وكان العالم قبيل الإسلام تتنازعه دولتان عظيمتان الفرس في الشرق والرومان في الغرب لا يكاد يفتر النزاع بينهما فيستعين الفرس بالمناذرة ويستعين قياصرة الروم بالغساسنة فتولد بين تينك القبيلتين العربيتين المسيحيتين ضغائن توارثها الأبناء عن الآباء وكثيرا ما كانت تقوم الحرب بينهما حتى يكاد يبيد أحدهما الآخر.
والنزاع بين الفرس والروم قديم وكأنه طبيعي بين المشرق والمغرب فقد كانت الحروب متواصلة قبلا بين الفرس واليونان ثم بين الفرس والرومان وكانت عاصمة الفرس المداين بالعراق وعاصمة الرومان القسطنطينية فقضوا أجيالا متوالية وهم بين حرب وصلح تارة يجردون الجند وطورا يعقدون الصلح. ففي النصف الثاني من القرن السادس للميلاد كان ملك الفرس كسرى رويز وإمبراطور الروم موريسيوس (والعرب تسميه موريقى) فثارت في بلاد الفرس ثورة داخلية آلت إلى خلع كسرى فالتجأ إلى موريسيوس فساعده وأعاده إلى ملكه وكان ذلك داعيا إلى مصالحة وهدنة. وفي سنه 602م قتل موريسيوس هذا قتله فوكاس (فوقا) وتولى هو الملك مكانه وكان على الفرس كسرى برويز المذكور وكان صهرا لموريسيوس قد تزوج ابنته ماريا فلما سمع بمقتل حميه اعتبر معاهدة الصلح بينهما لاغية وحمل بجيشه على القسطنطينية متظاهرا بالانتقام من قاتل حميه وهو يضمر الاستيلاء على مملكة الروم فظلت القسطنطينية أثناء حكم هذا الإمبراطور في حصار دائم فمل الناس حكومته فثاروا عليه وأرادوا خلعه فاستدعوا هراكليوس (هرقل) ابن والى القيروان عن الروم فجاء سنة 610م بعمارة بحرية ودخل القسطنطينية عنوة وقتل فوقا وتولى مكانه والفرس قد قاموا على الروم قومة واحدة فكان كسرى محاصرا القسطنطينية بنفسه وكان قائد من قواده محاصرا بيت المقدس وآخر محاصرا الإسكندرية والناس يفرون من وجه الفرس من كل صوب فلم تأت السنة الخامسة من حكم هرقل حتى استولى الفرس على القدس وفى الثامنة (سنة 618) دخلوا الإسكندرية واستولوا على مصر السفلى فلاقوا من أهل الشام ومصر ترحابا وارتياحا لارتباطهم معهم ومع جندهم اللخميين برابطة الوطن الشرقي والعوائد الشرقية فلبثوا تحت نيرهم عشر سنوات ثم اشتغل الفرس بعصيان بعض ولاياتهم فضعف أمرهم فاغتنم هرقل تلك الفرصة وحمل عليهم بجنده فأخرجهم من الشام ومصر وأعاد المملكتين إلى حوزة الروم ولم يكد يستريح هرقل من هذه الحروب حتى جاءه المسلمون في أوائل الهجرة مفتتحين وهو لا يزال في سوريا وحصونه لا تزال متهدمة وجيوشه متبعثرة وسائر قواته متضعضعة.
وكان بنو غسان تحت سيطرة الوالي الروماني المقيم بدمشق بأمر إمبراطور المملكة الرومانية الشرقية المقيم في القسطنطينية فترد الأوامر الإمبراطورية من الإمبراطور إلى والي دمشق وهو يبلغها إلى ملك غسان.
وكان كرسي حكومة الغسانيين تارة في عمان بالبلقاء وطورا في تدمر وأحيانا في الجولان وتارة في بصري عاصمة حوران في ذلك العهد.
ففي نحو السنة السابعة للهجرة (629) كان على الغسانيين في الشام ملكان في وقت واحد أحدهما الحارث بن أبى شمر والآخر جبلة بن الايهم وكان الحارث يقيم في بصرى وفى مكانها الآن قرية صغيرة اسمها اسكي شام أي الشام القديمة وسيأتي ذكرها وبجوار بصرى هذه دير بحيراء الذي نزل عنده أبو طالب ومعه ابن أخيه صاحب الشريعة الإسلامية يوم قدموا الشام للتجارة قبل ظهور الدعوة الإسلامية ببضع وعشرين سنة.
وأما جبلة فهو ابن عم الحارث المشار إليه وكان يقيم بالبلقاء.
الفصل الثاني
فتاة غسان
وكان لجبلة هذا ابنة بارعة في الجمال مع تعقل ورزانة اسمها هند ربيت منذ حداثتها على ظهور الخيل فشبت مولعة بركوبها ومجاراة أعاظم الفرسان في حلبة السباق حتى طار صيتها في القبائل حديث القوم ومضرب أمثالهم قبل أن بلغت العشرين من عمرها.
وكانت تقيم غالبا في صرح الغدير وهو قصر بديع شاهق بناه ثعلبة بن عمرو أحد ملوك غسان في القرن الرابع للميلاد في أطراف حوران مما يلي البلقاء من حجارة ضخمة فيه غرف واسعة تحدق بها الحدائق والبساتين تجرى من تحتها الجداول والسواقي معظم أيام السنة.
صفحه نامشخص