ـ[فتاوى قاضي الجماعة ابن سراج الأندلسي]ـ
المؤلف: أبو القاسم محمد بن سراج الأندلسي (المتوفى: ٨٤٨هـ)
المحقق: د/ محمد أبو الأجفان
الناشر: دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: الثانية، ١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٦ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
صفحه نامشخص
الطهارة
طهارة ما تخلل من الخمر
سئل عن خمر تَخَلَّلَ بنفسه في آنيته التي جُعل فيها، وهو يبلغ منها إلى النصف.
فهل هذا الخل طاهرٌ أم لا؟
وهل ما علا الخلَّ من الخابيةِ طاهرٌ أم لا؟
فأجاب: إن الخمر التي تخللتْ تطهرُ باتفاقٍ، هي وما يحاذيها من الآنية ويجوز الانتفاع بخلّها. لكن يُثقب أسفل الإناء ويُخرج الخل منه، ولا يخرج من أعلاها لأنه نجس فيمر فيه بعض الخل وينحدر إلى الإسفل فينجسه. وأما الشقف الأعلى فإن كان مزجَّجًا فيبالَغُ في غسله، وإن كان غير مزجَّجٍ فلا يكفيه ذلك، بل إذا بُولِغ في غسله جُعل فيه الماء وتُرك مدةً ثم يُراق، ثم يُجعل مرة أخرى ويُترك فيه مدةً ويُراق، ولا يزال يفعل
1 / 83
هكذا حتى يخرج الماء صافيًا لا تغير فيه، ويطهر على الراجح من الخلاف فيه
طهارة آنية الخمر
وسئل عن آنية الخمر، هل تطهر أم لا؟
فأجاب: إن كانت من حديدٍ أو من نحاسٍ أو من فخار مزجج، فإنَّها إذا غُسلت بالماء يُنتفع بها في كل شيءٍ من خلٍّ وغيره، وأما إن كانت من فخار غير مزجج فتُغسل ويُنتفَعُ بها في اليابسات، يجعل فها دقيقٌ أو قمح أو غير ذلك. وأما الأشياءُ المائعاتُ من ماء أو زيتٍ أو خل فلا يُجعلُ فيها حتى يُغلَّى فيها الماءُ فذلك تطهيرها؛ وأما بمجرد الماء من غير تغليةٍ فلا، ويظهر - والله أعلم - أنه إذا أوقد النارَ وجُعلت عليه حتى حميت وانحلَّ كلُّ ما فيها من زفت، واحترق حتى ذهب وصب الماء فيها وهي محميةٌ، إن ذلك يقوم مقام تغليةِ الماءِ فيها.
الانتفاع بآنية الخمر
وسئل هل يجوز الانتفاع بآنية الخمر إذا تخلَّلَ الخمرُ فيها من غير صنيع آدمي فيها أم لا؟
فأجاب: أما ما يحاذي الخمر من الشقف فإنه يطهر، وما يكون أعلى
1 / 84
وكانت الخمر قد لاقته فإن كان مزججًا أو حديدًا غسل غسلًا جيدًا ويجعل فيها الماء ويبقى فيه مدة ويُراق، ثم يعمل له ذلك مرارًا، فإذا ظهر أنه لا يخرج في الماء أثَرٌ طهر.
الزيت تقع فيه الفأرة
وسئل عن الزيت تقع فيه الفأرة؟
فأجاب: المشهور في الزيت النجس أنه لا يطهر بالغسل.
وقيل: إنه يطهر به، ويجوز بيعه إذا طهر بعد التبيين وهذا القول له وجه، فمن قلده لم يعترض.
وكيفية الغسل: أن يُجعل في إناء؛ قصرية أو ظرف أو غيرهما، ويصب عليه الماء. وإن كان معقودًا في زمن الشتاء كان الماء سخنًا، ويُمزج بالماء حتى يختلط ثم يترك حتى يرتفع الزيت ويؤخذ من الماء، ويُجعل في إناءٍ آخر، ويُفعل له ذلك ثلاث مرات فأكثر ثم يُنتفع به، وكما تقدم.
1 / 85
التقاء الختانين في النوم
وسئل: في حكم التقاء الخِتَانين في النوم؟
فأجاب: التقاء الختانين إنما يُعتبر في اليقظة، أما في النوم فلا، فإذا رآه الإنسان في النوم ثم استيقظ، فإذا رأى احتلامًا وجب عليه الغُسْلُ، وإن لم يجد شيئًا ولم يخرج منه شيء فلا شيء عليه، ولو رأى أنه أنزل الماء الدافق في نومه.
