وأهل مكة أيها الملك أهل تجارة يحملون الأموال من مشارف الشام واليمن وفارس والعراق إلى مكة وغيرها وهم مشهورون بالتجارة كثيرا حتى أن نساءهم كن يتعاطينها وكان في مكة امرأة مشهورة بالغنى اسمها خديجة بنت خويلد من سلالة عبد العزى بن قصي الذي قدمت ذكره وكانت لشرفها وغناها تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم فسمعت بمحمد وكان قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره واشتهر بالاستقامة والنشاط فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرا وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره فسار في تجارتها مع غلام لها اسمه ميسرة وعاد وقد اكسبها مالا طائلا فأحبته وعرضت عليه أن يتزوجها ففعل فولدت له أولادا وهم القاسم وهو يكنى به (فيقال أبو القاسم) والطاهر والطيب وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة أما القاسم والطاهر فماتا قبل أن ظهر بدعوته
واتفق إذ بلغ الخامسة والثلاثين من عمره ونحن لا نعرف من أمره غير ما عرفناه من حسن خصاله ومهارته واستقامته أن قريشا اجتمعت لبناء الكعبة وكنت في جملتهم وسبب اهتمامنا بذلك أن نفرا سرقوا كنزا للكعبة كان في بئر في جوفها ووجدنا تلك السرقة عند رجل من خزاعة فقطعنا يده وعمدنا إلى بناء الكعبة وتسقيفها وكان البحر قد رمى بسفينة عند جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذنا خشبها وأعددناه لتسقيفها وكان بمكة رجل قبطي يحسن صناعة النجارة فاغتنمنا هذه الفرصة لبنائها واقتسمنا العمل فيها لكيلا يحوز أحدنا من الشرف في ذلك أكثر مما يحوزه الآخر فجئنا بالحجارة والأخشاب حتى تم البناء ولم يبق إلا الركن فاختصم الناس في من يرفعه منهم وكانت كل قبيلة تدعي الأحقية في رفعه حتى تعاظم الخصام وهموا بالقتال فاتفق رأى عقلائنا أخيرا أن يحكموا فيما بينهم أول داخل من باب المسجد في ذلك اليوم فكان أول داخل محمدا فقالوا: «هذا هو الأمين قد رضينا بحكمه.» فأخبروه الخبر فرأى رأيا حسنا لم يخطر على قلب أحد منا وذلك أنه أتى بثوب واسع جعل ذلك الركن فيه وقال: «لتأخذ كل قبيلة بناحية منه.» فرفعناه جميعا حتى بلغنا به موضعه فوضعه هو بيده وانحسم الخلاف وقد حدث هذا بعد حرب الفجار بخمس عشرة سنة وحدث حرب الفجار بعد عام الفيل بعشرين سنة وكان لعمله هذا أثر حسن جدا في أذهاننا فخرج الناس من الكعبة وهم يتحدثون بفطنته وتعقله وكنت في جملة المعجبين به ولا أزال أعترف بفضله لولا ما أراد من تحقير آلهتنا وتعييب أصنامنا كما سأقصه عليكم.
