفرنسية السقيمة لأنه لا يعرف غيرها إلا التركية: مولاتي، هو ذا رجل في باب الصرح يلح في مقابلتك الآن، بالرغم من تأكيدي له أن الأمر مستحيل. - يا لله! من هو هذا الوقح، اطرده وإن دعت الحالة فاصفعه، لن أقابل أحدا. - لا قبل لي على طرده إلا إذا أذنت لي باستدعاء البوليس تلفونيا والاستعانة به على طرده. - عجبا ألم يقل اسمه؟ - لا. - اذهب واحتل عليه أن يخرج، فإن لم تستطع إخراجه فسله ما اسمه.
فعاد الماس أغا وعادت كاترين تقص على الإمبراطور الحديث، وما هي إلا هنيهة حتى عاد الزنجي فاستقبلته كاترين خارجا، فقال: إن الرجل يصر على مقابلتك وهاك بطاقته.
فتناولت كاترين البطاقة وقرأت: «البارون الدر فون كيس».
فامتقع لونها قليلا وفكرت مليا، ثم دخلت وقالت للإمبراطور: زوجي الفون كيس يريد مقابلتي، يلوح لي أن هذا في حاجة إلى النقود، تبا له من خسيس يعيش بما يبتز من امرأة. - المسألة بسيطة أعطيه واصرفيه.
فخرجت كاترين وقالت لألماس: أدخله إلى البهو، وها أنا ذاهبة إليه.
الفصل السابع
إذا حل الثقيل بأرض قوم
فما للساكنين سوى الرحيل
دخلت كاترين إلى البهو فوجدت الدر يتمشى فيه وهو ينظر إلى مفاخره ونفائسه، فقالت: سلاما يا الدر، ماذا تريد الآن؟ هل من حالة مستعجلة؟
فحملق فيها قائلا: عجبا! إذا جاء الرجل إلى بيته فهل يكون طالب حاجة مستعجلة؟
فدهشت كاترين لجوابه وقالت: بيتك؟ - نعم، حيث تسكن زوجتي يكون بيتي. - لله منك وقحا! أين حجة بيتك أو أين عقد إيجاره الذي دفعته؟
فقهقه الدر هازئا وقال: لا فرق بين أن يدفع الرجل أو المرأة ثمن المنزل أو أجرته؛ لأنهما شريكان طول الحياة. - في أي شرع تدفع المرأة ثمن بيت زوجها أو أجرة سكناه؟ - ليس من يضطرك أن تدفعي ثمن بيت أو أجرة سكناه إلا إذا كنت تصرين على سكنى بيت خاص بك، فعليك أن تدفعي ثمنه أو أجرة سكناه. - لا أفهم معنى ذلك كله يا الدر. - معناه واضح جلي، إنك زوجتي فيجب أن نسكن معا. - نسكن معا؟ - نعم. - ولكن هذا الصرح ... - إذا أبيت أن أساكنك في هذا الصرح، فنسكن في بيت آخر. - وأنا أدفع النفقات؟ - لا، بل أنا أدفع كل شيء يجب على الزوج أن يدفعه.
فقهقهت قائلة: اليوم أنت رابح فتدفع، ومتى خسرت فمن يدفع؟ - إذا اضطررت أن تدفعي فاهجري منزلي إلى صرحك.
ففكرت هنيهة ثم قالت: حسنا، متى هيأت المنزل نسكنه؟ - المنزل متهيئ فتفضلي معي الآن. - عجبا متى كانت لك هذه النخوة؟ - ربما كنت قد فقدت نخوتي، ولكنها عادت إلي اليوم. - يسرني ذلك جدا فتعال غدا وخذني إلى منزلي الجديد. - بل تذهبين معي الآن. - لا، لا أريد أن أذهب الآن. - لا بأس، أبقى أنا هنا الليلة. - عجبا! - لا أدري أين العجب في أن يكون الرجل مع زوجته؟ - ولا أدري أنا كيف يحتم الرجل أن يكون مع زوجته متى شاء، وأن يهملها متى شاء؟ - الذنب ذبنك في سكوتك على إهمالي الماضي، فلماذا لم تطالبيني بحقك كما أطالبك بحقي الآن؟
فأفحمت كاترين وأغلق عليها، فلم تدر بماذا تجيب وكيف تتخلص من هذا المأزق، وهي كل هنيهة تفتكر أن الإمبراطور ينتظرها قلقا، فتجلدت وتباسمت وقالت: لا بأس ، تعال غدا فنقرر أمر المستقبل. - لا شيء يستوجب التقرير، الأمر مقرر شرعا. إن لم تذهبي معي إلى بيتي فأبقى معك في بيتك، وكلا البيتين لنا كلينا معا. - بل أود أن تعفيني الليلة من هذا اللقاء. - بل أود أن تسمحي لي بالبقاء هنا الليلة. - وهب أني لا أسمح؟ - لك ألا تسمحي، ولكن في هذه الحالة يجب أن تذهبي معي. - وهب أني لا أذهب؟ - تذهبين لأني لا أريد أن تكون امرأتي في منزل وحدها. - لا أذهب. - تذهبين بالقوة. - أية قوة؟ - قوة البوليس الشرعية. - عجبا، لا قبل للبوليس ... - لا قبل للبوليس أن يرفض تنفيذ أمر قانوني. - وهبه رفض؟ - آتي بوزير الحقانية ووزير الداخلية أنفسهما، أقيم القيامة الليلة على رأسك، إن ما أطلبه حق، ونحن في بلاد دستورية يخضع فيها للقانون الكبير كالصغير. فهل فهمت؟ - بالله من لقنك هذا الدرس؟ - إني رجل مستوف للمعارف اللازمة، فلا حاجة بي إلى من يلقنني؟
فامتقع لون كاترين وحارت ماذا تفعل، وأخيرا قالت: أدفع لك مضاعف حاجتك من النقود. - قلت لك إني في غنى عن نقودك. - إني أتوسل إليك أن تمهلني الليلة. - لا أمهلك لحظة، تبقين أبقى، وإلا فنذهب معا.
ففكرت كاترين لحظة ثم قالت: تفضل اجلس، وسنبحث مليا في الموضوع، اسمح لي أن أرتدي معطفي فإني شاعرة بقشعريرة.
وتركته في البهو وأوصت الماس أغا أن يراقبه ريثما تعود، ودخلت على الإمبراطور مكفهرة أي اكفهرار، وروت له محصل ما جرى، فارتبك فرنز جوزف وقال: ادفعي له كل ما عندك من النقود، وإن اقتضى الأمر فبعض الحلي، القصد أن يذهب هذا الثقيل من هنا الليلة. - ليست المسألة مسألة نقود يا مولاي، وإنما في الأمر. - في الأمر دسيسة، أنا عارف. - إذن يجب إبعاده بأية الوسائل، فماذا يمنع أن تصدر أمرك للبوليس بالقبض عليه الآن؟
فضحك الإمبراطور وقال: هنا الأمر والنهي لك وحدك يا كاترين. - مولاي. - أقول لك إني هنا بلا حول ولا طول متى كنت في خدرك. فحارت كاترين ولم تدر ماذا تفعل فقالت: والعمل إذا كنت كشمشون عند دليلة ؟ - الحيلة فقط. - مولاي هاك التلفون، وكلمة إلى وزير الداخلية فيرسل يقبض على الدر هنا. - وتريدين أن يذاع غدا في فينا أن الإمبراطور في «صرح كيتي»؟ - إذن؟ - تملقيه.
فهزت كاترين رأسها وقالت: التمليق لا يقاوم دسيسة يا مولاي، ومع ذلك سأجرب مرة أخرى.
وما همت أن تخرج حتى سمعنا ضوضاء وجلبة وخصاما في رحبة الصرح، ففهما أن الماس والدر يتصارعان، ثم سمعا الدر يقول: إني حر في أن أدخل إلى كل غرفة في منزلي، لا يستطيع أحد أن يمنعني أو يخرجني.
فارتعدت كاترين وقالت: مولاي مولاي، إنه مقتحم إلى هذه الغرفة، ما رأيك أن أبادره برصاصة في صدره.
فانتهرها الإمبراطور قائلا: إياك أن تفعلي، إن فعلتك هذه تزعزع العرش بأركانه. - رحماك يا سيدي، يكاد يفلت من بين يدي الماس، فهل تريد أن يراك هنا؟
ولم يكن اكفهرار فرنز جوزف بأقل من اكفهرار كاترين شراط، فقال: لم يبق لي إلا أن أخرج خروج اللص الآن لأجلك يا كاترين.
ثم انسل من الغرفة إلى غرفة أخرى مجاورة لها، وفي تلك اللحظة دخل الدر وهو يرغي ويزيد ويقول: إن كان ثمة من مانع لطوافي في هذا المنزل، فلا بد من خيانة ترتكب فيه، علي أن أتحقق كل ما هو جار في هذا الصرح.
فأمسكته كاترين وانتهرته قائلة: إنك في حجرة طاهرة، فلا تدنسها بمظانك السيئة وأنت قادم من حمأة فجور، اجلس وقل لي الآن: ما الذي بدا لك حتى جئت معربدا؟ - لست سكرانا ولا مجنونا، وإنما أنا رجل عاقل، وقد دخلت إلى منزل زوجتي، ومن حقي أن أوجد في أي غرفة فيه، إلا إذا كانت زوجتي تخاف اكتشاف فضيحة، لا تقدري أن تقفي في سبيلي. - لك أن تطوف حيث تشاء.
وتركته يدخل في نفس الغرفة التي دخل فيها الإمبراطور، ثم طاف سائر غرف الصرح ورحباته، وكاترين تصحبه حتى انتهيا في البهو، فتنهدت كاترين الصعداء وقالت: إن كان قد سكن هياجك الآن فتعال نتحدث.
أما الإمبراطور فانسل من تلك الغرفة إلى الرحبة، حيث أخذ قبعته وأسرع مصطحبا الماس إلى خارج الصرح كحارس له، ثم أمره أن يعود، واستطرق إلى مدخل قصر شن برن السري.
الفصل الثامن
مساومة على صد
ولما اطمأنت كاترين شراط على الإمبراطور وتأكدت أنه بلغ إلى القصر من غير حدوث ضوضاء، نظرت في الدر فون كيس زوجها نظرة غضب وقالت مزمجرة: ما الذي أخطر في بالك أن تأتيني في غلس هذا الليل لكي تضايقني وتقلق راحتي؟ وما الذي حملك أن تترك شهواتك وتقلع عن موبقاتك وتغفل قمارك وتجيء لمضاجرتي الآن؟ لقد مضت أسابيع وأشهر وأنت لا تسأل عني، فماذا جد الآن؟! - لقد تبت إلى الله وإليك يا كاترين. - لقد سبق السيف العذل يا هذا، عد إلى ملاهيك وبطالتك، ودعني في راحتي. وإن كنت في حاجة إلى نقود، فأعطيك بعض ما أستغني عنه، ولا تقلق راحتي بعد.
فقهقه الدر وتدلل عليها قائلا: لست في حاجة إلى شيء سواك يا عزيزتي.
فنفرت منه قائلة: أما أنا فإني في غنى عنك. - وأما أنا فلا غنى لي عنك، فإن كنت تصرين على طردي من هذا القصر، فإني أصر على أخذك إلى منزلي. - منزلك! - نعم لقد أعددت منزلا لائقا بك يا كاترين، وعندي كل شهر ريع كاف لنا وزيادة.
فتمرمرت قائلة: كفى، كفى. إن الريع الذي تتوقعه ليس أشرف من ريع القمار. - مهما يكن فإنه أشرف من هذا الصرح ومن الريع الذي تنفقينه فيه، لا تقدرين أن تعيبيني بشيء يا كاترين.
فنظرت فيه نظرة غضب وقالت: عجبا هل تريد أن أحبر كتاب ماضيك؟ - لست أيسر مني للتحبير. - الأفضل أن تقفل هذا الباب. - أنت تفتحين الأبواب، أما أنا فلا أطلب إلا أمرا واحدا، وهو أن أعيش مع زوجتي زوجا لها، وهو حق شرعي لا أتنازل عنه.
فحنقت شديد الحنق وقالت: خسئت، غدا أطلب الطلاق. - لا دستورنا ولا نظام كنيستنا يجيزان الطلاق، فلا تطمعي في هذه الأمنية. - الفراق إذن. - لا يتم إلا برضى الفريقين إذا لم يكن للطالب حجج قوية، فما هي حججك وأنا أعرض عليك ما يعرض الزوج على زوجته. - سأريك أنه يتم. - لا تتعبي نفسك ولا تعتدي بصولتك، واعلمي أنه ما من قوة في الكون إلا وفي مقابلها قوة أخرى تعادلها، ولولا ذلك لاختلت الموازنة، فأحذرك من التذرع بالقوى غير المنظورة، فإن لي مثلها وأزيد عليك بأني أملأ الدنيا صياحا.
فاشتد امتقاع كاترين حتى تغير شكلها، وتنهدت وفكرت برهة ثم قالت: لا تتعب نفسك، فما من قوة شرعية أو غير شرعية تقدر أن ترغمني على مساكنتك إذا كنت لا أبتغيها، فإن كابر القضاء النمساوي هجرت النمسا.
فضحك الدر وقال: أعرف أنك لا تهاجرين النمسا يا كاترين، فلا فائدة من هذا التمويه أو التهويل. - كلا، لن أبرح النمسا وسأبقى فيها، ولكني أبقى حرة غير مقيدة بقيود شرعية أو غير شرعية. - لا تقولي ذلك، ما دمت في البلاد فأنت مضطرة أن تخضعي لقانونها.
فتنهدت ثانية وبقيت صامتة برهة، ثم قالت: دعنا من الحمق والمشاكسة، أنت فاهم أفكاري وأنا فاهمة أفكارك، فلماذا لا نتساوم؟ - نتساوم؟ - نعم، أدفع لك كل شهر راتبا معينا. - راتبا؟ - نعم، جزاء تركك لي في دائرة حريتي.
فابتسم وقال: وأنا؟ - أنت تعود إلى لهوك وحريتك أيضا. - والبيت الذي هيأته؟ - تسكن فيه مع من تشاء، ولك كل شهر ألف فرنك تقبضها ذهبا، ومتى قصرت عن دفعها لك ... - ألف فرنك لا تكاد تكفيني أنا وحدي. - عجبا! وهل كنت تنوي أن تنفق في بيتك أكثر من ألف فرنك كل شهر لو سكنت معك؟ - بالطبع. - إذن المسألة مزايدة، فأنت لمن يدفع أكثر؟
فضحك الدر وقال: ليس في الدنيا شيء مجانا يا كاترين وللسرور ثمن، فأنت تدفعين بقدر ما تبتغين من السرور، وغيرك يفعل كذلك.
فابتسمت في إبان غيظها وقالت: كم دفعوا لك يا الدر؟ - ليس هذا موضوع بحثنا. - لا بأس أدفع لك ألف و400 فرنك كل شهر. - دفعوا أكثر. - إذا لم تقبل ألفي فرنك فافعل ما تشاء إذن. - أجاوبك غدا إذن. - حسنا غدا أنتظر جوابك. - تأذنين لي بالبقاء هنا الليلة، ولا تحسبي هذا اليوم من حساب الشهر؛ لأني لا أريد أن أذهب وأبحث عن مرقد في هذا الليل. - لا بأس، هاتيك غرفة فارغة. - أراها غرفة خادمة، فإن شئت فنامي أنت فيها وأنا أنام في تلك.
الفصل التاسع
تعبئة الجيش
دخلت البارونة مرثا برجن إلى خدر سيدتها الإمبراطورة، فتلقتها هذه باسمة وقالت: لقد نجحت المناورة يا مرثا، فقد تأكدت أن الدر فون كيس بات عند زوجته تلك الليلة، ولم تستطع أن ترفضه بوجه من الوجوه ... مالي أراك مقطبة يا مرثا؟ - نعم، لقد نجحت المناورة أولا يا سيدتي، ثم أخفقت بعدئذ.
فأجفلت الإمبراطورة ثم قالت: عجبا كيف ذلك؟ - لقد ساومت تلك الشيطانة زوجها وزادت الجعل، فباعها حريتها بثمن أزيد. - يا للنذالة! يا للخسة! يا للدعارة! كنت أظن ذلك الزنيم يصون شرفه بما عيناه له من الراتب الذي يسد فم زوجته ويلقم حلق شهواتها. - أجل، ولكن هناك من يغالبنا في هذا المزاد. - نزيد أيضا يا مرثا، نزيد. - وغيرك يزيد أيضا، فهل تريدين أن تتحول ثروة النمسا إلى تلك الهاوية الدنسة؟
فتنهدت الإمبراطورة وقالت: يا ويلتاه، هل ذهب الشرف وتولى الفجور؟ إذا لم تهجر تلك الإبليسة فينا، فإني أهجر النمسا كلها، لا أطيق هذا الحال يا مرثا لا أطيقها، هلمي معي إلى بافاريا إلى بيت أبوي. - الإمبراطورة لا ترمي سلاحها لساقطة يا سيدتي، نحن في حرب وسنحارب. وهل علمت؟ - ماذا؟ - لقد تعين فون درفلت الكاتب الأول في سكريتارية الإمبراطور، أو بالأحرى ثاني السكرتير.
فأجفلت الإمبراطورة وقالت: وابنك البارون هرمن؟ - تعين الكاتب الثاني فقدم استعفاءه؛ لأنه يأبى أن يكون تحت سلطة فون درفلت.
فلطمت الإمبراطورة خدها وقالت: يا لله هذا لا يطاق، لا يطاق يا مرثا، هل فقد الإمبراطور شرف الكلمة؟ لقد وعدني وعدا صريحا، فماذا جرى له؟
فحرقت مرثا الأرم وقالت: تلك الداهية، تلك اللعينة توسطت لفون درفلت.
فتنهدت الإمبراطورة من أعماق رئتيها ووضعت رأسها بين كفيها كأنها تكفكف دموعها، ثم قالت: إلى بافاريا يا مرثا، يجب أن نبرح فينا حالا. - كلا يا حبيبتي، بل نحارب. - لا قبل لي على حرب رجسة كهذه. - دعي القيادة لي ، فإني أنزهك عن أن تمدي أصبعك للحرب الرجسة. - ماذا تنوين أن تفعلي يا مرثا؟ - ستعلمين كل شيء في حينه يا حبيبتي، فهوني عليك وخففي من غمك.
الفصل العاشر
حل جميل
في ذات يوم جاء إلى كاترين شراط شاب أهيف القد رشيق الحركة زلق اللسان، وقدم نفسه باسم ماركوس فورسن المصور، فرحبت به وقالت: ربما سمعت بهذا الاسم فلا أتذكر. - لقد جئت حديثا من تريستا يا سيدتي؛ إذ نصح لي بعض العارفين أن أشتغل فصلا في هذه العاصمة الزاهرة على سبيل التجربة، فإن نجحت بقيت وإلا عدت. - لعل الرواج قليل في تريستا. - كلا، وإنما الذي نصح لي أكد أني أجد رواجا أعظم هنا لشغلي، وقد علمت أن حضرتك راقية الذوق تقدرين الجمال قدره، فوددت أن يكون جلالك نموذجا لريشتي.
فابتسمت كاترين وقالت: هل يمكن أن أرى نماذج من ريشتك يا هرفورسن؟ - معي نماذج صغيرة لا يتضح فيها جمال الفن. - لا بأس، أراها، فإن الصغير ينبئ عن الكبير. - بالطبع، إن نظرك الدقيق لا يضل عن حقيقة جمال الفن.
ثم عمد إلى حقيبة كانت معه وفتحها، واستخرج منها صورة وعرضها لكاترين قائلا: لا بد أنك تعرفين هذا المنظر؟ - فتأملت كاترين الصورة وقالت ضاحكة: هذه صورة قصر شن برن الفخيم، وهذه صورة صرحي إلى جانب حديقة القصر، عجيب، الحقيقة بعينها، متى رسمت هذه الصورة؟ - أول أمس، وكنت جالسا في تلك الحديقة المقابلة. - لله درك من مصور بارع، ليس من رأى هذا المنظر يضل عنه في هذه الصورة. - هدية لك يا سيدتي. - أشكرك جدا، وماذا عندك سواها؟
فتناول صورة أخرى ودفعها إليها قائلا: وتعرفين هذه السيدة؟
فما وقع نظرها عليها حتى قالت مدهوشة: أجل، أظن هذه صورة نينا فرست الممثلة، يا لله، كيف رسمتها هكذا نصف عريانة؟ - نقلتها من صورة فوتوغرافية يا سيدتي. - إذن لو ... - لو رسمتها عن الحقيقة رأسا ... - لجاءت الحقيقة بعينها، الحق أنك مصور بارع، من قال لك أني أعرف نينا؟ - هي قالت إنها تعرفك أيام كنت في تريستا. - أين نينا اليوم؟ - هي هنا منذ بضعة أيام، وتقيم في نفس المنزل الذي أقيم فيه. - أود أن أرى نينا، فقد كانت صديقة مخلصة لي. - سأبلغها ذلك يا مدام.
ودفع إليها صورة ثالثة قائلا: وتعرفين هذه يا مدام؟
فقالت ضاحكة: هذه كاترين شراط في ثوب التمثيل، إنها لطبق الأصل. - وهي عن صورة فوتوغرافية أيضا يا مدام. - عجبا، والألوان؟ - خيالية. - يا لله، الألوان هي هي بعينها، فكيف قدرت أن تتخيل الحقيقة؟ - المسألة مسألة ذوق يا سيدتي، فإذا كان من خاط الثوب أو بالأحرى من انتقاه حسن الذوق، وكان المصور حسن الذوق أيضا اتفقا في تعيين الألوان. - عجبا عجبا! لا أكاد أصدق لو لم تقل أنت. - وهذه هدية لك يا مدام. - أشكر لطفك جدا بيد أني أدفع ثمن الهديتين. - لا ثمن للهدية يا سيدتي. - إذن أقدم الثمن هدية. - كلا يا سيدتي، بل تتفضلين به ثمن صورة كبيرة أرسمها عن الحقيقة رأسا.
فترددت كاترين في الكلام وقالت: كم تساوي الصورة؟ - لا شرط للهدية يا سيدتي، ولست أطمع بثمن بل بإعلان؛ فالذي يرى جلالك مرسوما يتوق أن يحصل على مثله له. - حسنا حسنا، إني أريد صورة أجمل من صورة نينا. - لا ريب في أن تكون أجمل يا سيدتي. - إذن متى؟ - متى شئت تشرفين إلى محلي في رقم 16 من شارع البرتو. - إذن سأنبئك عن الموعد. - فعسى أن يكون عاجلا يا سيدتي. - لا يتجاوز الأسبوع. - شكرا لك.
ثم نهض وانحنى لها ومضى.
الفصل الحادي عشر
الرجل الحكيم
في ذلك المساء استقبلت كاترين شراط فون درفلت وأوسعته تبسما، وقالت: عسى أن تكون راضيا في السكرتيرية يا فلت. - إذا لم أكن راضيا فأكون حامدا نعمة رضاك يا مولاتي. - بل قل نعمة رضا جلالته. - بالطبع إن رضا جلالته ينبوع سرورنا، ولكنه يجري في قناة رضاك. - وهل من مضاجر لك هناك؟ - المضاجر ابتعد. - هرمن برجن؟ - أجل فقد استعفى؛ لأنه لا يطمع بغير السكرتيرية نفسها. - بف بف، وربما طمع بالإمبراطورية. - أجل لقد تضخم طحال طمعه يا سيدتي.
فضحكت وقالت: ثم ماذا يا فلت.
فابتسم وقال: كان عندك مصور اليوم؟
فبغتت وقالت: كيف عرفت؟ - عجبا، أليس من واجباتي السهر على كل ما يهمك؟
فقهقت قائلة: وهل أنت جاسوس علي.
فضحك قائلا: إذا اقتضى الأمر ذلك فنعم. - وماذا علمت من هذا المصور؟ - علمت أنه ذو صلة بالبلاط. - الإمبراطور؟ - لا، بالإمبراطورة. - يا لله، ماذا؟ - لا أدري ولكن سوف أدري. - هل نوى أن يصور الإمبراطورة؟ - لا أقدر أن أقول شيئا الآن. - سيصورني. - سيصورك؟ - نعم، في الأسبوع القادم على الأرجح.
ففتل شاربيه ثم قال: لا أقدر أن أقول لك الآن أن تمتنعي عن الذهاب، وإنما أقول حاذري. - يا لله! مم أحاذر؟ - لا أدري شيئا حتى الآن، ولكني سأبحث إن كان ثمة مكيدة فأخبرك عنها، هل عينت الميعاد؟ - لا. - حسنا، لا تعيني ميعادا حتى أقول لك. - ولكني وعدته أن أنبئه عن الميعاد في بحر أسبوع. - وفي بحر الأسبوع أقدم لك معلوماتي. - شكرا لك يا فلت، هل تريد كأس كنياك؟ - من يدك السم دسم.
ثم أمرت الخادم فأتى بالكنياك وتساقيا، فقالت في أثناء التساقي باسمة: وكيف أنت والبارونة؟ - البارونة برجن؟ لقد قلبت لي ظهر المجن.
فضحكت قائلة: هي أو أنت؟
فتنهد وقال: هي يا مدام. - كان أولى بك أن تقلبه لها. - أجل ولكن البارونة متى اكتسبت عدوا بالغت في عداوته، كأنها تريد أن تضربه لتأمن شره. - عجبا عجبا! كنت أظنها تترك بابا للصلح. - الصلح؟ علام الصلح؟ - أقول ذلك لأني أعتقد أنها لا تجد مثلك عريسا لابنة أختها البارونة ماري فتسيرا.
فضحك الفون الدر فولت مكفهرا وقال: ربما وجدت. - من؟ - البرنس رودلف ولي العهد.
فأجفلت مدام شراط وقالت: تمزح؟ - بل أجد. - وابنة ملك البلجيك زوجته الحالية؟ - لا أدري، ربما كان للبارونة تدبير نجهله. - كلام فارغ. - بل أؤكد لك يا مدام أن البرنس مولع بابنة أخت البارونة ولوع روميو بجولييت؛ لأن ماري مولعة بالشعر الذي يولع به البرنس. - كل ذلك هذيان. - أقول لك إن غرام البرنس ... - الغرام شيء سهل والزواج شيء مستحيل. - من يدري؟
بالطبع إذا كان الله يتقبل روح البرنسس زوجة ولي العهد صار المستحيل ممكنا، ولكن انتظار ذلك كانتظار الثروة من ورق اليانصيب.
فتنهد الفون الدر فلت وقال: الله أعلم، وإنما أؤكد لك يا مدام أن البارونة ما قطعت علاقتي بماري إلا لأن البرنس ظهر عاشقا. - عجبا عجبا، ويلوح لي أنك متألم جدا يا فلت ولا تزال تحب ماري. - بل تحول حبي إلى غيرة، والغيرة إلى نقمة؛ لأن ماري تحب البرنس كما يحبها، ولذلك انقطع كل أمل مع انقطاع علاقتي بها، فأنا عدو ماري وخالتها الآن. - والبرنس؟ - لا تحركي غضبي يا مدام. - إذن نحن صديقان. - نعم لأن مصلحتينا تتفقان والصداقة بنت المصلحة.
الفصل الثاني عشر
الحية الرقطاء
في عصر اليوم التالي دفع الخادم بطاقة نينا فرست إلى كاترين شراط فرحبت هذه بتلك، ولما انتهت المرأتان من التحيات، قالت كاترين شراط: لماذا تركت تريستا يا نينا؟
فابتسمت نينا وقالت: لما علمت أنك حرمت الملاعب من بهائك، قلت في نفسي إذا توارت الشمس يظهر نور النجوم، فلعل نور نجمي يظهر في فينا يا مدام.
فضحكت نينا وقالت: لا يخفى القمر يا نينا، إني أقدر لك مجدا باهرا هنا، هل قابلت أحدا من مديري الملاعب. - لا، وإنما جئت أستوسطك لدى مدير الملعب الإمبراطوري.
فوجمت كاترين قليلا فتلقتها نينا مستدركة: لم أجسر على التماس هذه الخدمة منك يا مدام إلا لما علمت من المصور ماركس فورسن أنك تودين أن تريني، فشعرت أنك لا تبخلين بمعروف لي. - بل أخدمك بكل قواي يا نينا، وسأغنم الفرصة المناسبة لمقابلة مدير الملعب الإمبراطوري، كنت سمعت أنك انقطعت عن التمثيل مدة يا نينا.
فوجمت نينا وانقبضت قليلا ثم قالت: نعم انقطعت عنه منذ برحت أنت تريستا. - طبعا لو استمررت لكنت شمس الملاعب.
فازمهرت عينا نينا وقالت: لا أقصد ذلك، وإنما أعني أني لو استمررت على ممارسة التمثيل لكان لي فيه مقام، ولكنت ذا مال. - وماذا كنت تفعلين في مدة انقطاعك عن التمثيل؟
فتنهدت نينا وقالت: كنت متوارية وراء حجاب من الغيب يا مدام.
فحملقت كاترين شراط فيها وقالت: لا أفهم ماذا تعنين .
فتململت نينا وقالت: في فمي ماء يا مدام.
فوجمت كاترين وقالت: عفوك يا عزيزتي يا نينا، لم أقصد أن أستطلع أسرارك، وإنما تواريك وراء حجاب الغيب يحملني على الاستفهام عن حجاب الغيب هذا. فعذرا. - لم أقصد بكلامي هذا أن أصدك عن الخطاب يا مدام، وإنما عنيت أني حاولت أن أكون شخصا آخر في حظي، آخر يتردد بين السعاة والشقاء. - عسى أن تكوني قد نجحت يا نينا.
فتأوهت نينا وقالت: بل أخفقت إخفاقا أعيذك منه.
فأجفلت كاترين وقالت: تعيذينني منه؟ - نعم، علمت أن جلالته راضيا عليك كل الرضى.
فابتسمت كاترين وقالت: أجل كل الرضى. - أهنئك وإنما أحذرك.
فوجمت كاترين وانقبضت وقالت: مماذا؟ - من مكايد البلاط.
فتجهمت كاترين قائلة: وهل يخشى من مكايد البلاط؟ - كثيرا، فإني لولا تلك المكايد ... - فاعتدلت كاترين في مكانها وقالت: لولاها ... - لكنت سعيدة مثلك. - إذن كانت لك صلة بالبلاط؟ - أجل، ولكنها سرية جدا. - إذن، لا يحق لي التمادي في هذا الحديث، وإنما سمعت أن للمصور ماركوس فورسن علاقة بالبلاط. ترى هل هي علاقة قديمة؟
فأجفلت نينا وقالت: لا علم لي بذلك. - بلى، سمعت أنه يتردد إلى البلاط.
عند ذلك نقر الزنجي على الباب، فأذنت له كاترين فدخل ودفع إليها بطاقة الفون الدر فلت، فاستأذنت كاترين من صديقتها نينا وخرجت إليه لتقابله على انفراد.
الفصل الثالث عشر
إبليس في جسم الأفعى
بعد أيام دخلت البارونة مرثا برجن على الإمبراطورة وقالت لها: إن سيدة تدعى الكونتس ألما فورتن من سكسونيا تلح جدا في التماس التشرف بتقبيل يدك يا مولاتي، ولم يعد يسعني ردها. - ما شأنها؟ - لم تشأ أن تقول إلا لجلالتك. - دعيها تدخل؛ لأني أود أن أجنح عن عمل خير أستطيعه.
دخلت الكونتس ألما فورتن وانحنت لدى الإمبراطورة، فمدت لها هذه يدها، فقبلتها ثم جلست حسب إيماء الإمبراطورة، فقالت هذه: لا أذكر أني أعرف هذا الاسم.
فاغرورقت عينا الكونتس وقالت: الأقدار ترفع وتحط يا سيدتي، فإن نسب فورتن قديم ونزوله في سلم الانحطاط قديم أيضا، فلا بدع أن تجهليه جلالتك . - هل أنت في حاجة؟ - كلا، إني من نعمة مولاتي راضية، وما امتثلت لا لأجل نفسي بل لأجل امرأة لا يهون على جلالتك تركها في حضيض الهوان.
فاعتدلت الإمبراطورة في مقعدها وقالت: من هي؟ - يستلزم الأمر أن أسرد لجلالتك تاريخا مختصرا. تذكرين جلالتك أسرة روش؟ - أعلم أن لأسرة روش نسابة لأحد أجدادي لا أذكر من هو. - هو جد جلالتك الأسبق هنري ملك بافاريا. - أظن ذلك. - نعم، كانت أخت جدك الدوقة ولهلمينا زوجة الدوق جوزف روش. - لا أذكر جيدا، أظن الأمر كذلك. - لهو كذلك يا ذات الجلالة، وقد رزق الدوق روش ولدين ولهلم وكارل. - نعم أظن ذلك. - وكان كارل غير مرض لأبيه في سلوكه فأقصاه؛ لأنه تزوج زواجا لم يوافقه أبوه عليه، وقد رزق الدوق كارل 3 بنين وابنة هي الدوقة هنريت روش، أما البنون فماتوا منذ زمان، وأما الدوقة هنريت روش فلم تزل حية ترزق، ولكن كانت نسيا منسيا؛ لأنها قضت أيامها شبه ناسكة فتنوسيت.
عند ذلك نهضت الإمبراطورة عن مقعدها، فنهضت معها الكونتس وبقيت واقفة مكانها، أما الإمبراطورة فتقدمت إلى مكتبتها وتناولت كتابا صغيرا وجعلت تقلب فيه ثم قرأت، ثم قالت: أجل، إن ما قلت صحيح؛ فإن كارل تزوج ممثلة فأقصاه أبوه، ولم يذكر هنا شيء عما جرى له. - بالطبع لأن اسمه ألغي من كتاب أنساب الأشراف. - والدوقة؟ ما اسمها؟ - الدوقة هنريت روش يا مولاتي. - كم عمرها؟ - تناهز السبعين. - أين هي الآن؟ - هي هنا في فينا؟ - هنا؟ متى كانت هنا؟ - منذ شهر تقريبا. - عجبا! - لا تشاء أن يعرف أحد بوجودها مطلقا ... - عجبا! - لأنها متزهدة، وفي الوقت نفسه لا تتنازل عن كرامة نسبها الرفيع. - بالطبع، هل هي في حاجة؟ - هي في حاجة إلى التعزية يا صاحبة الجلالة. - يا لله! لماذا جاءت إلى هنا؟ - لأنها لم تطق هوان مقامها. - بالطبع بالطبع، أما عرضت أمرها على جلالة الإمبراطور؟ - فضلت أن تطلب التعزية من جلالة الإمبراطورة؛ لأنها أحن قلبا. - أعني جلالة الإمبراطور غليوم. - لعلها حاولت ذلك، ولكن أنفتها أبت عليها التذلل. - عجبا، زاهدة وأنوفة! - الزهد بالدنيا يزيد التمسك بشرف المحتد يا مولاتي، فهي لا تبتغي نعيما في الدنيا، وإنما تتوق إلى الشعور بأنها لا تزال منتمية إلى الشرف البافاري الأعلى. - إنك يا كونتس تثيرين في عاطفة الشرف البافاري. - لست أنا التي تفعل يا سيدتي، وإنما حرص الدوقة على شرف أجدادها من الطرفين يستصرخ جلالة الإمبراطورة. - وهل الدوقة في مسيس الحاجة؟ - كلا، لأنها قانعة ببسيط العيش، وإنما هي باخلة بشرفها، فهي تلتمس تعزية أكثر مما تلتمس تنعما، وترجو إحياء شعورها أكثر مما ترجو إحياء رفاهتها. - إني أفعل لها ما تروم. - لا تروم إلا نظرة من جلالتك حتى تتحقق أنها لا تزال بنت روش. - إني أرحب بها ترحابي بأمي. - إنها لعاجزة عن المثول يا مولاتي. - ألا تقدر أن تركب أوتوموبيلا؟ - إنها مريضة مقعدة يا ذات الجلالة.
فتململت الإمبراطورة ثم قالت: لا أدري كيف أستطيع أن أزورها، أين هي ساكنة؟ - في مكان يليق بتشريف جلالتك، متنكرة في شارع البرتو. - في شارع البرتو؟ هناك تكثر السابلة. - إلا قبل الظهر يا مولاتي، وإذا كنت جلالتك في ثوب اعتيادي منقبة بنقاب كثيف، فيستحيل حتى على جلالة الإمبراطور نفسه أن يعرف من أنت؟
ففكرت الإمبراطورة هنيهة ثم قالت: إذن بعد الغد الساعة التاسعة أذهب مع وصيفتي البارونة مرثا، فما هو العنوان؟ - عفوا مولاتي، إن سمو الدوقة تأبى أن يكون هواؤها معرضا، وقد حسبت هذا الحساب وحتمت علي أن أرجو جلالتك ألا تكلفي نفسك مشقة في زيارتها إذا كنت تأبين إلا أن يرافقك أحد، فهي تفضل الصبر واحتمال المضض على أن يطلع أجنبي على هوائها، وتقنع برضى جلالتك ورقة عواطفك ولو من بعيد؛ لأنها تحسب أن مصدر التعزية الوحيد لها إنما هو في هناء جلالة إليصابات نسيبتها الممتازة على سائر أفراد الأسر الشريفة الجرمانية برقة العواطف.