1 / 86
الصلاة
الانحراف عن القبلة
وسئل: عن مسألة إمام كبير يؤم الناسَ بالمسجد الأعظم من ذلك القطر، وينحرف بداخل المحراب لجهة المشرق انحرافًا كثيرًا، مع أنَّ المحرابَ على خمسة وأربعين جزءًا، كما هي أكثر المحاريب بمساجد الأندلس، فهل يسوغ ذلك - يا سيدي - للإمام ويلزم المأمومين اتباعُه في ذلك وينحرفون معه؟ أو لا يسوغ ذلك له؟ وعلى فرض جواز ذلك له هل يلزمهم اتباعه في ذلك وتصح صلاتهم؟
يبنوا لنا الحكمَ في ذلك كله بيانًا شافيًا مأجورين.
والسلام الكريم يخص جلالكم العظيم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب بما نصه: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
تصفحت السؤال أعلاه.
والجواب، وبالله التوفيق: إنه لا ينبغي للإمام أن ينحرف الانحراف المسؤولَ عنه، لأن المحراب المنصوب بمصر كبير يعلم أن نصبه باجتماع كثير من الناس والعلماء، وذلك مما يدل على صحته ونصبه باجتهاد. وقد نص العلماء، رضيالله عنهم، أن المحاريب التي بالأقطار الكبار يصح تقليدها.
ووجه آخر وهو أن قبلة المسجد المذكور، إن كانت كما ذكر، على خمسة وأربعين جزءًا في الربع الجنوبي الشرقي، فإنها إلى جهة الكعبة بلا إشكال، سواء استدللنا عليها بأدلة شرعية أو بطريق الآلات، ومن اختبر ذلك تبين له صحة ما ذكرته، ثم إن هذا الإمام لا يخلو إما أن يعترف بصحة قبلة
1 / 87
المسجد أو لا؟ فإن اعترف بصحته فلا معنى لانحرافه مع ما فيه من التنفير، وقد قال النبي ﷺ: سَكِّنُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا وإن زعم خللها فيبحث معه بما قرره العلماء في استخراج جهة القبلة، مع أنه يلزم على قوله، إن قال هذا، أن لا يجوز لمن لا
ينحرف انحرافه أن يأتمَّ به، لأنَّ المصلّين إذا اختلفوا في القبلة لم يجز أن يأتمَّ بعضُهم ببعض.
والسلام على من يقف عليه من محمد بن سراج وفقه الله انتهى.
1 / 88
رد ابن سراج على معارضة القرباقي لفتواه
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، تصفحت الاعتراض المكتوب قبل هذا على جوابي المكتوب قبله.
والجواب وبالله التوفيق: أنه اختلف فيمن لم يعاين مكة، شرفها الله تعالى، هل يجب عليه استقبال القبلة؟ وهو المشهور في مذهبنا وهو مقتضى قول مالك في المجموعة، لأنه لما نقل فيها قول عمربن الخطاب رضيالله عنه: ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه قبل البيت، قال مالك: وهو الأمر عندنا؛ وهو قول جمهور العلماء، والمشهور من مذهب الشافعية وهو قول أبي حنيفة وأحمدبن حنبل.
1 / 90
والقول الثاني أنه يجب طلب السمت وهو قول ابن القصار من علماء مذهب مالك، ومال إليه الباجي، وهو قول بعض علماء الشافعية، ورأى ابن القصار أن السمت يكون كما تسامت النجوم، وقد استشكل المازري القولَ بطلب السمت ورأى أنه لا يحصل بالجسم مع البعد، وإنما يكون بالأبصار، ورأى أنه لا ينبني على الخلاف فرع، فرأى أن القولين يرجعان إلى معنى واحد، فوجهُ القول باعتبار الجهة قوله ﷺ: ما بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ قِبْلَةً رواه الترمذي وصححه ونقله عن جماعة من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وعلي بن أبي طالب،
1 / 91
وابن عباس ﵃ ونقله الشيخ أبو عمر بن عبد البر عن ابن عباس أيضًا وابن الحنفية ونقل أبو عمر عن عثمان أنه قال: كيف يخطئ أحد صلاته وما بين المشرق والمغرب قبلة؟! وعن أحمد بن خالد قال في قول عمر ما بين المشرق والمغرب قبلة: في هذا سعة للناس أجمعين، قيل له:
أنتم تقولون هذا في المدينة؟ قال: نحن وهم سواء، والسعة في القبلة للناس كلهم، قال: وهؤلاء المشرقون لا علم عندهم بسعة القبلة.
