فخرج سلمان وقد تزيا بزي أهل الحجاز لا يريد بذلك تنكرا ولكنه خاف أن يكون غريب لباسه موجبا لاستلفات الأنظار إليه فوصل المسجد الحرام فدخل من بعض أبوابه فرأى في ساحته جماعة كبيرة عراة يطوفون وفيهم الواقف والجالس والراكع ورأى في بعض الجوانب جماعات جالسين يتحادثون ويتحاورون فسار هنيهة فرأى في وسط الساحة بناء مربعا تجلله أستار من القباطي علم من طواف الناس حولها أنها الكعبة تجللها الأستار فلم يجسر على الطواف حولها والدنو منها ولكنه نظر إلى داخلها عن بعد فرأى فيها أحجارا قائمة علم أنها الأنصاب ورأى حول الكعبة وفوقها أصنام هائلة رأى بعض الناس يحلقون ويغتسلون حولها فأذهله كل ذلك وقال في نفسه (إذا لم يكن في قيام الإسلام غير هدم هذه الأنصاب وإبطال عبادتها فلكفى به فضلا).
ثم تأمل في بناء الكعبة وأخذ يفكر في أمر القرطين وكيف يمكن أن يكونا هناك وإذا وجدا فأين يمكن أن يكون موضعهما فلم يزدد إلا إبهاما ولا زادته تلك الزيارة إلا يأسا.
ثم تحول نحو الجماهير لعله يرى ذلك الشيخ فطاف المكان يسأل عنه باسمه فقال له بعضهم: «أنه خرج إلى منزله بالأمس لتوعك أصابه .» فسأل عن منزله فقيل له: «أنه في مر الظهران بضواحي مكة.»
فخرج إلى مر الظهران وفيما هو في طريقه إليها يسأل عن الطريق ويستفهم عن الرجل رأى أهل مكة في هرج يجتمعون جماعات ثم يتفرقون كأنهم في خوف من أمر ذي بال فعلم أنهم يتحدثون بأمر أهل المدينة ومر بجماعة منهم كبيرة قد تألبوا أمام منزل فخيم قد ربطت حوله الخيول فعلم أنه بيت أمير كبير فسأل عن صاحبه فقيل له: «أنه منزل أبى سفيان.» فلما سمع اسمه شكر الله بوصوله إليه تلك الساعة على غير انتظار وأخذ يتفرس في وجوه الناس لعله يرى سيده بينهم فلم يجده فسأل بعض الوقوف عنه فأخبره بعضهم أنه فارقهم بقرب عمان وأنه لم يروه من ذلك الحين فأسف لذلك أسفا شديدا وأظلمت الدنيا في عينيه وتشأم من تلك الصدفة ولكنه تجلد وسار في طريقه إلى مر الظهران وهو غارق في بحار الهواجس فوصل المكان بعض العصر فسأل عن منزل حرب فدلوه عليه فجاءه وهو لا يرجو أن يصيب منه خيرا.
فسأل عن الرجل فقيل له أنه مصاب بمرض شديد فلا يستطيع أن يخاطب أحدا فعاد على عقبيه كاسف البال وقد أخذ منه اليأس مأخذا عظيما لا يدرى كيف يلاقي حمادا.
فوصل الخان والليل قد سدل نقابه فرأى حمادا في انتظاره على مثل الجمر فتظاهر بالتجلد ولم يخبره بخبر والده ولكنه أنبأه بمرض حرب ووعده بأن يواصل السؤال عنه حتى يشفى من مرضه على أنه لم يكن يرجو شفاءه لشيخوخته وعجزه ولكنه ألقى اتكاله على الله وصبر نفسه.
وقضى سلمان شهرا يتردد على بيت حرب يسأل عنه ويدعو له بالشفاء وعلم سلمان بعد ذلك أن الشيخ آخذ في التقدم نحو الشفاء فعادت إليه آماله.
فسار إليه ذات يوم وهو يرجو أن يقابله ويشكو إليه أمره وفيما هو في الطريق رأى أهل مكة في قلق شديد فمر بمنزل أبي سفيان لعله يتنسم خبرا عن سيده فرأى المنزل قفرا فسأل عن السبب فقال له مخبر: «أن أبا سفيان لما سمع بقدوم المسلمين على مكة خرج إليهم وربما اعتنق دينهم لأنه خرج خائفا.» فسأل سلمان عن جند المسلمين فقيل له: «أنه قادم وقد صار على مقربة من مكة.»
فتفرس سلمان في أهل مكة فرأى علامات الفشل ظاهرة على وجوههم فسمع بعضهم يمتدح الإسلام وينقم على أبى سفيان وبعضهم يلوم القريشيين على عنادهم ونكثهم عهد بني خزاعة فعلم أن الأمر عائد للمسلمين لا محالة فخرج من مكة حتى جاء مر الظهران وأراد السؤال عن حرب فرأى الناس يهرعون والنساء يولولون وينادين بالويل والثبور فإلتفت فرأى الغبار يتصاعد عن بعد فصعد على أكمة في ضواحي مكة يرى ما يكون فرأى الغبار قد شف عن جند متكاثر تتقدمهم الفرسان بالرايات ووراء كل راية قبيلة من المسلمين وكان ذلك في شهر رمضان فعسكر الجند على مسافة من مكة وعاد سلمان إلى الخان خوفا على سيده من غائلة ذلك الفتح وفيما هو سائر في الطريق رأى كوكبة من الفرسان يتقدمهم أبو سفيان عائدا من سفرته وهو يدعو الناس إلى الإسلام بالتخدير والتهديد مع النصيحة فلم يسمع إلا ازدراء واحتقارا وسمع رجاله ينادون: «من يدخل منزل أبي سفيان أو منزل العباس بن عبد المطلب فهو آمن من سيوف المسلمين ومن يدخل المسجد أو يدخل منزله ويغلق بابه فهو آمن.» فاطمأن بال سلمان.
فسار وهو يزاحم الجماهير في الأسواق فرأى أسرابا من القرشيين يتأهبون للقاء المسلمين وفيهم الفارس والراجل فلم يكد يصل الخان حتى فرغ صبره فدخل فرأى حمادا قد لبس ثيابه استعدادا للخروج فقال له: «ما بالك يا سيدي.»
صفحه نامشخص