ففكرت الإمبراطورة مليا وقالت: إذن أدع البارونة مرثا في الأوتومومبيل حين أكون في مخدع الدوقة. - أخاف أن وجود الأوتوموبيل في الشارع ينبه المارة للشبهة، فضلا عن أنه قد يفضي إلى كشف حقيقة زيارة جلالتك، وهو ما تبالغ سمو الدوقة في تحاشيه. فإذا تعطفت جلالة الإمبراطورة فإني ألاقي أوتوموبيل جلالتها في أوتوموبيل آخر في مكان تعينينه جلالتك، وثم تنتقلين جلالتك من الأوتوموبيل الأول إلى الثاني، ومتى انتهت الزيارة تعودين إلى أوتوموبيلك، وهذه الخطة أضمن لكتمان تنكرك وأسر لخاطر الدوقة. - حسنا إذن تنتظرينني الساعة التاسعة تماما في زاوية ساحة بارولد. - الأمر لجلالتك، وإنما ألتمس أمرا بالنيابة عن سمو الدوقة، وهو أن تكون زيارة جلالتك هذه مكتومة عن كل من في البلاط، وبذلك تلأمين جرحا في عواطف الدوقة لا يبرأ إلا من يدك. - أعد بذلك، لم تقولي لي يا كونتس علاقتك بالدوقة. - النسب بيننا بعيد، وإنما عرفتها منذ كنت طفلة وكانت تحنو علي حنو جلالتك على البائسين، فقضى علي الشرف والمروءة أن أكون إلى جانبها بقية حياتها. - إني أشكر عواطفك يا كونتس.
ثم نهضت الإمبراطورة فنهضت الكونتس في الحال وانحنت لدى الإمبراطورة وقبلت يدها ومضت.
الفصل الرابع عشر
الحمأة
كانت الساعة التاسعة حين كان المصور فورسن في غرفة التصوير ينتظر مدام كاترين شراط حسبما أنبأته عن ميعاد مجيئها، وكان يتمشى في غرفته قلقا كأنه ينتظر أمرا خطيرا. وما هي إلا دقائق حتى دخلت مدام شراط والابتسام ملء ثغرها وقالت: لك يا هرفورسن كل وقتي قبل الظهر، فعسى أن تكون رائق المزاج لكي تتقن الرسم. - إن بهاءك يا مدام يلطف كل مزاج، فكيف تريدين أن يكون الوضع؟ - أود أن أكون متكئة على هذا المقعد الحريري، وهذه الأزاهر من حولي، وقد أتيت بثوب رقيق ألبسه فأين أبدل ثوبي؟
فابتسم لها فورسن وفتح بابا وقال: تفضلي ادخلي إلى هذه الغرفة المعدة لهذا الغرض يا سيدتي، تجدين فيها كل أدوات التبرج والزينة. - شكرا لك.
ودخلت وأوصدت الباب وراءها، أما فورسن فبقي قليلا ثم نقر على الباب، فأجابته من الداخل، فقال: لا تخرجي يا مدام حتى أدعوك؛ لأن هنا من يشغلني بضع دقائق.
ثم جمع أهم أدواته في حقيبة وحملها وانسل من غير أن يسمع له صوت. •••
كانت الساعة ربعا بعد التاسعة حين وقف الأوتوموبيل أمام بناية جميلة فخمة في شارع البرتو، فترجلت منه الإمبراطورة وهي بثوب بسيط ومنقبة بنقاب أزرق يشف عن ملامح سيدة رزينة، وإلى جانبها الكونتس ألما فورتن، ودخلتا معا وصعدتا إلى الطبقة الأولى وفتحت الكونتس من رحبة المنزل بابا وانحنت لدى الإمبراطورة، فدخلت هذه ووجدت نفسها في مخدع أنيق الرياش، فيه سرير جميل وسائر معدات التبرج.
فقالت الكونتس: ألتمس عفو جلالتك بأن تنتظري هنا دقيقة بينما أبلغ الدوقة خبر تشريفك، حتى لا تفاجأ بهذا الشرف العظيم الذي قد يؤثر على مزاجها الرقيق؛ لأن الفرح يصدم النفس كالحزن.
فجلست الإمبراطورة على مقعد جميل وهي تقول: أظن هذه غرفتك يا كونتس. - نعم، إنك تشرفين مخدع عبدتك الآن.
ثم فتحت الكونتس بابا آخر ودخلت منه وأقفلته وراءها، وبعد دقائق استبطأت الإمبراطورة الكونتس فبدأت تستاء، ولكنها قالت في نفسها: «لعل لها عذرا.» ثم سمعت لغطا وضوضاء فقلقت وتغيظت، وجعلت الريبة تتطرق إلى نفسها، ثم نهضت من مكانها كأنها تريد أن تخرج، فاتجهت إلى الباب الأول الذي دخلت منه ورامت أن تفتحه لكي تطل على رحبة المنزل الفسيحة فإذا هو موصد لا ينفتح، فاشتد قلقها وأسرعت حالا إلى الباب الذي دخلت فيه الكونتس، وقبل أن تفحصه انفتح ودخل منه إليها رجلان، فاشتد اكفهرارها، فقال أحدهم للآخر: هذه هي مختبئة هنا.
فقال الآخر: بأمر جلالته نقبض عليك.
فوجفت الإمبراطورة قائلة: يا للخيانة.
ثم وقعت على المقعد واهية، فقال أحد الرجلين: لا تخافي يا مدام، الأوتوموبيل تحت مقفل، فلا يراك فيه أحد.
فاشتد جزع الإمبراطورة قائلة: إلى أين؟ - إلى دائرة البوليس. - يا لله، لماذا؟ - إن واجباتنا تبتدئ وتنتهي عند باب البوليس، وداخل ذلك الباب تسألين هذا السؤال يا مدام، فتفضلي الآن معنا. - لا أريد أن أأتمر بأمر أحد وأنا صاحبة الأمر والنهي هنا.
فرفع كل منهما حاشية معطفه، وقرأت على صدريهما شارة البوليس السري، فقالت: أظنكما ضللتما السبيل. - كلا البتة يا مدام، فقد قرأت على باب هذا المنزل رقم 16، وهذه هي الطبقة الثانية فيه، فما نحن مخطئان. - ولكني من تطلبان؟ - المرأة التي نجدها في هذا المنزل. - لست صاحبة المنزل، وإنما أنا ضيفة دقائق فيه. - ونحن نطلب الضيفة أيضا، لا صاحبة المنزل فقط. - أين صاحبة المنزل؟ - لم نجد أحدا سواك يا مدام، فسواء كنت صاحبة المنزل أو ضيفة فإنك مأمورة أن تصحبينا بلا جدال. - يا لله، منذ دقائق قليلة كانت ربة المنزل هنا. - لعلها فرت قبل أن ندخل. - عجبا، عجبا! - لا تضيعي الوقت سدى يا مدام هلمي. - من أرسلكما إلى هنا؟ - الهر روفر مدير البوليس، فتفضلي. - لماذا؟ أما سمى لكما من تطلبان؟ - لا، بل قال ائتيا في الحال بكل امرأة تجدانها في منزل 16 من شارع البرتو في الطبقة الثانية وكفى، فهلمي ولا تحرجينا إلى استعمال العنف يا مدام. - أقول لكما إني لا أأتمر بأمر أحد في بلدي، وإنما أود أن أعلم لماذا يؤمر بالقبض على من في هذا المنزل؟ - ليس من شأننا الجواب على هذا السؤال، فإذا كنت يا هذه لا تخرجين معنا الآن من هنا جررناك جرا.
وأمسكها أحدهما من يدها يريد أن يجتذبها، فسخطت به في إبان تغيظها واقشعرارها قائلة: ويحك، ألم تفهم أني آمرة لا مأمورة. فقفا بعيدا وأجيباني على أسئلتي.
فقهقها وقال أحدهما: إذا لم تكن هذه المرأة مجنونة، فلا بد أن تكون ماكرة تريد أن تموه علينا.
فصاحت به: اصمت.
فقال الآخر: إن هذا الهذيان لا يفيدك شيئا يا مدام، فالأفضل أن تقفي حالا.
وأمسك بيدها قائلا للآخر: نحملها إذا لم تمش. فصرخت: مكانكما يا هذان، وإلا علقت رأسيكما في ساحة بارولد.
فقهقها وقال أحدهما: لو كانت الإمبراطورة عينها لما كانت تجسر أن تفوه بهذا الهذيان، دعنا نحملها يا فرمان.
فسخطت بهما أشد من قبل وقالت: إني آسفة شديد الأسف أن الهر روفر لا يعرف أن ينتقي رجاله من الأذكياء الذين يعرفون الأشخاص حالا. - كوني من شئت يا سيدتي، فالأمر الذي معنا ... - إني فوق كل أمر. - إنما نحن نقبض عليك باسم جلالة الإمبراطور. - إني شريكة الإمبراطور في أوامره.
فشرع الشك يتطرق إلى نفس كل من الرجلين وقال أحدهما: لا نعرف أحدا فوق القانون غير جلالة الإمبراطور يا مدام. - والإمبراطورة أيضا.
فوجف الرجلان وتغلب شكهما على اليقين، وقال أحدهما: ولكن جلالة الإمبراطورة لا تأتي إلى مثل هذا المكان. - بل الإمبراطورة تتفقد رعاياها أينما كانوا. - أجل تتفقد رعاياها إلا الساقطين منهم.
فحملقت فيه قائلة: تعني؟ - أعني أن هذا المحل محل دعارة يا مدام، يا صاحبة الجلالة.
فاختلجت الإمبراطورة ووثبت من مكانها وقالت: يا لله، ماذا تقول يا هذا؟ - أقول يا سيدتي إن هذا منزل مومسات سري. - ويلاه ... وأنتما جئتما ... - جئنا لنقبض على امرأة محضة تختلف سرا إلى هذا المكان. - من هي؟ - لا نعلم من هنا وإنما الأمر عندنا أن نقبض على كل امرأة نجدها هنا. - ومن أوعز بهذا الأمر إلى الهر روفر؟ - نظن أن الأمر صادر من البلاط. - فاقشعرت الإمبراطورة وقالت: من البلاط؟ - نعم. - من الإمبراطور؟ - لا ندري، ولا نظن أن الأمر من جلالته، لعله من جلالتها. - لا علم لي بذلك. - هل في البلاط ترتيبا تجهله جلالة الإمبراطورة؟
فتمشت الإمبراطورة في الغرفة والرجلان ينظران الواحد في الآخر، وهما لا يدريان هل يصدقان أم يكذبان ما يسمعان ويريان، ثم قالت بعد تفكير قليل: أين المرأة؟ - أية مرأة يا مولاتي؟ - المرأة التي جاءت بي إلى هنا منذ ربع ساعة. - لم نر سواك هنا يا مدام. - عجبا! ابحثا عنها، فقد خرجت من هذا الباب الذي دخلتما منه.
واتجهت الإمبراطورة إلى الباب ودخلت فيه والرجلان إلى جانبيها، والواحد يهمس للآخر قائلا: أخاف أن تكون ماكرة بنا.
فرأت الإمبراطورة نفسها في غرفة فيها مقعد من حوله أزاهر وصور زيتية، بعضها معلق في الجدار وبعضها مبعثر، وصقالة خاصة بالتصوير الزيتي، فقالت: عجبا! إني أراني في غرفة مصور.
فقال أحد الرجلين: لعل إحدى المومسات المقيمة هنا مولعة بالتصوير.
فاختلجت الإمبراطورة وقالت: إذن ليس المنزل منزل دوقة. - المنزل معروف يا مولاتي، إنه منزل مومسات. - ويلاه، يا للخيانة، يا لها من مكيدة!
ثم خرجت من باب آخر، فوجدت نفسها في نفس الرحبة التي دخلت منها أولا، فالتفتت إلى أول باب عن يمينها فإذا المفتاح فيه، ففتحت الباب وتطلعت، فإذا هي في الغرفة التي كانت شبه سجينة فيها حين تركتها الكونتس، ثم قصدت إلى باب آخر فرأت غرفة أخرى كتلك وإلى جانبها غرفة أخرى. وهكذا طافت المنزل كله، فشعرت أنه منزل أدنس، ولكن ليس فيه أحد سواها. فقالت: يا للعجب أين ربة المنزل؟
فقال أحد الرجلين للآخر: اذهب وانظر صاحبة المنزل، لعل أحد الشرطيين اللذين يحرسان باب المنزل أبصرها.
وغمزه من طرف خفي، فخرج الآخر وبعد دقائق معدودة عاد يقول: هذه ربة المنزل في الأوتوموبيل بحراسة أحد الشرطيين.
فقالت الإمبراطورة: ائتوني بها إلى هنا.
فقال هذا: بل تذهبين يا سيدتي وترينها في الأوتوموبيل، هلمي. فحملقت فيه قائلة: ويحك! - هذا أمر الهر روفر يا سيدتي. - فليأت روفر إلى هنا. - لقد تلفنت له الآن يا سيدتي فقال: هاتوا السيدة التي وجدتموها في المنزل إلى دائرة البوليس حالا، فهي المطلوبة بعينها، ونحن مأموران لا آمران. - قلت لك ... - لا مناص من ذلك يا مدام، هلمي.
وأخذاها بيدها فحرقت الأرم قائلة: ويل لمن كاد هذه المكيدة الفظيعة.
ثم نزلت معهما مكرهة إلى أن دخلت إلى الأوتوموبيل، فوجدت فيه امرأة يدل ظاهرها على حقيقتها، واضطرت أن تجلس إلى جانبها؛ لأنها لم تجد الاحتجاج مجديا، وفي الحال درج الأوتوموبيل بهما، فقالت الإمبراطورة للمرأة التي إلى جانبها: هل أنت صاحبة ذلك البيت يا هذه؟ - نعم. - وأين السيدة التي تدعى الكونتس ألما فورتن؟ - لا علم لي بهذه الكونتس. - من يسكن عندك؟ - 3 فتيات. - أين الفتيات؟ - خرجن كعادتهن منذ ساعة. - إلى أين؟ - إلى أشغالهن. - هل إحداهن مصورة؟ - تقول إنها تتعلم التصوير. - وماذا يحدث في منزلك غير التصوير؟ - لا شيء يا سيدتي إني متهمة مظلومة. - بماذا اتهموك؟ - يتهمونني بأن منزلي بيت سري، إنهم لمفترون.
الفصل الخامس عشر
رائحة الحمأة
وبقيت الإمبراطورة بعد ذلك صامتة وهي تضطرب وتغلي غيظا إلى أن وقف الأوتوموبيل أمام دائرة البوليس، ففتح أحد الرجلين باب الأوتوموبيل (إذ كانا راكبين مع الحوذي)، وقال : تفضلا يا سيدتي.
فخرجت صاحبة المنزل، وأما الإمبراطورة فقالت: ادع الهر روفر إلى هنا حالا. - ليس في وسعنا أن نطلبه إلى هنا يا سيدتي فتفضلي إليه.
فقالت غاضبة: قلت لك ... - لا فائدة من المناقشة يا هذه، نحن آلة في يد سلطة الحكومة، وليس في وسعنا إلا تنفيذ الأوامر. فمتى مثلت لدى روفر ... - صه صه لا تزد، يسرني أن يكون رجال حكومتنا متشبثين بالقوانين وبالأوامر، إني ماثلة لدى الهر روفر.
ثم وثبت من الأوتوموبيل وأسرعت إلى مكتب مدير البوليس، ورفعت النقاب (الفوال) عن وجهها، فلما رآها الهروفر وإلى جانبيها البوليسان السريان، ووراءها المرأة الأخرى صاحبة المنزل انتصب واقفا وانحنى، ونظر في الرجلين عابسا وارتبك لا يدري ماذا يقول، ولكنه قال بعد هنيهة: أخرجا تلك المرأة من هنا. فأخرجا المرأة صاحبة المنزل وعادا، وأما الهر روفر فقال: عفو جلالتك إني رهن أمر جلالتك، فهل تتعطفين بالجلوس، لا أدري كيف حصل هذا الشرف اليوم، هل من أمر يهم جلالتك؟
والتبس الحادث على الهر روفر، ولم يعد يدري كيف يتصرف، وكان ينقل نظره بين الرجلين اللذين أصبحا أخبلين، فقال أحدهما: لقد تلفنت إلى سعادتكم ... - ويلاه لم أستطع التصديق، بل اعتقدت تمام الاعتقاد أن المتهمة تهول منتحلة مقام جلالة الإمبراطورة لكي تتخلص. عفوا يا صاحبة الجلالة كيف ذلك؟ أرجو من جلالتك التفضل بالجلوس، إني ...
فقالت الملكة مكتمة غيظها: أود البحث الآن عن امرأة تزعم أنها الكونتس ألما فورتن. - من غير بد تقع في يدنا اليوم إذا كانت جلالة الإمبراطورة تعطينا المعلومات اللازمة، إذا كانت جلالة الإمبراطورة تعود إلى البلاط فأتشرف بالمثول لتلقي معلوماتها، إن البارونة برجن هنا تكون في معية جلالتك إلى البلاط، وإذا أمرت فثلة من فرسان البوليس يخفرون جلالتك. - البارونة هنا؟ وماذا تفعل؟ - نعم هنا، وقد شرفت لأمر.
عند ذلك دخلت البارونة مدهوشة وقالت: إذا شاءت جلالتها فلا يبق أحد هنا غيرنا.
عند ذلك دفع الهر روفر الرجلين بصدره إلى الخارج وأقفل الباب وراءه.
أما البارونة فكانت تضطرب وترتجف غيظا ووجلا في وقت واحد، وقالت : مولاتي، مولاتي، ما الذي جاء بك إلى هنا؟ وكيف جئت؟
أما الإمبراطورة فازدادت حيرتها وقالت: لا أدري أن البلاط امتلأ دسائس ومكائد. أما كيف جئت إلى هنا، فكمجرمة أشنع جرم، لا أدري كيف يجسر السفلاء أن يجروا أهل العرش إلى دائرة البوليس؟ وأنت ماذا تفعلين هنا؟
فلطمت البارونة برجن خدها وقالت: يا ويلتاه! إني يا مولاتي خبلاء لا أفهم شيئا، إني هنا أنتظر أن أشاهد بعيني انتصاري في الحرب لأجلك يا عزيزتي، ولكن ليس هنا مكان الاستفهام والتفاهم، أرجو أن تأذني بعودتنا إلى البلاط حالا، وهناك ... - بل أريد البحث حالا عن المدعوة الكونتس ألما فورتن. - الكونتس، يا لله يا للخيانة! ماذا ... بل دعينا الآن نعود إلى البلاط يا مولاتي، لا يجوز أن نبقى هنا.
ثم فتحت البارونة برجن الباب وأومأت إلى الهر روفر، فدخل فقالت: استدع أوتوموبيلا موافقا في الحال. - وحرسا؟ - كلا البتة، لا تريد جلالتها أن تعدل عن تنكرها.
وكانت البارونة تضطرب ووجهها يحمر تارة ويصفر أخرى، وعند ذلك قرع جرس التلفون بحدة، فأسرع الهر روفر إلى التلفون كالمجنون ووضع بوقه على أذنه وقال: من؟
فأجاب القائل: الإمبراطور.
فاختلج الهر روفر، وفي الحال بسط يده إلى جانبه وقال مضطربا: جلالتكم؟ أمر جلالتكم. - من عندك الآن؟
فالتفت روفر إلى الإمبراطورة كأنه يستفتيها ماذا يجب، فإذا هي والبارونة برجن مكفهرتين ولم يكن ليستطيع مهلة في الرد فقال: إن جلالة الإمبراطورة هنا بالصدفة يا صاحب الجلالة. - إذن فلتنتظر الأوتوموبيل الإمبراطوري، ففي دقائق معدودة يصل إلى جلالتها. - سأرفع إلى مقام جلالتها إرادة جلالتكم حالا.
وكانت الإمبراطورة صفراء كالسعفران، والبارونة إلى جانبها في اضطراب لا مثيل له، فأومأت إلى روفر أن يخرج فخرج، فقالت الإمبراطورة: يا لها من مكيدة هائلة! إذن الإمبراطور يعرف. - لا، لا يا مولاتي، إن جلالته يجهل كل شيء، ولكن الذين لعبوا الدور أتقونه إلى النهاية، يا لهم من سفلة!
وما هي إلا لحظة حتى كان الأوتوموبيل أمام دائرة البوليس، فركبت فيه الإمبراطورة والبارونة مرثا برجن، وفي دقائق معدودة كانت الإمبراطورة في خدرها والغضب مخيم على وجهها، والبارونة برجن ماثلة لديها، فقالت البارونة: إلى الآن لم أفهم جيدا كيف حدث ذلك. - ولا أنا فهمت لماذا كنت في دائرة البوليس، كأنك كنت تنتظرينني يؤتى بي كامرأة ساقطة إلى هناك؟
فرجفت مرثا برجن وقالت: ويلاه ويلاه! لا أكاد أصدق مع أسمع. كيف ذلك يا عزيزتي، إني أفديك بنفسي وأنت تعلمين، لقد فهمت منك أن المدعوة الكونتس ألما فورتن لعبت عليك دورا فظيعا. - يا لها من خائنة! لا أدري كيف جسرت أن تلعبه. - إن وراءها يا مولاتي تلك اللعينة التي ... - كفى كفى، إني شاعرة بعزم الضربة ... أما تلك الخائنة فقد نسجت علي حيلة لم ينسجها إبليس، فقد أوهمتني أن الدوقة هنريت روش هنا في حالة يرثى لها. - الدوقة هنريت روش؟ - أجل، هل تعرفين عنها شيئا؟ - أعرف أنها ماتت منذ عشر سنين. - يا لله! يا للمكر! لقد أوهمتني تلك المرأة الخائنة أن الدوقة موجودة هنا مقعدة، وأنها مكسورة الخاطر وتود أن تراني لتتعزى بي، وأنها لا تريد أن يعلم أحد سواي أنها هنا، وأنها في فاقة؛ فذهبت متنكرة والتقيت بالمدعوة الكونتس ألما فورتن حسب وعدي لها، ثم أخذتني إلى منزل في شارع البرتو.
فلطمت البارونة خديها قائلة: يا ويلتاه في شارع البرتو؟ وأظن في المنزل نفسه. - أي منزل؟ إذن تعرفينه؟ - نعم أعرفه، ثم ماذا يا مولاتي؟ أسمع قصتك ثم أفسرها لك. - فدخلت إلى المنزل وانتظرت في مخدع ريثما تبلغ الكونتس الدوقة، فدخلت في باب ولم تعد منه، ولما استبطأتها ورمت الخروج، دخل علي رجلان فهمت منهما أنهما بوليسان سريان يبحثان عن امرأة، ولما لم يريا سواي أخذاني بالرغم من احتجاجي عليهما، حتى اضطررت أن أعلمهما أني الإمبراطورة، ولما لم يصدقا اضطررت أن أذهب معهما إلى دائرة البوليس، وما بلغت إليها حتى كنت قد علمت من صاحبة المنزل التي كانت مأخوذة معي أن المنزل منزل سري، فتأملي ... - ويلاه ويلاه، إن هذه المكيدة لهائلة! - إني أطلب معاقبة كل من له أصبع فيها. - مولاتي اسمحي لي أن ألومك ؛ لأنك كتمت عني خبر هذه الزيارة، وأنا مستودع أسرارك. - ظننت أني أحرص على كرامة دوقة، وأنا سليمة الطوية ولم يخطر في بالي أن أحدا من الناس يجسر أن يلعب علي دورا فظيعا. - آه لو أخبرتني في الأمر لنجوت من المكيدة، وهبي أن لا مكيدة فاطلاعي على سر كهذا لا يحط من كرامة من تتوهمين وجودها. - وأنت لم تخبريني ماذا كنت تفعلين في دائرة البوليس؟ - كنت أحارب لأجلك، أما قلت لك أني أحارب عدوتك وسالبة سعادتك؟ - ولكن لماذا لم تخبريني شيئا عن هذه الحرب؟ - لأني أعلم جيدا أنك تمنعينني عنها، فكتمتها عنك لكيلا تقفي في سبيلي، ولكيلا تتخدش طهارتك من معرفتها، ولكن واأسفاه! إن الفخ الذي نصبته لتلك الخصيمة اللعينة وقعت فيه أنت، فقد دبرت مكيدة للقبض عليها وهي في بيت سري، حتى متى بلغ الخبر إلى جلالته غضب عليها ونفر منها، وربما عاقبها شر عقاب وطردها من البلاد.
فأجفلت الإمبراطورة وقالت: ويحك!
فهزت البارونة برجن رأسها وقالت: أما قلت لك يا مولاتي أني لو أخبرتك بذلك لمنعتني. - بالطبع أمنعك؛ لأني لا أريد محاربة الشر بالشر. - ولكن هذه المكيدة لو نجحت لما حطت من مقام تلك الممثلة؛ لأنها طالما أقامت في مثل ذلك المنزل، وإنما كانت بغيتي أن يرى جلالته أين مقام من احتظاها! - ويلاه! رباه! أهذا جزاء الأطهرين؟ - كلا يا مولاتي، ولا ذاك جزاء الأشرار، لا أدري كيف انقلبت المكيدة، فلا بد أن يكون في الأمر خيانة، يجب أن أتحرى. - قبل كل شيء يجب أن أظفر بتلك الخائنة التي تنتحل اسم الكونتس ألما فورتن. - مهلا يا مولاتي، لا أستحسن الضوضاء والجلبة في هذا الأمر تنزيها لاسمك الطاهر من أن يكون مضغة، فاعتبري أن الأمر لم يكن واتركيني أسير في سبيلي إلى الحرب العوان ضد تلك الفاجرة التي سلبت سعادتك.
الفصل السادس عشر
تتمة الفشل
في ذلك المساء اجتمعت البارونة مرثا برجر بالمصور ماركوس فورسن، فقالت له والغضب ينبت من عينيها: في المسألة خيانة هائلة، فأود أن أعلم من الخائن. - عفوك يا مولاتي لقد لعبت دوري متقنا. - إلى النهاية؟ - إلى النهاية. - هل جاءت؟ - مدام شراط؟ نعم، أرسلت لي خبرا مساء أمس أنها آتية اليوم الساعة التاسعة صباحا، وقبل هذا الميعاد هيأت كل شيء، ولما وافت كانت خمس دقائق أو أكثر قليلا بعد التاسعة، فرحبت بها وأدخلتها إلى الغرفة لكي تنزع ثوبها وتعد نفسها حسب المطلوب، وبعد هنيهة نقرت على الباب وقلت لها ألا تخرج حتى أوعز إليها لأني مشغول دقائق قليلة ببعض زبائن جاءوا فجأة، ثم أخذت حقيبتي وخرجت وبحثت عن الرجلين، فرأيتهما ينتظران في المكان المعين فأخبرتهما أن يذهبا، فذهبا وبقيت أراقبهما من بعيد، وقبل أن يصلا رأيت أوتوموبيلا ينصرف من أمام الباب، فلم أعبأ به، وبعد قليل رأيت الأوتوموبيل المزركش يقف قرب الباب، ثم رأيت الشرطيين يقبضان على صاحبة المنزل وهي خارجة وزجاها في الأوتوموبيل، ثم رأيت أحد الرجلين دخل إلى حانوت بدال، وبعد هنيهة عاد مسرعا ودخل إلى المنزل بعد أن كلم الشرطيين كلمتين، وبعد دقائق خرج الرجلان ومعهما امرأة وأدخلاها إلى الأوتوموبيل، فدهشت إذ رأيت المرأة غير من أعهد، ثم سار الأوتوموبيل وأنا حيران ولم أعد أجسر أن أعود إلى المنزل إلا مساء، هذا كل ما وقع تحت نظري وفي علمي. - هل تعرف جميع من يقيم في المنزل؟ - لا أعرف إلا نينا فرست، وهي التي استخدمتها بحجة أني أعلمها التصوير. - قلت أنك رجعت إلى المنزل مساء؟ - نعم، لكي أرى نينا فرست، فقالت لي صاحبة المنزل أنها تركت المنزل منذ الصباح ولم تعد، ويظهر أنها لن تعود لأن صاحبة المنزل لما عادت من دائرة البوليس قال لها البواب إن نينا أخذت حقيبتها وهي دافعة الأجرة مقدما. - هل تعرف إن كان في المنزل امرأة ذات لقب كونتس؟ - لا، لعل صاحبة المنزل أخبر مني. - صاحبة المنزل تقول إنها لا تعرف واحدة ذات لقب، فلا أدري إذا كانت تمكر. - لا أظنها تمكر؛ لأنها لا تعرف شيئا من ترتيبنا، فضلا عن أنها ساذجة. - وهل في المنزل امرأة مسنة؟ - لا أدري ، لعل أم صاحبة المنزل مسنة؟ - أما رأيت مدام شراط خارجة من المنزل؟ - كلا البتة، لعلها خرجت قبلي؛ لأني تأخرت نحو خمس دقائق؛ إذ وضعت أشيائي في الحقيبة حتى لا يبقى منها ما يكون علة أو تعليلا. - أود أن أرى نينا فرست هذه. - لا أدري كيف أحظى بها ثانية، والظاهر أنها فرت من العاصمة. - أما عرفت نينا شيئا من ترتيبك. - كلا البتة. - عجبا لا ريب أنها خائنة، أما تقدر أن تبحث عنها، فإني أريد أن أرى وجهها. - ها صورتها الفوتوغرافية.
ودفع إليها صورة فتناولتها وتأملتها وهي تقول: إنها تشبهها كثيرا، لولا اختلاف في التبرج لكنت أقول إنها هي، لا بد أن تكون إياها، بل هي هي تلك اللعينة التي نسجت هذا الدور، يا لها من جسورة فاجرة، ماذا تفعل هذه الشيطانة؟ - كانت ممثلة في مرسيليا، وقد جاءت إلى هنا منذ بضعة أيام، وهي تحاول أن تنتظم في سلك جوقة من الجوقات. - هل تعلم إن كانت ذات صلة بمدام شراط؟ - تعرفها منذ كانتا تمثلان معا في ترسينا. - هل تظن أنها ذهبت إليها؟ - لم ألاحظ قط أنها فعلت.
الفصل السابع عشر
دفن الجيفة النتنة
في ذلك المساء عينه أيضا دخل الإمبراطور فرنز جوزف إلى خدر زوجته الإمبراطورة وقد فرغ من مهام سياسة النهار، فوجد الإمبراطورة مستلقية على مقعدها وآمائر الاكتئاب بادية في محياها، ولم تنهض لاستقباله كعادتها؛ فقال باسما متهكما: عذرا يا إليصابات، سهوت أن أبلغ إليك خبر قدومي.
فنظرت فيه محملقة وقالت: لم تعتد أن تعتذر يا سيدي، فلماذا تعتذر؟ - ولا اعتدت أن أدخل وأجلس وأنت مستلقية. - صدقت، كانت الإمبراطورة دائما تستقبل الإمبراطور بالحفاوة، فلما لم يبق إمبراطورة زالت الحفاوة.
فعبس الإمبراطور قائلا: لعل الإمبراطورة فقدت امبراطوريتها في دائرة البوليس. - بالطبع؛ لأنه لم يسمع في التاريخ أن الإمبراطورة تساق إلى دائرة البوليس كمجرمة. - من عرض نفسه إلى الهوان يهان طبعا، إلى الآن لم أدر كيف حدث هذا الحادث الفظيع؟ - كيف دريت إذن أني في دائرة البوليس؟ - إن شخصا مجهولا تلفن إلى السكرتيرية أن جلالة الإمبراطورة في دائرة البوليس، فلما بلغ الخبر إلى مسامعي دهشت، وسألت روفر فحقق لي الخبر. فما الذي أوقعك في يد الشرطة وهم يجهلونك؟ - لو كان الإمبراطور حريصا على هيبته الإمبراطورية لما كان أحد يجسر أن يلعب على زوجته دورا فظيعا كهذا الدور. - إن الإمبراطور حريص على هيبته، ولكن الإمبراطورة مفرطة بكرامتها وإلا لما جسر أحد أن يلعب عليها دورا، إني أريد أن أسمع وصف الحادثة كما حدثت، وبعد ذلك ناقشيني إن كان لك وجه للمناقشة.
فروت الإمبراطورة الحادثة بالتفصيل والإمبراطور يسمع مقطبا، ولما انتهت قال: لا تلومي أحدا إلا نفسك يا إليصابات، ولو كنت محتفظة بكرامتك لأخبرتيني بعزمك على زيارة الدوقة المزعومة، وكفيت نفسك مئونة هذا الهوان. - خفت أن تمنعني وأنا أود أن أفعل صالحا، ولم أكن لأعتقد أن في الأمر مكيدة. - لا أمنعك عن فعل الصالح، وإنما كنت أوعز لبوليس سري أن يخفرك وينقذك من كيد الكائدين. - لقد كان ما كان، والآن أود البحث عن المرأة التي انتحلت اسم الكونتس ألما فورتن. - بالطبع سأوعز بالبحث عنها سرا، بيد أني لا أريد الجلبة حول هذه المسألة لئلا تصبح الإمبراطورة سخرية الأمة.
فتغيظت الإمبراطورة وقالت: الإمبراطور يجعل الإمبراطورة سخرية.
فسخط قائلا: مدام؟ - أجل، إن علاقة الإمبراطور بمدام شراط. - لا تتمادي يا مدام بهذا الكلام، فما مدام شراط إلا واحدة من ملايين من رعاياي. - ولكنها دون الملايين نالت دالة على الإمبراطور فوق دالة الإمبراطورة. - أسفه هذا القول؟ - سفهته أو لم تسفهه فالمكيدة مكيدتها. - إذا ثبت لي أنها مكيدتها سلبت روحها من جسدها. - إذا كنت مخلصا في ما تقول لا تمل التحقيق حتى تحصل إلى هذه النتيجة. - لا أمل التحقيق لأن كلمتي كلمة إمبراطور النمسا والمجر. - إذن أصبر إلى النهاية. - نعم تصبرين، وبعد الآن لا تتحركين حركة لا يكون لي علم سابق بها. - أفعل بكل سرور، اللهم إذا كنت أرى الإمبراطور مصرا على تحقيق هذه المكيدة الفظيعة بحذافيرها. - ما من مسيطر علي في أعمالي، ومع ذلك يجب أن تعلمي أن الضوضاء والجلبة حول هذه الحادثة الفظيعة لا يليقان بكرامتنا، إلى هنا انتهى الكلام بهذا الموضوع، وبعده لا أنتظر منك تدخلا ولا تساؤلا.
ثم تركها وخرج.
مضت أشهر وبمضيها تنوسيت المسألة وأصبحت في خبر كان، وكل ما نتج عنها أن الهر روفر مدير البوليس والفون أمبرت فرغين وكيل الداخلية عزلا لسبب بسيط، وما هو إلا سبب ظاهر، والحقيقة أنهما مالأا البارونة برجتن على مكيدتها، وكان لعزلهما وقع سيئ في المجالس الداخلية، ولا سيما لأن الفون فرنند فرغتن عم أميرة فرغتن وكيل الداخلية زعيم الحزب الاشتراكي في مجلس النواب، وهو من الزعماء الذين يحسب حساب لضجاتهم.
القسم الثاني
أزمات البلاط
الفصل الثامن عشر
مطاردة العصفور إلى عشه
في منتصف ذات ليلة كان جمع عظيم يتدفق خارجا من ملعب فولكس في فينا، وهو ملعب فخم يلي الملعب الإمبراطوري في أبهته، وكانت الأوتوموبيلات والمركبات تتسابق إلى بوابة الملعب الكبرى لأخذ السراة إلى منازلهم.
وكانت امرأة في نحو الأربعين من العمر وفتاة في نحو الخامسة عشرة واقفتين تنتظران مركبة أو أوتوموبيلا، ولكن ما من مركبة أو أوتوموبيل إلا كان له صاحب أو سائق. وكان فتى حسن البزة يتظاهر أنه ينتظر مركبة، ولكنه كان يحاول أن يحتك بهما على أن الفرصة خانته؛ إذ انبرى فتى آخر في ثوب ضابط من رتبة ماجور كان يراقبهما إلى أن انصرف معظم الجمع وتقدم إليهما وانحنى متلطفا جدا وقال: إن الشرف العسكري يلزمني أن أعرض عليكما خدمتي يا سيدتي، فهل تأمراني أن آتي بمركبة لكما.
فقالت كبراهما: ننتظر مركبة خاصة، فلا أدري ماذا جرى لحوذينا، لعله نام ولم يستيقظ في الميعاد. - إذن آتيكما بمركبة.
فقالت الصغرى: لك الفضل، فإني أرى الانتظار مملا في هذا الطقس البارد.
وفي دقائق قليلة كان الفتى في مركبة أمامهما، فترجل وصعدت إليها المرأتان، وقبل أن تشكراه قال: لا يليق بي أن أترككما تذهبان وحدكما في هذا الليل مع حوذي لا تعرفانه، فهل تأذنان لي أن أخفركما إلى منزلكما.
فترددت الكبرى في شكره وتعجلت الصغرى قائلة: الحق مع جنابه ، والمسافة بعيدة والليل بهيم.
فقالت الكبرى: لا مانع عندنا يا سيدي الأعظم، هذا الدين لفضلك.
فصعد إلى المركبة وجلس بإزائهما وهو يقول: إذا طرحنا هذا الفضل من دين أنسكما أبقى أنا مدينا.