ومما يدل على صحة طلب الجهة ما ثبت في الصحيح أن أهل قباء كانوا يصلّون فجاءهم آت وأخبرهم أنَّ النبي ﷺ أنزل عليه قرآن وأمر أن يستقبل الكعبة فاستداروا وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة.
1 / 92
فبقاؤهم على صلاتهم دليل على أنهم بنوا على الجهة، لأن السمت يفتقر في طلبه إلى نظر وتأمل وصناعة هندسية.
ومما يعضده من جهة النظر إجماع المسلمين على صحة صلاة الصفِّ المستطيل الذي يُقطع أن جرم الكعبة لا يوازيه، ومحل قول النبي ﷺ ما بين المشرق والمغرب قبلة على العموم الذي هو مخصوص بقوله تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) يعني نحوه، فيخصص بمن تقع الكعبة من مكانه بين المشرق والمغرب، والسنة تخصص بالقرآن على حسب ما قاله أهل الأصول.
ومما يدل على ذلك قول عمر بن الخطاب ﵁ في الموطأ: مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ قِبْلَةٌ إذَا تَوَجَّهَ قِبَلَ البَيْتِ.
وقول ابن عمر في كتاب الترمذي: إذا جعلتَ المغربَ عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلةٌ إذا استقبلت القبلة، لكنه وإن كان مخصوصًا ففيه دليل على سعة القبلة.
وقد أنكر غيرُ واحدٍ القولَ بطلب السمت لِتعذره وصعوبة التوصل إليه
1 / 93
وافتقاره لآلات هندسية لم يجىء الشرع بها، حتى قال فيه ابنُ العَرَبَي:
إنه باطل قطعًا وحمله المازري على أن يكونَ بالأبصار لا بالأجسام.
وإذا تقرر هذا فيقال: قد استقر عندنا أن مكة شرفها الله من بلادنا في الرُّبُع
الجنوبي الشرقي، لأن المسافرين يستقبلون مطالع الشمس الجنوبية والكواكب الجنوبية في أكثر الطريق إذا توجهوا إليها، إلى غير ذلك من الأدلة التي لا يسع ذكرُهَا هنا، وحدُّ الربع الجنوبي الشرقي على ما تقرر عند العرب من مطلع النطح إلى خط الجنوب، وهو الخط الآخذ من القطب الشمالي إلى الجنوبي، وهو محل الشمس عند التوسط، ولهذا وقعت محاريب هذا القطر الأندلسي منصوبة إليه، وإن كانت مختلفة في التشريق والتغريب، ولكنها لا تخرج عنه جملة، فدلَّ على أن الأولين عولوا على الجهة، ﵏، لكن لا ينبغي الميل كثيرًا بحيث يتوقع الخروج منه لقوله ﷺ: إنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ وَالحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، الحديث وهذا من المشتبه.
1 / 94
وَأَمَّا الاسْتِدْلاَلُ بالآلات فلم يَرِدْ عن السلف الصالح، ﵃، فلا يلزم الرجوع إليها، ولا يجوز أن تجعل حاكمة على الأدلة الشرعية وحسب من يستدلُّ بها أنْ يستخرجَ بها الجهةَ خاصةً، لأنه قد عُلم بالاستقراء صحةُ استخراج الجهة بها، وأما السمتُ فلم يرد الشرعُ بمراعاته فلا يُلتفت إليه، لأن السمتَ عند أهل الآلات هو أن يُقَدَّرَ أنْ لوْ وُضع خط مستقيمٌ من مكان الإنسان لوقع مقابلًا للكعبةِ والقائلون بطلب السمت من الفقهاء لا يضيقون هذا التضييق، وإنما يكفي عندهم المسامتة بالأبصار كما تسامت النجوم، وإن كانا يقربان من جهةِ المعنى، ولكن فيما قال أهلُ الآلة من التضييق ما ليس في كلام الفقهاء، وقد ذكرت ذا المعنى بأطولَ من هذا في غير هذا الموضع. هذا ما يتعلق بالمسألة من الفقه.
