وكانت صلة وثيقة العرى، وكان حنا إذا وصف شيئا استعمل صيغة المثنى في وصفه؛ يقصد نفسه وصاحبه «صفرونيوس» الذي كان شريكه في أسفاره ومباحثه جميعا. وهذه القطعة عظيمة الشأن؛ فلنا العذر إذا نحن أوردنا هنا شيئا يشبه نصها.
قال حنا: «ولن نقول عن «كزماس العالم» كلمة ننقلها عما يقوله الناس، بل سنكتب ما خبرناه وشهدناه بأعيننا. كان رجلا لا كلفة فيه، زاهدا طاهرا، وكان هينا لينا مؤلفا كريما يعطف على الفقراء. وقد انتفعنا به انتفاعا كبيرا؛ إذ فاض علينا من علمه ورأيه.
17
وكانت عنده فوق ذلك «خير مكتبة في الإسكندرية، وكان يعير من كتبها في سخاء لمن يحب أن يقرأ».
18
وكان فقيرا فقرا شديدا؛ فلم يكن في بيته من الأثاث إلا فراشه ومنضدة، على أن الكتب كانت تملؤه. وكان يبيح لكل من شاء أن يدخل مكتبته، ومن أراد من القارئين كتابا طلبه وقرأه هناك. وكنت أزور «كزماس» كل يوم، ولست أذكر إلا الحق إذا قلت إني ما دخلت بيته يوما إلا وجدته مكبا على القراءة أو الكتابة، يرد على اليهود أو يجادلهم. وكان لا يحب أن يترك مكتبته؛ فكان كثيرا ما يبعثني لأجادل بعض اليهود بما جاء في الكتب التي كتبها.
وقد تجرأت يوما على أن أسأله سؤالا فقلت: «أتتفضل علي بأن تخبرني كم من الزمن بقيت منعزلا في مكانك هذا؟» فأمسك ولم يرد علي حرفا، فقلت له عند ذلك: «عزمت عليك بالله إلا ما قلت لي جواب مسألتي.» فتردد أولا ثم قال: «بقيت هنا ثلاثا وثلاثين سنة.» ولما أن ألحفت عليه بالسؤال قال لي إنه قد تعلم أمورا ثلاثة مما قرأ، وهي ألا يضحك، ولا يحلف، ولا يكذب.»
وهذه صورة ولا شك بديعة لعالم فقير في الإسكندرية جعل بيته مرتادا لطالبي الكتب ومحبيها،
19
وهي صورة تجعل القارئ يستزيد، ولكن لا يجد فيها ما يشفي شوقه. ويرجع ذلك إلى أمرين؛ الأول: أنها لا تذكر شيئا عن نوع الكتب التي كانت في المكتبة أو أنواعها، ولا عن عددها. والثاني: أنه يسوءنا كثيرا أن «حنا مسكوس» و«صفرونيوس» لا يذكران شيئا ما عن المكتبة العامة الكبرى بالإسكندرية، وقد طبق ذكرها الخافقين، مع ما كانا عليه من حب القراءة والعلم وعظيم العناية بأمر الكتب وجامعيها. فلسنا ندري أكانت تلك المكتبة في أيامهما موجودة أم غير موجودة، وقد كانا قاب قوسين أو أدنى من إبانة ذلك الأمر؛ فكانا يستطيعان بكلمة يقولانها أن يجليا سره الذي ما زال مكنونا يضل فيه الباحث، ولكنهما يوليان عنه في صمت وينصرفان.
صفحه نامشخص