آيَةٌ)
وَقَالَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤] مُنَاسَبَةُ ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤] إنَّ الَّذِينَ فَعَلُوهُ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّ أَمْرَهُمْ النَّاسَ بِالْبِرِّ يَقْتَضِي أَنْ يَبْدَءُوا بِأَنْفُسِهِمْ فَنِسْيَانُهَا مُنَاقِضٌ لِلْأَمْرِ، وَكِلَاهُمَا أَعْنِي الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُنَاقِضٌ لِتِلَاوَتِهِمْ الْكِتَابَ لِأَنَّ تِلَاوَةَ الْكِتَابِ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَنْسَوْا أَنْفُسَهُمْ وَلَا يُنَاقِضُوا أَفْعَالَهُمْ فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤] إلَى قُبْحِ حَالِهِمْ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ﴿أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٧] إلَى خُرُوجِهِمْ عَنْ مُقْتَضَى الْعَقْلِ بِجَمْعِهِمْ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ؛ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ مُسْتَحِيلٌ فِي الْعَقْلِ وَمُسْتَحِيلٌ فِي الشَّرْعِ أَيْضًا، وَلَا عِبْرَةَ بِمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْفُقَهَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي. مِنْ أَنَّ التَّنَاقُضَ إنَّمَا ثَبَتَتْ اسْتِحَالَتُهُ فِي الْعَقْلِ لَا فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ عَجِيبٌ مِنْ هَذَا الْفَقِيهِ فَإِنَّ كُلَّ مَا اسْتَحَالَ فِي الْعَقْلِ اسْتَحَالَ فِي الشَّرْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
وَقَالَ ﵁: قَوْله تَعَالَى ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ [البقرة: ٩٥] قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: قَوْله تَعَالَى ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] نَكَّرَ الْحَيَاةَ لِإِرَادَةٍ أَيْسَرَ مَا يَكُونُ مِنْهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَحْرَصُ الْخَلْقِ عَلَى أَقَلِّ مَا يَكُونُ مِنْ الْحَيَاةِ، فَمَا ظَنُّك بِالْكَثِيرَةِ مِنْهَا، فَكَيْفَ يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ؟ وَالزَّمَخْشَرِيُّ ادَّعَى أَنَّهُ نَكَّرَ لِإِرَادَةِ حَيَاةٍ طَوِيلَةٍ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَبْلَعُ وَأَحْسَنُ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْله تَعَالَى ﴿وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] فَإِنَّهُ إذَا وَدَّ الْيَسِيرَ مِنْهَا وَدَّ الْكَثِيرَ بِطَرِيقٍ أَوْلَى انْتَهَى.
[قَوْله تَعَالَى وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]
(آيَةٌ أُخْرَى)
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ فِي كِتَابٍ افْتَتَحَهُ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: ١٩١] فَكَتَبَ فِيهِ مَا نَصُّهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَصَمَنَا مِنْ الْفِتَنِ، وَهَدَانَا إلَى أَرْشَدِ سُنَنٍ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الَّذِي بَيَّنَ لَنَا مَا ظَهَرَ وَمَا بَطَنَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ بَيَّنُوا لَنَا مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ؛ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا عَلَى تَوَالِي الزَّمَنِ، وَبَعْدُ فَإِنَّا لَا نُحْصِي مَا لِلَّهِ عَلَيْنَا مِنْ نِعْمَةٍ وَمِنَّةٍ، وَمَا حَمَانَا بِهِ عَنْ كُلِّ مِحْنَةٍ؛ وَجَعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا وِقَايَةً وَجُنَّةً وَأَرْشَدَنَا إلَى طَرِيقِ السُّنَّةِ؛ وَجَعَلَ لَنَا عَلَى الْعَدْلِ قُوَّةً وَمِنَّةً، وَأَنَّهُ جَرَى الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ الْفِتْنَةِ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: ١٩١] وَأُطْلِقَتْ فِيهِ الْأَعِنَّةُ، وَأَعْرَى بِهِ بَعْضُ ذَوِي الضِّنَةِ، وَتَوَهَّمَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِلْقَاءِ بَيْنَ النَّاسِ لِلْقَتْلِ مَظِنَّةٌ، فَخَشِيتُ مِنْ اسْتِبَاحَةِ دَمِ مُسْلِمٍ بِالضَّغِنَةِ، فَأَرَدْتُ ذِكْرَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَسَمَّيْته تَأْوِيلَ الْفِطْنَةِ فِي تَفْسِيرِ الْفِتْنَةِ " وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى عَزَّ ذِكْرُهُ
1 / 21