قال سلمان: «هذه راية ذات شأن عظيم عندهم ويقال لها راية العقاب».
قال حماد: «لم تخبرنا بما فعله المسلمون في العراق هل فتحوا المدائن ودوخوا الفرس».
قال سلمان: «لو بقوا هناك لفعلوا ذلك ولكن خليفتهم استقدمهم لنجدة جند الشام ولولا قدوم خالد على بصرى لما استطاع شرحبيل فتحها فقد وصلنا إليهم وهم في شدة وجهد وضيق».
الفصل السابع والسبعون
فتح الحيرة
فقال حماد: «أخبرنا يا سلمان عما فتحه خالد من العراق وكيف رأيت حال الفرس».
قال: «أما خالد فأنه من أعظم القواد وخيرتهم وقد لقيته في الحيرة يوم فتحها وكان قبل ذلك قد استولى على بلاد كثيرة بلا حرب لأن العراقيين قد ملوا من حكومة الفرس وظلمهم وعتوهم واحتقروهم لاختلال أمورهم. فأول مكان وصل إليه خالد بلاد بانقيا وباروسما والليس فصالحه أهلها على عشرة آلاف دينار سوى خرزة كسرى وهي فريضة كان يقتضيها الفرس عن كل رأس أربعة دراهم. ثم ساروا إلى الحيرة وعليها إياس ابن قبيصة كما تعلمون (قال ذلك وتنهد) فأنه تولاها بعد ما قضى الله من أمر مولانا رحمه الله» (فتنهد حماد وعبد الله وهما صامتان يسمعان حديث الحيرة) فقال سلمان: «لم يكد يصل خالد الحيرة حتى خرج إليه إياس وسائر أشراف حكومته كأنهم كانوا منه على موعد فاستقبلهم كما يستقبل الغالب المغلوب ودعاهم إلى الإسلام أو الجزية أو الحرب فاختاروا البقاء على النصرانية ودفع الجزية فبلغت جزيتهم تسعين ألف درهم وقد أخبرني بعض رجال خالد ممن يقرأون له القرآن أنها أول جزية أخذها المسلمون من الفرس. ثم تحولوا عن الحيرة وحاربوا الفرس في عدة مواضع وفازوا في أكثرها وما فازوا فيه وقعة الثني ووقعة الولجة ووقعة الليس كل ذلك قبل وصولي.
أما أنا فلما ودعتكم سافرت إلى الحيرة فوصلتها والناس يتحدثون بما تم من صلحها وأهلها بين راض بالصلح وناقم على إياس وخصوصا الفرس منهم فقد سمعتهم يتذمرون وكاتبوا بذلك كسرى برويز وكان يتولى عرش الأكاسرة إذ ذاك وشكوا ما كان من ضعف ابن قبيصة فأنفذ جندا بقيادة رجل من مرازبته اسمه الازادبة لمحاربة العرب فوصل الجند وأنا في الحيرة وكان خالد قد برحها إلى بلاد أخرى يلتمس الفتح ثم سمع الازاذبة بقدومه فخرج إليه وعسكر عند الغربيين وخرجت أنا معهم وعلم أن خالدا ورجاله قادمون بالسفن بالفرات وأرسل ابنه ليقطع الماء عنهم فوقفت السفن على اليبس فتركها خالد وخرج برجاله على الخيل حتى قتل ابن الازاذبة وتقدم خالد نحو الحيرة.
ومن غريب الأتفاق أننا بينما نحن في الغربيين وصل ساعي البريد من المدائن يحمل كتابا إلى المرزبان فلم يكد يفتحه ويقرأ ما به إلا وقد تغير لونه واستولى عليه الجزع فخاف كل من رآه ولم نعلم ما دعاه إلى ذلك إلا في اليوم التالي إذ شاع في المعسكر إن كسرى برويز قد مات فوقع الاضطراب في الجند وانشغل الازاذبة واضطرب ثم جاءه الخبر بمقتل ابنه وتقدم العرب نحوه فتقهقر نحو الحيرة وعسكر العرب عند الغربيين.
أما أنا فلما رأيت اختلال أحوال الفرس قلت في نفسي لقد آن الوقت الذي فيه أستطيع القيام بالمهمة التي جئت لأجلها فخرجت من الحيرة في ليلة ليلاء حتى أتيت معسكر العرب فالتمست الأمان وإن أرى الأمير خالدا فأخذوني إليه فطلبت الخلوة به فخلونا فقلت اعلم أيها الأمير أن حال الفرس في اختلال لموت ملكهم وانقسامهم فيما بينهم فقد صالحك ابن قبيصة وهو على صلحك مع سائر العرب وأما الفرس فهم في شاغل عن الحرب بارتباك داخليتهم وأطلعته على خفايا كنت عالما بها فسر بي كثيرا وأثنى علي فقلت في نفسي هذه فرصة أغتنمها لحفظ ما لمولاي هناك من الأموال والعقار وكنت قد تفقدت المزارع فرأيت الجميع في انتظار عود الأمير عبد الله فطيبت خاطرهم وقلت لهم إني إنما أتيت الحيرة لتفقد حالهم وأوصيتهم بالعناية في استغلال الأرض فلما آنست من خالد ارتياحا إلى خدمتي التمست منه حماية تلك المزارع فوعدني. وقبل هجومهم على الحيرة أخذت علما مثل الذي نصبته على هذا البيت ونصبته هناك وبعد قليل هجم المسلمون على المدينة ففتحوها فظللت في معية خالد حيثما ذهب.
صفحه نامشخص