ثم درجت المركبة حسب إيعاز السيدة الكبرى.
أما الفتى الأول، فلما رأى ما كان استقل مركبة أخرى ولحق بالمركبة الأولى.
بعد صمت دقيقة قال الماجور: عسى أن تكونا قد سررتما من التمثيل الليلة يا سيدتي.
فقالت الكبرى: سررنا كسائر الناس.
فضحك الماجور وقال: لم تجد كاترين شراط كعادتها، ولا ريب أنها خيبت مدير الملعب فضلا عن الجمهور. - لعل سمنتها عافتها عن الإجادة. - وتركها التمثيل مدة طويلة أنساها أصول الفن. - هل تظن يا جناب الماجور أن يكون الإقبال في الليالي التالية كما كان في هذه الليلة؟ - لا ثانية لهذه الليلة البتة. - لماذا؟
فضحك الماجور وقال: لأنه لم يؤذن لها أن تمثل إلا هذه الليلة فقط. - من يسيطر عليها؟ - تتجاهلين يا مدام؟ ولا أقول تجهلين؛ لأنه ما من أحد يجهل صلتها بجلالته. - وهل جلالته يمنعها من التمثيل. - بالطبع. - إذن كيف أذن لها الليلة؟ - يقال إنها هي توسلت إليه أن يسمح، فسمح. - وما بغيتها من تمثيل ليلة واحدة؟ - مدير الملعب أغراها مبتغيا أن يتاجر بشهرتها، وقد أطنب في تمداح مقدرتها على أن تمثل دور ماريا تريزا، وغرها بأنها ستظهر في دورها ملكة، ومن لا يحب الملك ولو في الحلم. - إن هذا المدير لداهية. - بالطبع فقد أقنعها أن الراوية ألفت لأجلها، وأن الشعب يتوق أن يراها ثانية على المرسح، وهي تاقت أن تري مجدها للشعب.
فضحكت المرأة الكبرى وقالت: وقد رأى الشعب مجد الملكة؟ - أجل رأى الشعب مجد الملكة المغتصبة حانقا. - المغتصبة؟ - بالطبع مغتصبة، مغتصبة حظ الإمبراطورة وحلي العرش، ألا يثير ذلك سخط الشعب؟ - وهل تلك الحلي حقيقية؟ - بالطبع، لأن مدام شراط لا تظهر بحلي مزيفة. - يا لله، إذا كانت تلك الجواهر حقيقية، فكم تساوي؟ - قدرها بعضهم بمليوني كرونن، وبعضهم بمليون. - عجبا، لا أظن الإمبراطورة ترضى بأن تعير جواهرها. - بالطبع لا ترضى قط، ولكن هذه الحلي هدية الإمبراطور لكاترين شراط، ولو لم تهد لكاترين شراط لأهديت لجلالة الإمبراطورة. - ولكن الإمبراطورة مستوفية الحلي، والإمبراطور حر أن يهدي لمن يشاء. - لا لا يا سيدتي؛ لأن المال مال الشعب، وقد سخط الشعب الليلة إذ رأى كاترين شراط تزدان من قمة رأسها إلى قدميها بالألماس والأحجار الكريمة.
ولو كان في المركبة نور، لرأى الماجور ابتسامات المرأة المتوالية في أثناء هذا الحديث، فقالت ضاحكة: ليت الإمبراطور كان حاضرا ليبتهج بمرأى جواهره. - كان حاضرا يا سيدتي، واكفهر من سخط الشعب. - عجبا، كان حاضرا؟ لم نره. - كنتما أولى من يراه؛ لأنه كان متنكرا في المقصورة المقابلة لمقصورتكما.
عند ذلك شعر الماجور بقدم الصغرى مست قدمه، وقالت الكبرى: إذن كنت جنابك في مقصورته؟ - عفوا يا سيدتي، لست ممن حازوا هذا الشرف، وإنما كنت في كرسي بإزاء مقصورته. - وكنت ترانا كما ترى الإمبراطور؟ - النظر لا يحجب يا سيدتي. - والإمبراطورة؟ - ماذا؟ - أما كانت موجودة؟ - بالطبع لا تكون؛ لأنها لا تريد أن توجد في مكان لا بد من التنكر فيه. - عجبا! - لا عجب فيما هو معروف من فضائل الإمبراطورة. - إذن تعجب بالإمبراطورة؟ - كل الشعب يعجب بها ويحبها. - والإمبراطور؟ - مدام! إني جندي خادم الإمبراطور. - وإذا اقتضى الأمر أن تخدم الإمبراطورة؟ - أخدمها بحياتي أولا. - بورك فيك، لا تجهل أن السيدات في كل مكان يكن من حزب ملكتهن. - بورك فيكن يا سيدتي. - أين نحن الآن يا سيدي؟
فنظر الماجور إلى ما حوله وقال: نحن في آخر شارع فرنز. - إذن لا نكلفك يا سيدي مسافة أبعد. - إني أستلذ مزيد الكلفة يا سيدتي. - شكرا لك يا سيدي؛ فإننا على مقربة من منزلنا.
واستوقفت الحوذي، فاضطر الماجور أن ينزل مودعا مبديا أسفه لعدم تمتعه بالمزيد من أنسهما، وقال: إني أسر إذا كنت أتلقى منكما أمرا بخدمة أقوم بها لكما. - نمتن لك عظيم الامتنان، ونناشدك بالشرف العسكري العظيم أن تعود من هنا تاركا فضلك العظيم دينا علينا. - لا أدري يا سيدتي سببا لهذه المناشدة. - إنما أناشدك بالشرف العسكري ؛ لكيلا تحاول أن تعرف أين مقرنا، أقول ذلك بالصراحة. - أتأسف عظيم الأسف يا مولاتي أن تحرميني لذة هذه المعرفة عاجلا. - أعرف يا سيدي أن التماسي هذا جحود لفضلك، وإنما يعظم فضلك بإجابته. - إني سيئ الحظ يا سيدتي؛ لأني قطعت الأمل من التشرف بخدمة أخرى أمد بها أجل سروري. - إذا شئت أن تتكرم بعنوانك، فلعلنا نستدين منك فضلا آخر.
ورفع إليها بطاقته، ثم تقدم إلى الحوذي يريد أن يدفع له الكراء، فانتهرت المرأة الحوذي ألا يأخذ، ولكن الماجور انتهز الفرصة وهمس للحوذي قائلا: أنتظر هناك.
ثم درجت المركبة وبقي الماجور يتمشى وراءها، وما هي إلا دقيقة حتى مرت به مركبة، فلم يفطن لأمرها، وبعد دقائق معدودة عاد الحوذي فسأله عن مقر المرأتين؟ فقال إنهما في منزل لا يبعد عن القصر الإمبراطوري أكثر من ثلث ميل.
فركب الماجور وأمر الحوذي أن يقف بمركبته لدى ذلك المنزل، ففعل الحوذي، ثم نقده الماجور الأجرة فانطلق. أما الماجور فرأى المنزل شبه صرح صغير في وسط حديقة صغيرة، وقد رأى أشعة مصابيحه تنبعث من بعض نوافذه، فجعل يتمشى لدى المنزل إلى أن رأى شبحا واقفا لدى سور الحديقة، فتقدم إليه، فإذا هو رجل فسأله: أليس لديك عود ثقاب لإشعال سيكارة؟
فأعطاه ذاك علبة الثقاب، فأشعل الماجور سيكارته، ورأى على نور الثقاب وجه ذلك الرجل، فإذا هو نفس الفتى الذي رآه واقفا على مقربة من السيدتين أمام الملعب، وفطن إلى المركبة التي كانت تتعقب مركبة السيدتين، وخطر له أن يكون هذا الفتى هو الذي كان يستقلها، فقال له: لعلك تنتظر مركبة؟ - لا أنتظر شيئا. - الطقس بارد. - لماذا تركت مركبتك إذن؟ - لأني إلى هنا قاصد. - لعلك فقدت شيئا هنا؟ - أجل، هنا فقدت شيئا. وأنت؟ - أما أنا فلم أفقد شيئا. أقول لك لا يليق بنا أن نقف في السبيل، فالأفضل أن ينطلق كل منا إلى بيته، في أي طريق أنت سائر؟ - في هذا الطريق. - وأنا في عكسه، فلنمض إذن.
ومضى الماجور وهو يلتفت إلى ورائه ويرى شبح الفتى الآخر متباعدا بتثاقل ، ثم سار حول الحديقة وهو يلتفت إلى الصرح، وما صار في الجانب الآخر حتى التقى بنفس الفتى، فاستمر كل في سبيله، ودار الماجور إلى أن وصل حيث كان أولا، فالتقى بنفس الفتى ثانية، فقال له: أراك كمن أضاع شيئا هنا.
فأجابه: ما هذا شأنك. سر في سبيلك. - هذا سبيلي، فسر أنت في سبيلك. - هذا سبيلي، فإذا لم تكن قد فقدت شيئا فما معنى أن تحوم حول هذا الصرح؟ - ما شأنك أنت؟ - الشأن شأني، والأفضل لك أن تعدل عن فكرتك. - أراك تتدخل فيما لا يعنيك. - أنصح لك أن تذهب من هنا ولا تعود أبدا. - عجبا لهذه القحة. - ليست هذه بقحة، وإنما أريد أن تفهم أنه لا يمكن أن يحوم اثنان هنا. فهل فهمت؟ - فهمت.
ثم انسل الفتى، وما هي إلا دقيقة حتى أطفئت أنوار الصرح؛ فعاد الماجور إلى بيته.
الفصل التاسع عشر
زلزال عنيف
بعد أيام كان الإمبراطور فرنز جوزف في مكتبه يدخن عابسا مفكرا؛ إذ استأذن سكرتيره أن يدخل فدخل قائلا: مولاي إن وزير جلالتكم يلتمس التشرف بمخاطبة جلالتكم تلفونيا.
فأجاب الإمبراطور على الفور: حول خط التلفون حالا.
وفي الحال تناول الإمبراطور بوق التلفون، وجرى الحديث التالي: - من؟ - وزير جلالتكم. - ماذا جرى في مجلس النواب؟ - الحزب الاشتراكي كله هائج يا مولاي، وقد انضم إليه معظم الباقين. - الأكثرية معه إذن؟ - نعم يا صاحب الجلالة، والهياج شديد جدا جدا. - عجبا ما هي صيغة الاحتجاج؟ - صيغة الاحتجاج أن الشعب لا يقبل بوجه من الوجوه أن يجمع المال من العمال ويعطى هبات وعطايا للغواني. عفو مولاي لا أقدر أن ألطف العبارة أكثر لئلا أكون غاشا جلالتكم. - تعني أن الضجة ... - شديدة جدا يا مولاي؛ فإن الشعب كله هائج لسبب ظهور مدام شراط بتلك الحلي الثمينة.
فارتبك الإمبراطور وقال: وأنت؟ ماذا فعلت؟ - دافعت بكل ما في وسعي من الدفاع، ولكن كنت كمن يطفئ النار بالزيت. - هذه الضجة من زعيم الاشتراكيين فرنند فرغتن؟ - بلا ريب فهو في المقدمة، ولكن أصوات الضاجين معه أصبحت أعلى من صوته. - ألا يمكن إرضاء فرغتن هذا برد ابن أخيه إمبرت فرغتن إلى وكالة الداخلية؟ - لقد فات وقت هذه الترقية يا مولاي؛ لأن أعوانه استلموا الدفة معه، ولم يعد في وسعه أن يردهم؛ ولهذا يستحيل أن يرجع إلى الوراء بعد أن هجم. - إذن ما العمل؟ - إني أستشير جلالتكم، وقد بذلت جهدي حتى أوقفت الجلسة عشر دقائق بدعوى الاستراحة ريثما أتلقى أوامر جلالتكم. - عجبا، هل عجزت عن إصمات هؤلاء المشاغبين؟ - يستحيل على أعظم قوة أن تصمت الشعب في إبان هياجه؛ فلم تبق من حيلة إلا معالجة الأمر ولو بعلاج وقتي ريثما يسكن ثائر الجمهور. - يا لله، هل تعني أن نخضع لتهديد الجمهور؟ - لا، وإنما نقدر أن ندعي أن تلك الحلى الثمينة، إنما هي حلى العرش نفسه، وقد أعيرت إلى أرقى ممثلة ليلة واحدة لأجل مسرة الشعب. - هذا يستلزم استرداد تلك الحلى. - بعد إسكات حجة الجمهور تكون لنا هدنة لتدبير المسألة، أما الآن فلا حيلة غير هذه. ومع ذلك لا أضمن نجاحها يا مولاي.
ففكر الإمبراطور هنيهة ثم سمع الوزير يقول: إن جرس استئناف الجلسة يقرع يا مولاي.
فقال الإمبراطور: إذن افعل ما تقول، ودبر المسألة بحكمتك، يجب في أثناء الهدنة الضرب على أيدي هؤلاء المشاغبين. ما كنت أظن أن تبلغ القحة منهم أن يعترضوا على الإمبراطور في شئونه الخاصة، المال مالي أمنع أو أمنح من أشاء. - ولكن قضية الاشتراكيين والعمال تناقض هذا المبدأ يا مولاي ... - قبحا لهم ولقضيتهم، إنهم بهائم مخلوقة للعمل، فمن أين لهم الحق أن يمتنوا بعمل الواجب عليهم، لقد غلطنا في أن ندع لهم صوتا يرتفع.
ثم رد الإمبراطور بوق التلفون وجلس مكفهرا مقطبا.
الفصل العشرون
صدمة راجة
في الصباح اجتمع الإمبراطور فرنز جوزف بزوجته الإمبراطورة إليصابات وهو مقطب الحاجبين وقال: لقد أوعزت أن تبقى ماري فتسيرا ابنة أخت البارونة برجن في بافاريا في مدة الفرصة المدرسية. - لماذا؟ - لأني أخشى من مغبة علاقة البرنس فردريك بها؛ إذ لا يخفى عليك أنه زوج امرأة الآن، فلا يليق أن يكون ذا عشيقة. فإذا كانت هنا لا نأمن تماديهما في الحب. - إنه لرأي صائب، ولكن ... - لا لكن، ولا بل، لقد صدر أمري. - أمر حكيم وإني معك، فلا يليق بزوج أن يكون ذا عشيقة، وأسر أن يكون هذا قانونا نافذا في البلاط النمساوي. ولكن مرثا تود أن ترى ابنة أختها؛ لأنها لها في منزلة الأم، والفتاة يتيمة الأم لا تتعزى بغير خالتها. - أجل، ولقد قررت أن مرثا تذهب إلى ابنة أختها وتبقى معها كل حياتها.
فأجفلت الإمبراطورة وقالت: ويلاه! ومرثا أيضا؟ - نعم، لن تبقى في البلاط بعد اليوم، فأبلغيها ذلك.
فوقع الأمر على الإمبراطورة كالصاعقة، وقالت: إن هذا الأمر موجه ضدي؛ لأن مرثا تعزيتي الوحيدة. - بل هي فتنة في هذه العاصمة، فلم تقتصر على واجباتها في البلاط بل جعلت تشتغل في السياسة، وهي مصدر الحركة الاشتراكية ضد العرش. - إنها لبعيدة عن كل حركة. - لعلك لا تدرين أنها تجتمع مع الفون فرنند فرغتن زعيم الاشتراكيين، وتشترك معه في دس الدسائس. - لا أظن أن زعيم الاشتراكيين يحتاج إلى مستشار كمرثا برجن، وإذا كان الاشتراكيون قد هاجوا وماجوا فلأن سبب هياجهم خطير جدا. - ليس السبب الذي تشيرين إليه سببا، وإنما مرثا جعلته سببا، فهي تشتغل في السياسة، ولا أريد أن امرأة في البلاط تتداخل في السياسة؛ ولذلك يجب أن ترحل اليوم. نعم، اليوم يجب أن ترحل.
فاستشاطت الإمبراطورة وقالت: إذن تريد أن مدام شراط تشتغل في السياسة. - صه، لا تذكري اسمها فهي براء. - يحظر على فريدريك أن يعشق ولا يحظر عليك. - صه صه، لا تزيدي من هذا.
فصاحت الملكة ساخطة: لا أسكت؛ لأني لا أريد أن ... - لا يكون ما لا تريدين. - حسنا. - إذن البارونة ترحل. - وكاترين شراط ترحل أيضا، لن تبقى في كل النمسا ساعة. - لست صاحبة الأمر والنهي هنا. - إني صاحبتهما فيما يخصني. - ليس ذلك يعنيك. - يعنيني. - افعلي ما تستطيعين.
فاشتد غضب الإمبراطورة وأغلق عليها، أما الإمبراطور فتركها وهو يقول: اليوم تبرح البارونة فينا، هكذا أمرت. •••
وما كان الظهر حتى بلغ إلى الإمبراطور أن الإمبراطورة ووصيفتها برحتا العاصمة متنكرتين في القطار الراحل إلى بافاريا، فشق الأمر على الإمبراطور جدا وحار ماذا يفعل؛ بيد أنه أصدر أمره في الحال بإيقاف القطار في المحطة التي وصل إليها، ثم استدعى وزيره وشاوره في الأمر، وقرر أن يذهب الوزراء جميعا ويسترضوا الإمبراطورة. وبالفعل أسرع الوزراء في قطار خاص حتى بلغوا إلى حيث أوقف القطار الذي فيه الإمبراطورة، وجعلوا يتوسلون إليها أن تعود حتى أقنعوها، فعادت ووصيفتها معها.
ولما عادت ترامى الإمبراطور على قدميها مستصفحا، ووعدها أن يتوب إلى الله وإليها.
وفي ذلك المساء أولم الإمبراطور وليمة لوزرائه حضرتها الإمبراطورة وهي مبتهجة، وكان حديث الإمبراطور كله في أمور سارة لها. وتأكيدا لوعده لها بأن يسرها أصدر أمره أن يحتفل في البلاط بليلة راقصة يوم عيدها، يدعى لها كبار الحكومة وأعيان المدينة.
الفصل الحادي والعشرون
المتعصمة
كان الفون درفلت كاتب سر الإمبراطور الثاني في غرفته الخاصة في منزله يتهيأ للخروج من منزله في المساء حسب عادته، فدخل عليه خادمه يقول: هنا يا مولاي سيدة تلح في طلب مقابلتكم، ولم تقل اسمها ولا أعطت بطاقتها.
فبغت درفلت وقطب قائلا: يجب أن ... بل مهلا! دعها تنتظر في غرفة الاستقبال.
ثم أسرع في تهيئة نفسه وأطل من باب غرفة الاستقبال، فإذا سيدة واقفة تنظر في زينة الغرفة، فلما وقع نظره على نظرها دخل قائلا: نينا أو أنا غلطان؟
فضحكت قائلة: بعض الغلط. - بلى نينا، أهلا ومرحبا نينا، ما الذي ... - صه، لا تقل نينا، أنا البارونة ليوتي الآن. - يا لله، وهل تظنين أن هذا التنكر يخفيك عمن يعرفونك، ثم جلسا جنبا إلى جنب. - قل الذين يعرفونني في فينا يا فلت، والذين يعرفونني قد لا يرونني. وهب أنهم رأوني فلا أظنهم يشتبهون بي؛ إذ لا يخفى عليك أن المرأة تستطيع أن تتقمص كل يوم في ثوب جديد، وتحت نقاب جديد، ووراء تبرج جديد، فإذا ادعى أحد أني نينا أقول له إن الناس يتشابهون. - وما الذي جاء بك إلى هنا والبوليس السري يدعي أنه يبحث عن الكونتس ألما فورتن ، ويقال إنه توصل في البحث إلى أن هذه الكونتس هي نينا فرست نفسها. - عجبا! كيف عرفوا ذلك؟ - عرفوا من صورتك الفوتوغرافية أن نينا فرست التي كانت تقطن في منزل 16 من شارع البرتو، هي نفس الكونتس ألما فورتن التي زارت الإمبراطورة.
فقهقت قائلة: وهل تظن الآن أن صورتي تلك تشبهني وأنا في تبرجي هذا؟ - ربما. - لا يهمني. - تعرضي نفسك لخطر. - إني مجازفة. - متى أتيت؟ - اليوم. - من أين؟ - من تريستا. - من تريستا؟ كيف تركت مدام شراط؟ - تركتها في شوق شديد إلى فينا.
فضحك فون درفلت وقال: بالطبع، وهل تخلو لكاترين الإقامة إلا في صرحها؟ ولماذا جئت يا نينا؟
فعبست قائلة: قلت لك إن اسمي البارونة ليوتي. - نعرف بعضنا بعضا جيدا يا بارونة ولا ثالث بيننا، فبالله لماذا جئت إلى هنا؟ - جئت لكي أمتثل لدى الإمبراطور.
فوجف فون درفلت وقال: ويحك! لا تزجين اسم جلالته في معرض مزاح. - إني أجد لا أمزح، أود أن أمتثل لدى جلالته. - لا تقولي ذلك. - إني مضطرة جدا. - لك أن تفعلي ما تشائين. - أجل، أنت تستعطف جلالته. - أنا؟ معاذ الله. - لماذا؟ - لأني لا أود أن أعرض نفسي لخطر كهذا. - أي خطر؟ - خطر تقديم نينا فرست إلى جلالته. - عجبا! سرعان ما نسيت أني البارونة ليوتي. - أجل أذكر أنك البارونة ليوتي؛ ولكني لا أقدر أن أنكر أنك نينا فرست التي ثبت أنها الكونتس ألما فورتن، فإذا اكتشف جلالته ذلك. - تقدر أن تنكر أنك كنت تعرفني. - وإذا جيء بشهود يشهدون أني كنت ذا أصبع في تلك المؤامرة الهائلة. - تعرف شغلك، مدام شراط تأمرك أن تقدمني إلى جلالته. - مدام شراط؟ - نعم. - أين أمرها؟ - هذا هو.
ودفعت إليه بطاقة باسم مدام شراط، وقد كتبت عليها بخط يدها: «المرجو من الفون درفلت أن يساعد البارونة ليوتي، وله الفضل.»
فنظر فون درفلت في المرأة بعد أن أنعم النظر في البطاقة، ثم قال: وهل عرفت مدام شراط أنك تطلبين الامتثال لدى جلالته. - بالطبع. - إذا لم يكذب ظني، فإنك سفيرها.
فضحكت قائلة: لا تظن ولا تخمن. - عفوا ، إذن ماذا أقول لجلالته عن مطلبك؟ - لدي عريضة أريد أن أرفعها بنفسي إلى جلالته. - وهبي أنه أبى؟ - إذا أبى امتثالي، فلا يأبى قبول عريضتي من يدك. - حسنا، إذن المهمة سهلت بعض السهولة. ولكن اعلمي أني لا أعرف شيئا عنك سوى أنك امرأة تدعين أن اسمك البارونة ليوتي. - لا أعرفك قبل اليوم، بل إني غريبة في فينا. - وبعد أن يكتشف أمرك؟ - لا تخف، لن يكتشف أمري وإني لمسأولة. - مسأوليتك لا تجديني. - ومدام شراط تتحمل كل مسئولية. - إذن بكل سرور ألبي أوامرك يا مدام. - متى؟ - غدا إن شئت. - بالطبع أشاء؛ لأن التسويف ليس من مصلحتي. - لقد تقرر هذا الشأن، تتعشين معي الليلة؟ - أين؟ - هنا. - لا بل في مطعم فريدريك. - لا، يستحيل أن نلتقي في مكان غير هنا. - وفي البلاط أيضا؟ - لا بأس، هناك لا شبهة. - إذن لا تؤجل البيرة إذا كان لا بد من تناول العشاء هنا. - ذلك أقل ما يجب من إكرامك يا مدام.
ثم أوعز إلى الخادم أن يأتي بالشراب ويهيئ العشاء، واستمرا في السمر وهما يتساقيان.
الفصل الثاني والعشرون
ضرب على أوتار - إذن البوليس السري يبحث عني يا فلت! - كذا يقال. - عجيب أنه لم يبحث عني في تريستا. - لماذا؟ - لأن مدام شراط هناك، ويغلب أن أكون حيث تكون.
فضحك قائلا: ولكن حيث تكون مدام شراط تنحل عزيمة البوليس.
فابتسمت وقالت: عجيب أن يكون لمدام شراط حول حتى في منفاها. - كأنك تجهلين أن زيادة النفوذ مكافأة لها أو تعويض على هذا النفي.
فضحكت نينا وقالت: ترى هل تدري البارونة مرثا برجن هذه الحقيقة؟ - لا أظنها تجهلها وإن كانت تتجاهلها؛ بيد أنها تزعم أنها غائزة في الحرب التي انتهت بنفي مدام شراط من فينا. والإمبراطور يجامل الإمبراطورة ما استطاع. - والبارونة برجن؟ - لا يطيق الإمبراطور وجودها، ولولا تمسك الإمبراطورة الشديد بها لنفاها من كل مملكته. - عجيبة سطوة هذه المرأة على الإمبراطورة. - ليست ذات سطوة عليها، وإنما لا يخفى عليك يا مدام أن قضية الإمبرطورة خطيرة الشأن، وليس لها من معين فيها إلا البارونة برجن مربيتها القديمة؛ ففوز الإمبراطورة فوز للبارونة أيضا. - ولكن للبارونة قضية بل قضايا أيضا. - وهي فائزة فيها أيضا، فهي رامت أن تكون البارونة ماري فتسيرا ابنة أختها عندها، وقد كان ما رامت. - البارونة فتسيرا هنا؟ - نعم، ولكنها لا تظهر في البلاط إلا نادرا؛ تحاميا لغضب الإمبراطور. - بالطبع الإمبراطور عالم بوجودها هنا. - نعم، ولكنه يتجاهله. - إذن البرنس ... - البرنس رودلف؟ نعم، هو في عيد بالرغم من أن أباه الإمبراطور ناقم عليه بسبب علاقته بالبارونة فتسيرا.
فتنهدت نينا فرست وقالت: عجبا أن ينقم عليه وهو يفعل فعلته. - لا تعجبي يا مدام، إن صاحب السلطة يسوغ لنفسه ما لا يسوغه لغيره، على أني أظن أن الإمبراطور لا ينقم على ولي العهد لمجرد علاقته بالبارونة فتسيرا بل لعلاقته بها؛ لأنها بابنة أخت البارونة برجن التي لا يطيق وجودها في بلاطه.
فتنهدت نينا من أعماق صدرها، فقال فون درفلت منعما النظر فيها: أخاف أن يكون هواء هذه الغرفة غير صالح لأنفاسك يا مدام. - بل جو فينا كله مضيق على أنفاسي يا فون درفلت، وإنما يضطر الإنسان أحيانا أن يكون حيث لا يريد أن يكون. - عسى أن يكون في وسعي أن أخفف عن أنفاسك يا بارونة. - ليس في وسع أحد أن يقاوم السلطة العليا. - إذن الضغط على أنفاسك من ثقل السلطة العليا، ترى ما شأن هذه السلطة بك يا مدام؟
فتأففت نينا وقالت: أف، عفوا يا فون درفلت لقد شط بي المقال، وإنما أنا أفكر في البرنس رودلف الذي سلبك البارونة ماري فتسيرا.
فانقبض درفلت وقال متجهما: أعلي أم على البرنس تشفقين يا مدام؟
فقالت منتفضة: بل عليك؛ لأني علمت أنك كنت مولها بالبارونة فتسيرا، وكانت خالتها البارونة برجن تمنيك بها حتى أصبحت معلقا بحبل من الأمل، فقطعت خالتها ذلك الحبل. - خالتها! ولماذا لا تقولين البرنس قطعه؟ - أوه! دعنا من البرنس، علام تزجه في الحديث؟ - كأنك تشفقين على البرنس أيضا من البارونة؛ لأنها تودي به.
فحملقت به نينا وقالت: تودي به إلى ماذا؟ - دعينا من هذا الحديث. - بل قل من يودي به؟ وإلى ماذا؟ - يلوح لي أن البرنس يهمك أمره. - ربما همني أمره. - إذن لماذا تأبين علي أن أزج ذكره في الحديث؟ - أف، إنك تثير في شجنا. - شجنا! - لا، بل أعني أنك تثير في حب الاستطلاع ثم تردف ذلك بالتكتم؛ فبالله قل من يودي بالبرنس؟ وإلى ماذا يودي به؟ - إذا كان الأمر يهمك ...
فتجرمرت نينا وقالت: بربك لا تضرب على أوتار أعصابي المتوترة، فإن لم تشأ أن تقول فلا تقل؛ إني مودعتك الآن إلى الغد.
الفصل الثالث والعشرون
من حديث إلى حديث
وهنا لاحظ فون درفلت أن للمرأة سرا يكاد يلمسه؛ ولكنه لم يزل ضالا عنه، وإنما أدرك أن مفتاحه البرنس رودلف. ولكن ما علاقة البرنس بهذه المرأة؟ فقال: لا تذهبي يا مدام قبل أن نتناول العشاء. - إذن تقول ...؟ - أقول إن البارونة برجن تكاد تودي بالبرنس إلى التهلكة. - ويحك! كيف ذلك؟ - ذلك أنها تريد أن يطلق البرنس ابنة ملك البلجيك؛ لكي يتزوج ابنة أختها البارونة ماري فتسيرا. - ويلك! لا طلاق في البلاط النمساوي. - إذا لم يتيسر الطلاق الشرعي، فيتسنى الطلاق الطبيعي. - ماذا تعني بالطلاق الطبيعي؟ - أعني ... دعينا من هذا الموضوع، وحسبك أن تعلمي أن البرنس مقبل على فضيحة هائلة إذا بقي للبارونة برجن نفوذ في البلاط.
فبهتت نينا وبقيت صامتة برهة ثم قالت: وما رأيك بنفوذ البارونة برجن؟ - رأيي أنها ذات نفوذ عظيم حتى الآن، ولولا نفوذها لبقيت مدام شراط في صرحها إلى جنب قصر شرن برن. - عجبا! كيف حصلت هذه المرأة على هذا النفوذ العظيم؛ فإن رضى الإمبراطور وحده غير كاف. - تلعب أدوارا في السياسة تكسبها هذا النفوذ. - أجل، يقال إن لها صلة بالحزب الاشتراكي. - نعم، وهي تشترك مع فرنند فرغتن زعيم الحزب الاشتراكي في تدبير الحملات البارلمانية، ولا بد أن تكوني قد علمت عن حملة هذا الحزب في مسألة الحلي. - أجل أجل علمت، ولكن هل تظن أن الإمبراطورة ترضى أن يساق ابنها إلى فضيحة هائلة؟ - بالطبع لا، ولكن الإمبراطورة لا تدري بالخطر إلا بعد وقوعه، ولا يمكن أحدا أن ينبهها إلى الخطر ما دامت البارونة برجن في سبيلها. - والإمبراطور؟ - الإمبراطور متغيظ، ولكنه كالإمبراطورة لا يعتقد أن الخطر عظيم، وقد لا يهتم له كثيرا إلا من جهة اغتياظه من البارونة برجن. - يا لله، أليس في وسعه أن يقذف بهذه الداهية إلى البحر. - يظهر أنه لا يستطيع، ولما رام أن ينفيها لم يستطع تحمل غضب الإمبراطورة، أما علمت الحكاية؟ - أية حكاية؟ - حكاية فرار الإمبراطورة. - ويحك! ماذا تقول؟ - أقول إن الإمبراطورة فرت مع مربيتها البارونة برجن حين حتم الإمبراطور بطرد هذه، ولو لم يسرع الوزراء لإدراكها في الطريق وإقناعها بالعودة لما عادت، أما سمعتم بهذه القصة؟ - لا، لعل كاترين علمت بها وكتمتها عني. وماذا فعل الإمبراطور؟ - اضطر أن يسترضي الإمبراطورة وأن يوعز إلى كاترين أن تبقى بعيدة عن فينا، ووعد الإمبراطورة بأن يحيي ليلة ساهرة تكريما لها يوم عيد ميلادها، وإعرابا عن إخلاصه لها. - يوم عيد ميلادها! - نعم، بعد غد يكون عندنا مرقص باهر لم تشهد فينا مثله. - إذن عليك أن تستحصل على تذكرة أدخل بها إلى المرقص الإمبراطوري. - ويحك! إنك مجنونة. - بل أنت غبي، أما أنا بارونة يحق لي ما يحق للأعيان؟ - وتلتقين بالبارونة برجن؟ - ولماذا لا؟
فضحك قائلا: أظنك تريدين أن تخرجي من المرقص مكبلة بالحديد يا شقية. - إني مستعدة لكل شيء حتى الشنق. - عجبا! ما أمنيتك في هذه المجازفة؟ - أود أن أرى البارونة فتسيرا. - ربما لم يؤذن لها أن تكون. - إذا لم تكن فالبرنس فريدريك لا يكون، وعدم وجوده في المرقص يفتح باب القيل والقال. - ولكن الإمبراطور يأمر من يشاء وينهى من يشاء. - على كل حال أريد تذكرة.
فقال فون درفلت ضاحكا: غدا تمتثلين لدى جلالته، فاطلبي منه تذكرة. - وسأريك أنه يمنحني تذكرة، وهل تكون في المرقص يا فون؟ - بالطبع. - وهبك رأيت البارونة فتسيرا ترقص مع سواك؟ - لا يهمني. - عجبا! إذن ما أنت عاشق. - أوه، بل أنا أمير العشاق. - إذن تحب غير البارونة؟ - يا لك من حاذقة. - ترى ما نسبة الجديدة إلى القديمة؟ - كنسبة الشمس إلى القمر. - إذن هل نراها غدا في المرقص؟ - لا أظنها تكون. - إذن ليست من الأعيان؟ - الحق لا أدري. - عجبا! - لأني لا أعرفها جيدا. - وهي؟ - كذلك. - إذن؟ - أصل الحب نظرة. - كلام فارغ. - أجل كلام فارغ، ولكن ربما صار ملآنا. - أظن هذا الحب ابن اليوم. - بل ابن هذا العام. - عجبا! وإلى الآن لم تعرف الحبيبة؟ ذلك لا ينطبق على أخلاقك. - لي مزاحم بل مزاحمان. - من هما؟ - أما الأول فهو ضابط مغرور بثوبه العسكري، علمت بعدئذ أن اسمه جوزف شندر من الحرس الإمبراطوري، وأما الثاني فهو سر الفتاة المكنون. - تعني؟ - أعني أن أصل الفتاة محاط بسر مجهول، وقد بحثت عنه فلم أهتد إليه. - عجبا! ماذا عرفت عنها؟ - إن كان في وسعك أن تفيديني عنها شيئا، فأقول لك ما عرفته عنها. - أفيدك. - لله منك! كيف تقولين أنك تفيدينني وأنت إلى الآن لم تعرفي شيئا عنها. - أعني إذا كنت أعرف عنها شيئا، فلا أبخل عليك بقوله لك. فماذا عرفت عن الفتاة؟ - رأيت الفتاة مع امرأة كهلة في الملعب ليلة كانت كاترين تمثل دور ماري تريزا، فسلبت لبي، ولم أستطع ان أكبح جماح فؤادي عنها، فحاولت أن أتحرش بها أو بالمرأة التي معها، ولكن ذلك الفتى الضابط سبقني؛ إذ أخذ المرأتين في مركبة فتبعتهم في مركبة أخرى إلى أن رأيت الفتى يتركهما في الطريق، والظاهر أنهما التمستا منه ذلك لكيلا يعلم منزلهما، ولكنه انتظر الحوذي حتى عاد فأمره أن يأخذه إلى حيث نزلا، وكنت قد سبقته في مركبتي والتقينا هناك. - ثم ماذا عرفت عن الفتاة؟ - لم أعرف شيئا سوى أنها والمراة تسكنان معا في صرح صغير في وسط حديقة في شارع فرنز، وأما ما هي نسبة الفتاة إلى المرأة، ومن هي المرأة، فلم أجد أحدا يفيدني شيئا. - عجبا! أليست المرأة أم الفتاة؟ - ربما ليست، وجل ما علمته أن المرأة تدعى مرغريت ميزل، والفتاة تدعى أميليا. - أميليا ميزل طبعا؟ - الله أعلم، فلا الجيران ولا أحد في فينا يعرف أكثر من ذلك. فمن أين أتت هذه المرأة وهذه الفتاة؟ وكيف تنفقان عن سعة؟ لا أحد يدري. - عجبا عجبا! - حدث ما حملني على الظن أن للبارونة برجن علاقة بهاتين المرأتين، ولعلها تنفق عليهما. - كيف ذلك؟ - رأيت غير مرة امرأة تتردد على البارونة برجن وعلى هذه المرأة أيضا، كأنها همزة الوصل بينهما. - ظنك في محله. - هل تقدرين لأن تفيديني شيئا عنها؟ - لا، وإنما أصبحت مثلك راغبة في معرفة سرهما، ليتني أرى مرغيتا ميزل هذه، أليس في وسعك أن تسهل لي الأمر؟ - أأدلك على صرحهما وثم تعرفيني شغلي؟ - وماذا كان من أمر الضابط؟ - الضابط قطن في منزل يطل على حديقة الصرح. - وهل نال مأربا؟ - لا أظن، لأنه لا يزال كالغريب للمرأة، وأما الفتاة فتكاد تقع في أحبولة جنونه. - كيف ذلك؟ - لا أخفي عليك أني كنت في بعض الليالي أجعل طريقي أمام ذلك الصرح، واتفق في ليلة في هذا الأسبوع إذ رأيت أشعة النور تشع من خلال روافد الشباك الذي لغرفة الضابط ثم تختفي، وهكذا دواليك، كأن الضابط يحرك الروافد عمدا لغرض. ثم راقبت شباك الفتاة فإذا النور يشع منه على ذلك النمط، كأن هذه الأشعة أجوبة لتلك، ثم رأيت شباك الضابط انفتح ولاح منه الضابط بنفسه مرارا، ثم انقفل وبقي النور يشع من خصاص روافده، وما هي إلا هنيهة حتى انفتح شباك الفتاة ورأيت قامتها الهيفاء فيه تحجب النور، ثم توارت وأقفلت الشباك. - إذن الضابط ظفر بقلب الفتاة؟ - أجل، ولكن المرأة مرغريتا غير دارية بذلك، وأظنها لو درت لانتقلت من هذا الصرح، أو لو كانت راضية عن الفتى لقبلته في صرحها، وحينذاك لا يبقى موجب لمخاطبة الفتاة بهذه الإشارات ... وما اقتصر على ذلك، بل فعل ما هو أبلغ. - ماذا فعل؟ - أراقبه كل ليلة، وكل ليلة يفعل كذلك، وأول أمر رأيته بعد هذه الإشارات قد خرج من منزله، فكمنت بعيدا أراقبه، فرأيته قد اغتنم فرصة خلو الشارع وتسلق سور الحديقة ووثب إليها بكل خفة، فراقبته عن قرب إلى أن قرب من شباك الفتاة، ولم أر في الظلمة ما جرى ، وإنما لم يطل العهد حتى رأيته قد عاد كما راح. - لقد زدتني رغبة في استطلاع أمر ذلك الصرح يا فون درفلت، فهل تشاء أن نذهب لمراقبته في ميعاد الإشارات المتبادلة بين الضابط والفتاة؟ - لا بأس، الساعة العاشرة يجب أن نكون هناك. - حسنا، نتعشى الآن ونذهب.
