كل هذه الهواجس خطرت له وهو عائد على جواده يمشي الهويناء ويتوهم - لفرط خجله - أن الحسين يتبعه، وأخذ يفكر في ما دار بينهما في ذلك الموقف ويزن أقواله ليرى هل فرط بكرامته وهل له عذر مقبول بذلك الرجوع البارد؟ وأخذ يئول ما قاله أو ما سمعه وينتحل الأعذار ويهيئ الأسباب ويقدر العواقب لو أنه ظل على جسارته. فاقتنع أنه أحسن بالرجوع محافظة على كرامة لمياء وأنه لو تمسك بقوله وأراد تخليصها من أيدي أولئك القوم لانفضح أمرها وهي قد تقدمت إليه أن يقتصر ويعود.
فارتاح عند هذا العذر السفسطي - وكذلك الإنسان قد يصدق المحال تبريرا لعمله وردا لكرامته وحفظا لمنزلته عند نفسه.
ولما اطمأن خاطره من هذه الوجهة عاد إلى التفكير في سبب تلك العلاقة بينها وبين الحسين حتى يصطحبها في ذلك الليل على موعد وتواطؤ. فلما تصور ذلك اقشعر بدنه وهبت الغيرة في بدنه. والغيور سيئ الظن ويتعاظم سوء ظنه كلما تعاظم حبه - قد يرى بعض الرجال رجلا يخاطب امرأة في ريبة فيغار منه وتحدثه نفسه أن يعترضه، وقد يسيء الظن به لكنه لا يلبث أن يلتمس عذرا ويحسن الظن. أما إذا كان الخطاب مع فتاة يحبها فإنه يبني العلالي والقصور على ما رآه أو سمعه ويتعاظم سوء ظنه كثيرا ولا يقبل عذرا.
وكان سالم يحب لمياء ويعجب ببسالتها وجمالها ويرتاح إلى الاقتران بها، ولكنه لم يكن يعشقها كما كانت تعشقه هي، وإنما صمم على خطبتها لغرض سياسي سيظهر بعد قليل.
الفصل الثاني والعشرون
الحقيقة
دخل سالم معسكر حمدون وتجاوز فسطاطه وهو لا يشعر، وكان في عزمه أن يعود إلى ذلك الفسطاط ليقص ما رآه على أبيها، فما شعر إلا وهو بباب خيمة عمه أبي حامد فأراد أن يثني عنان جواده نحو فسطاط حمدون وإذا بأبي حامد قد خرج من تلك الخيمة وأشار إليه أن يدخل فترجل ودخل. فرأى أبا حامد وحده هناك وقد أحمرت عيناه وبان الاهتمام في وجهه. وكان قد تعود أن يرى ذلك فيه إذا طال التفكير في أمر عظيم.
فلما دخل ابتدره أبو حامد قائلا: «قد وصلنا يا سالم إلى الغرض المطلوب اقعد.» وأشار إلى وسادة على البساط فقعد وقعد أبو حامد إلى جانبه وهو يقول له: «أين كنت؟»
قال: «ذهبت لأشيع لمياء إلى المنصورية وليتني لم أذهب.»
فقال: «ولماذا؟»
صفحه نامشخص