مذكرا بيوم العرض. وما شاهده إلا من تلا (ولله جنود السماوات والأرض). في ألوية كأنما عقدتها حور الجنان بخمرها. وبيارق كأنما حبتها أنف الرياض بزهرها. ويوم كالليل عجاجا، وليل كاليوم ابتلاجا. ومناصل بالمنى صلت، وقساطل بالقسي طلت. وفيلق لهام اللهام يفلق. وقلوب يمانية رقاق في صدور الأغماد تقلق، وطيور سهام من أوتار الحنايا إلى أوكار المنايا تمرق. وسوابغ مفاضة، وسوابق مرتاضة. وهضاب راسيات، وهواضب ساريات.
ولما تم العرض، حم الفرض. وتعين الجهاد، وتبين الاجتهاد. واضطربت السهول
والوعوث، وانبعثت الهمم وهمت البعوث. وسمع الفرنج بكثرة الجمع الجم، وزخرة اليم الخضم. وبروز التوحيد إلى التثليث، وانتهاض الطيب لإدحاض الخبيث. فخافوا وخابوا، وهبوا وهابوا. وعرفوا أن حزبهم مخذول، وأن غربهم مفلول. وأن حدهم مثلوم، وأن جندهم مهزوم. وأنه قد جاءهم ما لا عهد لهم بمثله، وأن الإيمان كله برز إلى الشرك كله.
وقد كان بينهم حينئذ خلف منبعث، وحلف منتكث. ووقوع نفار بين الأنفار، ووقود شرار بين الشرار. ولما استدنوا حين حينهم، سعوا في إصلاح ذات بينهم. ودخل الملك على القومص ليتقمص له بالود الاخلص. ورمى عليه بنفسه، واستبدل وحشته بأنسه. فاصطحبا بعد ما اصطلحا. واصحبا بعد ما جمحا.
وتزاور الفرنج وتوازروا. وتآمروا ما بينهم وتشاوروا. وقالوا هذا دين متى دنا منه الوهي هوى، وعود إذا عاده الأذى ذوى. فالمسيح لنا، والصليب معنا. والمعمودية عمدتنا، والنصرانية نصرتنا. ورماحنا مراحنا، وصحافنا صفاحنا. وفي لوائنا اللأواء. ومع اودائنا الداوية الأدواء. وطوارقنا الطوارق، وبيارقنا البوائق. وسيف الاسبتار بتار، ولقرن الباروني من مقارنته بوار. ومعنا الدلاص والصلاد، والصعاب والصعاد. وفي كل قنطاري قنطار، ولكل سابري من اسنتنا مسبار.
وقد عم بحرنا الساحل، وشددنا به المعاقد والمعاقل. وهذه الأرض تسعنا نيفا وتسعين سنة، وما تضيق بنا في هذه السنة، وأرماحنا إلى هذه الغاية من الاسواء أسوار هذه البقاع والأمكنة. وسلاطين الإسلام ما صدقوا أن يسلموا إلينا ويسالمونا، ويبذلوا لنا القطائع ويقاطعونا، وطالما ناصفونا وما صافونا، وهادونا وهادنونا. وفي جمعنا تفريقهم، وفي وقعتنا تعويقهم.
فقال القومص وكان محربا مجربا، متدبرا متدربا هذا صلاح الدين لا يقاس بأحد
من السلاطين لتسلطه، وإقدامه على المخاوف وتورطه. وإن كسركم مرة فلا يصح لكم الجبر. وليس إلا المراوغة والمغاورة والصبر. والصواب ألا نخالطه ولا نباسطه، ولا نخالفه ونقبل شرائطه.
1 / 44