وفيما نحن نتحدث بحسناته ونعجب بأخلاقه حتى بلغ الأربعين من عمره فسمعنا بانقطاعه عن الناس واعتزاله في الشعاب والجبال حتى صار يأوي إلى الكهوف ويقول أن الملاك جبريل ظهر له وعلمه الصلاة فعلمها لامرأته خديجة ولزيد بن حارثة مولاه ولعلي بن عمه أبي طالب وكان علي غلاما صغيرا وعلمها أيضا لعبد الله بن أبي قحافة الذي يسمونه الآن أبا بكر وتبعه آخرون وهو يتلو عليهم آيات يقول أن ربه علمه إياها ونحن لا نعبأ بذلك لأنه لم يمس آلهتنا بعيب ولكنه ما لبث أن جمع عمومته وأهل عشيرته الأقربين إلى وليمة ودعاهم إلى ترك الآلهة فأجابه عمه عبد العزى (أبو لهب) منكرا عليه جرأته هذه ونصح له أن يرجع عن ذلك فأبى ولم يزدد إلا تمسكا ثم بلغنا أنه سب آلهتنا وعاب أصنامنا فشق ذلك علينا فاجتمعنا وفينا نخبة من أشراف قريش وتداولنا في أمره وما جاء به فتهيأ لبعضنا أن نقتله فقال البعض الآخر: «إننا إذا قتلناه إنما نسيء عمه أبا طالب وهو رجل جليل القدر فالأفضل لنا أن نخاطبه بشأن ابن أخيه وخصوصا أن أبا طالب هذا ظل على دين آبائنا حتى مات ولم يؤمن بدعوة ابن أخيه.» فسرنا جميعا إلى أبي طالب في منزله فتلقانا على الرحب والسعة وأكرم وفادتنا على جاري عادته فلما استقر بنا المقام قلنا: «يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فاما أن تكفه عنا أو أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه.» فأجابنا أبو طالب جوابا لطيفا ووعدنا وعدا حسنا وردنا ردا جميلا فانصرفنا عنه على أمل أن يدع ابن أخيه عن عمله فإذا هو باق على ما كان عليه وما زلنا نسمع مثل ما كنا نسمعه عنه قبلا وكان ممن أيد دعوته من قريش ابن عم إمرأته خديجة وكان اسمه ورقة بن نوفل وكان نصرانيا مثلكم فاشتد غضبنا وهممنا بأن نفتك به ثم رجعنا إلى مجاملة عمه فاجتمعنا إليه مرة أخرى وقلنا له: «يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا وإننا لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى نكفه عنا أو ننازله واياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.» فآنسنا هذه المرة من أبي طالب انصياعا وكأنه عول على إجابة سؤلنا إذ لا طاقة له على فراق قومه وعشيرته ومعاداتهم وبلغني أنه لما خرجنا من منزله بعث إلى ابن أخيه فقال له: «يا ابن أخي إن قومك قد جاؤا إلي فقالوا كذا وكذا فابق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.» فآنس من إهاصراره على معتقده وبقائه على عزمه ما كاد أن يغضبه لولا أن محمدا قال له: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهر أو أهلك فيه ما تركته.» ثم بكى فرق له قلب عمه وتذكر أن ابن أخيه في منزله وله عليه حق الجوار فعاد إلى نصرته وطمأن قلبه ووعده أن لن يسلمه أبدا.
ثم علمنا ذات يوم أن محمدا ذكر آلهتنا فيما نزل عليه من كتابه فقال: «أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلى أن شفاعتهن لترتضي.» وذلك ما كنا نعتقده فسررنا سرورا لا مزيد عليه وقلنا ها قد تم الوفاق ثم ما لبث أن رجع عن ذلك وأبدل هذه الفقرة بفقرة تزيدنا نفرة منه فقال أن تلك إنما ألقاها الشيطان على لسانه ثم ذكر آلهتنا بكل سوء فقال: «إنها أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم.» إلى غير ذلك مما زادنا نفورا وبعدا.
فحرنا في أمرنا مع هذا الرجل ولبثنا نتوقع فرصة نتخلص بها منه ونرجو رجوعه فإذا هو باق على عزمه وكثيرا ما كان بعض رجالنا إذا إلتقوا به تهددوه وهو لا يبالى وفيما نحن في ذلك إذ سمعنا أن عمه حمزة بن عبد المطلب قد آمن بدعوته وأخذ يناصره وحمزة هذا رجل شديد تهابه قريش فإشتد به أزره وإزداد ثباتا في دعوته فقلنا: «لندعون محمدا الينا نكلمه ونخاصمه حتى نعذر فيه.» فاجتمعنا في الكعبة وفينا كل أشراف قريش واستقدمناه فجاء فقلنا له: «قد بعثنا إليك لنكلمك فإننا لا نعرف رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك (والرئي التابع من الجن) بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.»
فأجابنا بقلب لا يهاب الموت قائلا: «ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لحكم الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.» فأردنا أن نمتحن اعتقاده فقلنا له: «إن كنت غير قابل شيئا مما عرضناه عليك فانك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فيسير عنا هذه الحال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولا كما تقول.» فأجابنا وهو لا يتلجلج ولا يتردد قائلا: «ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله بما بعثني به وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر إن الله تعالى يحكم بيني وبينكم.» وطال الجدال بيننا في مثل ذلك وهو باق على قوله حتى خرج ونحن لا نرى سبيلا إلى الإيقاع به.»
