223

فقال حماد: «لقد شاهدنا قوته وسلطانه بأعيننا يوم فتح مكة وكان يوما مشهودا ويظهر من رغبته في سبيل الله واستهلاك أنصاره وأصحابه في نصرته أن دولته ستغلب الدول كلها إن عاجلا وإن آجلا».

قال: «فلستم إذن في ما يدعو إلى تكبد الخطر في الانتقام من أكاسرة الفرس وقد رأيتم أن قاتل حبيبنا النعمان قتل هو وأولاده شر قتلة وسيتم العرب على دولتهم إن شاء الله».

فوقع كلام الناسك على قلب حماد بردا وسلاما فارتاح باله من أمر الانتقام المعجل وانصرف فكره إلى هند وشعر بميل شديد إلى رؤيتها وخاف أن تسيء الظن به إذا طال غيابه بعد يوم الشعانين وهم في اليوم الثانى منه فتظاهر بميله إلى الانصراف فأدرك عبد الله ذلك فقال للناسك: «أتأذن لنا بالذهاب على أن نغتنم الفرص في زيارتك حينا بعد حين وهل تطلب منا أمرا نقضيه لك».

قال: «لا أريد من هذا العالم شيئا فقد رأيتم زهدي به ولم يكن في نفسي شيء غير رؤية ابن حبيبي النعمان لأقص عليه ما اؤتمنت عليه مما خاطبني به والده في الحلم فأحمد الله على نيل بغيتي فإذا مت الآن فإني أتوسد قرير العين ناعم البال».

فقال عبد الله: «أطال الله بقاءك ونرجو أن نراك كثيرا». قال ذلك ونهض فنهضوا جميعا وودعوا الناسك وانصرفوا على أفراسهم وكأن على رؤوسهم الطير.

أما حماد فإن ذهنه تفرغ للافتكار بهند وأحس برغبته في اطلاعها على حقيقة نسبه فلما وصلوا إلى الدير مروا بغرفة الراهب الشيخ فدخلوها ليطلعوه على ما دار بينهم وبين الناسك فلما أنبأوه بما علموه من أمره أطرق يفكر بغرائب الحدثان ثم قال: «لقد خيل لي منذ رأيت هذا الناسك أنه لم يغادر خضب العراق ويقيم في هذه الجبال المجدبة إلا لدافع دفعه إلى ذلك وقد صدق ظني ويسرني أنه أطلعكم على ما خفف قلقكم وهون عليكم فما أنتم في عجل للقيام بالوصية وقد كفاكم الله مئوونة ذلك أما ما قاله عن قوة المسلمين وعظم دولتهم حتى يخشى على الروم والفرس منها فقد أيدته الحوادث الجارية فإن تلك الشرذمة من الحجازيين لم يكادوا يقومون بدعوتهم حتى ملأوا جزيرة العرب فتحا وقتالا فدانت لهم قبائل اليمن وعمان واليمامة ونجد وقد شهد حماد وسلمان فتح مكة ورأيا بطش هؤلاء العرب وقوة جامعتهم ولقد شهد من رأى حربهم في مؤتة هنا أنهم كافحوا كفاح الأسود وصبروا على الحرب صبر الرجال ولكنها أول مرة لاقوا بها جند الروم ولم يكونوا في عدة كافية فلم يفوزوا والظاهر أن وقعة مؤتة كانت أمثولة لهم علمتهم كيف تؤكل الكتف حتى إذا رأوا في جندهم الكفاءة أعادوا الكرة ليس على الشام فقط بل على العراق أيضا».

فقال عبد الله: «وهل علمت أنهم حملوا على العراق؟»

قال: «نعم أنهم حملوا عليه حملة إذا لم يكن فوزهم بها تاما فلا أقل من أن يؤذوا الفرس ويضيقوا عليهم».

فقال حماد: «وكيف عرفت ذلك يا مولاي؟»

قال: «أخبرنى بذلك تاجر من أهل مكة تعودنا لقاءه هنا كل عام أو عامين ولي معه صداقة ودالة فقد مر بي من بضعة أيام وأطلعني على حوادث تلك الدولة بعد فتح مكة حتى الساعة فإذا هي ما يخيفنا على دولتي الروم والفرس وكنت أظنكم عالمين بها».

صفحه نامشخص