وولد لهاشم ولد سماه شيبة ثم سمى عبد المطلب لحكاية طويلة لا محل لها هنا وهو جد محمد أبو أبيه فلما مات المطلب تولى الرفادة والسقاية ابن أخيه هذا أي عبد المطلب وولد لعبد المطلب عشرة أولاد ذكور منهم عبد الله والد محمد.
وكان عبد المطلب قد أراد حفر بئر زمزم فمنعه أقاربه من ذلك فلاقى منهم أمورا صعابا ولكنه فاز أخيرا بحفرها فنذر أنه إذا ولد له عشرة أولاد ثم بلغوا منه حتى يمنعوه من مثل ذلك لينحرن أحدهم عند الكعبة فلما بلغوا ومنعوه جاء الكعبة ليفي نذره ولم يكن يدري من ينحر من أولاده فاستخار هبل الصنم الأكبر القائم في الكعبة بواسطة القداح.»
فأشكل أمر هذه الأقداح على الترجمان ولم يستطع تفسيرها فاستفسره عنها.
فقال أبو سفيان: «أن لنا في الكعبة أصناما كثيرة اتخذناها وسيلة بيننا وبين من نعبد وأعظمها صنم اسمه هبل عنده سبعة قداح (أي أسهم بلا ريش) كل قدح عليه كتابة بمعنى قدح قد كتب عليه (العقل) وقدح عليه (نعم) وقدح عليه (لا) فإذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح فإذا خرج (نعم) فعلوا ما جاؤا من أجله أو (لا) لم يفعلوه وقدح فيه (منكم) وقدح فيه (ملصق) وقدح فيه (من غيركم) وقدح فيه (المياه) إذا ارادوا أن يحفروا للماء ضربوا القداح وفيها ذلك القدح فحيثما خرج علموا به.
فجاء عبد المطلب إلى هبل وقال لصاحب القداح إضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه وأخبره بنذره فاصطنع لأولاده عشرة أقداح وأعطى كل رجل منهم قدحه وقد كتب عليه اسمه وكان عبد الله والد محمد الذي نحن في صدده أصغر بني عبد المطلب وكان أحبهم إليه فلما ضربت القداح طلع القدح أن يذبح هو فهم عبد المطلب بذبحه فمنعته قريش من ذلك وقالوا: «لا بل يجب أن تعذر فيه» فانطلق به إلى عرافة في المدينة (يثرب) فوجدوها بخيبر فجاؤها فسألوها عذرا فسألتهم: «كم دية الرجل عندكم؟» قالوا: «عشرة من الإبل.» قالت: «فخذوا الغلام وعشرة من الإبل وإضربوا عليه وعليها بالقداح فإن خرجت عليه فزيدوا من الإبل عشرة فعشرة حتى يرض إليكم وتخرج القداح عليها فتنحروها.» فخرجوا وضربوا بالقداح فما زالت تخرج على عبد الله حتى بلغ عدد الإبل مائة فخرجت عليها فذبحوها ونجا عبد الله وبقي حيا وتزوج فولد له محمد.
ولم أطل عليكم الكلام إلا لتعلموا مقدار ما نحن فيه من تعظيم الكعبة وأصنامها فإنها ضالتنا وغايتنا نستشيرها ونستخيرها وإليها تحج الناس من سائر أقطار الأرض ولنا بها منفعة من حيث الاتجار لما يأتينا بواسطتها من أصناف الناس عربها وعجمها وقد ذكرت لكم كم سفكنا من الدماء في سبيل استبقائها فهي مصدر نعمتنا ومنبع أقواتنا ومرجع آمالنا وقد مضى عليها القرون الطوال قائمة والناس يكرمونها ويعظمونها ويذبحون عند أصنامها الذبائح ويقدمون إليها بالهدايا إلى اليوم فهذه كلها قام صاحب هذا الكتاب (وأشار إلى الرق أمام هرقل) يدعو الناس إلى إزالتها وهدم ما بناه أجداده فيها.»
فلما بلغ أبو سفيان من كلامه إلى هذا الحد ظهرت على وجه هرقل مظاهر الاستغراب وخاطب البطريرك إلى يمينه باليونانية قائلا: «أرى هذا الرجل يشكو ممن يريد هداية قومه عن عبادة الأصنام فإذا كانت هذه هي غاية هذا النبي فنعمت الغاية.» فتداول الحضور هذا الحديث برهة على نحو ما قال الإمبراطور وازداد شوقهم لمعرفة بقية الحكاية وكيف استطاع القيام بهذا المشروع على خطارته مع ما ذكر أبو سفيان من يتمه وضعفه فإلتفت هرقل إلى أبى سفيان وقال له: «لقد أفصحت فيما قلت فهل لك أن تحكي لنا حكاية هذا النبي وكيف توصل إلى أن يدعوكم إلى ذلك.»