وأما تتبع ألفاظ هذا المعترض فقوله: فيا ليت شعري أي المحاريب يقلد وأنت تشاهد من اختلافها الخ. . هذا كلام هائل ليس تحته طائل، فإنه قد تقرَّرَ حسبما تقدم أن محاريب قطرنا الأندلسي منصوبة كلها إلى جهة الربع الجنوبي الشرقي لا تتعداه، لكن سموتها مختلفة، وقد تقدم أن هذا بناء على القول المشهور من اعتبار
الجهة. وقد نص القاضي أبو الحسن ابن القصَّار على أن المحرابَ الذي يعلم أن إمام المسلمين نصبَه أو اجتمع أهل البلد على نصبه أنَّ العالِمَ والعَامِّيَّ يُقلدانه، ولا أعلم أحدًا خالفَ ابنَ القصار في هذا، وهو القائل بطلب السمت، فكيف غيره ممن هو يطلب الجهة؟ وقال ابن البنا: إنَّ المساجدَ التي بُنيت إلى الجهة على سموتٍ
1 / 95
مختلفةٍ صحيحة على ما بُنيت، لا يجوز تغييرُها، فإنها موافقة للاجتهاد، فصار البناءُ فيها حكمًا واقعًا على وفق الاجتهاد لا يُنقض، وارتفع الخلاف فيه إجماعًا، وهذا كلام صحيح جار على الفقه والصواب، لأنها تدل على أن المتقدمين اعتبروا الجهة فصار نوعًا من إجماع عليها.
وقال ابن العربي في مساجد الأمصار: هي باجتهادٍ ولكنه يتعاضد الأمر فيها ولا يعلم واضعها وهي مختلفة في التيامن والتياسر، وإن كانت لم تخرج عن السمت المتعارف مما بين المشرق والمغرب.
وقد خُطَّ جامعُ قرطبة ووصل جماعة من الرفقاء الحجاج كَبَقِيّ بن مَخْلد ومحمدبن وضاح ووصل من أهل الصلاة جماعة ممن حجَّ وروى كيحيىبن يحيى وصلّوا القبلة ذاهبين وراجعين بإفريقية ومصر
1 / 96
والشام والحجاز والعراق، فما اعترضوا على جامعها بعيب سمته ولا حرفوا فيه، كم يصنع المتحذلقون اليوم، ولم يكن ذلك بجهل منهم بالحقيقة فالدين عندهم أمتن والعلم أوفر، ولكنهم رأوا الأمر متسعًا، أو عولوا على أن الجهةَ هي المقصودة، وعندنا بإشبيلية وبالأندلس مساجد لو انكشفت الجدران بينها وبيننا لرأيت أصلًا في. . . . آخر لكثرة التحريف، ثم قال: فإن أنتم عولتم على العين لم تفقدوا النصب والأين ولم تبلغوا إلى حيث ولا أين؛ انتهى.
فهذا كلام هؤلاء الأئمة في المحاريب، ولم يُنقل عن أحد ممن يحتج بقوله خلاف، فقول المعترض: فيا ليت شعري أي المحاريب يقلد. . . الخ، لاخفاء بما فيه من
عدم التحصيل.
وقوله: لما أراد الحَكَم بن عبد الرحمن تحويل قبلة المسجد الخ، هو حجة عليه، لأن اتفاق أهل الحساب لا عبرة به لعدم ورود الشريعة المحمدية بطريقتهم في استخراج القبلة، ولأن موافقته للناس لما استعظموا القبلة لمخالفة ما درج عليه أسلافهم دليل واضح على أنها منصوبة بوجه يصح الاعتمادُ عليه.
وقوله: ومن أغرب ما في جوابه قوله: وتقام عليه البراهين بالأدلة، ليت شعري مَنْ أهلُ البراهين على هذا، أهل الحساب أم غيرهم؟ الخ.
1 / 97
جوابه: أن هذا الكلام صرح بقلة معرفته. فإن الأدلة الشرعية وغيرها تعضد ما قلته.