الفصل الرابع والعشرين
اصطدام هائل
في شارع فرنز على بعد نصف ميل من القصر الإمبراطوري منزل صغير جميل، في وسط حديقة صغيرة غناء، يحدها من الجنوب هذا الشارع، ومن الشرق شارع صغير، ومن الشمال شارع آخر، وفي الغرب منزل آخر ذو حديقة.
في ذلك المساء عينه حين كانت نينا عند هرفون درفلت دخلت البارونة مرثا برجن إلى ذلك المنزل، فتلقتها امرأة في نحو الأربعين من العمر ولكنها لم تزل نضيرة الإهاب زاهرة الشباب، وبالغت في الحفاوة بها كاحتفاء المرء بولي نعمته، ودخلت معها إلى غرفة خاصة، فلما جلست البارونة جلست تلك بإزائها ثم سألتها البارونة: أما جاء الفون فرنند فرغتن بعد؟ - لا يا سيدتي، إذا كنت تنتظرينه فلا بد أن يأتي. - أجل أنتظره، ولكن لا أريد أن يكون أحد هنا يا مرغريت. - تعلمين يا سيدتي أن الخادمة تنصرف قبيل العشاء عادة. - وأميليا؟ - أميليا في غرفتها تدرس دروسها.
فابتسمت البارونة قائلة: والفتى الضابط؟ - لا يزال يتحرش بالفتاة تحرشا لطيفا، وسيادتك لا تسمحين لي أن أزجره. - لا، لا أسمح لك أن تزجريه ما دام يعلم أنك تجهلين تحرشه، وما دام تحرشه من بعيد لا يستلفت نظر الفتاة؛ لأني أخاف أن زجره يفضي إلى جلبة أو إلى قيل وقال. وماذا كان من تحرشه؟ - إلى الآن لم يكن شيء خطر سوى أنه يظهر أحيانا من شباك غرفته المقابلة، وأحيانا يقفل الشباك ويفتحه مرارا، وفي بعض الليالي يحرك روافد الشباك ليومض شعاع مصباحه ويختفي على التوالي كأنه يريد بذلك أن يستلفت نظر الفتاة. - عجبا، وأميليا؟ - لا ألاحظ أنها تنتبه لذلك. - هل تراقبينها جيدا؟ - بالطبع. - ألا تظنين أنه يتحرش بالفتاة في ذهابها إلى المدرسة وإيابها منها؟ - ترافقها أنجليك الخادمة في الذهاب والإياب، ولم تقل أنجليك أن أحدا يتأثرهما أو يعترضهما. - أخاف من مكر أنجليك. - بل بالعكس، إن أنجليك مخلصة جدا يا سيدتي، وهي ساذجة لا تعرف المكر. - أخاف أن سذاجتها تعميها عن ملاحظة تحرش الفتى بالفتاة، وربما كانت الفتاة تلعب عليها دورا وهي لا تدري. - لا، لا أعتقد قط أن أميليا تفعل أمرا خفية؛ لأنها عاقلة جدا وتعلم أن ما يفعل خفية إثم. - إذن أنت الساذجة؛ لأنك لا تعلمين أن للصبوة هفوات، لا يقي الصبية منها إلا شديد المراقبة. - إني شديدة المراقبة يا سيدتي وواثقة أن أميليا غير ملتفتة للفتى. - وهل تكررت حركات الفتى الليلية في شباك غرفته؟ - نعم لاحظتها غير مرة. - إذا يجب أن تعلمي أن الفتى لا يكرر هذه الحركات إلا لأنه صادف تشجيعا عليها، متى كانت تبدو حركاته؟ - كانت تبدو عادة بين الساعتين التاسعة والعاشرة، ولكن ليس كل ليلة. - بالطبع لا يبدي هذه الحركات كل ليلة؛ لأنه يكون في بعض الليالي مؤديا وظيفته، فقد علمت أنه من رجال الحرس الإمبراطوري. - إذن ألا تخافين يا سيدتي أن يكون هذا الفتى جاسوسا؟ - ربما كان كذلك؛ ولهذا يجب مراقبته وإنما بكل حذر. الآن الساعة التاسعة والفون فرنند فرغتن لم يأت بعد، فأود أن أراقب حركات هذا الضابط بنفسي، هل تعلم أميليا أني أنا هنا الآن؟ - لا. - إذن لا تدعيها تعلم بوجودي قط، افتحي لها الغرفة المجاورة لغرفتها ولا تضيئيها؛ لأني أود أن أكمن فيها من غير أن تعلم أميليا، يجب ألا يعلم أحد بوجودي في الغرفة. وإذا جاء الفون فرغتن فدعيه ينتظر في هذه القاعة.
وفي الحال دخلت البارونة برجن إلى الغرفة المذكورة وهي لا تزال مظلمة، وجلست لدى الشباك الذي ترى منه شباك الفتى الضابط، وما هي إلا دقائق قليلة حتى رأت النور يومض من خصاص شباك ويختفي، فاشرأبت قليلا حتى صارت ترى النور المعروض من خصائص شباك أميليا يظهر ويختفي أيضا، وكان شعاعه يقع على أشجار الحديقة وينقطع، فقالت في نفسها: إن حذري صائب، فإن الفتى لا يستأنف هذه الحركات كل ليلة بعد أخرى إلا لأن الفتاة تجاوبه عليها.
ثم رأت الفتى قد فتح الشباك على مداه وظهرت قامته فيه، ثم أقفل الشباك وبقي ظله وراءه ظاهرا، وفي الوقت نفسه رأت النور مومضا في شباك الفتاة وقد ظهر منه خيالها ملقى على أرض الحديقة، وظهرت منه حركات إيمائها كأنها تدعو الفتى أن يأتي، فاستهجنت البارونة الأمر جدا واشتد قلقها، ثم رأت أن نور غرفة الفتى قد انطفأ تماما، وتلا انطفاءه انطفاء نور غرفة الفتاة.
ففكرت البارونة هنيهة، ثم أطلت من الشباك في الظلام بكل خفة، فشعرت أن الفتاة جالسة لدى شباكها وكأنها سمعت صوت أنفاسها، فاشتد قلقها وثار دهاؤها، فخرجت من الغرفة بكل خفة وعادت إلى مرغريت وقالت لها أن استدعي الفتاة إلى الغرفة المطلة إلى الشباك واقفليه، واشغليها معك بأي حديث، لا تدعيها تخرج أو تعلم شيئا حتى أقول لك. وعادت البارونة إلى مكمنها، ومرغريت نفذت أمرها بالسرعة والتدقيق، وما هي إلا دقائق حتى شعرت البارونة أن شبحا وثب بخفة من فوق سور الحديقة وغلغل بين أشجارها، فأسرعت ودخلت إلى غرفة الفتاة وهي لا تزال مظلمة، وجلست حيث كانت الفتاة جالسة لدى الشباك، والشباك مفتوح بعض الفتح. وما هي إلا هنيهة حتى شعرت بالشبح قد أصبح تحت الشباك، والشباك لا يعلو عن أرض الحديقة أكثر من قامة إلا قليلا، ثم سمعته يهمس قائلا: أميليا، قبلة من يدك.
فمدت البارونة يدها، وقبل أن يظفر الشبح بها أومأت إليه بها أن يصعد، فقال: أتعنين أن ... أن ...
فهمست بكل خفة قائلة: تصعد، نعم أن تصعد. فهمس: «ألا خوف.» - لا تخف هي نائمة، ألا تقدر أن تصعد؟ - بل أطير.
وفي الحال وضع كفيه على إفريز الشباك فتراجعت البارونة، وفي لحظة كان الشبح صاعدا بقوة ذراعيه حتى صار في الشباك.
فهمست: انزل إلى هنا بكل خفة.
فنزل إلى أرض الغرفة والبارونة أقفلت الشباك بكل لطف، والشبح يهم أن يطوفها وهي تقول: مهلا.
وأفلتت من بين ذراعيه، وفي الحال أضاءت المصباح الكهربائي والتفتت؛ فما كانت دهشتها أقل من دهشة الشخص الذي رأته منتصبا أمامها، وما كان اكفهراره بأشد من اكفهرارها.
بقيا واقفين متجهمين يتراسلان النظرات نحو دقيقة؛ ذلك لأن كلا منهما رأى غير من انتظر.
فهو لم ير الفتاة أميليا، بل رأى البارونة برجن.
وهي لم تر الضابط، بل رأت الفون درفلت.
الفصل الخامس والعشرون
أمواج تتلاطم
البارونة افتتحت الحديث قائلة وهي لا تزال تقطب جبينها مكفهرة: أأنت إذن الذي يسطو على منازل الناس في غلس الليل؟
فقال محملقا: أوأنت إذن هي التي تغازل الشبان من شباكها وتدعوهم للوقوع في شباكها.
فأكمدت البارونة تغيظا وقالت ساخطة: ماذا جئت تفعل هاهنا؟ - بل ماذا جئت أنت تفعلين هاهنا؟ - أما أنا فدخلت من الباب ولم أصعد من الشباك، ولم أفتح لك باب هذا المنزل. - ولكنك أنت فتحت لي شباكه. - أجل، أنا دخلت من الباب، ولم أثب من فوق السور. - أجل، وأنا وثبت من حيث أومأت لي أن أثب. - إنك لكاذب. - لست كاذبا، في هذا الشباك رأيت الإشارة، وفي هذه الغرفة لا أجد سواك. - الآن علمت يا فون درفلت أنك احترفت حرفة الطواف في الشوارع لمداعبة السيدات إذا ظهرن في شبابيكهن، حتى إذا أوخذت بدعابة أولت ظهورهن بإشارات دعابية. - هل تنكرين يا بارونة أنك هامستني وأنا لم أزل تحت هذا الشباك وقلت لي أن أصعد؛ لأن المنزل خال ولا خوف. - لا أنكر أني فعلت، وإنما فعلت لأرى من هو هذا الذي يسطو على بيوت الناس، ودهشت إذ رأيت أنه كاتب سر الإمبراطور الثاني، فيا للعار! - وأنا لا أنكر أني جئت كما تقولين، وإنما جئت لأرى من هذه السيدة التي تغازل المارة وتداعبهم وتدعوهم إلى منزلها، فدهشت إذ رأيت أنها رئيسة وصيفات الإمبراطورة. فيا للشنار!
فاحتدت البارونة أي حدة وقالت ساخطة: هذا محض إفك وبهتان، إني في منزل محترم ليس فيه شيء مما تقول، وأما أنت فلا تقدر أن تعلل طوافك في هذا الشارع وحول هذا المنزل إلا بالتجسس. فيا للخسة! - ربما صح ما تظنين، وما يحملك على هذا الظن إلا أنك لا تقدرين أن تعللي وجودك غير المنتظر في هذا المنزل الذي لا علاقة لك به إلا بأنك تشتغلين في مؤامرة. فيا للخيانة!
فارتجفت البارونة تغيظا وقالت ساخطة: إذن لا تنكر أنك محمول على التجسس على رئيسة وصيفات الإمبراطورة، ومن يتجسس على رئيسة وصيفاتها فكأنه يتجسس على الإمبراطورة نفسها. فيا للدناءة! - لا تكثري من هذا البذاء يا بارونة؛ لأن من يتجسس على رئيسة الوصيفات ليس أدنأ ممن يأتمر على جلالة الإمبراطور.
فكالدت البارونة «تنشق» من شدة الغيظ وقالت: إنك لمحاول أن تبرر تجسسك بهذا الافتراء علي، فما وجودي في غير منزلي أو في غير البلاط برهانا على أني مؤتمرة، ولكن وجودك في الشارع في غلس الليل، ووثوبك فوق سور الحديقة يثبتان أحد أمرين: إما أنك متجسس أو أنك ساط. - لا تحتدي يا بارونة، فإذا كنت أنت غير مؤتمرة فما أنا متجسس ولا ساط، فهل تقولين لي لماذا أنت هنا إذا كنت غير مؤتمرة؟
فتململت البارونة وقالت: لو كنت في موقف تحقيق يا فون درفلت ما كنت أضطر أن أجيب على هذا السؤال. - لا أضطرك إلى أي جواب، وإنما نفي تهمة المؤامرة عنك يضطرك إلى ذلك يا مدام؟ - عجبا! ربما كنت أفعل خيرا هنا؛ فهل أنا مضطرة أن أطنطن بفعلي الخيري لكي أبرر وجودي هنا؟ - لا يدل هذا المنزل على أن سكانه يحتاجون إلى إحسان. - قلت لك إني لست في محكمة الآن حتى أدافع عن نفسي، وأما أنت فمضطر أن تبرر دخولك إلى هذه الغرفة من هذا الشباك في غلس الليل، وإلا فأنت لص.
فضحك الفون درفلت وقال: عفوا يا سيدتي، ما أنا لص وإنما أنا عاشق، والعشق يسوغ أكثر مما عزوته إلي.
فتنهدت البارونة كأن فرجا جاءها من كلمة الفون وقالت: عاشق؟ - نعم. - من تعشق؟ - الفتاة التي هنا. - الفتاة التي هنا لا تقبل عاشقا لا يأتي من الباب. - بل قبلت فتى غيري يأتي من هذا الشباك.
فسخطت البارونة قائلة: صه، هذا إفك وبهتان. - لا يا مدام، لا أظنك كمنت في هذه الغرفة إلا لأنك شعرت أن الضابط الذي يسكن في مقابل هذا المنزل يختلس مقابلة الفتاة عند هذا الشباك. - هب الأمر كما تقول، فما شأنك أنت؟ - إني طالب آخر للفتاة، وها أنا آت من الباب الذي يأتي منه سائر الطلاب، فما شأنك أنت؟ - إني ولية أمر الفتاة، فلا أقبل طالبا يأتي من الشباك. - إذا شئت فآتي من الباب. - لا، لا أشاء. - لا أنتظر أن تشائي؛ ولهذا لا أطلب هذا الطلب منك يا مدام، بل أطلبه من الفتاة نفسها. - الفتاة تحت سن الرشد، فليس في وسعها أن تقبل، بل لها أن ترفض فقط. - إذن أخاطب بهذا الشأن ولية أمرها الحقيقية. - من تعني؟ - أعني مدام مرغريت ميزل صاحبة هذا المنزل، فلا شأن لي معك، إني أريد مقابلتها الآن.
وهم أن يخرج من باب الغرفة، فاعترضت البارونة في طريقه قائلة: إني صاحبة الأمر والنهي في هذا المنزل، ولا أسمح لك إلا بالخروج المطلق منه. - لا أخرج قبل أن أرى صاحبة المنزل، أو إذا أخرجني البوليس من هنا بأمرها.
فاشتد سخط البارونة وقالت: عجبا لهذه القحة! - لست وقحا، بل أنت الوقحة لأنك تتصرفين هنا تصرفا لا حق لك به وأنت غريبة عن هذا المنزل مثلي؛ فلا تقدرين أن تحجيني بشيء، وإنما لصاحبة المنزل وحدها هذا الحق، فاستدعيها إلى هنا. - قلت لك إني أنا صاحبة الحق الأول هنا. - لا أسلم إلا ببرهان، فهل في وسعك أن تقولي لي ما نسبة الفتاة أميليا إليك؟ - لست ملزمة أن أقول شيئا. - هل هي ابنتك؟
فسخطت قائلة: لا شأن لك بهذا البحث. - ابنة من إذا لم تكن ابنتك ولا ابنة مرغريت؟ - من قال لك إنها ليست ابنتها. - إذا كانت ابنتها فما أنت ولية أمرها بوجود أمها؛ ولهذا يجب أن أقابل مرغريت. - لقد تجاوزت قحتك الحد، فهل تخرج بسلام أو أستدعي البوليس؟
عند ذلك سمعا جرس الباب يقرع فقال: أخرج بسلام.
فبغتت البارونة وقالت: مهلا، لن تخرج حتى آذن لك.
ثم خرجت من الغرفة وأقفلت الباب، أما فون درفلت فأجال نظره في الغرفة، فوقعت عينه على صورة فوتوغرافية للفتاة أميليا، فأخذها وأخفاها في جيبه، وما هي إلا لحظة حتى عادت البارونة وقالت له: الآن تخرج.
فقال: لم تريدي أن أرى القادم يا بارونة، إذن لقد صدق حدسي.
فصاحت: ما حدسك؟ إنك لشديد اللؤم.
فابتسم قائلا: قولي ما تشائين يا بارونة، فإني أكثر مما تقولين بعد الذي أصابني من لؤمك. - لك أن تتلاءم ما شئت، فاخرج الآن.
وفتحت له باب الغرفة، ثم قادته إلى باب المنزل حيث خرج، وأقفلت الباب وراءه وهي تصعد أنفاسها وكأن كابوسا ارتفع عن صدرها.
الفصل السادس والعشرون
ثعلبة
وهنا يود القارئ أن يعلم ماذا جرى للفتى الضابط جوزف شندر بعد أن أقفل شباكه ونزل لمقابلة الفتاة خلسة.
ذلك أن فون درفلت ونينا فرست التي انتحلت اسم البارونة ليوتي جاءا إلى شارع فرتن وراقبا حركات الضابط والفتاة من شباكيهما، ولما شعرا أن الفتى الضابط وافى للوثوب إلى الحديقة، اتفقا على أن نينا تشاغل الفتى بأي أسلوب لتشغله ريثما يلعب فون درفلت دوره الذي مر ذكره.
فلذلك تقدمت نينا وتلقته في طريقه قائلة: مهلا يا حضرة الماجور جوزف شندر، تحية وسلاما.
فبغت الفتى إذ رأى سيدة حسناء تعترضه في الطريق وتناديه باسمه، وقال: عفوا يا سيدتي، لا أرى وجهك واضحا في هذا الظلام، فلا تؤاخذيني إذا كنت لا أتذكر من أنت. - لا تستكد ذاكرتك فأنت لا تعرفني. - إذن، إذا كنت أستطيع خدمة لك، فأرجو أن تعودي إلي غدا صباحا؛ لأني الآن في شاغل عاجل.
ورام أن يتجاوزها، فأمسكت به قائلة: مهلا، ما أنا التي في حاجة إليك، بل أنت في حاجة إلي. - لا بأس نتكلم غدا. - بل الآن لأن الأمر عاجل. - الآن أنا مضطر أن أسير في سبيلي، فبالله دعيني يا سيدتي. - لا أدعك؛ لأني لم أعترض لك في هذا المكان وفي هذا الغلس إلا لكي أحذرك. - تحذرينني! مماذا؟ - أحذرك من الذهاب إلى حيث أنت ذاهب. - كيف تدرين يا سيدتي إلى حيث أنا ذاهب؟ - أدري أنك ذاهب إلى هذه الحديقة.
فأجفل جوزف قائلا: من قال لك؟ إنك مخطئة الظن بي؟ - سواء عندي أنكرت أو اعترفت، فعلي أن أحذرك من الخطر الذي في سبيلك هذا. - ما الذي يحملك على تحذيري؟ - لعل الحامل عليه مصلحة مشتركة بيننا. - لا أفهم هذه المصلحة. - إذن اعدل الليلة عن مشروعك هذا، وهلم معي نتفاهم.
فأوجس جوزف وقال: إلى أين؟ - إلى حيث تشاء في غير هذا المكان. - فتردد الفتى ثم قال: كيف تعرفينني يا سيدتي؟ - ستعلم، دعنا الآن نسير في طريقنا إلى حيث تشاء؛ لأن وقوفنا هنا يدعو إلى المظنة. - ولكن ما هو الخطر الذي تحذرينني منه؟ - عجبا لذكي مثلك يسأل هذا السؤال. - لعلك مخطئة؛ إذ لا أرى أن مسيري يؤدي إلى خطر. - ليس الخطر عليك وحدك. - على من أيضا؟ - على الفتاة التي تحاول أن تقابلها خلسة، وربما كان الخطر عليها أشد.
فوجف فؤاد جوزف وقال: أي فتاة؟ - يا لله، ألا تزال تتجاهل علاقتك بالفتاة أميليا التي تقطن في هذا المنزل؟ - عجبا كيف تعرفين ذلك؟ - لا خفي إلا ويظهر. - وما هو الخطر؟ - الخطر شديد قد يقضي بحرمانك رؤية الفتاة بتاتا. - يا لله! وهل تجنب هذا الخطر ينجيني من هذا الحرمان؟ - كذا أؤمل.
فأنس الفتى للسيدة وقال: وهل لك صلة بالفتاة؟ - ربما، والأفضل أن نبرح من مكان الخطر. - إلى أين تذهب؟ - هل تريد أن نذهب إلى حانة هرمن. - نذهب، فما هي ببعيدة، وفي زواياها مختلى لنا.
وفي دقائق قليلة كانا في زاوية منفردة من تلك الحانة، فقال الفتى: ماذا تعرفين عن الفتاة؟ - بل ماذا تعرف عنها أنت؟ - بل قولي أنت. - أقول إنها ليست ابنة المرأة المدعوة مرغريت ميزل التي تقطن معها. - ابنة من إذن؟ - ماذا عرفت أنت عن أبويها؟ - لم أعرف شيئا، فقولي لي ماذا تعرفينه أنت؟ - أعرف أن مرغريت ليست أمها، وإنما هي مربية لها ورقيبة عليها، وما هي بولية أمرها. - إذن من هو ولي أمرها؟ - أناس في البلاط.
فاختلج الفتى وقال: في البلاط! - نعم، والبارونة مرثا برجن تشرف عليهما؛ لهذا أقول لك إن الخطر شديد عليك وعلى الفتاة معا؛ لأن البارونة في المنزل الليلة لأجل المراقبة، ذلك لأن إشاراتكما المتبادلة أصبحت معلومة، ولو سرت في سبيلك الليلة لوقعت في فخ.
فوجف الفتى وقال: لست أخاف. - ألا تخاف على الفتاة التي تحبها؟ - ما ذنبها؟ - ذنبها أنها تخالس فتى مقابلات سرية غير مشروعة؛ فقد أنجيتها الليلة من عقاب هذا الذنب، وأنجيت نفسك من هجرها فينا كلها إلى حيث لا تعود تدري أنت مصيرها.
فتنهد الفتى وقال: إني أشكر لطفك جدا يا سيدتي، إلى الآن لم تعرفيني باسمك الكريم. - وماذا تستفيد من معرفة اسمي إذا قلت لك أني أدعى جوليا هارتمان مثلا؟ - الحق أني لا أعرف جوليا هارتمان. - إذن حسبك أني صديقة ناصحة لك. - أشكرك، قلت أن ثمة مصلحة مشتركة بيننا. ترى ما هي؟ - هي هذه، أنت تحب الفتاة ... - جدا جدا وهي تحبني أيضا. - حسنا، ويهمك قبل التمادي بهذا الحب أن تعرف حقيقة أمرها؟ - نعم، قد يهمني. - بل يهمك جدا أن تعرف كل من كان ذا علاقة بها لئلا تفضي علاقتك بها إلى مشكلة مستحيلة الحل. - كذا كذا. - ويهمك أيضا أن تكون أنت وولي أمر الفتاة على وفاق، وإلا استحال عليك الوصول إلى الفتاة. - بالطبع بالطبع، إن الطريق الموصول إلى الفتاة هو ولية أمرها؛ فهل في وسعك أن توفقيني مع البارونة برجن؟ - هذا يستحيل. - لماذا؟ - لأن مصلحة البارونة تقضي بإقصاء الفتاة عن كل إنسان. - إذن ما العمل؟ - الوسيلة الوحيدة هي رد الفتاة إلى تحت ولاية ولي أمرها الشرعي الحقيقي. - تعنين أن البارونة مختلسة الفتاة اختلاسا. - نعم، وولي أمرها الحقيقي لا يدري أين هي؟ - وهل أنت تعرفينه؟ - أعتقد أني أعرفه، بيد أني لا أقدر أن أقول شيئا قبل أن أتثبت من الحقيقة. فماذا تعرف أنت عن الفتاة؟ - لا أعرف غير الظواهر. - هل اجتمعت بالفتاة؟ - نعم، ولكن فترات قليلة سرا. - أما سألتها عن أمرها؟
فتردد الفتى وقال: لعلها لا تعرف غير الظواهر أيضا. - عليك أن تقول لي كل ما عرفته لكي تسهل لي المشروع الذي اتفقنا عليه . - أي مشروع ؟ - مشروع رد الفتاة إلى ولي أمرها الشرعي. - إلى الآن لم أفهم مصلحتك في كل ذلك يا مدام. - عفوا، لك حق أن تستوثق مني، فما أدراك أن أكون أنا ذات صلة كبيرة بالفتاة؟
فحملق جوزف في المرأة وقال: تعنين ...؟ - لا أقدر بأن أصرح لك الآن أكثر مما صرحت، وإنما أحذرك من التمادي بحب الفتاة قبل أن ينجلي لك كل غامض من أمورها، وإلا وقعت في ورطة حبك وقعة مهلكة. فلكي تنجو من هذه الورطة يجب أن تتفق معي، وأن تقول لي كل ما تعرفه عن الفتاة تسهيلا لعملي بهذا الشأن. - إن ما أعرفه عن الفتاة قليل جدا قد لا يفيدك. - ما هو؟ - هو سر استأمنتني عليه الفتاة. - من مصلحة الفتاة أن تقول لي هذا السر، ولعل في هذا السر مفتاح مشروعنا.
وما زالت تحرجه حتى قال: إن الفتاة لا تعرف نفسها إلا ربيبة دير الراعي الصالح، ومنذ سنتين سلمتها رئيسة الدير إلى مرغريت ميزل، وإنها لا تعلم لها أبا ولا أما، وإنها مسرورة جدا مع مرغريت. - وهل ذكرت لك البارونة برجن؟ - لا، وإنما هي ترى سيدة تزور مرغريت نادرا، ولكنها لا تعرف اسمها، بيد أنها لاحظت أن هذه السيدة تنفق عليهما بسخاء.
فهزت نينا رأسها قائلة: طبعا. أهذا كل ما تعرفه عن الفتاة؟ - لا أعرف أكثر، وإنما حتمت الفتاة علي ألا أبوح بكلمة من ذلك. - لا تخف إني صديقة مخلصة للفتاة وبالتالي لك، فكن مطمئنا، إني أخدمكما خدمة عظمى، وجل ما أطلبه منك أن تكتم حتى عن الفتاة خبر اجتماعنا هذا، وأن تتئد في مقابلة الفتاة وتحاذر ما استطعت لئلا تفسد مشروعنا، وسنجتمع حين أرى اجتماعنا لازما. إلى الملتقى الآن. حاذر أن تذهب الليلة إلى غير منزلك.
أما الفتى فعاد إلى منزله، وأما نينا فاجتمعت بفون درفلت، وقص عليها ما حدث وأراها صورة الفتاة، فتحايلت عليه وأخذتها منه على وعد أن تردها إليه.
الفصل السابع والعشرون
مآزق
في عصر اليوم التالي أذن الإمبراطور فرنز جوزف للبارونة ليوتي أن تمتثل بين يديه بناء على رجاء كاتب سره الثاني فون درفلت؛ لأن الإمبراطور يثق أن هذا الخادم الأمين لا يرجو مولاه في أمر إلا إذا كان واثقا أنه يرضيه.
وكانت البارونة قد استوفت جميع صنوف التبرج تحاميا لأنفة جلالته، فتلقاها راضيا وتناول منها رسالة في يدها قائلا: هذه عريضة منك؟ - بل من أمة مولانا مدام كاترين شراط؟
فأبرقت أسرة الإمبراطور قائلا: من مدام شراط! هل كنت عندها؟ - نعم يا مولاي، إني موفدة من لدنها. - وأنت صديقتها؟ - صديقة مخلصة يا مولاي.
وفض الإمبراطور الرسالة وقرأ في سره:
مولاي صاحب الجلالة الأعظم
إني عبدة مولاي في حالة غضبه ورضاه، وإني مشمولة بآلائه في حالتي العقاب والثواب، بيد أني أحسب كل مكان في الدنيا سجنا لي، واحتباسي في منزلي الخاص في فينا هو حريتي المطلقة. فإذا رام مولاي استتمام عقابي فليأمر بسجني في منزلي بقية حياتي؛ لأني مللت ترهات تريستا، ولا أرى منتزها في العالم يفرج كربي كما يفرجه إيوائي إلى منزلي الصغير في فينا.
وما من قوة تحت السماء تمنع مولاي أن يفعل ما يريد، والأمر له أولا وآخرا.
إن رافعة هذه العريضة إلى أعتاب مولاي صديقة مخلصة وعبدة خاضعة؛ فحبذا أن يتعطف عليها مولاي بإجابة ملتمسها.
العبدة الخاضعة
كاترين شراط
وقد لاحظت نينا أي البارونة ليوتي أن عيني الإمبراطور اغرورقتا وهو يقرأ الرسالة، ثم رفع نظره إليها وقال: متى عرفت كاترين يا بارونة؟ - عرفتها في هذا العام؛ إذ اتفق أن كنا نلتقي في ملعب هيجي ونجتمع في مقصفه، وأخيرا أصبحنا الواحدة عزاء للأخرى. - إذن كاترين غير مسرورة في تريستا؟ - كلا البتة يا مولاي. - كان في إمكانها أن تطوف في إيطاليا وسويسرا. - لا تطيب لها الإقامة إلا في فينا يا مولاي. - وأنت ... ما هو ملتمسك يا بارونة؟ - إن ملتمسي يا مولاي لهو من رئيسة دير الراعي الصالح، فأتوسل إلى جلالتكم أن تأمروها بإجابته. - ما هو ملتمسك منها؟ - إن لي ابنة في الدير أودعت فيه رضيعة، وأود أن آخذها الآن والرئيسة تأباها علي. - عجبا ! لماذا تأباها ؟ - لي أعداء يا مولاي يحملون الرئيسة على دحض بيناتي وبراهيني التي تثبت أن الفتاة ابنتي، مع أن الرئيسة نفسها تعرف حق المعرفة أني أم الفتاة، فقبل الالتجاء إلى المحكمة أود اتخاذ الطرق السلمية، على أن كلمة واحدة من جلالتكم هي فصل الخطاب.
وبعد أن فكر الإمبراطور هنيهة أدار إلى مكتبه وعنون ظرفا باسم رئيسة دير الراعي الصالح، ثم كتب سطرا على ورقة وطواها، وعند ذلك قرع جرس التلفون فوضع الورقة من يده على الظرف وتناول السماعة، ثم أومأ إلى البارونة أن تخرج، فخرجت في الحال إلى البهو الخارجي. أما الحديث الذي دار في التلفون فهو: - من؟ رئيس الوزارة؟ - نعم، هل جلالة الإمبراطور من أتشرف بمخاطبته؟ - أجل، ماذا حدث في مجلس النواب؟ - الحزب الاشتراكي يعيد الكرة يا مولاي. - تبا لهم من مشاغبين، ماذا يريد هؤلاء الأوباش؟ - مسألة الحلي يا مولاي.
فانتفض الإمبراطور وأكمد متغضبا وقال: ما شأن هؤلاء الطغام بها؟ - يجددون طلبها ويشددون فيه. - هل يريدون أن نوزعها عليهم؟ لعنة الله عليهم. - بل يريدون أن يروا الإمبراطورة محلاة بها كلها في حفلة عيد ميلادها غدا.
فاكفهر الإمبراطور وبقي نصف دقيقة ساكتا، ثم قال: من اقترح هذا الاقتراح الوقح؟ - اقترحه متسنرا وفروسن وفرنر وترمي، ويمكنني أن أقول إن جميع أفراد الحزب، وأيدهم كثيرون من الأحزاب الأخرى، كأن الحملة مدبرة من قبل، وهي حملة شديدة جدا. - عجبا عجبا! أما استطاع أحد من المخلصين أن يصمت هؤلاء المشاغبين؟ - إنهم كالذئاب الضارية لا يريدون أن يسمعوا غير كلامهم، ولا يمكن إسكاتهم إلا بالوعد بإجابة مطلبهم، كأنهم لا يثقون أن الحلي موجودة في حوزة جلالتها. وقد حاولنا أن نفهمهم أن البحث في هذا الموضوع في مجلس النواب أمر معيب، فلم يرعووا. - ورأيك؟ - رأيي أنه يحسن بجلالتها أن تتحلى بالحلي غدا لكي يراها جميع المدعوين. - ألا يمكن العدول عن إجابة هذا الطلب لكيلا يطمع هؤلاء المشاغبون بمزيد التداخل بأمور العرش الخصوصية؟ - لا لا، أخاف من سوء العقبى يا مولاي. - أي عقبى؟ - أخاف من شبه ثورة . - والآن؟ - أود أن تأمرني بوعدهم؛ لأنهم لا يستكون إلا على هذا الوعد. - تبا لهم من أشرار، عدهم وسأعلم كيف أؤدب أهل الفتنة.
ثم رد الإمبراطور بوق التلفون إلى مكانه واستلقى على كرسيه والغضب يوري زنادا من عينيه، وبقي يفكر برهة ثم ضغط زرا، فدخل الحاجب، فقال له: استدع في الحال الكولونل هان فرنر.
ثم دار إلى مكتبه وعنون ظرفا باسم مدام كاترين شراط، وكتب على ورقة سطرين، وفيما هو يطوي الورقة نقر الحاجب على الباب ودخل يقول: مولاي الكونت الدر فون كيس يلتمس الامتثال الآن لأمر معجل. - دعه يدخل.
فخرج الحاجب والإمبراطور لا يزال ممسكا بالورقة وهو يقول لنفسه: ماذا يريد هذا النذل الآن؟ لقد قبض راتبه أول أمس، هل يحمل هذا الزنيم مكيدة؟
عند ذلك دخل الدر فون كيس وانحنى ووقف، وأما الإمبراطور فتكلف الهشاشة له وقال: خير إن شاء الله يا كونت. - لا أنال من يدي مولاي إلا الخير. علمت أن كاترين تطلب أن يذهب ابننا من المدرسة رأسا إليها، الأمر الذي لا أحتمله، فأريد أن يكون ابني عندي في الإجازة المدرسية، فأرجو من جلالتكم أن تأمروا أن يبقى ابني عندي.
فابتسم الإمبراطور وقال: لا يكون إلا ما يرضيك يا كونت. - أرجو من جلالتك أمرا يمنع سفر الغلام؛ لأنه سيسافر غدا.
عند ذلك نقر الباب الآخر وأطلت إحدى وصيفات الإمبراطورة وقالت: مولاي، جلالة الملكة تلتمس مقابلة جلالتكم.
فوقف الإمبراطور في الحال مبغوتا، وألقى الورقة التي كانت في يده على الظرف وأومأ إلى الكونت أن يخرج، فتقهقر الكونت يريد الخروج إلى أن بلغ إلى الباب، وكان الإمبراطور قد خرج من الباب الآخر المؤدي إلى البهو الخاص، حيث كانت الإمبراطورة تنتظره. فلما رأى الكونت أن المكان قد خلا له وحده، تقدم بخفة إلى مكتب الإمبراطور وهو يلتفت إلى هنا وهناك، وفحص ما على المكتب بنظره، ثم أمسك ورقة، فرأى تحتها ظرفا معنونا باسم رئيسة دير الراعي الصالح، ثم أمسك الورقة الأخرى وإذا الظرف الذي تحتها معنون باسم زوجته مدام كاترين شراط، ففتحها بيد ترتجف فرقا، ولكنه سمع أو توهم أنه سمع حركة فطواها بسرعة كما كانت من غير أن يقرأها وألقاها على ظرف رئيسة الدير، ثم غطى ظرف مدام شراط بالورقة التي كانت على ظرف رئيسة الدير، فعل ذلك عمدا أو عن ارتباك الله أعلم. بيد أنه فعله بأسرع من لمح البرق وخرج، لم يبق في الغرفة بعد خروج الإمبراطور منها أكثر من نصف دقيقة.
