فَلَيْسَتْ عَلَى نَوْعٍ مِنْ نَوْعِ التَّحَدِّي فَإِنْ قُلْت " مِنْ " عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِلتَّبْعِيضِ فَتَكُونُ السُّورَةُ بَعْضَ مِثْلِهِ يَقْتَضِي مُمَاثَلَتُهَا، قُلْت الْمَأْمُورُ بِهِ السُّورَةُ الْمُطْلَقَةُ وَ" مِنْ " يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَإِنْ سَلَّمَ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ فَالْمُمَاثَلَةُ إنَّمَا يُعْلَمُ حُصُولُهَا لِلسُّورَةِ بِالِاسْتِلْزَامِ، فَلَمْ يَتَحَدُّوا وَلَمْ يُؤْمَرُوا إلَّا بِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مُطْلَقَةٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّ مُقْتَضَاهُ الِاسْتِلْزَامُ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ فَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ بِالْمُطَابَقَةِ فِي الْكُلِّ الْمُبَعَّضِ لَا فِي الْبَعْضِ، فَإِنْ لَزِمَ حُصُولُهَا فِي الْبَعْضِ فَلَيْسَ مِنْ اللَّفْظِ.
وَبِهَذَا يُعْرَفُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ فَأْتُوا بِسُورَةٍ كَائِنَةٍ مِنْ مِثْلِ مَا نَزَّلْنَا، وَفَأْتُوا مِنْ مِثْلِ مَا نَزَّلْنَا بِسُورَةٍ؟ فَنَقُولُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ بِخُصُوصِهِ فِي الثَّانِي سُورَةٌ مُطْلَقَةٌ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعِ وَإِنْ كَانَتْ بَعْضُهَا مِنْ شَيْءٍ مَخْصُوصٍ انْتَهَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[قَوْله تَعَالَى وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ]
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ ﵀ قَوْله تَعَالَى ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: ٢٥] قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَلَّا جَاءَتْ الصِّفَةُ مَجْمُوعَةً كَمَا فِي الْمَوْصُوفِ وَأَجَابَ بِأَنَّهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ يُقَالُ لِلنِّسَاءِ فَعَلْنَ وَهُنَّ فَاعِلَاتٌ وَفَوَاعِلُ وَالنِّسَاءُ فَعَلَتْ وَهِيَ فَاعِلَةٌ وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ:
وَإِذَا الْعَذَارَى بِالدُّخَانِ تَقَنَّعَتْ ... وَاسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ الْقُدُورِ فَمَلَّتْ
وَالْمَعْنَى وَجَمَاعَةُ أَزْوَاجٍ مُطَهَّرَةٍ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ مُطَهَّرَاتٌ، أَقُولُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ اللُّغَتَيْنِ صَحِيحٌ، وَالْأَفْصَحُ فِي الْعَاقِلَاتِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْجَمْعِ سَوَاءٌ فِيهِنَّ جَمْعُ الْقِلَّةِ وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ وَفِي غَيْرِ الْعَاقِلِ الْأَفْصَحُ فِي جَمْعِ الْقِلَّةِ الْجَمْعُ كَالْأَجْذَاعِ انْكَسَرْنَ، وَفَكَّرْتُ فِي السِّرِّ فِي ذَلِكَ فَرَأَيْتُ أَنَّ فَعَلْنَ حُكْمٌ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ، وَفَعَلَتْ عَلَى الْمَجْمُوعِ لِتَأَوُّلِ الْجَمْعِ بِالْجَمَاعَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَاقِلُ يُنْسَبُ الْفِعْلُ إلَيْهِ نُسِبَ إلَى كُلِّ فَرْدٍ فَقِيلَ فَعَلَ وَإِنَّمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ " مُطَهَّرَةٌ " وَإِنْ كَانَ الْأَفْصَحُ مُطَهَّرَاتٌ إشَارَةً إلَى أَنَّ أَزْوَاجَ الْآخِرَةِ لِاتِّفَاقِهِنَّ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَا تَغَايُرَ بَيْنَهُنَّ وَذَلِكَ مِنْ كَمَالِ النَّعِيمِ لِرِجَالِهِنَّ فَلِذَلِكَ قِيلَ " مُطَهَّرَةٌ " وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ مُطَهَّرَاتٌ أَصْلًا فَانْظُرْ مَا أَبْدَعَ هَذِهِ الْحِكْمَةَ، وَقَالَ ﴿وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ﴾ [المرسلات: ١١] لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي وَقْتِ الْأَجَلِ، وَقَالَ ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ [التكوير: ٢] لِأَنَّ الِانْكِدَارَ وَصْفٌ شَامِلٌ لِجَمَاعَةِ النُّجُومِ، وَقَالَ ﴿وَالصَّافَّاتِ﴾ [الصافات: ١] لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلٌّ بِذَلِكَ.
وَقَالَ تَعَالَى ﴿فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا﴾ [الأحزاب: ٧٢] لِأَنَّ الْإِبَاءَ مِنْ وَصْفِ الْعُقَلَاءِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ أَبَى، وَقَالَ ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ [التوبة: ٣٦] لِأَنَّ التَّبْعِيضَ مِنْ الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ اثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ﴾ [التوبة: ٣٦] لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الظُّلْمِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ وَهَذَا مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى كَوْنِهِ جَمْعَ قِلَّةٍ لِغَيْرِ عَاقِلٍ، وَقَالَ ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ [البقرة: ١٩٧] لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُفْرَضَ فِي الْمَجْمُوعِ أَوْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ:
1 / 18