للخبيث. وسار عسكره، وثار عثيره. وظهرت راياته وبهرت آياته. وتعرت كوساته، وصاحت بوقاته. وجالت خيوله وسالت سيوله. وطلعت في سماء العجاج نجوم خرصانه، وقلعت قلائع تلك الجبال جبال فرسانه. وحفرت حوافر الصلادم أصلاب الصلاد الصلاب، وفصحت بإعراب الحماحم صواهل الجياد العراب.
والأسنة مشرعة، والاعنة مسرعة. وبحور السوابح متموجة، وغدران السوابغ مترجرجة، وبوارق البيارق متبوجة، واوضاح الجرد وغررها كأوضاح النصر وغرره متبلجة. ونزل عشية بأرض لوبية، لداعي الفتح ملبيا، ولجيش النصر معبيا، ولمولود الملك العقيم بتلقيح الحرب العوان مربيا. وبات بها معرسا بانيا على عروس الظفر البكر، جانيا ثمار الأماني من غروس البيض والسمر. وأصبح وقد أصحب جماح الدهر، وصح نجاح الأمر، وحص جناح الكفر. وأسفر فجر الفرج، وسفر وجه البهج.
وسار سارا سره، بارا بأرباب الدين بره. زائرة أسوده، طائرة بنوده. ظاهرة
جنوده، زاهرة جدوده. سامية أضواؤه. هامية أنواؤه. رائعة مواكبه، رائقة مراكبه. مجنبة عتاقه، مذربة رقاقه. وكان أمير المدينة النبوية - صلوات الله على ساكنها - في موكبه. فكأن رسول الله ﷺ سير للفقير إلى نصرته من يثرى به يثربه. وهذا الأمير (عز الدين أبو فليته القاسم بن المهني الحسيني) قد وفد في تلك السنة أو أن عود الحاج، وهو ذو شيبة تقد كالسراج.
وما برح مع الملك الناصر، مأثور المآثر. ميمون الصحبة، مأمون المحبة. مبارك الطلعة، مشاركا في الوقعة. فما تم فتح في تلك السنين إلا بحضوره، ولا أشرق مطلع من النصر إلا بنوره. فرأيته ذلك اليوم للسلطان مسايرا، ورأيت السلطان له مشاورا محاورا. وأنا أسير معهما. وقد دنوت منهما ليسمعاني واسمعهما. ولاحت أعلام عكا، وكأن بيارق الفرنج المركوزة عليها ألسنة من الخوف تتشكى. وكأن عذبات النيران تصاعدت بعذاب أهلها، وقد توفرت عساكر الإسلام إليها من وعرها وسهلها.
فلما قرب منها خيم وراء تلها، وآذنت عروش معاشر الشرك بفلها، وعقود معاقدي الكفر بحلها. وأصبح يوم الخميس وركب في خميسه، ووقف كالأسد في عريسه. فخرج أهل البلد يطلبون الأمان، ويبذلون الإذعان. فأمنهم وخيرهم بين المقام والانتقال، ووهب لهم عصمة الأنفس والأموال. وكان في ظنهم إنه يستبيح دماءهم، ويسبي ذريتهم ونساءهم. وأمهلهم أياما حتى ينتقل من يختار النقلة، واغتنموا تلك المهلة.
وفتح الباب للخاصة، واستغنى بالدخول إلى البلد جماعة من ذوي الخصاصة. فإن القوم ما صدقوا من الخوف المزعج، والفرج المحرج. كيف يتركون دورهم بما فيها ويسلمون، وعندهم أنهم إذا نجوا بأنفسهم إنهم يغنمون. فترك معظمهم المدينة، وعندهم إنه ما كسب السكينة إلا من ركب السفينة.
1 / 54