أما الإمبراطور، فلما خرج إلى البهو الخاص رأى الإمبراطورة مستلقية على كرسي مكفهرة، فاضطرب وقال: ما الخبر؟
فناولته ورقة وقالت بصوت خافت: اقرأ.
فقرأ:
إلى جلالة الإمبراطورة التي يحبها الشعب كله، إذا كنت لا تتحلين غدا في حفلة عيد ميلادك بالحلي التي رآها الشعب في ملعب فولكس، فاعلمي أنك تعرضين العرش إلى الخطر، وربما كانت حياة بعض الناس في خطر.
الإمضاء
الشعب
فقرأ الإمبراطور وهو يكفهر وقال: كيف بلغت إليك هذه الرسالة؟ - في البريد كسائر الرسائل العادية. - وماذا تقولين فيها؟ - أقول إني أود إرضاء الشعب. - وهل تجهلين أن هذه الحركة كلها مكيدة من أفراد معلومين؟ - ربما كانت كذلك، على أن الشعب كله أصبح متحركا بمكيدة أو بلا مكيدة، فلا فرق في نتيجة تحركه، فهل تستسهل حركة الشعب. - لا، وغدا تتحلين بالحلي نفسها، وإنما يصعب علي جدا أن أكون مأمورا للشعب بسبب مشاغبة بعض الأشرار. - وأنا يصعب علي ذلك، وإنما الحق علينا لأننا نوجد سببا لمشاغبة المشاغبين. - كفى، لك أن تعودي الآن إلى خدرك مطمئنة، وغدا تكون الحلي عندك.
ثم عاد الإمبراطور إلى غرفة مكتبه الخاص وهو ينتفض من الغيظ، وضغط على الزر فدخل الحاجب، فسأله: هل جاء الكولونل هان فرنر؟ - ها هو يا مولاي؟
ودخل الكولونل فقال له الإمبراطور: تسافر الليلة إلى تريستا وتدفع هذه الرسالة إلى صاحبتها وتعود في الحال.
ووضع الإمبراطور الرسالة التي على الظرف المعنون باسم كاترين شراط في الظرف وختمه ودفعه إلى الكولونل قائلا: الأفضل أن تسافر في أوتوموبيل لكي تصل الليلة. - سمعا وطاعة. - ستستلم علبة ثمينة جدا. - أحرص عيلها قبل حياتي. - غدا يجب أن تكون هذه العلبة هنا. - لا يحول دون ذلك إلا موتي الفجائي يا مولاي.
فابتسم له الإمبراطور قائلا: عمر طويل إن شاء الله.
وخرج الكولونيل ثم استدعى الإمبراطور البارونة ليوتي، فدخلت فقال لها: هذا كتاب إلى رئيسة الدير وهي لا تتردد في تنفيذ طلبك.
وتناول الورقة ووضعها في الظرف المعنون باسم الرئيسة، ودفعه إلى البارونة قائلا: ما هو عنوانك يا بارونة؟ - الفون درفلت يعرفه جيدا يا مولاي. - ربما احتجت إليك لأمر، فأود أن يكون فلت عالما بمكانك دائما. - إني أضحي بحياتي في خدمة مولاي. - بارك الله بك يا بارونة.
ثم خرجت البارونة والرسالة في يدها، وبقي الإمبراطور يفكر فيما فاجأه من الحوادث إلى أن نبهه نقر الحاجب على الباب، فأذن له فدخل قائلا: مولاي إن الكونت الدر فون كيس لا يزال ينتظر أوامرك. - استدعه، خير لهذا النذل أن يموت. لا أدري متى كان هذا الوغد ذا عواطف حتى يتوق إلى ابنه؛ فلا ريب أن وراء الأكمة ما وراءها.
فدخل الكونت وبادره الإمبراطور قائلا: دع ابنك يذهب إلى زيارة أمه الآن، وبعد إسبوع اطلبه منها، فلا بد أن ترسله إليك، كن مطمئنا.
فانحنى الكونت وخرج.
الفصل الثامن والعشرون
النفيس من فم الخسيس
كانت الشمس في المغيب حين وصلت البارونة مرثا برجن إلى منزل مرغريت ميزل وهي على مثل الغضا قلقا، فقالت لمرغريت: أود أن يخلو لي هذا المنزل الليلة يا مرغريت. - هل تريدين أن أغادره الليلة يا سيدتي؟ - كلا، بل يجب أن تبقي هنا، وإنما أود أن يترآى كأنه مقفل عن كل زائر أو طارق إلا من آذن أنا لهم بالدخول. هه جرس الباب يقرع فأظن الطارق الكونت، افتحي وأدخليه إلى القاعة الوسطى، وأما أنت فادخلي إلى مخدعك واقفلي شبابيكها حتى لا ينفذ النور، وكوني على استعداد دائم لتلقي أوامري. مهلا يا مرغريت هل جاءت البارونة ماري فتسيرا اليوم؟ - جاءت نحو العاشرة. - وسمو البرنس رودلف؟ - وسموه أيضا، ولكنه لم يمكث طويلا، وأما البارونة فبقيت حتى الظهر آملة أن سموه يعود فلم يعد. - إذا جاءت ماري فدعيها تنتظر في غرفتك ريثما أفرغ من مهامي، إن مشاغل اليوم تفوق على مشاغل عام يا مرغريت، استقبلي الطارق حالا.
فخرجت مرغريت وبعد دقيقة عادت تقول: هو ذا الكونت الدر فون كيس ينتظرك يا سيدتي.
فنهضت البارونة في الحال ودخلت إلى القاعة الوسطى، وكان الكونت الدر كيس لا يزال واقفا فيها يتمشى، فقالت له باسمة: عسى أن تكون قد نجحت يا كونت. - لا أدري ما الذي تسمينه نجاحا يا حضرة البارونة؟
فضحكت وقالت: أعني هل يبقى ابنك عندك؟
فقهقه الكونت قائلا: أشكر الله أن أناسا يهمهم ابني أكثر مما يهمني. - هل أذن جلالة الإمبراطور ...؟ - بامتثالي؟ طبعا. وقد هش لي وبش كثيرا. - وبالطبع أجاب طلبك؟ - قبل أن يجيب طلبي أشغلته جلالة الإمبراطورة.
فضحكت البارونة وقالت: جلالتها ماذا ابتغت؟ - لا أدري سوى أن وصيفة طلبت جلالته لمقابلتها، فأومأ لي أن أخرج، وما كدت أبلغ إلى الباب حتى كان جلالته قد خرج من باب آخر، ولما رأيت المكان خاليا أجلت نظري في الغرفة فوقع على ورق ملقى على مكتب الإمبراطور، فتقدمت إلى المكتب فوجدت ورقتين مطويتين وملقاتين على ظرفين، فرفعت الأولى فإذا الظرف الذي تحتها معنون باسم رئيسة دير الراعي الصالح ...
فاختلجت البارونة وقالت: وهل قرأت ما في الورقة؟ - لا، لأني أعتقدت أنها لا تهمك، فرفعت الورقة الأخرى؛ فإذا تحتها ظرف معنون باسم كاترين شراط.
فرفجت البارونة وقالت محملقة: لا ريب أنك قرأت هذه الورقة يا كونت؟ - لا لا يا سيدتي، لأني خفت أن يباغتني الإمبراطور وكانت يداي ترتجفان فرقا، فألقيت كل ورقة على ظرف. - كل ورقة على ظرفها طبعا؟ - لا، بل بالعكس، كل ورقة على ظرف الأخرى. - يا لله لماذا فعلت ذلك؟ وما الذي أخطر لك أن تفعله؟ - لا أدري، ولكنني لا أظن أن ذلك يغيظك يا مدام.
فضحكت البارونة مضطربة وقالت: لا أنكر يا حضرة الكونت أنها خدمة ثمينة جدا لم أكن أنتظرها، ولا أدري ماذا قصدت بها، ولكن ألا تظن أن عملك هذا يثير شبهة الإمبراطور فيك؟ - لماذا؟ ألا يحتمل أن يكون الإمبراطور نفسه قد أخطأ هذا الخطأ، لا يمكن أن يشتبه بي؛ لأنه اعتقد أني خرجت من الغرفة قبله، والحقيقة أني لم أجسر أن أبقى فيها بعده أكثر من نصف دقيقة. - ثم ماذا يا كونت، ماذا؟ إن أخبارك لسارة.
فقال متهللا: خرجت وانتظرت في البهو الكبير حيث ينتظر القصاد. - وبالطبع كان غيرك ينتظر أيضا. - أجل كان في البهو سيدة قيل لي أنها تدعى البارونة ليوتي، وفهمت أنها كانت في حضرة الإمبراطور قبلي، وما زالت تنتظر مثلي كأن مهمتها لم تنته بعد. - ثم من كان أيضا؟ - كان آخرون قلما اكترثت بهم، وبقيت أنتظر برهة، وفي خلال ذلك جاء الكولونل هان فرنر أحد الحرس. - الكولونل فرنر؟ ماذا يريد؟ - لا أدري سوى أنه دخل وخرج حالا، ثم طلبت البارونة ليوتي الدخول فمكثت دقائق معدودة، ثم طلبت أنا الدخول فأذن لي ووعدني الإمبراطور أن يعود ابني من عند أمه إذا طلبته بعد إسبوع. - حسنا، ولسوف تطلبه طبعا. - معاذ الله، فإن تريستا أفضل لصحته. - ليتك تطلبه. - والنفقة، إني أكاد أفلس، مع أني قبضت راتبي أول أمس. - عجبا! - لا تعجبي يا بارونة؛ فإن علي ديونا وفيرة، وربما حجز الدائنون على ملابسي.
فضحكت البارونة وقالت: بكم أنت مدين؟ - قولي بألفي كرونن. - هذه أربعة آلاف كرونن، ولا غنى لي عنك يا كونت، وما هي بقية أخبارك؟ - ربما أتيتك بمزيد منها غدا يا بارونة.
ثم تناول الكونت المبلغ وانحنى قائلا: إني تحت أمرك يا بارونة. وخرج.
الفصل التاسع والعشرون
اختلاس السلاح
أما البارونة فخرجت على الأثر، وركبت توا إلى دير الراعي الصالح وطلبت مقابلة الرئيسة، أما هذه فلما علمت بقدوم البارونة برجن بغتت وارتبكت؛ لأنها تعلم أن البارونة لا تأتي على غير انتظار إلا لأمر خطير، فأسرعت وفتحت البهو. فأوعزت البارونة أنها تريد أن تقابلها مقابلة خاصة، فاستقبلتها الرئيسة في غرفتها الخاصة وهي قلقة. وأما البارونة فكانت باسمة باشة كأنها لا تضمر شيئا، فسألتها الرئيسة عن سلامة الإمبراطورة قائلة: أرجو أن تكون جلالتها في سلامة تامة يا سيدتي البارونة؟ - إنها بخير وسلامة والحمد لله، ولطالما ذكرتك بالخير يا حضرة الأم خرستينا المحترمة. - ليتني كنت خليقة بانعطاف جلالتها. - إن جلالتها واثقة بإخلاصك يا حضرة الأم المحترمة، ومتي وثقت جلالتها بشخص مخلص لا تزعزع ثقتها فيما بعد، وإذا شملت جلالتها شخصا بنعمتها والت عليه النعم، وأنت تعلمين أن جلالتها ... - إني عالمة يا سيدتي البارونة أني لولا نعم جلالتها لكنت لغوا في هذا الدير ونسيا منسيا في الرهبنة كلها، فحبذا أن يكون في وسعي أن أخدم مولاتي خدمة تليق بعبدة مخلصة ممتعة بنعم مولاتها. - في كل حين تقدرين أن تخدمي جلالتها يا حضرة الأم خرستينا، فجلالتها لا غنى لها عن خدم رعاياها، ولا سيما المخلصين المختصين بتعطفاتها. - هل أستطيع أن أخدمها الآن خدمة؟ - ربما استطعت، فلا أدري. وإنما لك أن تترقبي الفرص المناسبة.
ولم يخف على الرئيسة أن وراء حديث البارونة ما وراءه، فقالت: حبذا لو كانت سيدتي البارونة تتفضل بأن ترشدني إلى هذه الفرص إذا غفلت عنها أو خفيت علي.
فتبسمت البارونة وقالت: الأمر بسيط، مثال ذلك أن تطلعي جلالتها على فحوى الخطاب الذي ورد لك اليوم.
فبغتت الرئيسة وقالت: أي خطاب يا سيدتي؟ - خطاب من جلالة الملك. - من جلالته؟ لم يرد لي خطاب يا سيدتي، ولو ورد لي لأطلعت حضرتك عليه حال تشريفك. - إذن لا بد أن يرد إليك الليلة، فهل تخلصين في قولك أنك تطلعينني عليه لكي أنقل فحواه إلى جلالتها؟ - لا أظنك ترتابين يا مولاتي في أن أطلعك على الخطاب إذا كان فيه ما يهم جلالتها، ولو أفضى الأمر إلى التضحية بحياتي. - لا بد من اطلاعي عليه على كل حال يا حضرة الأم.
فترددت الرئيسة قائلة: إذا علمت أن الاطلاع عليه يهمك فلا أتردد.
عند ذلك نقرت راهبة على الباب، فخرجت الرئيسة وهي تقول: لعل الأمر ما تتوقعين يا حضرة البارونة.
وبعد دقيقة عادت تقول: لا أرى بدا من اطلاعك على هذه الرسالة الإمبراطورية يا سيدتي البارونة؛ لأني لم أفهم مغزاها، فلعلك أعلم مني باصطلاحات البلاط.
فحملقت البارونة واضطربت مقلتاها في وقبيهما وقالت: لهذا جئت يا حضرة الأم؛ أدركت أنك لا تفهمين الرسالة.
وتناولت الرسالة منها وقرأت:
مدام، حال وصول هذا الأمر إليك سلمي ناقله جميع الحلي التي عندك، وانتظري أوامر أخرى بلا قلق.
الإمبراطور
ثم قالت: من أتى بهذه الرسالة يا سيدتي؟ - أتت بها سيدة أنيقة لبقة تقول أنها تدعى البارونة ليوتي. - وماذا قلت لها؟ - لم أفه ولا كلمة حتى الآن؛ لأني وددت أن تطلعي على الرسالة قبل أن أجول في حديث مع هذه السيدة، ولا سيما لأني لا أفهم معنى لهذه الرسالة، كأنها موجهة لشخص آخر غيري. فهل فهمت شيئا يا بارونة، إني متحيرة ومرتبكة. - ربما فهمت، وإنما إذا فعلت كما أدربك وقيتك من مغبة الارتباك. فعودي إلى السيدة البارونة واسأليها ماذا تريد هي أو ما هي مهمتها؟ ولكن إياك أن تدعيها تفهم مضمون الرسالة أو أن تعلم أنك لم تفهمي مضمونها، وسأكون على مقربة منك في الغرفة المجاورة بحيث أسمع الحديث ولا تراني تلك السيدة ولا تشعر بوجود أحد، فمتى سمعت مني حركة خفيفة اقتصري الحديث واقصريه واستمهليها، وعودي إلي فأرشدك إلى ماذا تفعلين. حاذري أن تشعر أنك لم تفهمي مضمون الرسالة، والغرض أن تستخرجي منها ما تستطيعين عن قصدها بنقل هذه الرسالة إليك.
وذهبت الرئيسة إلى البهو ملبية أمر البارونة وقالت للرسولة: إني مستعدة لخدمتك يا حضرة البارونة، فماذا تريدين؟
فقالت البارونة ليوتي: أريد أن تنفذي أمر جلالته.
فارتبكت الرئيسة وترددت ثم قالت: إن أمر جلالته مقدس وطاعته فضيلة، فماذا تريدين؟ - يلوح لي أن جلالته لم يعين الأمر ولا صرح به. - أجل، إذا كنت حضرتك تشرحين أمره تسهلين علي طاعته يا سيدتي.
فترددت البارونة ثم قالت: لا بد أنك يا حضرة الرئيسة الموقرة تتذكرين أن سيدة نبيلة جاءتك منذ 13 عاما تقريبا بطفلة لم تتجاوز العام عمرا.
فاختلجت الرئيسة وقالت مترددة: مثل هذا الحادث كثير عندي يا مدام، فلا أدري أي طفلة تعنين. - أعني الطفلة التي جاءتك بها البارونة مرثا برجن.
فاختلجت الرئيسة وقالت مترددة: أجل أذكر ذلك. - حسنا إن أمر جلالته يقضي بأن تخبريني عن مصير هذه الطفلة.
عند ذلك سمعت الرئيسة نقرا على الباب فقالت: عفوا يا حضرة البارونة، لعل أمرا عاجلا يقضي بأن أستمهلك لحظة وأعود.
وخرجت الرئيسة والتقت بالبارونة برجن، فقالت هذه لها: هل فهمت؟ - فهمت أنها تطلب أميليا. - إذن عودي إليها وعديها أن تقدمي لها جميع المعلومات اللازمة غدا، واختصري الحديث معها جدا.
فخرجت الرئيسة إلى البارونة ليوتي، وأكدت لها أنها ستقدم لها جميع المعلومات عن الفتاة في الغد.
فشكرت لها البارونة ليوتي لطفها وخرجت.
ثم عادت الرئيسة إلى البارونة برجن قائلة: ويلاه! ماذا أفعل يا سيدتي البارونة متى جاءت هذه المرأة غدا؟ - لا تقلقي ولا تخافي، سأخبرك غدا ماذا تفعلين. - إني أخاف غضب جلالته إذا عصيت أمره. - إن جلالته لا يأمر بشيء مما قالته هذه الفاجرة الأفاكة. - إذن عرفت من هي؟ - أجل، عرفتها داهية منافقة، وقد كانت تنتحل اسم الكونتس ألما فورتن، على أني لا أدري لماذا تبحث عن الفتاة أميليا؟ ترى هل هي خالتها تريد أن تنفذ وصية سرية لأختها. إن أمر هذه المرأة يثير الظنون، على كل حال لا تهتمي بشأنها. - ولكن ما رأيك بهذه الرسالة؟ - رأيي أن آخذها. - ويلاه! وماذا أقول لجلالته إذا سألني عن عدم طاعتي لأمره. - هل عندك حلي؟ - لا، ولا علم لي بحلي قط، ولا أفهم ماذا يعني جلالته بهذا الأمر. - فإذا سئلت تقولين أنك سلمت الرسالة إلى البارونة مرثا برجن لكي تستفهم من جلالته عن معنى أمره هذا. - حسنا، ولكن ربما غضب جلالته لأني لم أستفهم بنفسي، أو لأني لم أرد الرسالة مع رسولته مستفهمة عن مغزاها. - إني أتلافى غضبه بسهولة؛ إذ لا يليق أن تطلع واحدة غريبة عن البلاط على أوامره المختومة، ولا سيما لأنه ظهر لك أن هذه السيدة تطلب شيئا لم يأمر جلالته به، فكأنها غير عالمة بمضمون الأمر. وأما استفهامك أنت عن معنى الأمر، فلا يمكن أن يكون إلا بواسطة من هو في البلاط، ومن هو أليق مني بذلك؟ فإذا أجبت عن أسئلة جلالته بمثل هذا المعنى ثبتت له سلامة نيتك وبقيت بريئة من كل ذنب، وإذا كان ثمة من لوم فعلي يقع، وأنا أعرف كيف أدفعه. - حسنا، وماذا أقول لهذه السيدة متى جاءت غدا؟ - تقولين لها إنك راجعت جلالته بتفاصيل هذا الأمر الذي تبحث عنه، ومتى عاد أمره النهائي تنفذيه. - إذن إني ... - إنك خالية من كل مسئولية، والمسئولية علي وحدي، فلا تخافي. وإنما أطلب منك أن تكتمي هذا الحديث الذي دار بيننا إلى أن يرد أمر باستجوابك من جلالة الإمبراطور، وإني لمؤكدة أن جلالته لن يسألك قبل الغد.
ثم صافحتها البارونة شاكرة، وخرجت فرحة بالكنز الذي في يدها.
الفصل الثلاثون
عمى الحب
عادت البارونة برجن توا إلى منزل مرغريت ميزل، فوجدت فرنند فون فرغتن (زعيم الحزب الاشتراكي في مجلس النواب) ينتظرها، فقالت له: ما وراءك يا حضرة فون فرغتن؟
فقال متهللا: هل أعجبتك ضجة اليوم يا مدام؟ - جدا جدا، ولكن يلوح لي أن الإمبراطور أوفد رسولا إلى تريستا للإتيان بالحلي من عند كاترين شراط لكي تتحلى الإمبراطورة بها غدا في الحفلة. - حسنا، وماذا ننتظر غير ذلك؟ - ننتظر أن الحلي تعود بعد غد إلى كاترين شراط. - عجبا! أليس في وسع الإمبراطورة أن تحتفظ بها؟ - قد لا تستطيع. - إذا كانت الإمبراطورة ضعيفة عن حفظ حقوقها التي يحصلها لها الشعب، فخير لها أن ... - صه، الإمبراطورة مسالمة والإمبراطور عنيد كما تعلم، وأنا أود أن أحرم كاترين شراط من الحلي حرمانا أبديا. - حسنا، كيف يمكنني ذلك والإمبراطورة ... - يمكن إذا كنت تضع تحت أمري الآن رجلا مخلصا قويا فطنا يطيعني الطاعة العمياء، وأنا أكون مسئولة عن تنفيذه أوامري؛ فهل عندك هذا الرجل؟
ففكر فرنند فرغتن برهة ثم قال: ماذا تطلبين منه أن يفعل؟ - أطلب منه أن يفعل كل شيء يجوز أن يطلب منه أن يفعله، حتى السرقة، وحتى قطع الطرق، وإذا سار بحسب تعليماتي يغلب أن ينجح. - إذن تريدين بطلا مجربا. - نعم، فهل عندك هذا البطل؟ - أجده الليلة. - تجده في ساعة أو ساعتين؟ - أعتقد أني أجده. - هل أعتمد عليك؟ - اعتمدي. - إذن أنتظرك هنا، فاعجل ما استطعت.
وما مر على خروج فرغتن دقيقتان حتى نبه البارونة برجن من بحرانها صوت كأنه قرع، صوت عند باب المنزل، تلاه سباب وشتم فأطلت البارونة من شباك مظلم، فإذا اثنان يتصارعان الواحد يريد أن يفلت والآخر ممسك بتلابيبه وهو يكيل له اللطمة على خديه إثر اللطمة، إلى أن أفلت ذاك منه وأسرع مهرولا وهو يقول له: «يا جبان، يا لص، يا نذل.» فهمست البارونة من فوقه قائلة: من هذا يا أيها البطل؟ - هذا لص أو جاسوس لا أدري، وإنما رأيته يتلصص حول هذا المنزل حينا بعد آخر. - وأنت أين تكون حتى تراه؟ - إني مقيم في هذا المنزل المقابل لمنزلكم، فلا أدخل ولا أخرج إلا أرى هذا اللص يحوم حول منزلكم، فلم أطق نذالة كهذه فعاقبته على خسته. - عافاك الله يا بطل يا شريف، هل تتفضل أن تدخل فنشكر لك مروءتك. - إني يا سيدتي قد فعلت الواجب على كل ذي كرامة، فإذا أذنت لي بالدخول لكي أثبت لك إخلاصي في حراسة هذا المنزل أكون شاكرا. - على الرحب والسعة.
ثم أسرعت وفتحت الباب، فدخل وأوصدت وراءه ودخلت به إلى الغرفة الوسطى وهو خافق الفؤاد لا يصدق إن كان هذا القبول تعطفا أو شركا؛ بيد أنه لم يبال بالنتيجة مهما كانت إذا كان هذا المدخل يؤدي إلى صلته بالحبيبة، ولو كانت صلة وقتية.
ولما أصبح في البهو الساطع الضياء الأنيق الرياش، لم يشك أنه في حضرة البارونة برجن؛ إذ علم من السيدة التي اجتمع بها في حانة هرمن أنها هي المسيطرة على هذا المنزل، ولما استقر بها المقام قالت له: هل عرفت حضرتك هذا الشخص الدنيء الذي كان يتلصص هنا؟ - أعرفه بالوجه فقط. - وهل دريت لماذا يتلصص؟ - لا أدري، لعله خبيث القصد غير شريفه، أو كسائر الفتيان الأدنياء الذين يضاجرون الأوانس والعقائل بأساليب غير شريفة.
وكانت البارونة تبالغ في الهشاشة له والبشاشة، فقالت : وما الذي نبه جنابك إلى تلصصه؟ - تكرار هذا التلصص. - إني يا حضرة الفاضل لممتنة للطفك شديد الامتنان، وأتمنى أن تشرفني بمعرفة جنابك.
فازمهر الفتى قليلا وقال: أدعى يا سيدتي الماجور جوزف شندر. - الماجور جوزف شندر؟ أهلا وسهلا، لقد روت لي مدام ميزل لطفك العظيم ليلة رافقتها والآنسة أميليا من ملعب فولكس إلى هنا، ولطالما تقت للقائك لكي أشكر لك هذه المنة.
فخفق فؤاد جوزف لهذا الحديث المطرب وقال: لقد كنت أسعد حظا في تلك الليلة من جميع ليالي حياتي يا سيدتي، ولطالما تمنيت أن يكون لي مثلها.
فابتسمت البارونة وقالت: إن سكوتنا عن شكرك كنود، وإننا نحمد الله لأنه قيض لنا هذه الفرصة السعيدة لبث امتناننا لك، يجب على مدام ميزل وعلى أميليا أن يعربا عن شكرهما بنفسهما لك.
ثم نهضت البارونة واستدعت المرأتين قائلة: لا ريب أنه يسركما يا مرغريت ويا أميليا أن تشكرا لحضرة الماجور جوزف شندر فضله في حراستكما ليلة مجيئكما من الملعب، وقد أضاف إلى فضله فضلا آخر بأن طرد من حول منزلكما دخيلا دنيئا كان يتلصص حوله الليلة.
فدخلت المرأتان وصافحتا الماجور وأميليا تزمهر تارة وتمتقع أخرى، وقلب الماجور يخفق بين مهاب الهوى، وجرى بين الأربعة حديث لم يخرج عن حد المجاملة والملاطفة. وبعد نحو ربع ساعة أومأت البارونة من طرف خفي إلى الفتاة والمرأة أن تخرجا، فانسلت الواحدة بعد الأخرى والماجور ينتظر عودتهما؛ لأنه لم يشعر بإيماء البارونة، ولما خرجتا قالت البارونة: إن أميليا حيية وخجول جدا، فاعذرها إذا كانت قد قصرت في الإعراب عن امتنانها، على أنها شاعرة بلطفك. - إنك يا سيدتي تبالغين في تقدير الواجب الذي عملته، حتى صرت أشعر أني كنت فضوليا في عمله، وكدت أحسب وجودي الآن هنا تطفلا. - عفوك، لست أعني إلا ما يخامر نفسي من واجب الاعتراف بفضلك والافتخار بصداقتك والسرور بتشريفك، واعلم أن هذا المنزل الذي تحرسه متبرعا لهو كمنزلك، ولك أن تتفقده حين تشاء، وإذا لم تجد من مدام ميزل ومن أميليا على الخصوص الإكرام اللائق بك، حق لك أن تتهمهما بالكنود والجحود.
فنبض فؤاد الماجور عند ذكر أميليا نبضة كادت البارونة تسمعها وقال: إنك يا مدام تحققين لي الآن حلما طالما حلمته في اليقظة والمنام على حد سواء، وأنا أعد تحقيقه بعيدا عني بعد الملائكة عن البشر.
فبالغت في الابتسام قائلة: إنك لمخطئ يا سيدي؛ فإن الملائكة مخلوقون لكي يختلطوا بالبشر، ولهذا يقال إن لكل إنسان ملاكا يقترب منه دائما إذا كان يسترضيه.
فقال الماجور متهللا: رحماك يا سيدتي، هل يمكن أن يكون ملاكي قريبا مني؟ - الأمر في يدك يا سيدي. - يا سيدتي، إذا كان الأمر في يدي فأنا أعبد ملاكي. - وملاكك لا يحتجب عنك. - إني جندي يا مدام لا أحسن الشعر، واستسهل الصراحة دون التوريات. - ليس ما يمنعك من التصريح يا ماجور. - أظن حضرتك مهيمنة على هذا المنزل. - نعم، ومسئولة عنه أيضا. - أمام من؟ - أمام سلطة أعلى.
فانكمش الماجور قليلا ووجف فؤاده وقال: يا مولاتي، إن ملاكي في هذا المنزل، وإني ضارع على الدوام، فإن كان يحتجب عني ظلمني المهيمنون عليه.
فتبسمت البارونة ملء التبسم وقالت: إن المهيمنين يتحاشون جدا إن يظلموا من لا يسيء إليهم. - وإذا كان متطلب رضاهم يخضع لهم خضوع العبد لمولاه؟ - لا يضيعون ثوابه. - حسنا، لقد عرفت يا سيدتي المهيمنة المباشرة، وإني متشرف في طاعتها، فهل يمكن أن أعلم المهيمن الأعلى لكي أعلم أيضا لمن أنا مدين بالطاعة والخضوع؟
فأجابت البارونة على الفور: جلالة الإمبراطورة.
فأجفل الماجور واضطرب وامتقع وقال: جلالتها؟ - نعم جلالتها، وهيمنتها سر مكتوم، فإباحته لك تؤيد عظيم ثقتي في شرفك يا ماجور. - إني عبد جلالتها قبل كل شيء، وإذا كنت أضحي بحياتي لأجل جلالتها؛ فلا بدع أن أكتم سرها حتى الموت. وهل تظنين أن جلالتها ترضى بي حارسا أمينا لهذا المنزل؟ - إذا وصفت لجلالتها ما تفعله لأجلها من الخدم الدالة على عبوديتك المخلصة، فلا أظنها ألا تكون راضية، وجلالتها مشهورة بمعرفة الجميل. - بربك ترشيدنني إلى الخدم التي أبرهن فيها على عبوديتي لجلالتها. - لا أبخل عليك بهذا الإرشاد . - شكرا لك يا مدام، هل تسمحين لي بسؤال؟ - سل. - هل يمكن أن أعلم نسبة الآنسة أميليا إلى جلالتها؟ - نسبة المحسن إلى المحسن إليه.
ففكر الماجور هنيهة ثم قال: إذن ليس في علاقة الآنسة بجلالتها ما يحول دون ...
وتوقف الماجور عن الكلام، فقالت البارونة كأنها فهمت مراده: لا أظن، ومهما كانت هذه العلاقة فجلالتها لا تدع حجابا يحجب خدامها الأمناء عنها. - إذن قد يمكن أن أكتسب رضى جلالتها كما اكتسبت رضاك. - كذا أثق. - إذن حبذا أن ترشيدنني إلى الخدم الجلى التي أكتسب بها رضى جلالتها. - وعدتك بأني لا أبخل بهذا الإرشاد، ووعد الحر دين. - ترى هل يمكن أن تفعلي الآن؟
فتلمظت البارونة لعابها وقالت: يمكن، ولكنني لا أدري إن كنت تستطيع أن تقوم بالخدمة التي تحتاج إليها جلالتها الليلة؟
فأبرقت أسرة الماجور وقال: الليلة؟ - نعم، الليلة، جلالتها تحتاج إلى خدمة شجاع أمين. - إني هو العبد الأمين يا سيدتي. - ولكن ... - حبذا أن تخبريني ماهية هذه الخدمة. - لا أقدر أن أخبرك عنها قبل أن أثق بأنك أهل لها. - أعتقد أني أهل لكل شيء يستلزم شجاعة وأمانة يا مدام. - هل تقدر أن تسافر الليلة كل الليل؟ - ما أسهل ذلك! - وهل تقدر أن تدفع من يهاجمك؟ - إني جندي مخلوق للحرب يا مدام. - حسنا، وهل تحسن الحيلة إذا اقتضت. - الموقف الحرج يفتق الحيلة يا مدام. - ربما تعرضت لخطر ما. - لا أعد خطرا إلا غضب جلالة الإمبراطورة. - إذن هل أنت مستعد الآن للقيام بهذه الخدمة العظمى؟ - مستعد. - اعلم يا ماجور، إذا نجحت بهذه الخدمة تحققت كل أحلامك. - بربك أنت تأمرين وأنا البرق سرعة في الائتمار. - حسنا، اسمع إذن، هذا أمر من جلالة الملك نفسه إلى كاترين شراط يقضي بأن تسلم هذه المرأة الحلي التي عندنا لناقل هذا الأمر، فهل تريد أن تكون ناقل هذا الأمر؟
وأخذت من جيبها أمر الملك الذي أخذته من رئيسة الدير ودفعته إليه.
فتأمله الماجور مبهوتا وقال: إني أرى المهمة أسهل جدا مما هولت يا مدام. - ربما كانت سهلة جدا، ولكن قد يعرض ما يصعبها . - ماذا؟ - قد تجد مسابقين لأخذ هذه الحلي من كاترين شراط. - وأمر الإمبراطور الذي في يدي؟ - قد يطرأ نقيض له. - إذن؟ - عليك بالإسراع حتى تكون السابق. - أطير في الأوتوموبيل. - حسنا، وقد تصادف من يحاول اختلاس الأمر أو الحلي منك. - أحرص عليها حرص الكلب على الدار. - قد تجد من يغتصبها منك. - لا أترك شيئا قبل أن تترك روحي جسدي. - قد يهاجمك رهط من المغتصبين. - أحتال لكي أفر منهم إذا لم أنجح في الابتعاد عن طريقهم. - قد تؤخذ الحلي منك. - أقاتل أو أتحايل حتى أستردها. - قد تأباها عليك كاترين شراط. - هل تعصي أمر جلالته؟ - ربما عدت الأمر مزورا. - أقنعها بأني استلمته من يد الإمبراطور. - بورك فيك ... وإن الإمبراطورة لا علم لها بهذا الأمر، وإنك لا تعرف من في هذا المنزل.
فقال باسما: وإني لم أجتمع قط بالبارونة برجن، ولا ... ولا ... - حسنا جدا، لقد سبقك في هذه المهمة الكولونل هان فرنر، فهل تعرفه؟ - أعرفه، ولكنه لا يعرفني على الأرجح أو لا يتذكرني جيدا. - إذ سبقك فقد لا يظفر بطائل؛ لأنه لا يحمل الأمر، وهو يظن أنه يحمله ولا يدري مضمون الأمر. - إذن أكون الظافر على كل حال. - كلا، قد يكون سبقه لك سببا في استرداد الأمر منك، أو في نشوء الشك في صحة الأمر الذي في يدك. - إذن أسرع حتى أسبقه. - وإن سبقك؟ - لا أدري، بيد أني أسطو على الحلي أينما كانت وأغتصبها، لا أعود إلا بالحلي. - حسنا، وإلى أين تعود بها؟ - إلى هنا. - إذن بعد ربع ساعة يكون أوتوموبيل فخم تحت أمرك. - مهلا مولاتي! لعل هذه الحلي هي التي ... - نعم، هي التي ضج بها مجلس النواب اليوم كما ضج من مدة. - فهمت، فهمت، وقد قرأت تلميح الصحف هذا المساء. - لله من ذكائك! انتظرني إذن حتى أعود.
ثم دخلت البارونة إلى غرفة مدام ميزل، وهمست في أذنها بعض الكلام وخرجت.
الفصل الحادي والثلاثون
وقعة ويا لها من وقعة
أما مدام ميزل، فدخلت إلى البهو وقالت: لا بد أن تأخذ كأسا من الشاي وقطعا من الكعك معنا. - أشكر لطفك جدا يا مدام. - إني أعد الشاي وأميليا تؤانسك في أثناء ذلك، فهل تترك قاعة الرسميات وتشرف مجلس أميليا.
فخفق فؤاد الماجور وقال: إذا كان هذا أمرك يا سيدتي، فما أشهى طاعته!
وفي الحال غلغلت مدام ميزل في المطبخ ودخل الماجور إلى غرفة أميليا، فرآها واقفة وقد توردت وجنتاها وسطعت من شفتيها ابتسامات نورانية لا تطفأ؛ فتقدم إليها قائلا: بربك هاتي يدك لكي ألمسها وأتأكد أني لست في حلم.