أما الأدلة الشرعية فقد تقدم أنَّ الاستقراء دَلَّ على أن الكعبة، شرفهاالله، تقع من أرض الأندلس في جهة الربع الجنوبي الشرقي، بدليل أن القطب الشمالي وبنات نعش تُرى في أرض الأندلس أرفع مما تُرى في مكة، وسُهيل يظهر من مكة ولا يُرى من أرض الأندلس إلا من بعضها كشلوبانية وسهيل وهو يظهر قريبًا من الأرض جدًّا، حتى أن بعضهم قال: ليس بسهيل وإنما هو كوكب آخر أرفع منه شيئًا، فيدل هذا على أن مكة من أرض الأندلس في ناحية الجنوب وكون المتوجه لمكة يستقبل مطالع الشمس الجنوبية ومطالع الكواكب الجنوبية في أكثر الطريق دَليل على أنها منها بناحية المشرق، إلى غير ذلك من الأدلة. والربع الجنوبي الشرقي عند العرب، على ما ذكر أبو حنيفة الدينوري وهو من مطلع النطح إلى خط الجنوب، وهو الآخذ من أحد القطبين إلى الآخر وهو أيضًا من مطلع الشمس في يومي الاعتدال إلى خط الزوال، وهو خط الجنوب، وقد قال النبيصلى الله عليه وسلم: مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ قِبْلَةٌ فيؤخذ من هذا الحديث أن المشرق يتنزل في بلادنا على مطلع الشمس يوم الاعتدال، والمغرب على خط الجنوب لأنه الفاصل
بين الربع الغربي الجنوبي والشرقي الجنوبي، وأنه عموم يراد به الخصوص يخصصه قوله تعالى: (ف ق ك ل م ن) يبين ذلك قول
1 / 98
عمر وابن عمر المتقدمين.
فإذا تقرر هذا فيقال: إن القبلة التي تكون على وسط الربع صحيحة، كما ذكرته في الجواب، وإن خمسة وأربعين جزءًا في الربع المشار إليه هو على الوسط. وبيان صحتها: أنا إن اعتبرنا الجهة، على مقتضى المشهور، فقد حصلت بلا إشكال، لا سيما وقد نص بعض أهل الحكمة، ومنهم الغزالي على أن الإنسان إذا استقبل بنظره جهة أنه يرى بالعينين معًا ربع الدائرة، وإن قلنا بالقول الشاذ، وهو اعتبار السمت، فالغالب أنه يحصل مع استقبال الوسط، لأن الذين قالوا بالسمت رأوا أنه كما تسامت النجوم، وعلى هذا قد تحصل مع وسط الربع، والله أعلم، لأن الدائرة إذا عظمت كثر المسامتون لمركزها.
وجه آخر أيضًا مما يدل على صحة الوسط: ما ذكر الشيخ أبو عمربن عبد البر وابن العربي، واللفظ لأبي عمر، عن أحمدبن حنبل أنه قال: هذا المشرق، وأشار بيساره، وهذا المغرب، وأشار بيمينه، وهذه القبلة فيما بينهما. إلا أنه ينبغي أن يُتحرَّى الوسط.
وأما من جهة الآلات فإن أعمال أربابها تقتضي أنها متفقة على أنها من قطرنا في الربع الجنوبي الشرقي، وذلك أني أذكر لهم في ذلك ثلاثة أقوال:
1 / 99
الأول: أنه ينبني على استخراج الطول والعرض بشكل هندسي لا يسع ذكره هنا يخط خطًا من نقطة عرض الموضع الذي يريد إلى عرض مكة على استقامة وتخرج على استقامة في الربع الآخر، أشار إلى هذا الغزالي في كتاب الإحياء وقاله ابن جمهور، وابن حسان عمله لأمير المؤمنين المنصور بمراكش، وأمر المنصور برفعه للخزانة وهو يتضمن صحة ما عمله الموحدون من نصبهم القبلة
بمراكش على وسط الجنوب بتقريب، وهذا العمل بمدينتنا غرناطة يخرج القبلة على وسط الجنوب بتقريب.
القول الآخر: قول ابن الزبير في رسالته: إن الكعبة على ثلاثة عشر جزءًا من الربع الجنوبي بنسبة أرضنا، بناءً منه على أن طول مكة سبع وستون درجة، وهو معْتَرَضٌ.
القول الثالث: إنها تكون من قطرنا على ست درجات أو سبع بتقريب، بناء على أن طول مكة سبع وسبعون، وهذا هو الصحيح على ما قاله ابن جمهور وغيره من أهل هذا الشأن، ومن نظر إلى كتبهم الموضوعة في أطوال البلدان تبين له أن الأكثر على أن طول مكة سبع وسبعون، حتى رأيت بعض المحققين منهم نسب الغلط إلى قول من قال: إنه سبع وستون، ورأى أنه تصحيف وأن العين اختلت من عز فظن الناسخ أنه صاد وأنه صز.