وكان أبو سفيان يتكلم والجميع صامتون يتطاولون بأعناقهم فلما وصل إلى هذا الحد جعلوا ينظرون بعضهم إلى بعض وهم يعجبون لما سمعوه فقال بطريرك القسطنطينية لهرقل: «أني لا أرى هذا الرجل إلا قد جاءهم بالحق وهم إنما يشكون من دعوته إياهم إلى دين الله.» ثم عادوا إلى استماع بقية الحديث فقال هرقل: «وما جرى بعد ذلك.»
قال أبو سفيان: «وما زال أمر هذا الرجل يستفحل حتى كثر أنصاره ومن غريب ما رأينا منهم أنهم كانوا يحتملون منا الأمور الصعاب والاضطهاد الشديد على أن يكفروا به فلم يفعلوا حتى إذا ضيقنا عليهم فر جماعة منهم إلى بلاد الحبشة فحماهم ملكها وأخذ يناصرهم أما محمد فبقي في مكة يدعو الناس بالحسنى والصبر ونحن غافلون حتى سمعنا بإسلام عمر بن الخطاب وهو من أعظم رجال قريش فتأيدت دعوته به كما تأيدت بحمزة فعظم أمره واشتد أزره فصار دعاته يتكاثرون يوما بعد يوم بما ينضم إليهم من القبائل فخفنا عاقبة ذلك فاجتمعنا وائتمرنا على أن نكتب كتابا نتعاقد فيه على بني هاشم وبني عبد المطلب أن لا ننكح إليهم ولا ننكحهم ولا نبيعهم شيئا ولا يبتاعوا منا شيئا فكتبنا صحيفة تعاهدنا عليها وتواثقنا وعلقناها في جوف الكعبة ولكنها ما لبثت أن نقضت لأننا تعهدناها يوما فإذا هي قد أكلتها الأرضة فتشاءمنا بذلك وأسقط في يدنا فلبثنا ننتظر ما يأتي به الزمان.
فمنذ عشر سنوات تقريبا توفي أبو طالب وخديجة فذهب الذي كنا نهابه ونجل مقامه فنلنا من محمد ما لم ننله قبلا فسمناه أنواع العذاب والاضطهاد حتى كثيرا ما كنا ننثر التراب على رأسه فخرج من مكة إلى الطائف يلتمس النصر من قبيلة ثقيف التي قضى زمن رضاعته بينهم فلم ينل خيرا بل كانوا يسبونه ويؤذونه ويعترضون له في الطريق ويسومونه ألوان العذاب حتى ظنناه يرتجع ويترك دعوته ولكنه لم يزدد إلا ثباتا وكان يذهب إلى المواسم حيث تجتمع القبائل للبيع والشراء كموسم عكاظ وغيره ويعرض نفسه عليهم ويدعوهم إلى دينه فكان أكثرهم إقبالا عليه قبائل الخزرج من أهل المدينة (يثرب) فإنهم بايعوه بيعات تعرف ببيعات العقبة لوقوعها في مكان اسمه العقبة بقرب مكة.»
فقال الترجمان عند ذلك: «وما معنى المبايعة عندكم؟» قال: «هي أن يتراضى الفريقان على أمر كالبيع والشراء وسمعت أن لهذا الرجل مبايعة يؤخذ منها تعهد المبايعين أن يكونوا على دعوته ومن أمثلة ذلك قولهم له: «بايعناك على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف.» وقد كانت بيعة العقبة هذه أول أمر الأنصار وهم أهل المدينة وقد سماهم الأنصار لأن أمره ضعف بعد وفاة عمه وخديجة كما قدمت فجاء الخزرج وبايعوه ونصروه فسماهم الأنصار وهؤلاء ساروا إلى المدينة ونشروا دعوته بين أهلها فتبعه منهم كثيرون فلما رأى تضييقنا عليه بمكة أمر أصحابه بالمهاجرة إلى المدينة وسماهم المهاجرين تمييزا لهم عن الأنصار المتقدم ذكرهم.
صفحه نامشخص