وتناول يدها وطبع عليها قبلة إن محيت عن معصمها فلا يمحى أثرها في فؤادها، وكانت تجاذب كفها من كفه وهي تقول: ويحك، هل أنت ساحر؟ - بل أنا مسحور. - لا أفهم كيف دخلت. - إلى المنزل؟ - بل في عقل البارونة وهي أحرص علي من رئيسة الدير. - لا أدري، ماذا لاحظت من أمر البارونة؟ - فهمت أنها معجبة بك شديد الإعجاب. - وأنا أعبدها لأجلك، ماذا قالت لك عني؟ - قالت إنك الفتى الذي تبتغيه. - لماذا تبتغيه؟ - لحراسة من في هذه الدار. - إني الكلب الأمين، وأنت ماذا تقولين؟
فامتقعت الفتاة وقالت: وأنا الطير المطمئن. - أخاف أن يكون عمر هذه النعمة قصيرا يا أميليا. - وأنا أخاف أن أنقل إلى قفص آخر يا جوزف. - ولكن البارونة وعدت وقالت إن وعد الحر دين. - ويحك، بماذا وعدت. - وعدت بأن آتي إلى هذا القفص حين أشاء. - يا لله إني مدهوشة مما تقول! لأن عهدي بالبارونة أن تحرم مرور النسيم في محضري إذا كان ينقل خبري، فكيف لعبت في عقلها؟ - لا أعتقد أني لعبت في عقلها، بل هي لعبت في عقلي. - كيف ذلك؟ - لا أفهم إني مخبول، لا أدري إلا أنها فتحت لقلبي صدرها كما فتحت لجسمي دارها. - فتحت لك صدرها! - أجل، أمنتني على سر خطير. - يا لله! ما هو؟ - سر وتسأليني ما هو؟ - إذن في نفسك أمور أقرب لقلبك مني؟ - حاشا يا أميليا، وإنما أخاف أن أخسر قربك إذا أفلت سر البارونة. - إذن السر مختص بي؟ - لا، وإنما حفظه شرط لحصولي على هذه النعمة. - أية نعمة؟ - نعمة لقائك. - ويحك أشغلت بالي، أكاد أثق في إخلاص البارونة لك. - لا أدري، أخاف ... - عجبا! لو علمت السر لاستطعت أن أحكم في قيمة وعد البارونة، ولكن لا، لا تقله إذا كان حفظه شرطا، ترى من يهم هذا السر؟ - لا أكتم عنك أنه يهم جلالة الإمبراطورة. - جلالة الإمبراطورة! - أجل، ولأجلها أنا مسافر في مهمة خطيرة الآن. - إلى أين؟ - عفوك لا تسألي. - إذا كانت مهمتك خدمة للإمبراطورة فثق بوعد البارونة إذن، ولكني أعتقد أن في المهمة ما يخصني. - ما الذي يحملك على هذا الاعتقاد يا أميليا؟ - هو التفات سمو البرنس رودلف إلي في هذه الأيام.
فأجفل جوزف وقال: الله! ماذا تقولين؟ - أقول إن سموه يتردد كثيرا في هذه الأثناء إلينا ويطلب امتثالي لديه، ويلاطفني ويداعبني في دروسي ويحزرني في علومي. وهو كما لا يخفى عليك محب للعلم والأدب ومتضلع فيهما. - أجل، ولكن لماذا يتردد سموه إلى هنا؟ - لا أدري، وإنما تردده واهتمام البارونة بأمري ولا سيما في الآونة الأخيرة، حملاني على الظن أن هناك حركة بشأني لا أفهم ما هي. - وهل تظنينها حركة سيئة. - لا لا، بل بالعكس أشعر أنها حركة سارة لولا ما فيها من الغموض، ولا سيما غموض المستقبل. - ويلتاه! أخاف أن تؤدي هذه الحركة إلى بعادك عني.
فوجفت الفتاة وقالت: معاذ الله، ولكن آه، لا أدري، كل شيء ممكن في هذه الدنيا. - إذن ما العمل؟ - ويحك لا أدري، إني كالسابح في الأوقيانوس العظيم لا يدري أي الشواطئ أقرب إليه. - إن أمرك لعجيب، ألا تدرين ما هي علاقتك بالإمبراطورة؟ - بالإمبراطورة؟ - نعم. - لا أدري أن لي علاقة بها. - البارونة تقول أن جلالتها المهيمن الأول عليك. - ويلاه لا أدري شيئا من ذلك، ولا أعلم بمسيطر علي قبل البارونة وبعدها. - عجبا إنك لا تدرين شيئا عن نسبك. - إني متألمة لجهلي هذا السر، وليس في وسعي البحث عنه، إني كالعصفور السجين في القفص.
فقال جوزف باسما في إبان انشغاله بالحديث: ولا ذنب لهذا العصفور إلا جماله وتغريده.
فتوردت قائلة: آه، بئس المحاسن إذا كانت علة لاسترقاق ذويها . - عجبا أن تشكي يا أميليا ونعم الإمبراطورة تحف بك. - لست أشكو إلا من غموض أمري الذي أشعرني بأن عناية البارونة بي قيد لحريتي، ولا سبيل لي وأنا في قيدي هذا إلى كشف الستار عن تاريخ حياتي الأولى، لم أع إلا وأنا في الدير ثم انتقلت من الدير إلى دير أضيق دائرة وإن كان أجمل زخرفا وأنفس رياشا. - عجبا ورئيسة الدير لم تقل لك شيئا عن ذويك؟ - لم تقل ولا تقول.
عند ذلك سمعا مدام ميزل تدعوهما لتناول الشاي في المائدة، فقالت أميليا: ها نحن وافيناك.
وقال جوزف: إني مبارح في هذه الساعة على أمل أن أعود إليك غدا، فهاتي قبلة من يدك أتزود بها حياة إلى الغد.
وتناول كفها وقبلها قبلة طويلة، وهي تقول: صه، مه، أخاف أن ترانا مرغريت. - صلي لأجلي يا أميليا لكي أعود سالما، إني معرض للأخطار. - ويلاه! لا تترك في قلبي قلقا عليك. - لا تخافي إني أقاوم الأخطار حرصا على حياتي التي وقفتها على عبادتك. - رباه! أخاف عليك من طوارئ الحدثان. - ألا تسلحيني بتعويذة ضد هذه الطوارئ؟
وكانت عيناه تتجاولان حول صدرها وعنقها، وكان في عنقها سلسلة ذهبية علق فيه قلب ذهبي مرصع، فخلعت السلسلة من عنقها وقالت: هذا قلب فيه صورة سيدتنا مريم عليها السلام، فاحفظه تعويذة لك والعذراء تحرسك. - إنه لحرز نفيس جدا يا أميليا، لعل مهديه لك ينكر عليك التخلي عنه ولو يوما. - لقد أعطتنيه رئيسة الدير يوم وداعي ديرها، فلا حرج في أن تحرص عليه يوما لتحرسك صاحبة الصورة. - هذا هو رمز القلب يا أميليا، فأين رمز الجسم الذي يعي القلب؟
فضحكت قائلة: ويلاه! أخاف أن أعطيك رسمي فيقع في يد سواك. - إن كنت تحبينني يا أميليا فلا تخافي شيئا، إن كل أثر منك أعز عندي من حياتي.
وتقدمت إلى مكتبها وتناولت مثل كتيب صغير وقالت: هذه مجموعة رسومي منذ كنت طفلة إلى هذا العام.
ففتحه جوزف وقلبه قائلا: رسوم؟ - أجل، رسم كل عامين.
فوضع القلب ومجموعة الرسوم في جيبه إلى جنب قلبه وقال: أحمي هذه الذخائر ما دمت أحمي قلبي.
فابتسمت أميليا وقالت: أليس لي أنا ما أحميه وأحرص عليه. - قلبي في يدك يا أميليا، فلك أن تفعلي فيه ما تشائين. - ذاك في يدي فأود شيئا لعيني.
فضحك قائلا: هذه صورتي في غيابي.
وتناول من جيبه رسما فوتوغرافيا صغيرا ودفعه إليها، عند ذلك قالت مرغريت من الخارج: «يكاد الشاي يبرد.» فخرجا إلى المائدة، وما انتهى الثلاثة من تناول الشاي حتى جاءت البارونة مرثا برجن وهي تتهلل بشرا وقالت: إلي يا حضرة الماجور شندر.
فتبعها إلى البهو، فقالت له: هل أنت على عزمك؟ - إن عزمي الآن أشد منه قبلا يا مدام إذا كان فيه إرضاء لجلالتها ولسيادتك. - بورك فيك، هل تعرف تريستا؟ - إني مولود فيها. - حسنا جدا، ولكني أخاف أن تشغل نفسك بزيارة صحبك هناك يا سيدي. - إن قلبي باق هنا ولا أقدر أن أعيش بدونه أكثر من عشرين ساعة، فسأكون في تريستا غريبا ولا صحب لي ولا أهل. - وهل تعرف فندق امبريال؟ - طالما قابلت أصحابي فيه. - إلى جانبه الأيمن منزل هو منزل كاترين شراط، الأوتوموبيل ينتظرك في أول ساحة إرلند اليسرى. هذه حقيبة صغيرة فيها زاد الطريق على الطائر الميمون، اذكر يا جوزف أنك تسترضي جلالة الإمبراطورة، الكولونل فرنر سبقك بساعة فقط.
فودعها جوزف ثم ودع مرغريت وأميليا متهللا ومضى.
الفصل الثاني والثلاثون
الصدى أسبق من الصوت
كانت الساعة التاسعة مساء حين استقل الماجور جوزف شندر أوتوموبيله، والأوتوموبيل مستوفي المئونة والعدد يدل مظهره على أنه جديد العهد. فقذف به بالسرعة القانونية إلى أن صار خارج فينا، ثم اندفع به ملء سرعته لا يلوي إلا حيثما يلتوي الطريق أمامه، وقد نفى من باله كل شاغل وكل هم إلا الوصول إلى تريستا بأسرع ما يستطاع، وكان كله يقظة وانتباها حتى لا يعثر به جواده الميكانيكي.
قبل أن ينتصف الليل كان يمر في مدينة ماربورغ، وهي أقرب إلى تريستا منها إلى فينا، ولما تجاوز هذه المدينة مر بحانة في ضاحتيها الجنوبية لم تزل مفتوحة ، فتوقف وسأل صاحب الحانة: هل مر منذ قريب أوتوموبيل فيه ضابط؟ - نعم، وقد توقف هنا نحو نصف ساعة، وأخذ كأسين من اللبن وكأسا من الشاي، وخمسة كئوس من الكنياك. أفلا ترتاح هنا دقائق تنعش فيها نفسك بكأس يا حضرة الضابط؟ - لا بأس بكأسين هاتهما إلى هنا، متى برح صاحبنا الضابط؟ - منذ ربع ساعة تقريبا. - هذا كرونن فأحضر الكاسين.
على أن جوزف لم ينتظره، بل اندفع بأوتوموبيله كالبرق الخاطف وصاحب الحانة يقول: إن هذا لأجن من ذاك، هذا سكران جنونا وذاك مجنون سكرا.
وما بلغ جوزف إلى قمة الجبل الذي يشرف على سهل كارينولا حتى لمح نورا ثابتا، وما زال يرى النور كأنه في طريقه حتى وصل ... فتوقف عنده ورأى رجلا واقفا لدى أوتوموبيل، فبادره هذا قائلا: لقد جئت في حينك يا صاح.
وكان نور أوتوموبيل جوزف متجها إليه، فرآه جوزف وعرفه الكولونل هان فرنر بعينه، ولكن الكولونل لم ير جوزف جيدا؛ لأنه كان وراء متجه النور فتقدم إليه لكي يتبينه، فقال له جوزف: ما بالك؟ - لقد تعطل هذا الأوتوموبيل، وأنا أفحصه ولا أدري علة تعطله.
وكأن جوزف قد أدرك أن الكولونل لا يزال يترنح من فعل الخمرة، فقال له: مهلا إني أفحصه.
وترجل جوزف وتقدم نحو الأوتوموبيل وهو يقول للكولونل: هات المصباح ووجهه إلى أسفل الأوتوموبيل لأرى علته.
وبعد أن فحص جوزف الأوتوموبيل قال: أرى بعض مساميره الحلزونية مرتخية تحتاج إلى تشديد، فهات المفك. - ليس عندي. - أنا عندي.
وأخذ جوزف المفك من خزينة أوتوموبيله وجعل يعالج المسامير الحلزونية، فحل بعضها وشد البعض وسل بعضها، وأخيرا قال له: لقد اصطلح.
ثم ركب جوزف أوتوموبيله فصاح به الكولونل: مهلا يا هذا حتى نمتحنه. - إني مستعجل. - وأنا أشد استعجالا منك. - ليس ذلك شغلي، يكفي ما تأخرت بسببك. - إني آمرك أن تتمهل ريثما أتأكد إصلاح أوتوموبيلي، وإلا فإني أستخدم أوتوموبيلك. - بأي سلطة تأمرني هذا الأمر؟ - بسلطتي العسكرية. - لا قيمة لسلطتك هنا. - إذن بأمر جلالة الإمبراطور ...
وكان الكولونيل قد أمسك بذراع جوزف، فنفضه جوزف عنه حتى ارتمى بعيدا وقال: وأنا بأمر جلالته أصفعك.
ثم ساق جوزف أوتوموبيله وتركه يلعن ويسخط.
الفصل الثالث والثلاثون
رجع الصدى
قبل أن تتم الساعة الرابعة صباحا كان جوزف في تريستا، فإذا هي كمدينة الأموات، وندرت الحركة فيها إلا حركة المبكرين إلى أشغال تقتضي الإبكار، فتردد في أمره؛ هل يذهب إلى كاترين شراط توا ويوقظها، فخاف أن تنشأ الشبهة في عجلته، وخاف أيضا أن يتيسر للكولونل أن يسبقه إذا ترك أوتوموبيله ومشى إلى أقرب محطة للسكة الحديدية، أو إذا تسنى له من يصلح أوتوموبيله أو من يؤجره أوتوموبيلا أو ... أو ...
وأخيرا قصد المنزل وتوقف على مقربة منه، وبقي جالسا يفكر، وفي برهة أصابته سنة الكرى، ولما شق الفجر ستار الدجى انتبه جوزف مذعورا لقرع باب، فرأى لبانا يقرع باب كاترين شراط، فترجل وتقدم قليلا إلى أن رأى الباب انفتح والخادم يأخذ اللبن من البواب وهم أن يقفل الباب، فتقدم إليه قائلا: مهلا، إني أريد مقابلة مدام كاترين شراط الآن.
فأوجس الخادم منه وقال: يا لله! هل رأيت أحدا يقلق النيام في ألذ ساعات نومهم؟ - نعم رأيت أهل المريض يوقظون الطبيب في إبان نومه، واللبان يوقظك. - ولكن مدام شراط لا تستقبل أحدا قبل الساعة العاشرة. - أما أنا فيجب أن أقابلها في هذه الدقيقة. - لا أحد يقدر أن يوقظها الآن ويسلم من غضبها. - إذا قلت لها أن رسولا من فينا يريد مقابلتها الآن تكافئك على إيقاظها.
وكان الخادم قد تبين جوزف ورآه في ثوب عسكري ذي رتبة، فقال: إذن أوقظ الخادمة فتوقظ المدام.
وبقي جوزف يتمشى أمام المنزل، وبعد بضع دقائق رأى الشباك قد انفتح قليلا وشعر أن شبحا أطل منه، ثم رأى نورا سطع، وما هي إلا «لا حول ولا» حتى ناداه الخادم أن ادخل، فدخل وقاده إلى البهو، فبقي يتمشى في البهو عدة دقائق إلى أن أقبلت المدام كاترين شراط مجلببة بجلباب صفيق، فبادرها جوزف منحنيا باحترام كلي وقائلا: عفوا يا مدام ومعذرة، لو لم يكن أمر جلالته أن أتشرف بين يديك حالما أصل إلى هذه المدينة، ما جسرت أن أزعج سيادتك في هذا الفجر، هذه رسالة جلالته بخط يده الكريمة. ولم يدع جوزف لها فرصة للكلام، حتى لا تسأله عن اسمه، وما اطلعت على الرسالة حتى وجفت واكفهرت، ثم قالت: عجيب أن الرسالة غير مغلفة. - عفوا يا مولاتي، إنها شبه أمر، والأمر مكشوف كما لا يخفى على سيادتك، ومع ذلك فإن جلالته يعتبر شخصي غلافا لهذه الرسالة.
فنظرت فيه باسمة وقالت: تريد أن تقول أن ... - إن جلالته يثق أني أتمنى أن أضحي بنفسي في سبيل طاعتي وعبوديتي له؛ ولهذا ترين يا مولاتي أني لم أنم منذ استلمت هذه الرسالة، ولن أنام حتى أضع الحلي في يد جلالته.
فازداد اضطراب كاترين شراط وقالت: هل ذكر جلالته لك الحلي التي يريدها؟ - لم يذكرها، وإنما يريد الحلي التي قامت الضجة لأجلها في مجلس النواب. - أمس؟ - نعم، أمس ضج الاشتراكيون في مجلس النواب بأمر هذه الحلي؛ ولهذا رأت حكمة جلالته أن يستجلبها ولو لأجل حفلة هذا المساء، وربما قرأت في صحف اليوم شيئا من هذا القبيل.
وكانت كاترين ترتجف غضبا ولا تقدر أن تكتم غيظها، فقالت: حفلة عيد ميلاد الإمبراطورة؟ - نعم، في هذا المساء. - ما شأن هؤلاء الاشتراكيين الوقحين؟ - إني يا مولاتي جندي خادم لإرادة جلالة مولاي الإمبراطور، ولا دخل لي في السياسة.
ففكرت كاترين شراط برهة وهي تتقلب غضبا تقلب الحرباء، ثم قالت: ماذا قال لك جلالته غير مضمون هذا الأمر؟ - أوصاني أن أكون شديد الحرص على الحلي. - هل تعلم قيمة الحلي؟ - أعلم أنها ثمينة ونفيسة جدا يا مولاتي؛ ولهذا اختار جلالته أصدق عبيده لنقلها. - ومتى تعود؟ - الآن. - عندك متسع من الوقت؟ - لا يا مولاتي، فإن الأمر يقضي بالعودة في الحال، وقد قتلت من وقتي هنا بضع دقائق وأمام منزلك ساعة؛ لأني أشفقت أن أوقظك على إثر وصولي. - إذن لا مناص؟ - نعم يا سيدتي، لا مناص من تنفيذ أمر جلالته في هذه الدقيقة، فأرجو من فضلك ألا تحمليني جريمة التأخر.
فعادت كاترين شراط إلى غرفتها مكتئبة، وبعد عشر دقائق عادت وبين يديها صندوق، وفتحته وعرضت على جوزف شندر الحلي التي فيه قائلة: هذه 12 قطعة. - مفهوم يا مولاتي، إني أستلم الصندوق مقفلا وأسلمه إلى جلالته الساعة العاشرة إن شاء الله مقفلا، وداعا الآن. إلى الملتقى إن شاء الله. - أجل، إلى الملتقى في فينا إن شاء الله.
ثم حمل جوزف الصندوق بعد أن أودع مفتاحه في جيبه وانحنى ومضى، وكان الصباح قد اتضح قليلا، وبقيت كاترين جالسة في غرفتها تفكر مكتئبة.
الفصل الرابع والثلاثون
دوي الصوت
ما هي إلا دقائق معدودة حتى دخلت الخادمة على كاترين شراط تقول لها: إن ضابطا يريد مقابلتها في الحال، فبغتت كاترين وأحست أن داهية مفاجئة، فقالت: «ليدخل.» وفي الحال استقبلت في البهو ضابطا عالي الرتبة، فانحنى لها باحترام ودفع إليها رسالة مغلفة بغلاف معنون باسمها، فلما رأته وجفت إذ علمت أنه معنون بخط الإمبراطور، وفضته وهي تقول لنفسها: ويلاه! أخاف أن أكون قد خدعت.
وقرأت فيه ما يأتي:
على حضرة رئيسة دير الراعي الصالح أن تلبي طلب البارونة ليوتي إذا كان حقا.
الإمبراطور
ما أتمت القراءة حتى صرخت: ويلاه ويلاه! في الأمر خديعة أو حيلة.
فبهت الكولونل هان فرنر وقال: ماذا تعنين يا سيدتي؟
فعبست قائلة: من أعطاك هذا الكتاب؟ - جلالة الإمبراطور سلمنيه أمس الساعة السادسة مساء يا مدام. - هل كان معك منذ استلمته إلى الآن؟ - لم يفارقني لحظة. - ألا يحتمل أن يكون قد اختلسه أحد منك من غير أن تدري ثم رده إليك؟ - هذا مستحيل يا سيدتي، فإني لم أنم منذ سرت بهذه المهمة. - عجبا! - لم أفهم أين العجب يا سيدتي، إن أسئلتك هذه تقلق البال. أليست الرسالة صريحة؟ - ماذا أمرك جلالته أن تفعل غير تسليم هذا الخطاب؟ - أمرني أن أستلم منك ما تسلمينيه. - ألم يقل لك ما هو الذي أسلمكه؟ - لا يا مولاتي، ما أنا إلا رسول جلالته المنفذ أمره. - اعلم يا هذا إن كنت شريك اللصوص في هذه الخديعة ... - ويحك ماذا تقولين؟ - أقول إن ضابطا قبلك جاءني بأمر جلالته الحقيقي، وأخذ علبة الحلي ومضى منذ دقائق. - ضابط جاء قبلي بأمر جلالته؟ - نعم، وهذا هو أمر جلالته.
فلما اطلع الكولونل على الأمر استغرب وقال: وماذا يشتمل الأمر الذي جئتك به يا سيدتي؟ - يشتمل على أمر لرئيسة دير الراعي الصالح، هذا هو فاقرأه.
فلما قرأه الكولونل ازداد دهشة وفرقا وقال: لا أدري يا سيدتي، إني استلمت أمر جلالته مختوما وسلمتكه مختوما. تقولين أن ضابطا استلم علبة الحلي؟ - نعم، وقد مضى منذ دقائق في أوتوموبيل. - يا لله! في أوتوموبيل، لقد رأيت ضابطا في أوتوموبيل وقد وقف بأتوموبيله لدى فندق الإمبريال، أظنه لا يزال في الفندق. - ويحك! إليه إليه! ولا تدعه يفلت من يدك، سلمه إلى البوليس حالا.
فاندفع الكولونل من المنزل وهرع مسرعا إلى ذلك الفندق وهو على قيد ربع ميل من ذلك المنزل، وقد سر حين رأى الأوتوموبيل لا يزال أمام الفندق، فسأل بواب الفندق: من صاحب هذا الأوتوموبيل؟ - ضابط ثقيل، قرع بابنا قبل أن نفتح عيوننا لضوء الصباح، ولم أر في حياتي شخصا يقرع أبواب الفنادق في الفجر غير هذا الثقيل، وهو كالمجنون ما لبث أن نزل من أوتوموبيله حتى قال إنه يريد غرفة وفطورا في الحال، وما دخل إلى الغرفة حتى خرج منها وهو يقول إنه سيعود عاجلا، فيجب أن نعد له الفطور حالا، ومضى من غير أن يقول ما هو الفطور الذي يريده. - ألا تدري أين مضى؟ - أظنه مضى ليبتاع بنزينا لأوتوموبيله؛ لأنه سألني ما إذا كان يجد عندنا بنزينا، فقلت له نحن فندقانيون لا بدالون، ولا أدري أين يجد هذا المجنون الآن بنزينا قبل أن تفتح الحوانيت؟!
ففكر الكولونل هنيهة ثم قال: أود أن أنتظره هنا. - تفضل استرح في بهو المقابلات.
فدخل الكولونل وهو يقول: هل كان معه شيء حين دخل إلى الغرفة؟ - كان معه علبة. - أود أن أراها في غرفته. - لقد أخذها معه يا سيدي.
فتغيظ الكولونل شديد التغيظ وقال: إني خارج الآن وسأعود في الحال، فإن عاد الضابط قبلي فلا تقل له شيئا عني، ولا تدعه يعرف أن أحدا يسأل عنه.
وخرج الكولونل مترددا ثم التفت إلى بواب الفندق وقال: حاذر أن تقول له كلمة عني. خذ هذه وسأكافئك أيضا إذا اجتمعت بهذا الضابط.
فتناول البواب منه قطعة فضية متهللا جدا وقال: إني خادمك يا سيدي، فهل تريد خدمة أخرى؟ - أريد أن تشغل ذلك الضابط عن الخروج إلى أن أعود مهما كلفك الأمر، ولك مكافأة عظمى.
ثم ركب الكولونل مركبة إلى دائرة البوليس وأبلغها أنه يحتاج إلى نفرين في الحال للقبض على محتال، وأوعز إلى النفرين أن يذهبا إلى الفندق ويستوقفا كل شخص يجدانه فيه في زي ضابط.
أما هو، فطاف في بعض الشوارع عسى أن يعثر على ضالته، فلم يجد أحدا، فعاد إلى الفندق فرأى الشرطيين كامنين فيه، وقال بواب الفندق إنه على إثر مزايلة الكولونل لمح الضابط يعبر من شارع إلى آخر، وأسرع لمراقبته فإذا به قد اختفى، فلا ريب أنه لا يزال يبحث عن بنزين، ولا بد أن يعود ما دام أوتوموبيله أمام الفندق.
فبقى الكولونل في الفندق منتظرا برهة، وبعد نحو نصف ساعة جاءت مدام شراط واجتمعت بالكولونل وهي في شديد الاضطراب، فأخبرها الكولونل ما كان من حديث بواب الفندق وما فعله من التحوط للقبض على المحتال، ونصح لها أن تسكن روعها؛ إذ لا بد من الظفر بالمحتال على كل حال.
مضت برهة أخرى والضابط المحتال لم يعد، فاشتد قلق مدام شراط والكولونل معا، فبث الكولونل بعض الشرطة في ذلك الحي يبحثون عن الضابط المحتال، وانقضت الساعة ولم يقفوا له على أثر.
وأخيرا لم تر كاترين شراط بدا من تلغفة الأمر إلى فينا؛ ولكن بأي أسلوب؟
الفصل الخامس والثلاثون
رجة في قلب البلاط
ندع تريستا ونعود بالقارئ إلى فينا.
في منتصف الساعة التاسعة ورد تلغراف إلى فون درفلت ثاني سكرتير الإمبراطور هذا نصه:
مكيدة هائلة؛ محتال بزي ضابط سبق الرسول ومعه الأمر الرسمي بلا غلاف، فأخذ العلبة الثمينة، وجاء الرسول ومعه الغلاف وفيه أمر لرئيسة الدير بشأن البارونة ليوتي. فتدبر.
الإمضاء: ك. ش.
فلما اطلع فون درفلت على التلغراف، وقف مرتعبا وتلا التلغراف مرارا وهو يفكر في الأمر، وأخيرا لم ير بدا من رفعه إلى جلالة الإمبراطور، فأسرع واستاذن في الدخول وألقى التلغراف بين يدي مولاه. فلما اطلع الإمبراطور على التلغراف استشاط غضبا وقال: يا لله! هل أصبح كل من حولي خونة ضدي! كيف كان ذلك؟!
فقال فون درفلت متهيبا: في المكيدة أصبع البارونة مرثا برجن يا صاحب الجلالة. - يا لله من هذه الشيطانة اللئيمة! ولكن هل يمكن أن الكولونل فرنر يمالئ هذه الشريرة ضدي؟ - لا أظن يا مولاي، إن الكولونل لا يحيد قيد شعرة عن الإخلاص لجلالتكم. - ألا يمكن أن تكون البارونة ليوتي ماكرة وخداعة، وهي التي لعبت هذا الدور الفظيع؟ وإلا فكيف يبدل الأمر الذي في يد الكولونل فرنر بالأمر الذي أخذته المرأة مني لرئيسة الدير؟ إن التلاعب بأوامري لوقاحة أقل عقاب عليها السجن المؤبد. - إني واثق تمام الثقة يا مولاي بأن البارونة ليوتي بريئة من تهمة الخيانة لجلالتكم، ولا أبرئ من هذه المكيدة البارونة مرثا برجن. - لا أبرئ البارونة برجن، ولكن هذه البارونة لا يمكن أن تقوم بالمكيدة وحدها، فلا بد أن يكون معها خونة ممالئون لها. - أجل إن فرنند فرغتن من أكبر أعوانها، وهو بلا شك شريكها في الخيانة والمكيدة؛ لأني علمت أنهما كلاهما يجتمعان سرا في منزل منعزل في وسط حديقة في شارع فرنز.
فحرق الإمبراطور الأرم وقال: لعنة الله على فرغتن هذا، فإنه المعول الذي ينقب تحت أركان العرش. - وللبارونة صنيع آخر يا مولاي يدعى الماجور جوزف شندر، وأظن أنه هو الضابط المحتال الذي أشير إليه بهذا التلغراف. - من هذا الماجور شندر؟ - هو أحد رجال الحرس يا مولاي. - يا لله! وهل في حرسي خونة أيضا؟ - أجل يا مولاي، إنه يجتمع بالبارونة برجن في ذلك المنزل الذي تتآمر فيه البارونة مع أعوانها وصنائعها، وقد تثبت أنه كان مساء أمس معها هناك؛ فلا بدع أن تكون قد ولته تنفيذ هذه المكيدة الفظيعة . - عجبا! كيف يجسر هذا الخائن أن يترك واجبات وظيفته العسكرية ويذهب إلى تريستا لتنفيذ جريمة؟ - إنه في إجازة شهر يا مولاي.
فزمجر فرنز جوزف قائلا: سيكون الإعدام قصاص هذا الخائن. وما شأن ذلك المنزل الذي يأوي إليه أولئك الخونة؟ - إنه لسر مجهول يا مولاي، فإن فيه امرأة وفتاة لا قرابة بينهما على ما يظن، والبارونة برجن مسيطرة عليهما، وكأنها جعلت هذا المنزل مكان مؤتمراتها وملتقى لمن يريد اللقاء سرا كال ... - كمن؟ - كالبارونة فتسيرا يا مولاي.
فسخط الإمبراطور قائلا: البارونة فستسيرا! - أجل يا مولاي، فإنها تختلف إلى ذلك المنزل أيضا.
فحمي غضب الإمبراطور جدا وقال: وبالطبع يذهب البرنس رودلف إلى ذلك المنزل أيضا. بعد هذه الدقيقة لن يجتمع بها البرنس. يجب أن ترحل هذه الفتاة عن مملكتي كلها اليوم وستتبعها البارونة برجن على الأثر. إني أريد أن أنظف البلاط من هؤلاء الخونة، ولكن كيف حدثت هذه المكيدة الفظيعة؟
وكان فون درفلت يكفهر وقلبه ينتفض فقال: إنها لمكيدة شيطانية يا مولاي لا يمكن فهمها قبل أن يحقق أمرها، إني أخاف أن تذهب الحلي إلى زاوية المجهول وتتحول حفلة المساء المنتظرة إلى شبه فتنة في البلاط. فحبذا أن يعجل مولاي بإصدار أوامره للبحث عن ذلك المحتال قبل أن يدهور الحلي حيث يتعذر الحصول عليها في حينها، ولا يخفى على جلالتكم أن غرض أولئك الخونة إيجاد ذريعة جديدة لإثارة شغب المشاغبين من النواب الاشتراكيين.
فلما سمع الإمبراطور هذا الكلام اشتد تقطيبه، وكادت مقلتاه تثبان من وقبيهما وقال: صه، لا أعهد أن في المملكة من يجسر أن يقف لدى إرادتي التي هي السلطة والقانون والتنفيذ جميعا، وسيعلم أولئك الخونة والمشاغبون أي مصير يصيرون.
وكان الغضب قد أخذ من فرنز جوزف كل مأخذ، فوقف وجعل يتمشى في غرفته كالأسد في عرينه وهو يفكر، وبعد هنيهة قال: لكل أمر وقت كما قال سليمان الحكيم، أما الآن فأريد من يلاقي ذلك الضابط شندر في طريقه ويأخذ منه علبة الحلي من غير شغب ولا جلبة. - أجل كذا خطر لي يا مولاي ، لأن اتساع الحركة حول هذه الحادثة يفضي إلى ضجة ترتج لها أطراف الأمة، فلا بدع أن تقضي حكمة جلالتكم بأن تستخرج العلبة من ذلك الضابط الخائن شندر من غير ضوضاء ولا قال وقيل؛ لئلا يبلغ المشاغبون وطرهم في حين بذل المجهود في تدارك هذا الوطر. - كذا كذا يا فون درفلت، فهل لك في ذلك؟
فتردد فون درفلت في الجواب وفكر هنيهة ثم قال: أجل، إذا سلحني مولاي بالأوامر اللازمة، فأثق أني أظفر بالعلبة من غير شغب. - لا أريد مقاومة هذه المكيدة بطريقة رسمية؛ لأن الإمبراطور لا يريد أن يعترف بوجود من يجسر أن يشتغل بمكيدة تخالف إرادته، ففي وسعك أن تفعل كل شيء لاسترداد العلبة من غير التسلح بأوامري. - يكفيني سلاحا أمر مولاي الشفهي، وإنما لما كان بعض المكايدين في البلاط نفسه وبعضهم يستمدون قوتهم من نفوذ البلاط، أخاف أن أجد عثرات في سبيلي من هؤلاء، فإذا كان جلالة مولاي يأمر بغل أيدي ذوي النفوذ ممن لهم صلة بالبلاط؛ فإني أستطيع أن أمسك ذلك الخائن شندر في عنقه وأقوده قياد الكلب. - وهب أني آذن لك أن تفعل ما تشاء ولا تحسب حسابا لأحد غيري.
فتلمظ فون درفلت رضابه وقال: لقد عزم مولاي أن يكسر رأس الأفعى تنظيفا للبلاط من أدران ذوي الفتن فيه، فإذا كنتم جلالتكم تصدرون أمركم المقدس بنفي البارونة برجن والبارونة فيتسيرا الآن ... - صه، أما البارونة برجن فلا ترحل قبل أن تنال عقابها الذي تستحقه، وأما البارونة فتسيرا فحسبها عقابا أن تقصى من البلاد حالا. فهذا أمر برحيلها في هذه الساعة.
وفي الحال عمد الإمبراطور إلى مكتبه وكتب أمرا بسفر البارونة فتسيرا على عجل في برهة نصف ساعة منذ اطلاعها على الأمر، وإلا تقع تحت طائلة العقاب الصارم.
ثم دفع الأمر إلى فون درفلت قائلا: أبلغ هذا الأمر إلى تلك البارونة الصغيرة في الحال. ثم ماذا عزمت أن تفعل؟ - سأنفذ رسولا أو رسولين في الحال، عسى أن يلتقيا بشندر في طريقه فيراقبانه ريثما ألتقي به في محطة أودنبرغ أو نيوستاد، ومتى وقعت عيني عليه وقعت العلبة في يدي حتما. - وهب أن الرسولين لا يلتقيان به ولا أنت صادفته؟ - أقيم بوليسا سريا يرقبه في محطة العاصمة وفي جميع مداخل المدينة. - قد لا يدخل المدينة اليوم. - لا بد أن يكون الكولونل فرنر قد تأثره، ولا يمكن الكولونل أن يتردد في التلغفة إلى مدام كاترين شراط وهي تتلغف لي حين أنبئها عن مكاني. - هب أن هذا الأسلوب لا ينجح، وأود تجنب الإشارات التلغرافية ما أمكن. - ستكون الإشارات الضرورية غامضة يا مولاي، إني واثق بالنجاح يا صاحب الجلالة؛ لأن شندر سيبذل جهده في تسليم العلبة إلى البارونة برجن اليوم، ولا يمكن أن يصل إليها؛ لأننا سنقف في طريقه على كل حال. - ربما راوغ شندر في طريقه وتأخر إلى ما بعد اليوم. - لا يمكن أن تطمئن البارونة برجن ما لم تظفر بالعلبة اليوم؛ ولهذا أؤكد أنها حتمت عليه أن يأتيها بالعلبة في هذا النهار.
فإذا بقيتم جلالتكم تتجاهلون خبر هذه المكيدة العظمى، فلا تتنبه البارونة لتحذير رسولها بوسيلة من الوسائل، وبالتالي يسهل وقوعه في يدنا.
ففكر الإمبراطور برهة ثم قال: حسنا، هل أعتمد عليك يا فون درفلت؟ - يعتمد مولاي على عبده الطائع الأمين ملء الاعتماد. - إني أريد هذه العلبة اليوم يا فون درفلت. - إذا لم تقع العلبة في يد مولاي اليوم، فيعلم مولاي أني برحت هذه الدنيا إلى الآخرة. - اذهب ولك الجزاء الذي يليق منحه بالإمبراطور.
فانحنى فون درفلت أمام مولاه وخرج وفي صدره آمال جسام.
وما دخل فون درفلت إلى مكتبه حتى تلقته البارونة ليوتي (أو نينا فرست كما عرف القارئ)، فقال لها: ويحك! ماذا جئت تفعلين؟ - جئت أرفع شكوى إلى جلالته. - ما الشكوى؟ - دفعت أمر جلالته إلى رئيسة دير الراعي الصالح أمس، فوعدتني أن تجيب طلبي اليوم، فذهبت إليها فإذا هي تراوغ. - إذن هناك أساس المك ...
وتوقف فون درفلت عند ذلك الحرف، ثم قال: دعي شكاويك الآن إلى حين تسمع الشكوى، واسمعي أوامري فإنها خطيرة وتنفيذها عظيم الفائدة لك .
فضحكت قائلة : هل انتقل الصولجان إلى يدك؟ - أجل، الصولجان في يدي اليوم فقط فلا تهزئي، إني في حاجة شديدة إلى دهائك اليوم، وقد جئت في حينك.
اذهبي وانتظريني في منزلي، إني موافيك إلى هناك بعد قليل. لا تبطئي لحظة واذهبي الآن.
فاستغربت البارونة ليوتي أمره وقالت: أراك منهمكا جدا فهل ...؟ - ستعلمين كل شيء قريبا، اذهبي الآن.
فخرجت.
وهو أملى أوامر خاصة للكاتب الذي تحت يده ثم خرج.
