فصل في تاريخ الثورة العرابية
فصل في تاريخ الثورة العرابية
ژانرها
وهجم المصريون على مواقع الإنجليز، ودار قتال شديد جدا وتحمس المصريون، وقد تذكروا المبادئ التي يحاربون من أجلها عدوهم المغتصب، واستطاعوا أن يجلوا الإنجليز عن مواقعهم الأمامية فاستولوا عليها. واستعاد الإنجليز قوتهم وهجم فرسانهم بقيادة الجنرال لو وبعد تلاحم شديد استردوا مواقعهم من المصريين، وقد هبط الليل والحرب سجال بين الجانبين.
الفريق راشد باشا حسني (بطل القصاصين).
وتوقف الإنجليز بعد هذه المعركة أياما وهم الذين كانوا يوالون الزحف؛ وما ذلك إلا لأن دسائس سلطان وأقرانه لم تكن قد أفرخت بعد، فخشى الإنجليز التقدم حتى يستوثقوا من نجاح هذا السلاح الدنيء.
وفي اليوم التاسع من سبتمبر عاد المصريون إلى الهجوم، وكانت خطة المعركة في جوهرها هي خطة المعركة الأولى، وكان مقررا أن يهجم البارودي من الصالحية على ميسرة العدو عند الفجر فيباغته، ويشيع في صفوفه الارتباك.
ولكن ما جدوى إحكام الخطة مع الخيانة في أشنع صورها؟ لقد أرسلت خطة الجيش المصري إلى الإنجليز قبل المعركة! يقول في ذلك الشيخ محمد عبده: «في واقعة القصاصين كان الرسم كما ينبغي، وكانت العساكر المصرية يجب أن تزحف في الساعة الثانية بعد منتصف الليل على الجيش الإنجليزي، وما راع القواد المصريين إلا وجود الفرق الإنجليزية زاحفة، وآخذة جميع الطرق في الساعة واحدة ... وكانت الخيانة وصلت والنقود قد وصلت إلى قلب الجيش، وإلى كثير من الضباط بسعي سلطان باشا ومراسلة العربان».
بدأ راشد باشا حسني الهجوم في الثلث الأخير من الليل، والتحم الجيشان والعدو على علم فلم يباغت. وأسفر الصبح والمعركة حامية بين الجيشين، وتكافأ الفريقان على الرغم من تفوق الإنجليز في العدد، وتلفت قواد المصريين يتوقعون دخول البارودي الميدان، ولكنه لم يأت في موعده، فقد كان الإنجليز على علم بمقدمه فرصدوا له قوة من المدفعيات حالت بينه وبين الوصول إلى موضعه من المعركة. ومما يذكر مع الأسف أن رجال سعيد الطحاوي هم الذين أضلوه عن وجهته في الصحراء فتأخر وصوله.
وارتفع النهار ونار الحرب مستعرة بين الجانبين، وقد أثبت كل من البطلين علي باشا فهمي وراشد باشا حسني بطولة فذة ومن حولهم الجيش المصري لا يتزحزح عن موضعه. وظل القتال على أشده حتى استطاع المصريون أن يوقعوا خسائر جمة بصفوف الإنجليز، ثم زحزحوهم عن مواقعهم، وكادوا يكسبون المعركة. ولكن ما كاد يلوح النصر في جانبهم حتى منوا بمصيبة أعظم من أسر محمود فهمي. وذلك أن كلا من بطلي المعركة راشد حسني وعلي فهمي قد أصيب برصاصة أخرجته من الميدان، وبخروجهما ضعف هجوم المصريين، وانقضى اليوم ولم يظفر بالنصر الحاسم أحد الجانبين.
وفي هذه المعركة، معركة القصاصين الثانية، أبلغ رد على الذين يقولون: إن المصريين لم يحاربوا، فما هو أن رأوا الإنجليز حتى فروا. وإن وقفة المصريين على هذه الصورة مع قلة عددهم بالنسبة للإنجليز، إذ كان هؤلاء يقربون فيها من ضعف عددهم، لتجعلنا نعتقد أنه لولا الخيانة لأحاط المصريون بجيش ولسلي فهزموه في صحرائهم، وهم القادرون على شمسها وحرها، ولولد في هذا المكان عصر جديد في تاريخ مصر ولازدانت ميادين عواصمنا بتماثيل عرابي.
مهد الإنجليز بعد ذلك للزحف على التل الكبير بما أعدوه من الرشوة، وبسلاح آخر كان أشد فتكا ألا هو قرار من السلطان يعلن فيه عصيان عرابي.
كانت إنجلترة تضغط من زمن على السلطان ليعلن عصيان عرابي، فقد كان الجيش والوطنيون يعدون توفيقا من الخونة لخروجه على خليفة المسلمين، وكانوا يرون عرابيا مدافعا عن الخليفة ضد إنجلترة المعتدية. وما زالت إنجلترة بالسلطان عبد الحميد الذي أنعم على عرابي بالأمس بالوسام المجيدي الأكبر حتى حملته على أن يطعنه طعنة قاتلة بذلك القرار، وقد نشر بجريدة الجوائب التركية في 6 سبتمبر. واستحضر الإنجليز آلاف النسخ من هذه الجريدة، وأخذ أعوان سلطان يوزعونها سرا في صفوف الجيش. ولسنا نغالي إذا قلنا: إن هذا القرار وحده قد فعل بعرابي وجيشه أكثر مما فعله الجيش الإنجليزي! فقد أخذت تضعف الروح المعنوية ضعفا شديدا، ومما جاء فيه قول الخليفة: «إن الدولة العلية السلطانية تعلن أن وكيلها بمصر هو حضرة فخامتلو دولتلو محمد توفيق باشا، وأن أعمال عرابي باشا كانت مخالفة لإرادة الدولة العلية ... وأن تصرف الدولة العلية السلطانية إلى عرابي باشا ورفقائه وأعوانه يكون بصفة أنهم عصاة، ويتعين على سكان الأقطار المصرية حالة كونهم رعية مولانا وسيدنا الخليفة الأعظم، أن يطيعوا أوامر الخديو المعظم الذي هو في مصر وكيل الخليفة».
صفحه نامشخص