فاطمة الزهراء والفاطميون
فاطمة الزهراء والفاطميون
ژانرها
فالمحسوسات كلها أوهام وأحلام، وكلها غشاء باطل يزداد بعدا من الحقيقة كلما ابتعد من العقل وانحدر في اتصاله بالهيولي طبقة دون طبقة، فإن العقل دون الأحد، والنفس دون العقل، والمحسوسات دون النفس، وهكذا تهبط الموجودات طبقة بعد طبقة حتى تنحدر إلى الهيولي التي لا نفس معها، وهي معدن الشر في العالم؛ لأنها سلب محض يحتاج أبدا إلى الخلق، وهو الإيجاد أو الإيجاب.
وقد صدرت النفس الفردية من النفس الكلية، ولها كالنفس الكلية التي صدرت منها اتجاهات. فهي باتجاهها إلى النفس الكلية إلهية صافية، وباتجاهها إلى المحسوسات والأجساد حيوانية شهوية. وليست النفس عند أفلوطين ملازمة للجسد كما يقول أرسطو، بل هي جوهر منفصل عنه سابق له كالمثل الأفلاطونية، فلا تقبل الفناء ولا يحصرها الزمان والمكان. وهي تصدر من النفس الكلية اضطرارا كما صدرت النفس الكلية من العقل الأول، مستجيبة لطبيعة الإصدار في ذلك العقل، وللشوق الهيولاني الذي يترفع بالهيولي إلى منزلة المحسوسات فالمعقولات.
والشر في العالم هو الهيولي؛ لأنها سالبة تنزل بالمعقولات والروحيات التي لا تلابسها، ولا محيد عن الشر مع وجود الهيولي وقدمها وضرورة الملابسة بينها وبين العقل والنفس في دور من أدوارها. وعلى النفس أن تجاهدها وتنتصر عليها وعلى شهواتها، فإن أفلحت عادت إلى النفس الكلية خالصة مخلصة، وإن لم تفلح عادت إلى الجسد مرة أخرى ولقيت في كل مرة جزاءها على الذنوب التي اقترفتها في حياتها الجسدية الماضية.
ولا حرية للإنسان كما رأيت؛ لأن وجوده ضرورة يستلزمها الصدور وملابسة الهيولي، ولكنه يقاوم تلك الضرورة بجهاد الشهوات، فيترقى من مرتبة الحس إلى مرتبة التأمل إلى مرتبة الكشف، وينتقل من شتات الحس إلى استجماع العقل إلى وحدة الأحد ورضوان الكمال، فتجزيه ضرورة الارتقاء عن ضرورة الانحدار، ولا محل بينها لشيء من الاختيار، وإن قال به أفلوطين في بعض الأحيان.
هذه خلاصة وجيزة جدا لأصول مذهب الفيض كما شرحه تلاميذ أفلوطين، نعتمد فيها على المراجع الأوروبية الحديثة التي نقلت مباشرة من اليونانية. وقد نقل هذا المذهب مجملا في بعض الأوقات ومفصلا في أوقات أخرى إلى اللغة العربية، ووقع في نقله خطأ إسناد وخطأ تفسير. فنسب الناقلون فصولا منه إلى أفلاطون ونسبوا مبادئ منه إلى أرسطو، ولكن المتصوفة الإسلاميين وفلاسفة الإسلام في المشرق قبلوا منه ما يوافق الدين الإسلامي، وهو تنزيه الأحد وعقيدة التجلي على الخلصاء من العباد والمتأملين، ورفضوا منه على التخصيص قوله بتناسخ الأرواح وعقوبة الأنفس في هذه الدنيا بردها إلى الأجساد التي تشقى فيها، أو مكافأتها بردها إلى الأجساد التى تترقى فيها إلى مرتبة فوق مرتبتها.
ووجد الفلاسفة والمتصوفة معا ما يوافقهم في أقوال أفلوطين، فقال بالكشف وقدرة النفس على الخوارق طائفة من المفكرين لا يحسبون بين أهل الطريق ولا يدعون لأنفسهم صفة الإمامة الدينية، وإنما قالوا بالكشف والقدرة على الخوارق أخذا بالأقيسة الفكرية، واستدل ابن سينا على إمكان الكشف بأن النفس الصالحة تتلقى في الرؤيا الأنباء بالمغيبات عنها وعن غيرها، فلا مانع من تلقيها العلم يقظة متى تهيأت له بالرياضة وصفاء السريرة، وإن نفس الإنسان تتصرف في مادة الجسد فلا مانع أن تتصرف في مادة الكون بقدرة تستمدها من علة العلل التي تتصرف في جميع الأشياء.
وطائفة من أصحاب المآرب وجدوا في تناسخ الأرواح ما يعينهم على دعواهم، ومنهم من كان يدعي انه ابن الإمام علي بالتسلسل الروحاني مع اعترافه بأنه من غير نسله في السلالة الجسدية، زاعما أن النبوة تحصل بالانتماء إلى الروح كما تحصل بالانتماء إلى الجسد، ولم يكن في هؤلاء أحد من الفاطميين ولا كانت بهم حاجة إلى هذه الدعوى؛ لأنهم يصححون نسبهم جميعا إلى الإمام علي بغير وسيلة هذا التناسخ المزعوم.
ولا شك أن العلامة الشهرستاني كان يلخص طرفا من مذهب أفلوطين كما وصل إلى المشرق حين قال في تلخيصه لكلام الباطنية عن الصفات: «إن الله لما وهب العلم للعالمين قيل: هو عالم، ولما وهب القدرة للقادرين قيل: هو قادر، فهو عالم قادر بمعنى أنه وهب العلم والقدرة لا بمعنى أنه قام به العلم والقدرة أو وصف بالعلم والقدرة. وأنه أبدع بالأمر العقل الأول الذي هو تام بالفعل، ثم بتوسطه أبدع النفس الذي هو غير تام. ولما اشتاقت النفس إلى كمال العقل احتاجت إلى حركة من النفس إلى الكمال واحتاجت الحركة إلى آلة الحركة إلخ إلخ.»
فهذا المذهب في الصفات الإلهية يوافق مذهب أفلوطين في جملته، وفحواه بلا إغراب ولا إبهام. إننا حين نصف الله بالعلم لا ندرك من كنه العلم إلا ما يعطينا إياه، وإننا حين نصف الله بالقدرة لا ندرك من كنه القدرة إلا ما نقدر عليه بأمر الله، وهكذا في سائر الصفات مما لا يجوز أن يفهم منه أنه إنكار لعلم الله وقدرته؛ إذ كان أصحاب الفيض الإلهي ينكرون نقائض الكمال ويرتفعون بالكمال الإلهي مرتفعا تعجز عن إدراكه العقول.
لكن هذا المذهب كما أسلفنا عرضة للخلط في فهمه ممن يهرفون بما لا يعرفون، فإن هؤلاء يخلطون بينه وبين مذهب الحلول وهو يناقض مذهب الحلول أشد المناقضة وينكره غاية الإنكار، فإن الخلاص من أوهاق
صفحه نامشخص