الفصل السادس والثلاثون
تفاحة حواء
في الساعة الثانية عشرة من النهار وقف القطار القادم من تريستا إلى فينا في غرتز، والقطار يقف في هذه المحطة نحو ثلث ساعة، بحيث يتسنى لمن يشاء من الركاب أن يتناول غذاءه من المطعم الذي في المحطة.
في هذا القطار كان الماجور جوزف شندر، فلما وقف في محطة غرتز نزل جوزف منه وأسرع إلى المطعم، وفي خمس دقائق تلمظ غداءه مختصرا وعاد إلى القطار من غير أن يلتفت إلى من في المحطة من الداخلين في القطار والخارجين منه أو الواقفين.
وما تحرك القطار حتى دخل إلى الغرفة التي كان فيها جوزف سيدة مقنعة بقناع كثيف وجلست إلى جانبه، وبعد هنيهة رفعت القناع فخالسها جوزف نظرة، فنظرت فيه وابتسمت فتبينها، فقالت مبالغة في الابتسام: أظنني لست غلطانة، حضرتك الماجور جوزف شندر.
فحملق فيها قائلا: أجل إني خادمك، أظنني رأيت حضرتك؟ - لا أظنك تنسى اجتماعنا منذ عهد قريب في حانة هرمن؟ - أجل، أجل، أذكر أنك سميت نفسك حينذاك جوليا هرتمان، أليس كذلك؟
فضحكت قائلة: نعم نعم جوليا هرتمان، أراك وحدك هنا، فلماذا لا تكون مع المدخنين؟
فضحك قائلا: آثرت عشرة الحسان على عشرة المدخنين، فقلت في نفسي يجب أن أعتزل غرف الرجال عسى أن أرزق برفيقة حسناء، فكان حظي مضاعف السعد. - لله من رقتك يا ماجور! لو كنت بثوبك العسكري لكنت أجذب لقلوب الحسان. ترى لماذا خلعت ذلك الثوب الجميل وارتديت هذا الثوب الذي لا يميزك عن عامة الناس؟ - أتأسف يا سيدتي، إني كنت أجهل هذه الحقيقة وإلا لما ارتكبت هذا الخطأ . - أما أنا فسيان عندي، فقد عرفتك قلبا وقالبا، ولا يزيدني ثوبك ودا لك وإعجابا بك. - شكرا للطفك يا مدام، عسى أن يكون حظي من هذا اللطف طويل الزمن، ومن رفقتك أيضا. - أتمتع بعطفك من هنا إلى فينا وبعد ذلك فتبعة الوحشة تقع عليك وحدك.
فتبسم جوزف ملء ثغره وقال: وإذا كنت أجهل عنوانك، فعلى من التبعة؟
فقهقت قائلة: أوه، ما دامت حانة هرمن موعودة فلا يتعذر عليك أن تعين لي مواعيد اللقاء فيها، إلا إذا كان في شارع فرنز ما يشغلك عن لقاء أصدقائك المخلصين.
فضحك خافق الفؤاد وقال: شارع فرنز؟ - أجل، حيث يكون كنزك فهناك قلبك. - يلوح لي أن عندك أخبارا حسنة عن شارع فرنز يا مدام. - عندي أخبار مهمة، ولا أدري ماذا تعني بقولك حسنة. - أعني معلومات جديدة كانت مجهولة. - أجل عندي كثير منها. - بالله ما هي؟
فضحكت قائلة: ليس من السهل استخراج المجهول يا ماجور، وما يحصل عليه بعناء ليس رخيصا. - إذن تريدين أجرا في مقابل أخبارك يا مدام؟ - لا أظنك تنكر علي هذا الحق. - عسى أن يكون في وسعي أن أدفع هذا الأجر. - في وسعك دفعه من غير أن تخسر شيئا. - إذا كنت لا أبخل بأي أجر أستطيعه، فبالأحرى أجود بالأجر الذي لا أخسر فيه. فمري يا سيدتي وأنا العبد الطائع. - أريد قبلة من هذا الثغر.
فتوردت وجنتا جوزف وقال مترددا: أخاف أن أقول لك يا سيدتي إن هذا الثغر والقلب الذي وراءه وكل عضو من أعضاء الحب التي في، إنما هي وقف وليس في وسع أحد التصرف في الوقف.
فابتسمت قائلة: تعني وقف على أميليا؟
فاشتد تورد جوزف وقال: لقد نطقت بما يكفيني مئونة التلميح إليه أو توريته. - أوه، لا تظنني بهذا الطلب أنتهك حرمة هذا الوقف المقدس، بل بالعكس أزكي حجته؟
فتريب جوزيف وقال: عجبا! لا أقدر أن أفهم كيف يمكن ذلك.
فتبسمت قائلة: الأمر بسيط جدا، وهو أن من يحب أميليا لا بد أن يحبني أيضا. - لم يزل اللغز لغزا يا مدام. - بعبارة أخرى من تحبه أميليا أحبه أنا أيضا. - القول مفهوم، ولكن يمكن تطبيقه على فروض مختلفة.
فضحكت قائلة: لا أقدر أن أقول من هذا القبيل أكثر مما قلت يا ماجور. - لا بأس، ومن قبيل آخر ماذا تقولين؟
فقالت مقهقهة: الأجر الأجر أولا. - إني أثق بقولك يا مدام، إن من يحب أميليا يجب أن يحبك.
وتعانقا وتلاثما، فشعر جوزف بأنفاس حرى لا يمكن أن تعلل حرارتها إلا بلهبات الحب الصادق، فقال: ويحك! إنك فتحت خزان الحب في صدري، فحاذري أن يتدفق. - أما خزان صدري فقد تدفق، فبربك حاذر أن يراق ما فيه.
فنظر فيها باسما وقال: مدام. - أليست أميليا تحبك؟ - أجل تحبني. - فثق إذن أني أحبك. - إنك توسعين دائرة المجهول في ظني يا مدام. - يجب أن تعلم أن المجهول أعظم جدا من المعلوم، وإلا خبطت على غير هدى.
فثارت بلابل جوزف في نفسه وقال: شرعت أشعر بعظم قدر المجهول يا سيدتي، وقد أخذت أجر المعلوم سلفا.
فنظرت إليه وقالت: ويك تمنني؟ - معاذ الله يا سيدتي، ولكن ألا تشفقين أن أبقى معلقا بخيط ضئيل فوق هاوية المجهول؟ - ماذا تريد أن أقول؟ - أرجو أن تقولي لي ما عرفت عن شارع فرنز. - سيرحل الذين فيه.
فانتفض جوزف وقال: ويحك! إلى أين؟ - إلى حيث تختفي أخبارهم.
فاكفهر جوزف وقال: بربك لا تقولي هذا القول. - أشفق أن أضلك بعد أن أخذت الأجر منك. - إذن لا تمزحين. - ربما كانت حياتي كلها مزاح إلا اليوم. - وهل تخفى أخبارهم عني؟ - عنك أولا. - وعنك؟ - وأما عني فأخيرا إذا لم أقل لك لن تختفي. - لا أظنك تقسين علي بأن تبخلي بأخبارهم.
كل شيء في الدنيا بين سبب وغاية، فإن كنت أحدهما كانت لك صلة بذلك الشيء. - كيف يمكن أن أكون أحدهما؟ - هذا أمر من شأنك وحدك.
فتحير جوزف وقال: كيف يمكن أن أتذرع إلى أن أكون أحدهما؟ - ربما كانت المقادير خير معلم لك.
ففكر جوزف هنيهة ثم قال: إن لحديثك هذا يا سيدتي درجة هائلة في فؤادي، إن لي حقا بأن أتردد فيه إذا لم تقيمي برهانا عليه.
فقهقهت قائلة: تظل تظنني مختلقة إلى أن يحقق لك فراغ شارع فرنز صدق قولي. - لا أقول أنك مختلقة، وإنما أعتقد أن معلوماتك خطأ أو هي ضئيلة. - كأنك تستفزني إلى بسط سائر معلوماتي. - إن بسطها ضروري لتأييد بعضها بعضا، فهل علمت شيئا عن السر المجهول الذي هو نواة الأسرار. - تعني نسب أميليا؟ نعم، علمت كثيرا. - ماذا علمت؟
فابتسمت قائلة: أترى أنك تحاول أن تستخرج مكنوناتي وتستعلم مكتوماتي؟ - لا أنكر أني أتمنى ذلك، فإن كنت تحبينني كما تحبين أميليا فلماذا لا تقولي لي ما أتوق لمعرفته كما تتوق أميليا؟
فقهقهت قائلة: يا للسذاجة! إن ما يحظر الآن اطلاع أميليا عليه، لحري أن يحظر اطلاعك عليه. - تقولين الآن؟ - أجل، لأن كل خفي سيعلن، وكل سر سيصير جهرا.
ففكر جوزف برهة، ثم قال وهو يتبرم: ما دمت تكتمين يكون لي حق بالشك يا مدام، فالمعذرة إذا لم تبسطي برهانك على معرفتك المجهول. - أوه، لي أيضا أن أشك بعلائقك بأميليا حتى تأتي ببرهان على تلك العلائق.
فاستوى في مكانه وقال: وحق شرفي إن عندي براهين على تمكن هذه العلائق. - وأنا عندي براهين عديدة على صحة معلوماتي. - هاتي بعضها، وأنا أريك بعضها.
فمدت يدها إلى صدرها وتناولت صورة فوتوغرافية وأرتها لجوزف وقالت: هل تعرف هذه الصورة؟
فلما رآها جوزف أبرقت أسرته وكادت تنبثق عيناه من وقبيهما وقال: ويحك! كيف لا أعرف معبودتي؟ أنى لك هذا الملاك؟ - هذا برهاني الذي أتمنى أن تدفع نصف حياتك ليكون لك مثله.
فضحك جوزف وقال: لقد دفعت كل حياتي يا مدام. - ولم تحصل على مثل هذا؟ - حصلت على أكثر منه. - لا أصدق. - أريك فانظري.
وأراها مجموعة الصور التي أخذها من أميليا.
فبهتت وقالت: ويحك! أنى لك ذلك؟ إنك سارق، إنك مختلس. لو كنت تعرف أن مثل هذا لا ينال، لكنت تعرف قيمته.
وجعلت البارونة تقلب الصور دهشة، وكاد جوزف يسمع خفقان قلبها تحت تموجات صدرها المصعد المصوب، ورأى مقلتيها تكادان تغرورقان وهي تقول : لا أصدق ! لا أصدق أن هذه التحفة النفيسة تقع في يدك!
فقهقه جوزف وقال: إذن ماذا تقولين إذا أريتك هذا أيضا؟
وأراها القلب المرصع المعلق في السلسلة الذهبية، فلما وقع نظرها عليه بغتت وبهتت وبقيت نحو دقيقة تنظر فيه نظرة الأخبل، ثم قالت: ويحك! هل تعلم ما في يدك الآن؟ - ماذا؟ - إن في يدك لقلبي. - أيهما تعنين الجماد أم الحي؟
فتنهدت ملء صدرها وقالت: والهفتاه! كليهما أعني.
ومدت يدها وتناولت القلب من يد جوزف وهي تنتفض انتفاض العصفور بلله القطر، وقالت: رباه! هل حفظت لي عهدي لكي تجدد سعادتي، إن كنت قد أثمت فذنبي في عنق غيري، اللهم ارحمني واغفر لي وجدد سرور قلبي بنعمتك، إن عملك العجيب تمجيد لك ومسرة لعبدتك.
وكانت هذه الصلاة القصيرة تفعم قلب جوزف وقارا وخشوعا، وكانت حينذاك لغة الصمت أفصح بيانا من اللسان، وكانت المرأة خاشعة مفكرة، وجوزف يتأمل معقود اللسان، إلى أن جعلت المرأة تذرف الدمعة إثر الدمعة، حتى أخذ التأثر من جوزف كل مأخذ، فقال بصوت خافت: سيدتي، أخاف أن أكون السبب في إثارة شجونك فعفوا. - ما أنت إلا رسول السلام لقلبي يا سيدي، فشكرا للقدر الذي جمعني بك.
فانحلت عقدة لسانه وقال: يلوح لي يا سيدتي أن لهذا القلب الذهبي تاريخا تعرفينه جيدا. - ربما انحصرت معرفة تاريخه بي. - عجبا! والذين تناقلوه؟ ألا يعرفون تاريخه؟ - قد لا يعرفون بدء تأريخه. - تعنين أنه شيء أثري؟
فتنهدت وقالت: يا له من أثر هائل! - أشفق أن أستزيدك بيانا بتاريخ هذا القلب يا مدام لئلا تشتد ثورة أشجانك. - لعلك تعرف شيئا من تاريخه. - أعرف أنه كان في عنق أميليا. - آه أميليا حشاشتي ... أوه، والهفتاه! والوعتاه!
وهطلت الدموع من عيني المرأة، فوجم جوزف وبعد قليل قالت المرأة مجهشة: وهل تعرف مع من كان قبلا؟ - لا، ربما كان أمانة مع رئيسة دير الراعي الصالح. - أجل، وقبل ذلك كان معي، كان في عنقي تعويذة حب ووفاء، آه واحر قلباه.
فتردد جوزف في الكلام ثم قال متلجلجا: هل تريدين يا سيدتي أن تقولي أنك ... أو أن أميليا ... - آه أميليا ابنتي من لحمي ودمي، وقد فقدتها كل سني عمرها والآن وجدتها، آه من جور من سلب مني ابنتي. - إن كنت يا سيدتي تقدرين أن تثبتي أمومتك لها، فلا قوة في الكون تستطيع أن تمنع ابنتك عنك.
فاجهشت المرأة ثانية وقالت: أليس من الظلم أن يضطر المرء أن يبرهن ملكيته لحشاشته.
فتأثر جوزف من انفعال المرأة شديد التأثر، وأدرك أن بدء تاريخ أميليا محاط بأسرار هائلة، فقال: لست وحدك يا سيدتي ذات الحق في ملكية ابنتك.
فحملقت فيه قائلة: ويحك! من شريكي في هذا الحق؟ - عفوا يا سيدتي، أعني أباها، أليس لها أب الآن؟
فذعر جوزف إذ صرخت المرأة صرخة كادت تنبه سائر من في الغرفة الأخرى من المركبة وقالت: أبوها، الويل لأبيها الويل لذويها، آه واحرباه وغضباه! آه. أواه. ويلتاه!
وسردت مثل هذه المترادفات التي انتهت باغماء المرأة حتى استلقت على المقعد ضائعة الصواب، فذعر جوزف إذ رآها على هذه الحالة واشتد تأثره من أمرها، وجعل يعالجها عسى أن تستفيق، ولكن انفعال المرأة كان شديدا حتى كانت كمن أصيب بصرع شديد، وما فتحت عينيها إلا بعد برهة طويلة، فقالت بصوت متهدج: عفوك يا حبيبي وعذرا، إن الصدمة كانت هائلة.
ثم أغمضت عينيها كأن ملاك الموت يرفرف فوقها، فجزع الفتى وأمسك بذراعيها وهزها، فتنهدت ملء صدرها وفتحت عينيها، فقال لها: فديتك يا حبيبتي، هل أبحث لك عن طبيب؟ - لا، يكفي كأس كنياك إن استطعت. - أستطيع. فمهلا دقيقة.
وخرج جوزف وقصد إلى مطعم القطار وابتاع زجاجة كنياك وعاد، وكانت دهشته عظيمة إذ لم يجد السيدة ولا العلبة ولا القلب المرصع، فعض أصبعه وقال: يا لها من ممثلة داهية!
ثم خرج من الغرفة كالمجنون، وجعل يطوف في القطار من أوله إلى آخره يبحث ويسأل، فلم يصادف إلا أجوبة الاستهجان تارة والهزء أخرى، كانت البارونة حصاة ملح فذابت.
ربما كان جوزف أشد تغيظا لأجل القلب المرصع منه لأجل العلبة، والله أعلم.
الفصل السابع والثلاثون
أين العصفور
ما هي إلا دقائق معدودة بعد أن كل جوزف من البحث حتى وقف القطار في محطة ستينا منجر، فنزل من القطار وأسرع إلى مكان يرقب منه مخرج المحطة، حيث لا ينتبه إليه أحد، وجعل يراقب الخارجين منها عسى أن يرى السيدة تخرج، وكان الركاب قليلين فخرجوا جميعا في دقيقة ولم ير السيدة بينهم، فقال في نفسه: لم تزل هذه الداهية في القطار إذن، إلا إذا كانت قد تجنحت وطارت قبل أن يقف القطار.
فعاد إلى القطار غاضبا، فرأى رقيب القطار يخاطب رجلا ويومئ إليه (إلى جوزف) إيماء لطيفا، فتقدم إليهما وهو يرمقهمها، فترك الرجل رقيب القطار ومال إلى جوزف وحياه قائلا: عفوا يا سيدي، هل أنت من الركاب؟
فأجابه جوزف متبينا أمره: نعم. - أما صادفت بين الركاب ضابطا برتبة ماجور؟ - لا، مع أني رأيت كل الركاب. - إن رقيب القطار يقول إنه ليس بين الركاب ضابط البتة. - لعل الضابط في ثوب ملكي يا سيدي، أفلا تعرف اسمه؟
فتردد الرجل وقال: ربما كان في ثوب ملكي، وإنما من علاماته أن معه علبة صغيرة، ربما لم يكن معه غيرها. - هل قال رقيب القطار إنه رأى راكبا من الركاب ذا علبة صغيرة؟ - نعم قال. - أين هو؟ - هو أنت الذي دلني عليه، فهل تشرفني باسمك الكريم؟ - بل ما هو اسم الرجل الذي تبحث عنه؟ - كأنك هو؟ - ربما كنت إياه. - هل اسم حضرتك الماجور جوزف شندر؟ - لماذا تبحث عنه؟ - إذا لم تكن إياه فما الفائدة من الحديث؟ - هب أني هو. - إني مرسل لخفارته. - من أرسلك؟ - الذين أرسلوك. - من أرسلني؟ - الذين تركت صورتك عندهم أمس.
فخفق فؤاد جوزف وقال: من قال لك إني تركت صورتي عندهم.
فتناول الرجل صورة من جيبه وأراها لجوزف قائلا: أليست هذه صورتك؟ إن أنكرتها فهي تثبت عليك ولا تقدر أن تنكر أن بيت الشعر هذا مكتوب تحتها بخط يدك. - الله! كيف اتصلت إليك؟ - أعطيتها علامة لتثق بي.
فهمس جوزف قائلا: هل أرسلتك البارونة؟ - والإمبراطورة أيضا، فأين العلبة؟ - رحماك، سرقت بحيلة شيطانية . - ويحك! - سرقتها امرأة داهية وأنا أبحث عنها كالمجنون. - يا للدهاء! أين هي؟ - لا أدري، إني واثق أنها لم تخرج من هذه المحطة؛ لأني راقبت جميع الخارجين منها فلم تكن بينهم، فلم تزل في القطار إلا إذا كانت قد تجنحت وطارت منه قبل أن يقف. - وهل تختفي في القطار؟ - لا أدري بحثت في كل غرفة فيه قبل أن يقف، فلم أجدها. - هل تعرفها؟ - عرفتها مرة في فينا، ولكني إلى الآن لم أعرف اسمها الحقيقي؛ لأنها توارت وراء اسم جوليا هارتمان. - يا لله! أين هي؟ هل فتشت في غرف مراحيض القطار؟ - لا، لم يخطر لي ذلك. - ولا في القاطرة، لعلها متواطئة مع من فيها وهي مخبوءة هناك. - لم أبحث هناك. - إذن عد إلى القطار وابق فيه وابحث في المراحيض، وأنا أذهب إلى القاطرة. راقب رحبة المحطة قبل أن يسير القطار.
فدخل جوزف إلى القطار ووقف في الشباك يراقب الرحبة، وذلك الرجل أسرع إلى القاطرة وصعد إليها، وعند ذلك قرع الجرس ونفخ بوق القطار، وما كاد القطار يجلو من المحطة حتى رأى جوزف المرأة في صحن المحطة وقد وقع نظرها على نظره، فرفعت يدها وألاحت منديلها كأنها تودعه مسافرا وهي تبتسم، فأسرع إلى باب القطار وفتحه يريد الوثوب، فرأى الرجل الذي كان يخاطبه أمامه وقد نزل من القاطرة على إثر تحرك القطار، فانتهره هذا لئلا يعطب إذا وثب؛ فامتنع جوزف عن الوثوب وصاح له: ويحك! تلك هي في صحن المحطة، أسرع إليها قبل أن تفلت، إن العلبة في يدها.
وكان القطار قد ابتعد والرجل أسرع إلى صحن المحطة وقد لمح المرأة تخرج، ولكنه لما خرج من المحطة لم ير للمرأة أثرا فضلا عن عين.
الفصل الثامن والثلاثون
صيد العصفور
لقد صدق ظن ذلك الرجل، فإن تلك المرأة الداهية كانت مختبئة في غرفة مرحاض من مراحيض القطار، ولما وقف القطار برزت من الغرفة وتلصصت على جوزف، فإذا هو في رحبة المحطة وعيناه شائحتان، فعادت إلى مخبئها، ولما تحرك القطار خرجت ونزلت منه. حتى متى زايل الرصيف وهي تنظر إلى شبابيكه لمحت جوزف وحيته باسمه كأنها تسخر به، ثم لمحت الرجل الآخر يكلم جوزف، فأدركت أن هذا الرجل حليفه ولا بد أن يطاردها، ولا سيما إذ رأته مسرعا نحوها، فأسرعت واختبأت في غرفة مرحاض المحطة إلى أن شعرت أن الرجل خرج. وبعد برهة نوت أن تخرج فسمعت لغطا، فأدركت أن الرجل يسأل من في المحطة عنها، فكمنت إلى أن لم تعد تسمع صوتا وهي حائرة ماذا تفعل، إلى أن مضت عدة دقائق فسمعت دوي قطار، فبرزت فإذا قطار من القطارات التي تقف في كل محطة قد وصل وهو يتبع الجهة التي برح فيها القطار السابق، فأسرعت إليه واختبأت فيه، ولم يكن من ينتبه إليها إلا رقيب القطار وناظر المحطة؛ لأن الذين في المحطة قليلون، وما هي إلا دقائق معدودة حتى تحرك هذا القطار فتنهدت الصعداء.
بقيت صاحبتنا جوليا هرتمن - أو البارونة ليوتي، أو نينا فرست، أو الكونتس ألما فورتن كما عرفها القارئ بهذه الأسماء - بقيت في القطار موجسة أن يداهمها أحد، ولكن وقف القطار في بضع محطات صغيرة من غير أن يتعرض لها أحد، فاطمأنت وهي تقول في نفسها: لقد نجوت وظفرت.
ثم وقف القطار في محطة أودنبرج، فأطلت من شباك القطار عسى أن ترى أحدا من حلفائها المنتظرين، وجعلت تنظر هنا وهناك على غير هدى، فما شعرت إلا بيد تقبض على ذراعها، فالتفتت فإذا شرطي في ثوب كبتن وراءها يقول لها: هلمي يا سيدتي معي.
فجزعت وقالت: لماذا؟ - باسم جلالة الإمبراطور آمرك أن تتبعيني. - إني عبدة جلالته وخادمته، فأود أن أعلم لماذا؟ وإلى أين؟ - عليك أن تتبعيني بلا اعتراض يا مدام، وعلي أن أقودك عنفا إذا عارضت، ومتى بلغت بك إلى حيث أنت مطلوبة تعترضين وتستفهمين ما تشائين. - لعلك يا سيدي تطلب غيري وعثرت علي خطأ. - لا لا، وهبي الأمر كما تقولين فلا ضرر عليك إذ يطلق سراحك في الحال إذا لم تكوني المرأة المقصودة.
فسخطت به قائلة: ويحك! حسبي ضررا أن يسبقني القطار ، وأنا مضطرة أن أصل فيه. - تنالين التعويض الذي تعينيه في الحال. - إن ذلك مخالف للشريعة، وأنا واثقة أنك تقبض علي خطأ. - لا إذن لي لسماع الجدال يا مدام، فإذا لم تخرجي في الحال قبل أن يتحرك القطار اضطررت أن أجرك جرا ولو بهوان، فالأفضل أن تنزلي معي حالا.
ورأت صاحبتنا أن كلام الشرطي محتوم ولا مناص ولا حيلة، فانقادت صاغرة وهي تؤمل أن ترى أحدا من أعوانها، ولكن خاب أملها؛ لأن الشرطي قادها إلى خارج المحطة بأسرع ما يمكن وهي محتفظة بالعلبة شديد الاحتفاظ، وأدخلها إلى أوتوموبيل، فدرج بهما كالبرق الخاطف، وفي دقيقتين وقف الاوتوموبيل لدى منزل صغير لكنه جميل، فأدخلها الشرطي إليه ثم أدخلها إلى غرفة أنيقة الرياش بيد أنها مقفلة النوافذ؛ ولهذا كان النور فيها ضعيفا، ثم قال لها: تفضلي يا سيدتي اجلسي، وبعد قليل يسمح لك أن تعترضي وتسألي ما تشائين.
وبقي الشرطي واقفا في الباب نحو دقيقة إلى أن أقبل رجل، ففسح الشرطي له السبيل وانحنى أمامه بكل إجلال، فدخل.
فلما رأته البارونة ليوتي لأول وهلة ظنت أنه الرجل الذي رأته في محطة ستينا منجر يخاطبه جوزف ويرشده إليها، ولكن كيف وصل إلى هنا؟ فلما جلس تبينته جيدا، فوجفت قليلا ثم قالت: لا أدري سر هذه المعاملة، هل أصبح رجال البوليس قطاع طرق أيضا؟
فقال لها باسما: لماذا تقولين ذلك يا مدام؟ هل أخذ الشرطي شيئا منك؟ - لا، ألا يكفي أنه أخذني عنفا من القطار وجاء بي إلى هنا؟ - وهل ترين هذه الغرفة مغارة لصوص؟ - ولا هي دائرة بوليس، فإن كنت متهمة ففي دائرة البوليس استجوب، وإلا فأنا في مغارة لصوص وأنتم قطاع طرق. - فلنر من هو اللص يا مدام، أنى لك هذه العلبة؟ - قلت إني لا أجاوب إلا في دائرة البوليس. - هنا دائرة البوليس الخاصة بتهمتك يا مدام، فإن كنت بريئة من اللصوصية والسرقة أو الخطف فبرهني لي براءتك من سرقة هذه العلبة. - يستحيل أن أقول كلمة قبل أن أعلم صفة من يستجوبني، فلا أراني في دائرة بوليس، ولا في محكمة، ولا أمام ذي سلطة قانونية. - إنك أمام ذي سلطة قانونية، إني صاحب الأمر والنهي، فما هو اسمك؟ - اسمي البارونة ليوتي. - ما شاء الله، بارونة لصة. - إنك يا هذا تهينني. - هل تنكرين أنك سرقت هذه العلبة من فتى كان معك في الإكسبريس الذي سبق القطار الذي كنت فيه؟ سرقتها بين محطتي غرتز وستينا منجر.
فتبسمت البارونة قليلا من وراء اكمداد الغضب وقالت: عجبا! كيف تثبت أني كنت في ذلك القطار؟ - رأيتك بعيني قد نزلت منه. - ولماذا لم تمسكني حينذاك؟ - سعيت إليك فاختفيت، خرجت من المحطة فلم أجدك، فسألت عنك البوليس الذي أمام المحطة فقال: إنه لم ير سيدة وحدها خرجت من المحطة بعد انصراف الناس، فعدت أبحث عنك في المحطة فلم أجدك، فخفت أن تكوني قد خرجت من غير أن يلاحظك البوليس، فأوصيته أن يقبض على كل امرأة تخرج من المحطة ريثما أعود، وركبت أوتوموبيلي وطفت كل ذلك الحي المجاور للمحطة فلم أعثر عليك، فعدت إلى المحطة فأكد لي البوليس أنه لم تخرج سيدة وحدها من المحطة قط، فرجحت أنك لم تزالي فيها مختبئة، فسألت ناظرها فأكد لي أنه رأى سيدة في يدها علبة تركب القطار الذي جلا منذ دقيقتين، فركبت أوتوموبيلي وسبقت قطارك إلى هنا، وكان لي الحظ بلقائك يا مدام. - ونعم اللقاء، وإنما لم أكن أنتظر أن تتنازل لأن تطارد لصة وأنت صاحب الأمر والنهي. - إذا كانت اللصة بارونة، فيقتضي أن يطاردها أكبر من بارونة. - إن عملكم هذا اعتداء على الحقوق الفردية، ومصادرة للحرية الشخصية، ومنافاة للشريعة بل لإرادة جلالة الإمبراطور، لا أريد أن أناقش هنا. أريد أن أسأل في دائرة البوليس.
ووقفت تريد أن تخرج، فوقف الرجل وأمسك بيدها قائلا: مكانك وإلا ...
فسخطت به: ماذا تريدون مني؟ - أريد هذه العلبة.
وخطفها من يدها، وبأسرع من لمح البرق انتضت مسدسا من يدها وسددته إلى صدره وقالت: اترك العلبة حالا، وتأكد أنه لا يستطيع أحد أن يبتعد بهذه العلبة عني قبل أن تبتعد روحه عن جسده ، ردها حالا.
فجزع الرجل واكفهر وجهه وجلا وقال: حاذري يا امرأة أن ترتكبي جناية؛ لأنه لا يستطيع أحد حتى الإمبراطور أن ينقذك من القصاص. - اعلم يا هذا أني إذا ارتكبت جناية، فلا أبتغي نجاة من القصاص. - أقول لك ارمي مسدسك إلى الأرض. - رد العلبة إلى يدي. - إنك لوقحة.
وكانت متجهة نحو الباب مخافة أن يفاجئها أحد منه، وما خطر لها أن ينقض عليها من وراءها الشرطي الذي قادها؛ لأنه كان في غرفة مجاورة يسمع المناقشة، فلما سمع بذكر المسدس فتح الباب الآخر من ورائها وانقض عليها وأمسك بذراعيها؛ فأطلقت المسدس، فأصابت الرصاصة أعلى الجدار، وفي الحال خطف المسدس منها قبل أن تنطلق رصاصة أخرى، وصرعها إلى الأرض وصفد يديها وقيد قدميها، والرجل الآخر واقف. فلما أنجز الشرطي عمله، أشار إليه ذاك الرجل أن يتبعه وخرجا معا.
فجعلت البارونة تصيح وتصخب وهي تقول: إذا تركتماني هنا على هذه الحال أملأ الدنيا صراخا واستصراخا.
وأما الرجل فأوعز إلى الشرطي أن يذهب بالعلبة إلى حيث أرشده، ثم عاد إليها وقال: إذا بقيت تصرخين فلا تجهلين كيف أتقي صراخك.
فقالت: عار على رجلين أن يقسوا هذه القسوة على امرأة ضعفية.
الفصل التاسع والثلاثون
دهاء العصفور على الصياد
فقال: إن التي تجرأ على أن تلعب دورا فظيعا على جلالة الإمبراطور ليست ضعيفة، بل يجب أن تبقى رابضة في الحديد كل حياتها.
فجزعت البارونة وخافت العقبى الهائلة، ولكنها تجلدت وقالت بتوءدة: إني البارونة ليوتي، ولي معارف من النبلاء يشهدون أني حسنة السمعة، وأني ... - اعلم جيدا أن البارونة ليوتي اليوم كانت الكونتس الما فورتن بالأمس، والله أعلم ماذا كانت قبل الأمس. - إنك يا سيدي حاكم مستبد. هب أني كما تقول، فلماذا لا تسلمني إلى دائرة البوليس والتحقيق القانوني هناك يثبت قولي أو قولك؟ - إني فوق كل سلطة، فإذا كان لديك ما يبرئك من التهمة فقوليه الآن.
وكان الرجل يتمشى غاضبا فقالت له: إذا كنت يا سيدي حليما، وتمهلني حتى تسمع تاريخ حياتي تثبت لك براءتي . - إذا كنت لا تقرعي أذني بقصة مختلقة، فأسمع قولك، لعل في قصتك ما يفيد. - إني أشكر حلمك العظيم، كنت يا سيدي ابنة لأبوين فاضلين متوسطي الحال، وكانا يعنيان تمام العناية بتربيتي، وكنت في مدرسة القديسة حنة نابغة بين أترابي ...
فاختلج الرجل عند ذلك وحملق فيها واستمرت تقول: واتفق أن عظيما زار مدرستنا فتلوت لديه قصيدة أعجب بها وكافأني عليها، وما لبثت أن علمت أن ذلك العظيم بي أعجب لا بقصيدتي ...
فصاح بها: ويحك! هل تريدين أن تزعمي أنك ... - أجل، إني ماري هوتن التي اصطفاها البرنس رودلف ولي عهد النمسا خليلة له.
فانتهرها قائلا: ويحك! ما الذي جاء بطيفك الآن من عالم الأموات، وعهدي بماري أن الأوقيانوس الأتلانتيكي قد ابتلعها، يا للهول! يا للأقدار! أين كنت يا شقية؟ - لقد تقمصت روحي في هذا الجسد الجديد، وعدت الآن يا برنس للدينونة، وما تقمصت هذا التقمص إلا لكي يتناسى الناس وأهلي خاصة ماري هوتن التي هجرها البرنس بعد أن كانت أمينة في ولائه وطائعة لأهوائه وواثقة بوفائه، ولكن واندماه! لم يدم وفاؤه أكثر مما دام حملي الأليم، فهجرني في إبان توجعي.
فقال غاضبا: ولكنه زودك بكل ما يكفل راحتك وهناءك، فهل تنكرين؟ - أتمننى يا سيدي براحة الجسد بعد أن سلبت راحة النفس إلى الأبد؟ - كنت تعلمين أكثر مما كنت أعلم أن تلك النهاية لا بد منها ما دمت أنا وليا للعهد وأنت من العامة، فلا تقدرين أن تزعمي أني خدعتك. - هل كنت أعلم أني أحرم ثمرة أحشائي؟ - إن ثمرة قحتك حرمتك ثمرة أحشائك، ومع ذلك فأنت تعلمين أني كنت بريئا من تهمك، وأني لم أكن أعرف شيئا أكثر مما تعرفين. - إذا كنت أهتم في سلامتي المستقبلة فهل أعد وقحة؟ - لقد وعدتك بضمانتها، فلم تثقي بوعدي. - سرعان ما علمت قيمة وعودك وعهودك. - صه يا فتاة، بماذا وعدتك وعاهدتك؟ - هل نسيت أنك وعدت ألا تتركني حتى ولو تزوجت؟ - لم تصبري حتى تعلمي إن كنت أبر بوعدي، بل عمدت إلى الصخب والجلبة حول اسمي فجنيت ثمرة ثرثرتك. - كنت تريد أن أكون عبدة لك أو آلة صماء في يدك ... وهنا ذرفت دموعها وهي تقول مجهشة: فلا بدع أن تثقل يدي ورجلي بالحديد الآن، هذا جزاء التي خسرت مستقبلها في سبيل الحرص على راحتك، هذا جزاء التي أوهمت العالم أنها غرقت مع غرقى الباخرة داكوتا التي كانت مسافرة إلى أميركا، لكي يطمئن قلبك وقلب أبويك وذويك ولا يتهموك بالزيغان عن رغائبهم لأجلي، هذا جزاء التي خسرت عطف أهلها وحنانهم ورحمتهم، وأخيرا خسرت اسمهم في سبيل تضحيتها نفسها لك.
فتأثر البرنس شديد التأثر لكلامها وحل الصفادة عن يدها والقيد عن قدميها، وقال: والله لولا مخافة نارك ما توقيت شرك بهذا الحديد، وإذا كنت قد قلت من فمك أنك عدت إلى هذا العالم لأجل الدينونة، أفما أكون معذورا إذا أوجست منك وحسبت حساب شرك. - لم أتعرض لك، بل أنت اعترضت في سبيلي. - إذن ما الذي دعاك إلى اختلاس العلبة يا شقية؟ - هل ينكر علي أن أتجند في حرب أعدائي للانتقام ممن ظلموني؟ فما اكتفوا بأن حرموني إياك حتى حرموني ابنتي، آه من القساة، آه من الظلمة. - ألهذا إذن لعبت ذلك الدور الفظيع على أمي الإمبراطورة؟ - أجل؛ ولهذا ألعب هذا الدور الهائل أيضا على البارونة برجن التي تنكر على الإمبراطور علاقته مع كاترين شراط التي أنكرت على البرنس علاقته مع ماري هوتن، ولكنها لا تنكر الآن علاقته مع ابنة أخيها البارونة فتسيرا. الإمبراطور ملوم في حب كاترين؛ لأنه زوج امرأة، والبرنس ملوم الآن في حب ماري فتسيرا؛ لأنه زوج امرأة، ولكنه لم يكن ملوما في حب ماري هوتن؛ إذ لم يكن مقيدا بعهد مع زوجة، ما زلت أشفق أن يتصل بك أذى يا برنس فلم أتعرض لك، مع أني عشت على مقربة منك 12 سنة، وعشت عيشة المرأة العمومية بسببك، ولعلك رأيتني غير مرة في مراسح تريستا، وربما حدثتك نفسك بأن تغازلني وتحتظيني وأنت لا تدري أنك تغازل محظيتك الأولى، ولكني ابتعدت عنك حرصا على راحتك، مع أنه كان في وسعي أن ألعب عليك دورا هائلا فظيعا جدا.