فقال أبو سفيان: «قد رأيت أبيت اللعن كيف نجا عبد الله بن عبد المطلب من الموت وكان أبوه يحبه فزوجه امرأة من قريش اسمها أمينة ولم يمكث عبد الله مع إمرأته إلا برهة يسيرة ثم قضت عليه الأحوال بالسفر إلى غزة التي أنا آت منها الآن ولكنه مرض في سفرته هذه فعادوا به إلى مكة فمات قبل أن يدركها وهو بجوار يثرب فدفن هناك وإمرأته لم تره.
وكانت أمينة حين مات عبد الله حاملا ولم يترك لها إلا أربعة من الإبل وقطيعا من الماشية وجارية اسمها بركة. وكانت أمينة تقيم في بيت بضواحي مكة عند جبل شرقي مكة اسمه جبل أبي قبيس وهناك ولدت ابنها هذا في عام الفيل الذي جاء به أبرهة الأشرم من قبل الحبشة لفتح مكة (سنة 570م) فلما ولدته كان جده عبد المطلب في الكعبة فحملوه إليه فباركه وسماه محمدا ومن عادتنا أيها الملك أن نرضع أولادنا من المراضع ويندر أن يعيش لنا ولد على لبن أمه ونختار المراضع من أهل البادية لصحة أجسامهن فاختارت له أمه مرضعا من أهل الطائف اسمها حليمة فأرضعته حولين قضاهما في سهول الطائف وأوديته فنشأ نشيطا وسمعت الناس يتحدثون عن طفوليته أخبارا غريبة لم نسمع بمثلها من ذي قبل منها أن مرضعه تركته يلعب مع ولدها ذات يوم خلف البيوت فإذا بولدها قد جاء يقول: «أن أخي القرشي أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فشقا بطنه.» فخرجت هي تلتمسه فوجدته منفردا فسألته عن أمره فقال: «جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فاضجعاني وشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو وغسلاه بالثلج.» فخافت حليمة على الغلام فحملته إلى أمه بمكة فقضى فيها مدة يرعى الغنم ويطوف الأحياء مع الأولاد وكان كل من رآه أعجب بذكائه وجماله ونور محياه ولكنه لم يكد يبلغ السادسة من عمره حتى توفيت والدته في الأبواء بين مكة والمدينة فدفنت هناك فأصبح الغلام يتيم الأبوين فاحتاطه جده عبد المطلب وأحبه أكثر من حبه أولاده فكان الناس يكرمونه من أجل جده وكان على صغر سنه يجالس الحجاج القادمين لزيارة الكعبة وفيهم العلماء والشيوخ ويحادثهم بما يجتذب به قلوبهم وعواطفهم وبعد سنتين توفي عبد المطلب فولى السقاية ابنه العباس أما الرفادة فانيطت ببني نوفل من ولد عبد شمس جدنا فأصبح محمد يتيما غريبا فكفله أبو طالب أحد أعمامه وكان أبو طالب أقل من العباس مالا ولكنه كان وجيها مقدما في قريش فاحتضن الغلام وتولى تربيته والسبب في احتضانه إياه دون سائر أعمامه أن أبا طالب وعبد الله والد محمد كانا أخوين من أم واحدة.
وأعترف لك أيها الملك العظيم أن كفالة أبى طالب هذه كانت سببا عظيما في نجاح دعوة محمد وبقائه حيا لأن أبا طالب كان وجيها في قريش محترما مكرما فأقام محمد في بيته كأحد أولاده. وكان أبو طالب إذا خرج إلى تجارة أو سفر اصطحب محمدا فينزل الديور ويجالس الرهبان والعلماء وأشهر حادثة سمعتها عنه نزوله في دير بحيراء قرب بصرى فقد أخبرنا بعض الذين رافقوه في رحلته تلك أن الراهب بحيراء أنبأه بأمور كثيرة من مستقبل حياته وأوصى عمه أبا طالب أن يعتني به ويخاف عليه اليهود. وكان محمد إذا عاد من سفر قضى معظم ساعات نهاره في الكعبة يحادث الناس ويجادلهم ويطارحهم وهم يعجبون لذكائه وقوة برهانه فقد كان على صغر سنه ذكى الفؤاد فصيحا واسع الاطلاع بما اكتسبه من مجالسة عمه ومخالطة الناس في أسفاره مع أنه كان أميا لا يعرف القراءة وهو لا يزال كذلك إلى الآن وكان مع ذلك مخلصا حسن الطوية حتى لقبوه بالأمين فإذا جاء أو ذهب قالوا جاء الأمين أو ذهب الأمين.
صفحه نامشخص