فإذا تقرر هذا فيقال: قد تبين أن المشهور اعتبار الجهة، وهي تحصل على هذه الأقوال باعتبار الوسط وكذلك يمكن أن يكون على القول باعتبار المسامتة كما تسامت النجوم، ولا يجب الالتفات للسمت المطلوب عند أهل الآلة باتفاق كما تقدم، وكذلك قول شراح قصيدة الهاشمي تقتضي صحة الوسط، لأن الشمس تطلع في نصف كانون الأول، وهو دجنبر، على أربع وعشرين درجة، وهو آخر الميل الكلي في جهة الجنوب ومن المعلوم أن مستقبل وسط الربع تستقبله سواء استقبلها باعتبار الجهة أو بالسمت كما تسامت النجوم، وكذلك قول ابن العربي في الأحكام يقتضي صحته أيضًا، لأنه إذا استقبل طلوع الشمس في نصف دجنبر ومال منها إلى المشرق بنحو ذراع حصل صحة الوسط في استخراج الجهة والسمت كما تسامت النجوم.
1 / 100
وقد تبين من هذا جهالة المعترض بهذه الطريقة فإنه عول على قول ابن الزبير
وهو معترَضٌ في هذا الموضوع وإن كان قد أحسن في رسالته، ولكنه قصر في هذا الموضع، والجواد قد يكبو.
وقوله: ليس معنى من قال: المطلوب الجهة لا السمت، أن يستقبل المكلف أيَّ جزءٍ شاءَ إلخ غلط ظاهر، فأي معنى يكون للقول بالجهة إن لم يكن هذا معناه!؟ وقد تقدم قول ابن عمر وقول ابن حنبل وقول أحمدبن خالد مما يدل على ذلك.
وقوله: وإلا كانت صلاة من صلَّى إلى جزء خمسة وثمانين إلخ.
هذا المعترض متقول في قوله ولا قائل به، بل يقال: إذا حصل في جزء من الربع لا تبطل صلاته، لكن يقول: لا ينبغي أن يضيق هذا التضييق، لأن الصلاة تكون على خطر وغرر من حصول القبلة، ولقولهصلى الله عليه وسلم: إنَّ الحَلاَلَ بَيِّن والحَرَامَ بَيّنٌ، وبينهما مشتبهات. . . الحديث.
وقوله: إنما قيل في المجتهدين إلى جهتين مختلفتين. . . إلخ.
غلط فاحش لأن المقلدَ يجري مجرى الإمام الذي قلده هو، فإذا اختلف المجتهدان في القبلة وقلد كل واحدٍ إنسانا، فإن كلَّ واحدٍ من المقلدين يتنزل منزلة المجتهد المقلد له في أنه لا يصلي خلف المقلد الآخر ولا خلف المجتهد الذي لم يقلده.
وقوله: وأما التيامن والتياسر. . . إلخ.
غير صحيح لأن الاعتبار في التيامن والتياسر إنما هو فيما بعد الصلاة أو أنشأها منحرف، وأما أن يدخل عليه ابتداء فلا.
فقد تبين مما ذكرته جهالة هذا المعترض وجرأته على الاعتراض، وكان الواجب عليه أن يتفكر في المسألة وينظر فيما يعتمد عليه أو يسأل، فإن المسألة دينية وليست بدنيوية فلا يُعوَّلُ فيها على مجرد الألفاظ الفصيحة والخطابة الشرعية. وقد قال بعض المحققين: من استهوته تراجم العبارات لم يحصل على علم مستقر، وقد هممت أن أعرض عن جوابه لجرأته مع قلة
1 / 101
تحصيله وبذاذة لسانه وعدم
توقيره، ولكن خفت أن يغتر بكلامه من ليس عنده كبير علم، فرأيت من الواجب ومن النصح للشريعة الرد عليه حتى يعلم مقداره ولا يغتر به. والسلام على من يقف عليه من محمدبن سراج وفقهالله، انتهى.
هيئة الأصابع عند التشهد
وسئل عن قول ابن الحاجب: ويعقد في التشهد باليمنى شبه تسعة وعشرين وعن قول ابن العربي: يعقد عقدة الثلاثة والخمسين وعن قول ابن الجلاب يعقد عقدة الثلاثة والعشرين ما المراد بهذا العدد؟
فأجاب: وقفت على ما كتبت أعلى هذا، وهو كيف تكون الهيئة في الأصابع من اليد اليمنى في كيفية التشهد، والأكثر على أنَّ الهيئة على صورة
1 / 102