فرق لها البرنس وقال: إني أقدر تصرفك هذا في الماضي قدره يا ماري، ولا أبخل بسعادتك في المستقبل يوم أكون أتم حرية وأعلى سلطانا، فصبرا يا ماري صبرا، وإنما أرجو أن تبعدي من طريق المكايد التي تكاد الآن في البلاط. - أبتعد، أفعل كل ما تأمرني به. اللهم إذا كنت تجدد عهدك، ولا أبتغي منك عربونا على تجديد عهدك إلا أن تضع ابنتي في حجري. - ابنتك؟ - نعم، ابنتي ابنتك. - هل خرفت؟ من يستطيع أن يرد الأموات إلى عالم الأحياء؟ - إن الذي ردني من قعر الأوقانيوس الأتلانتيكي إلى بلاد النمسا يقدر أن يرد ابنتي إلي. - أما أنت فمكرك ردك، وأما ابنتنا ... - فمكرك أيضا يردها. - كأنك تجهلين أو لا تثقين أنها ماتت في الثانية من عمرها. - كأنك تجهل أو تتجاهل أنها لم تمت، فيا للمكر! - ويحك! ماذا تقولين؟ - أثق بما أقول. - بماذا تثقين؟ - أثق أن ابنتنا لم تزل حية ترزق، وقد صارت صبية جميلة تحت رعايتك. - أحلف لك بعنقي وشرفي وبتاجي العتيد أني أجهل ذلك، ولا أصدق بما تقولين. - يا لله! أحقيق أنك تجهل الحقائق في بيت مدام فرنر في شارع فرنز؟ - في بيت مدام فرنر؟ - نعم، ألم تر أميليا؟
فانتفض البرنس وقال: أميليا؟ - أجل، أميليا، ألا تعلم أنها ابنتنا؟
فبهت أشد بهتة، وصمت كالأخبل الأبله، وبعد هنيهة قال: ويحك! كدت أعلق الفتاة، كدت أغرم بها؛ لأنها شعلة ذكاء وشعاعة جمال. - لا عجب أن تعجب بابنتك. - إنك يا ماري تمكرين. - لست أمكر، لماذا تذهب أنت إلى هناك؟ - أذهب لأن المنزل ملتقى لبعض أهل البلاط في غير المظاهر الرسمية. - ولماذا يكون ذلك المنزل كذلك؟ - لأن الفتاة وأمها أو مربيتها ممن تعطف عليهم البارونة برجن لعلة قديمة. - أجل والإمبراطورة تنفق على ذلك البيت لأجل هذه العلة القديمة السرية. إن الإمبراطورة امرأة فاضلة لم تشأ أن يكون مستقبل حفيدتها غير الشرعية تعسا، فعنيت بتربيتها من وراء البارونة برجن. - يا لله! أحقيقة ما تقولين يا ماري؟ - أجل، إني علمت كل مكايد البارونة منذ جعلت تعمل على اغتيالي إلى أن أخفت ابنتي عني، حتى لا تكون حجتي وذريعتي ووسيلتي إليك، إلى أن ادعت موتها لكي تموت تلك الحجة والوسيلة. - كأنك تكلمينني في حلم يا ماري. - بل في اليقظة، وأنت في ملء بصيرتك وبصرك، انظر هذه الصورة.
وتناولت من صدرها صورة أميليا وأرته إياها، فقال: أجل، هذه صورة الفتاة أميليا. - ولا تقول إنها صورة ابنتك! انظر القلب المرصع المعلق في عنقها، ما أظهر شكله. - أراه جيدا. - ألا تذكر أنك علقته بيدك في صدرها على إثر ولادتها. - أذكر ولم أنس. - هذا هو.
وتناولت من صدرها ذلك القلب ودفعته إليه قائلة: تأمله جيدا.
فتأمله ثم قال: عجبا! إني لم أره في صدر الفتاة ولا مرة. - بالطبع لا تراه إذا كانت البارونة برجن لا تريد أن تعرف أن أميليا ابنتك، فهي توصي الفتاة أن تنزعه من عنقها حين تستقبلك.
فقبل البرنس القلب ثم قبل الصورة وقال: واحناناه! واحنواه! واعطفتاه! سأجعلك يا أميليا سعيدة وأنت ثمرة الحب الأول. - إذن تعترف بحقي أن أملك ابنتي. - لا أضن عليك بهذا الحق يا ماري، وإنما أرجو منك الصبر والإمهال.
فتنهدت المرأة وقالت: واحر قلباه، لم يبق في قوس الصبر منزع يا برنس، أخاف أن تكون وعودك الآن كوعودك الماضية. - لا لا، سترين.
فتدللت عليه قائلة: إذن قبلني قبلة جديدة يا فريدريك، وطمئني أنك ستكون لي في المستقبل كما كنت في الماضي. - مه، هل نسيت أني زوج امرأة فاضلة الآن؟
فأجفلت قائلة: لا لم أنس، ولم أنس أيضا أن البارونة ماري فتسيرا تقاسم زوجتك عشرتك أيضا. - ابتعدي عن هذا الموضوع يا ماري، فما علاقتي بالبارونة فتسيرا إلا علاقة علم وأدب.
فتبسمت له سائلة: ولا تنكر يا برنس أن لها نصيبا من قلبك كنصيب زوجتك. - ربما كان لها ذلك جزاء علمها وأدبها. - ترى ما هو نصيبي منك يا برنس؟ - لك نصيب تعرفينه يا ماري وستحققه لك الأيام المقبلة، فلا تتسرعي، دعيني الآن في مشاغلي.
فانكمشت المرأة إذ شعرت أن البرنس يعدها لكي يسكتها فقط وقالت: لقد انتهت مشاغلك منذ صباح اليوم يا برنس.
فأجفل وحملق فيها قائلا: ماذا تعنين؟ - أعلم أن مشاغلك محصورة في البارونة فتسيرا. - أجل. - البارونة نفيت اليوم نفيا أبديا من كل النمسا، وحرم عليكما أن تجتمعا حتى في الحلم بعد الآن.
فامتقع البرنس وقال: تكذبين. - هذه هي البينة الساطعة لصدق قولي يا برنس.
ودفعت إليه أمر الإمبراطور بنفي البارونة فتسيرا وقالت: اقرأ أمر الإمبراطور وشاهد بعينك إمضاء البارونة فتسيرا عليه الدال على أنها اطلعت عليه ونفذته.
فانتفض البرنس نفضة المصروع وصاح بها: ويحك! إنها لمكيدة هائلة يا شيطانة. - لا تسخط بي، إني بريئة. - كيف وصلت يدك إلى هذا الأمر الهائل؟ - المقادير يا برنس، المقادير. - والمكيدة يا شقية؟ - المكيدة مكيدة ماري فتسيرا نفسها، إن الإمبراطور ينقم على كل من يشترك في مكيدة ضده، ومتى صرت إمبراطورا تفعل كذلك. - وماري؟ - برحت فينا قبل الظهر، ولا أظنها تقف إلا في أميركا الجنوبية، أو في الصين، أو في الهند.
فاشتد غضب البرنس ولطم صدغيه بكفيه، وصاح: الويل للعاتي الظالم، الويل للباغي.
واشتد انفعاله حتى انقلب مغمى عليه.
الفصل الأربعون
مطاردة
كانت الساعة الرابعة بعد الظهر حين وصل قطار قادم من نيوستاد إلى أودنبرج، فنزل منه فون درفلت، وما صار في صحن المحطة حتى التقى بالبارونة ليوتي، فقال لها: لقد أخذت تلغرافك الذي أرسلته من سينا منجر وفهمت منه أنك نجحت، فأسرعت لكي ألاقيك في نيوستاد فلم أجدك في القطار الذي انتظرت أن تكوني فيه، وسألت عنك تلفونيا في فينا فعلمت أنك لم تصلي بعد، فخفت أن يكون قد طرأ لك طارئ، فجئت إلى هنا. - أجل، لقد طرأ الطارئ. - ويحك أين العلبة؟ - اغتصبها مني مغتصب، أخذني شرطي برتبة كبتن قسرا وعنفا من القطار الذي كنت تنتظرني فيه في هذه المحطة، وقادني إلى منزل كان ولي العهد ينتظرني فيه، فأخذ العلبة مني وأرسلها مع ذلك الشرطي ولم يطلق البرنس سراحي إلا الآن. - أين ذهب ذلك الشرطي؟ - ركب أوتوموبيلا، ولا بد أن يكون قد أصبح في فينا الآن أو على أبوابها. - هل أنت واثقة أنه ذهب في أوتوموبيل؟ - لا شك عندي بذلك؛ لأنه قادني إلى ذلك المنزل بأتوموبيل، وبعد ما سلمه البرنس العلبة سمعت دوي الأوتوموبيل وهو يفارق ذلك المنزل. - ويحك! هل عدمت حيلة للتخلص؟ - هل تنتظر من امرأة أن تقوى على رجلين ذوي سلطة؟ - لا أدري ماذا أقول لك، أما استطعت أن تلعبي دورا على البرنس الفيلسوف الساذج؟ - قضي الأمر قبل أن أتمكن من الدهاء على البرنس. - ففكر فون درفلت هنيهة ثم قال: عليك أن تنتظري في المحطة القطار الذي يصل الساعة الخامسة قاصدا إلى فينا فتذهبين فيه، ويغلب أن تري فيه الكولونل هان فرنر فانتظراني أو انتظرا تلفونا مني في محطة نيوستاد. •••
نعود إلى الكبتن ملن الذي استلم العلبة من البرنس رودلف، فإنه ركب الأوتوموبيل قاصدا إلى فينا، وما هي إلا ساعة من الزمن حتى وصل إلى النهر الذي يمر بنيوستاد، وهو رافد من الروافد التي تصب في نهر الدانوب، فرأى الجسر الذي يعبر عليه منسوفا والناس حوله من هنا وهناك وهم يلغطون، فسأل عن سبب نسفه؟ فقيل له إن بعض الأشرار نسفوه لغرض مجهول وفروا، فأدرك أن نسف الجسر كان بدسيسة من الخصوم.
فحار الكبتن ماذا يفعل إذ لا جسر يعبر عليه من ذلك الطريق غير ذلك الجسر، ففكر مليا، ثم خطر له خاطر فلجأ إلى خان قريب أودع فيه أوتوموبيله، وتأبط العلبة وعاد إلى ضفة النهر واستأجر زورقا من الزوارق التي تستأجر لعبور النهر وركب فيه وهو طامع بأن يستأجر أوتوموبيلا من نيوستاد، ولكنه ما لبث أن رأى ضابطين يتمشيان على ضفة النهر الأخرى، فأوجس منهما وأشار إلى صاحب الزورق أن ينحرف به نازلا مع مجرى النهر إلى مكان بعيد، ولكن صاحب الزورق لم يصخ إلى كلامه، فأدرك أن هناك مكيدة ضده، ولطالما حذره البرنس من كيد الكائدين، فانتهر الزورقي فلم يعبأ بانتهاره، فما كان منه إلا أن قبض عليه بسرعة ورماه إلى النهر، وجذب الزورق بنفسه مبتعدا عن الشاطئ، فأسرع بعض الزورقيين إليه وهم يتوعدونه، ولكنه ما زال مسابقا لهم إلى أن أصبح بالقرب من الجسر الخاص بالسكة الحديدية، وكان أولئك الزوارقة قد أوشكوا أن يدركوه، فوثب من الزورق إلى الشاطئ الأول الذي كان قد تركه وصعد إلى الصقالة، فتحداه الزوارقة يريدون القبض عليه، فوثب إلى اليبس وأطلق لساقيه العنان، وأسرع إلى حيث كان أوتوموبيله فاستقله، ودرج به عائدا في الطريق الذي جاء منه.
وما زال سائرا حتى قارب أودنبرج على بعد بضعة أميال منها، وفيما هو ينعطف في منحنى إذ التقى فجأة بأوتوموبيل قادم عليه ورأى فيه رجلا بثوب ملكي وضابطا، فلوى لأوتوموبيله العنان وكان الأوتوموبيل الآخر قد أصبح على بعد 20 مترا منه، فسمع أحد الاثنين يصيح به أن يتوقف، فلم يعبأ بل استمر سائرا، ولكن الأوتوموبيل الآخر كاد يدركه وأصبح على قيد بضعة أمتار منه، فصاح به الضابط أن يتوقف، فالتفت إليه قائلا: إني مأمور أن أستمر في سبيلي ولا أصيخ لأمر أحد.
فصاح الضابط: إني بصفتي أعلى منك في الرتبة العسكرية آمرك أن تتوقف، وإلا عوقبت عقابا شديدا. - إن الذي أمرني ليس فوق سلطته سلطة، وهو يجاوب عني عند المحاكمة.
فأجابه الضابط: وإني مأمور من أعلى سلطة أن أستوقفك مهما كان آمرك عظيما. - لن أتوقف. - إذا لم تتوقف فإني مأمور بإطلاق الرصاص عليك. - فلم يصخ الكبتن له بل زاد سرعة أوتوموبيله، ولكن إلى أين؟ من الرمضاء إلى النار، من هؤلاء إلى الجسر المنسوف، وكان إلى يمينه فرع طريق يؤدي إلى مدينة راب فعطف إليه، وعند ذلك دوى الرصاص فوق رأسه، فانحنى حتى أصبح مصونا بقفا الأوتوموبيل، فدوت بضع رصاصات فوق رأسه، ثم لم يعد يسمع لا دوي الرصاص ولا دوي الأوتوموبيل، فالتفت إلى ورائه فإذا الأوتوموبيل الذي يطارده قد توقف عند المنحنى كأن عارضا عرض له، فاطمأن قليلا ولكنه ما لبث أن رأى الأوتوموبيل الآخر يتبعه عن بعد، فجد بملء سرعة أوتوموبيله، على أنه خاف أن يدركه مطارداه، ففكر أن يجد مهربا، وإذا بفارس مقبل عليه فتوقف عنده واستوقفه وقال له: إني مضطر يا هذا بأن أستخدم حصانك نصف ساعة فقط، وأترك هذا الأوتوموبيل في عهدتك إلى أن أعود.
فأجابه الرجل: إني مستعجل في طريقي.
فقال: باسم جلالة الإمبراطور آمرك أن تطاوعني؛ لأني مأمور بالإسراع للقبض على جان، فإذا لم ترعو قبضت عليك باعتبار أنك الجاني.
فهاب الفارس الأمر وترجل عن حصانه، فامتطاه الكبتن ولوى عنانه عن طريق الأوتوموبيلات إلى طريق ضيق مطروق، وبلغ مطارداه إلى تلك النقطة حتى أصبح بعيدا عنهما، فلا أوتوموبيلهما يستطيع اللحاق به، ولا سوقهما تستطيع أن تطارد حصانا. على أن الرجل الفارس أخبرهما أن الطريق الذي سار الشارد فيه يؤدي إلى قرية صغيرة وراء الرابية تدعى «شتل».
فبقي أحدهما وهو فون درفلت في أوتوموبيل يراقب الطريق لئلا يعود الكبتن إليه، والآخر وهو الكولونل فرسن الذي اصطحبه فون درفلت من أودنبرج ركب الأوتوموبيل الآخر واصطحب معه صاحب الحصان إلى قريته، وهي قريبة حيث استعان به على استئجار حصان وقصد إلى قرية شتل، وبحث عنه هناك فقيل له أنهم رأوا فارسا يجد المسير إلى مدينة أودنبرج.
فعاد إلى حيث كان ينتظره فون درفلت وركبا الأوتوموبيلين قاصدين إلى أودنبرج، ولما بلغا إليها وبحثا علما أن الكبتن ركب قطار المساء إلى نيوستاد، فعادا بأوتوموبيل إلى نيوستاد بعد أن تلفن فون درفلت إلى أعوانه أن يستوقفوا الكبتن فيها حال وصول القطار.
الفصل الحادي والأربعون
ساعة الدينونة
منذ الساعة الثامنة شرع المدعوون إلى الحفلة يتوافدون إلى القصر الامبراطوري الفخم، والقصر كأنه شعلة نور، وقد اشتغل المزينون أسبوعا كاملا في تزيينه، فظهر في حلة من الزينة والزخرف لم يسبق له مثلها منذ زواج الإمبراطور.
وكان حديث بعض الناس المتهامسين: ترى هل تظهر الإمبراطورة بالحلي النفيسة النادرة المثال؟ وإذا لم تظهر بها فماذا يكون من سجن بعض المدعوين من الحزب المشاغب؟
أما الإمبراطور فكان لا يزال في غرفته الخاصة بحجة أنه لا يزال يرتدي ثوبه اللائق، ولكنه كان كل دقيقة يسأل عن فون درفلت وليس من يأتيه بخبر، وكان آخر الأخبار عنه أنه وصل إلي نيوستاد ولم يعلم ماذا كان من أمره فيها.
فخامره قلق ثم دخل إلى حجرة الإمبراطورة، فإذا هي في ثوب الحفلة ولكنها بلا حلي، فلم يستطع ان يكتم غيظه فقال: ماذا تنتظرين يا إليصابات؟ - أنتظر أوامرك يا صاحب الجلالة. - عندي أن تتحلى بحلاك الخاصة في الفصل الأول من الحفلة، وفي الفصل الثاني تظهرين بالحلي المنتظرة. - ليكن ما تريد يا مولاي، ولكن بماذا تستطيع أن تتلافى استهجان القوم وهم ينتظرون أن يروا منذ الآن الحلي نفسها التي رأوها في الملعب، ولا يهمهم أن يروا غيرها في الفصل الثاني؟
فتأفف الإمبراطور وقال: ولكنها متأخرة. - ننتظر. - وهؤلاء المشاغبون لا ينتظرون، أليس من نكد الدنيا أن يضطر المرء أن يكون في بيته مداريا لعبيده؟ - إن صاحب الحق يا مولاي سيدا كان أو عبدا لا يضطر أن يداري أحدا.
فبتر الإمبراطور الحديث وخرج إلى حجرته غاضبا، فوجد وزيره ينتظر لدى بابها، فقال له: ما وراءك يا تسزا؟ - القوم يلغطون يا مولاي، وقد استبطئوا جلالتك وجلالة الإمبراطورة. - عد وأعلن قدومي بعد قليل. - وجلالتها؟ - لن تتأخر كثيرا عني.
ثم سأل الإمبراطور سكرتيره الأول فون هلر عن فون درفلت، فقال: إن آخر أخباره يا مولاي يدل على أنه لم يبرح نيوستاد بعد؛ لأنه لم يتوفق التوفيق المنتظر.
فاشتد غضبه جدا وقال: ويل للكائدين، ماذا تعني أنه لم يتوفق التوفيق المنتظر؟ قل بالصراحة ماذا ورد من أخباره؟ - إن اللص المحتال وصل إلى نيوستاد بعد مطاردة طويلة واختفى فيها، وآخر الأخبار أنهم استدلوا على وجوده في دير الراهبات العازريات. - عجبا! وإلى الآن لم يقبضوا عليه؟ - لا يخرج بل يتهدد بالرصاص كل من يقبل عليه، ولا يدع الراهبات يخرجن من رحبة الدير مخافة أن ينسفوا الدير به، فكأنه يحفظ الراهبات رهائن! - يا لله! لا بد أن تكون نيوستاد قائمة قاعدة الآن لأجل ذلك، ولطالما أوصيت فون درفلت الغبي أن يتجنب الشغب والضوضاء حول هذه المسألة. - إن فون درفلت يا مولاي لحكيم جدا، وهو يستخدم الحيلة في كل أعماله ، ولولا تحاشيه الضوضاء والجلبة لما عجز عن القبض على ذلك الشقي. - أين ولي العهد، ألم يأت بعد؟ - كلا يا مولاي، ولا ظهر في القصر إلى الآن، والبرنسس زوجته قلقة جدا. - عجبا! عجبا!
عند ذلك أطل الوزير تسزا وقال: مولاي إن تأخر جلالتكم دقيقة أخرى غير محمود العقبى، إن بعض المشاغبين شرعوا يغلظون ويتقولون. - ها أنا قادم، أعلن دخولي إلى البهو يا فون هتلر.
ثم مشى الإمبراطور إلى البهو وهو يجاهد في إخفاء اضطرابه، وتقدمه الفون هتلر وصاح بملء صوته: جلالة الإمبراطور.
وساد السكوت في البهو لحظة، ولكنه سمع من يهمس قائلا: «وجلالة الإمبراطورة!»
ثم دخل الإمبراطور وطاف بين الجمع والفون هتلر يقدم له بعض من يكون في سبيله، وما هي إلا لحظة حتى التقى بالفون فرغتن، فانحنى له هذا بكل إجلال، فتعمل الإمبراطور الابتسام له قائلا: عسى أن تكون مسرورا يا فون فرغتن ببهاء هذه الحفلة. - ليعش جلالة الإمبراطور، إن الحفلة لبهية باهرة، وإنما ينقصها بهاء تشريف جلالة الإمبراطورة. - إن جلالتها تعبت من إتقان التبرج، فشاءت أن ترتاح قليلا قبل أن تدخل إلى البهو لكي تسترد قوتها ونشاطها وبهجتها. - لا بدع أن تتعب جلالتها من ثقل الحلي النفيسة التي ستقر بها عيون شعبها الليلة.
فلم يستطع الإمبراطور أن يتمالك غيظه، فتركه وأشغل نفسه بغيره، على أنه ما لبث أن صار يسمع من اللاغطين تهامسهم: «أين الإمبراطورة؟ الحلي لم تصل. الحلي مفقودة.» فلم يعد يستطيع صبرا ولا كظما لغيظه، فخرج من البهو ودخل إلى غرفة الإمبراطورة، فرأى البارونة برجن واقفة بين يدي جلالة الإمبراطور، فاشتد تغيظه ولم يستطع السكوت فقال: هل وصلت الحلي؟
فقالت الإمبراطورة: تسألني يا مولاي؟ - بل اسأل وصيفتك البارونة برجن.
فاكفهرت البارونة قليلا وقالت: كيف أدري يا مولاي؟ - كيف تدرين؟ هل تنكرين أنك احتلت حيلة هائلة حتى حصلت على الأمر بطلب الحلي؟ - عفو مولاي، لم أحتل قط.
فسخط بها قائلا: عجبا! أما أخذت الأمر من رئيسة دير الراعي الصالح؟ - لا أنكر أني أخذته منها. - ما شأنك حتى تأخذيه ؟ - كنت يا مولاي بالصدفة زائرة لها، فورد لها كتاب من جلالتكم، ولما لم تفهم المقصود منه عرضته علي لكي أفسره لها، فقلت لها إني أعود إلى جلالتكم به. - حسنا، ولكنك لم تأت به إلي. - ذلك لأني فهمت أنه أمر لشخص آخر، وقد أرسل خطأ إلى رئيسة الدير، ولكي لا يفوت الوقت أرسلته إلى من قصدتم جلالتكم أن يرسل إليه مع رسول لا يقل طاعة وأمانة لجلالتكم عن الرسول الأول.
فقدح الشرر من عيني الإمبراطور وقال: أصبحت الإمبراطور الأول في البلاط تمضين وتقضين وتأمرين! - كلا يا مولاي، بل أنا منفذة أمر جلالتكم.
وكاد الإمبراطور يرتجف من الحنق فقال: حسنا، وأين رسولك الطائع الأمين الآن؟ - إن أهل المكايد والدسائس في البلاط راموا يا مولاي أن يشوهوا أمانته ويقاوموا طاعته، فجعلوا يطاردونه من مكان إلى مكان، وهو لا يسلم الأمانة إلا بعد تسليم روحه، فما الذنب ذنبه ولا ذنبي يا مولاي، وإنما هو ذنب ذوي المكايد في هذا البلاط. - صه. مه. لا أعرف كائدا ودساسا في البلاط سواك. - ربما كنت كما تقول جلالتكم. - إذن تعترفين! - إذا كان جلالة الإمبراطور يغمض جفنه عن الدسائس التي تدس والمكايد التي تكاد ضد الإمبراطورة، فلا حيلة لوقاية جلالتها من هذه المكايد والدسائس إلا بمكائد ودسائس مثلها. - صمتا، لا أحد يجسر أن يكيد لجلالتها. - إن الذين يطاردون الآن الرسول الأمين هم أنفسهم الذين كادوا لجلالتها تلك المكيدة الفظيعة التي سيقت بها جلالتها إلى دائرة البوليس كمجرمة، وهم أصحاب الحول والطول في البلاط الآن. - ويحك ماذا تقولين! - أقول يا مولاي إن المدعوة البارونة ليوتي التي تستأمن على أسرار جلالتكم هي نفسها الكونتيس ألما فورتن التي خدعت جلالتها وقادتها إلى المكان الدنس، وهي نفسها نينا فرون الممثلة وزميلة كاترين. - صه. وما شأن نينا هذه بالبلاط؟ - هي يا مولاي صديقة الفون درفلت وشريكته في المكائد.
فتجهم الإمبراطور وانقلبت سحنته وقال: ويحك يا امرأة! غدا تستجوبين عن كل هذه الأقوال، وغدا أقيم ميزان الدينونة، وغدا أعاقب كل ذي مكيدة شر عقاب. - إن غدا ليوم سعيد في تاريخ البلاط يا مولاي؛ إذ يتطهر البلاط فيه من أهل المكر والخديعة، وتستقل جلالة الملكة في عرشها. فأهلا بالغد.
عند ذلك وافت إحدى الوصيفات تقول: إن الوزير تسزا يرجو الامتثال لدى جلالة الإمبراطور في الحال.
فاستقبله الإمبراطور في غرفته، فقال الوزير: إن الجمع ضج من غياب جلالتكم ومن تأخر جلالتها.
فسخط به الإمبراطور قائلا: ويحك! هل انعقد لسانك؟ أليس لك منطق يسكت الجمع؟ - إن ظهور جلالتكم في البهو لأفصح من منطقي يا مولاي.
فذهب الإمبراطور إلى البهو ووقف في وسطه، فسكت الجمع في الحال، فقال الإمبراطور: إن جلالة الملكة تشعر بصداع شديد وقد أصابها إغماء، وذلك نتيجة الجهد في الاستعداد لهذه الحفلة، وليس في وسعها أن تحضرها.
فسرى في القوم همس كأنه الريح في الغابة، فحواه «ذلك القول إفك وبهتان»، فأتم الإمبراطور كلامه بقوله: «الآن، وستبذل جهدها في أن تظهر في الحفلة ولو دقائق قليلة إن استطاعت.»
فسمع من ورائه من يقول: تستطيع إذا شاءت.
فلم يستطع الإمبراطور أن يكتم غيظه فاستمر يقول: وإذا لم تستطع، فتلتمس من شعبها المحبوب عذرا وتعد أن تقيم حفلة أخرى.
عند ذلك وقعت عينه على فون درفلت مطلا من باب البهو الداخلي الذي وفد منه الإمبراطور أولا، ورأى في وجهه إشراقا، وفي عينيه غمزة، فاستتم خطابه قائلا: على أني أثق أن جلالتها ستنتعش حالا وتبتهج بمرأى شعبها المخلص.
فدوى المكان بالتصفيق الحاد، وعلى إثره خرج الإمبراطور من البهو توا إلى غرفته الخاصة، فرأى العلبة بين يدي فون درفلت وهو متهلل.
الفصل الثاني والأربعون
الضربة القاضية
فقال الإمبراطور مستبشرا: تأخرت يا فلت. - ولكني والحمد لله نجحت يا صاحب الجلالة. - افتحها يا فلت لنقدم الحلي لجلالة الإمبراطورة. - المفتاح لم يزل مع ذلك المحتال الأول الذي اختفى خبره. - اكسرها إذن وهات الحلي التي فيها.
فأعمل فون درفلت مدية في العلبة، وبعد الجهد الجهيد انخلع الغطاء، وكانت دهشتهما عظيمة إذ لم يجدا فيها حلى البتة، بل بعض أدوات معدنية مختلفة تشغل مكان الحلي.
فاكفهر فون درفلت ، وصاح الإمبراطور: الويل لكم أيها الأشرار. هل بلغت الوقاحة منكم أن تلعبوا أدواركم علي أيضا؟ غدا يوم الدينونة.
فجعل فون درفلت ينتفض فرقا وقال: مولاي إذا أمرتم جلالتكم بالقبض على البارونة برجن الآن، فإني أستطيع أن أجد الحلي في مخبئها.
الويح لك ولها. ادعها إلي الآن حالا.
فخرج فون درفلت يبحث عن البارونة، وبقي الإمبراطور ينتفض غضبا ويرتجف حنقا. •••
نعود إلى البهو. فبعد أن خرج الإمبراطور منه عاد اللغط بين الجمع بسرعة، وما زالت الجلبة ترتفع حتى تشجع بعض المتطرفين ووقف على كرسي وصاح بالجمع: سمعا أيها السادة.
فسكت الجمهور سكوتا مطلقا ثم قال: إن ما ظهر لنا في هذه الحفلة الليلة حتى الآن يدل على أن الشعب لم يزل ألعوبة في أيدي ذوي السلطة.
فصاح بعض الحضور من حزب الإمبراطور: اصمت وانزل وإلا قبض عليك بتهمة التحريض على الثورة.
فدوى البهو بشبه ضجة كادت تنتهي باضطراب فظيع، لو لم يظهر الوزير تسزا في باب البهو ويصيح ملء شدقيه: يا قوم سمعا. يا قوم إصغاء.
فسكت الجمع فقال: بكل أسف وبحزن شديد أنعي إليكم أميرنا المحبوب المأسوف عليه البرنس رودلف ولي العهد، وغدا صباحا ينشر تفصيل وفاته، عزى الله الأسرة المالكة الجليلة بكم وبسائر الشعب.
فسكت الحضور وسكنوا كأن على رءوسهم الطير، ثم جعلوا يتهامسون بشأن هذا الخطب المفاجئ. •••
في إبان سخط الإمبراطور وشدة غيظه، دخل عليه كاتب سكرتيره فون هتلر وقال: مولاي بكل أسف وبحزن شديد ألقي بين يديكم هذا التلغراف.
فاستغرب الإمبراطور كلام سكرتيره وتناول التلغراف بيد مرتفجة وتلا:
من دائرة بوليس أودنبرج
سعادة فون هتلر
بكل أسف وحزن شديد أبلغ سعادتكم أننا عثرنا على سمو البرنس رودلف ولي العهد المحبوب قتيلا في الصرح الذي اعتاد سموه أن ينزل فيه، ووجدنا إلى جانبه مسدسا وأمرا إمبراطوريا بنفي البارونة فتسيرا، وقد استجوبنا الخادم القائم على حراسة الصرح فقال: إن سمو البرنس جاء إلى الصرح الظهر، وأمره بأن يذهب ولا يعود حتى المساء إلى الصرح، ولما عاد في المساء وجد سيده على هذه الحالة المفجعة، فأسرع وأنذرنا. لا أدري يا سيدي كيف ترفعون خبر هذه الفاجعة إلى جلالة الإمبراطور والإمبراطورة، غدا صباحا نرفع إليكم تفاصيل التحقيق.
مدير بوليس أودنبرج
فما انتهى الإمبراطور من تلاوة التلغراف حتى لطم خديه وصاح: واولداه! واحشاشتاه! والوعتاه!
وما كان أشد وقع الفاجعة على الإمبراطورة وسائر من في البلاط، وأما جمهور المدعوين إلى الحفلة فانسلوا بسرعة على إثر انتشار الخبر في البلاط.
وهكذا ما تملص الإمبراطور من الأزمة إلا بفاجعة هائلة. •••
وفي صباح اليوم التالي نشرت الصحف نعي البرنس مبهما؛ إذ لم تصدر النشرة الرسمية تنعيه، فتقول الناس أقاويل مختلفة، فاضطر البلاط أن ينشر نشرة رسمية قبيل المساء مفادها أن البرنس وجد في صرحه في أودنبرج منتحرا، وثبت أن انتحاره كان على إثر نوبة عصبية انتابته.
على أن التحقيق السري لم يتوصل إلى إثبات جناية القتل على أحد، فترجح أنه مات منتحرا، ولما سئل فون در عن سبب وصول الأمر بنفي البارونة فتسيرا إلى البرنس قال: إنه بعد أن استلمه من الإمبراطور سلمه إلى البارونة ليوتي لكي تبلغه إلى البارونة فتسيرا، ذلك لأنه كان منهمكا بالمهمة التي نيطت به، وسئلت البارونة ليوتي فقالت: إن البرنس أسرها واغتصب منها العلبة وما معها من الأرواق، ثم أطلق سراحها، فتركته حيا يرزق.
وأما الماجور جوزف شندر فقال: أنه نفذ أمر البارونة برجن؛ لاعتقاده أنه صادر ضمنا من جلالة الإمبراطور، وهو لا يدري غير ذلك. وأما الكبتن ملن فقال: إنه نفذ أمر البرنس بحروفه.
ثم حفظت أوراق التحقيق السري مخافة أن تنفضح السرائر التي لا فائدة من انفضاحها.
أما البارونة ليوتي فأطلق سراحها وتهددت بأن تبقى صامتة وإلا قطع عنقها، وأما جوزف شندر فسجن تهمة مخالفته النظام العسكري، وأما ميزل وأميليا فاختفتا من فينا في ليلة الفاجعة نفسها.
وأما البارونة برجن فبقيت إلى جنب سيدتها الإمبراطورة وليس من يجسر أن يمسها بسوء، وبقيت معها حتى رافقتها في سياحتها بعد حين كما تقرأ في الخاتمة.
الخاتمة
بقية التاريخ
بعد وفاة ولي العهد كان الإمبراطور فرنسوا جوزف في حزن شديد وحداد مديد؛ لأنه كان يحب وحيده ولي العهد؛ فتاب عن عشيقته كاترين شراط، ولجأ إلى تعزية زوجته الإمبراطورة؛ فكانت له خير تعزية وسلوان.
على أن الزمان يلأم الجروح، فما عتم جلالته أن تاق إلى عشرة كاترين فاستدعاها، ولما رأت زوجته أن الداء تأصل فيه، برحت فينا بحجة تبديل الهواء والاستشفاء، وساحت في سائر أوروبا إلى أن وصلت إلى سويسرا، فاغتالها هناك فوضوي يدعى لوشيني، فعظم حزن الإمبراطور عليها، ولكنه لم يجد معزيا في إبان حزنه سوى كاترين شراط.
بعد ذلك أصبح الإمبراطور في يد كاترين؛ إذ تعلق بها تعلقا شديدا، وما انتهى الحداد على الإمبراطورة حتى اقتربت كاترين إلى البلاط كثيرا، ودنا النفوذ إلى يدها، وأصبحت صروحها بلاطا غير رسمي، وصار يقصد إليها كل من توسل إلى نفوذ وحول وطول؛ ذلك لأن الإمبراطور كان يمنحها كل رغيبة من رغائبها، وهيهات أن ضن عليها بمطلب، وفي كثير من الأحوال كانت تنال عطايا عزيزة في مقابل الرتب والأوسمة التي كانت تستصدرها لذويها.
وقد أغدق عليها الإمبراطور من النعم ما لم يغدقه حاتم طي من قبله، حتى كاد بسبب ذلك الإسراف يقع في إفلاس كل عام، وكاترين كانت تنفق بسعة ومن غير حساب.
وقد منحها الإمبراطور علاوة على الجواهر والحلي التي تقدم الحديث عنها قصرا فخما في رينغ ستراس في فينا، وصرحا في بوليو في مصايف فرنسا، وقصرا في هتزنبرغ، وصرحا في أشل.
والإمبراطور بعد بضع سنين من ترمله فاجأ العائلة المالكة ووزراءه بعزمه أن يتزوج كاترين شراط ويجعلها إمبراطورة، فبغت وزراؤه لهذا النبأ الداهش، وبذلوا جهدهم في إقناعه أن عمله هذا يحط من مقام العرش بل يزعزعه؛ ولكنه لم يرعو.
فتوسلت إليه ابنتاه الأرشدوقة فاليري أوستريا والبرنسس جيسيلا أميرة بافاريا أن يعدل عن هذا العزم، فازداد إصرارا، فقصدت الأرشدوقة جيسيلا وهي أحب بنيه إليه إلى مدام كاترين شراط، وتوسلت إليها أن تنقذ الإمبراطور من هذه الورطة التي يلقي بنفسه فيها مخافة أن يخسر العرش برمته، وبسطت لها نتيجة هذا الزواج الفظيعة، فارعوت كاترين، وانتهى الحديث بذرف المرأتين دموعهما، فاجتمعت كاترين في اليوم التالي بحبيبها الشيخ وأخبرته أنها لن تتزوجه، ولكنها تبقى صديقته المخلصة.
ومن ذلك الحين كان زوار الأرشدوقة يرون صورة كاترين معلقة عندها في غرفتها الخاصة، وهي لا تستنكف أن تقول إن كاترين ليست صديقة الإمبراطور وحده، بل هي صديقة ابنته أيضا.
على أن نفوذ كاترين ومقامها انقضى بانقضاء حياة الإمبراطور فرنسوا جوزف فجاءة، ولما ذهبت إلى البلاط لكي ترى جثته لآخر مرة منعتها ابنتاه، فعادت كاترين إلى مقام العامة كما كانت، وحسبها ما لقيت من المجد والعز في عهد حبيبها الإمبراطور.
1
صفحه نامشخص