بعينيها وكفيها المداما
واشتهر أهل حلب بالثراء والظرف والأدب، وازدحم بها السكان من عرب وترك وأرمن وروم، وكثير بها الجنود المرابطون للقتال.
وزاد ازدهارها في عهد سيف الدولة، فقد دخلها فاتحا في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة بعد أن انتزعها من أيدي الإخشيد، وكان سيف الدولة بطلا شجاعا بعيد مدى الغايات، أديبا شاعرا جوادا، جعل حاضرة ملكة مثابة
3
للعلماء والشعراء والأدباء الذين هرعوا إليه من أقطار الأرض، بعد تفكك الدولة العباسية، فأغدق عليهم، وقيدهم بإحسانه «ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا» فعاشوا من نعمه في ظل ظليل. وكان من أشهر من اتصل به المتنبي والصنوبري والنامي وكشاجم وابن نباتة السعدي وابن خالويه وابن جني والفارابي.
استيقظ أبو فراس في الصباح واستعد للقاء سيف الدولة، فركب جواده قاصدا أرض الحلبة، وهي في سفح جبل الجوشن. فوصل بعد قليل إلى القصر وكان رفيع البناء، بلغ الغاية في الفخامة والاتساع، يقع على ضفة نهر قويق. وقد بذل فيه المهندسون والبناءون والمصورون كل ما في مكنة البشر من إبداع، وزينت أبوابه وحيطانه وسقوفه بالنقوش البارعة، والتهاويل الرائعة واتسعت به الغرف والأبهاء، وكان بقاعته الكبرى وهي قاعة السفراء خمس قباب يحملها اثنتان وأربعون ومائة سارية من الرخام الأبيض الناصع المحلى بالذهب، وبها مئات من النوافذ الزجاجية البديعة الألوان؛ أما الأثاث والرياش ففوق ما يصف الشعر ويرسم الخيال. وقد أحاطت بالقصر الحدائق والبحيرات التي كان يجري إليها الماء من تماثيل سمك ضخم صنع من الذهب، وركبت له عيون من ثمين الجوهر.
وصل أبو فراس إلى مدخل القصر فبهره ما رأى من مظاهر العز والسلطان، وأقبل عليه كبير القصر يحييه عن سيده، ويهنئه بسلامة الوصول، فدهش لكثرة العبيد والمماليك الروم الذين انتثروا في أنحاء القصر يروحون ويجيئون في حركة دائبة، وهاله ما رأى من كثرة القواد والجنود والزوار وأصحاب الحاجات. ثم استؤذن له فدخل على سيف الدولة فوقف له واعتنقه، وأقبل عليه يرحب به ويسأله عن منبج وأهلها. وكان سيف الدولة جسيما قسيما عربي الملامح واسع العينين، له نظرات يلمح فيها الذكاء، ويتجلى الطموح، وبوجنته اليسرى أثر لضربة سيف لم يذهب بوسامته. وقد أعجب بما رأى في أبي فراس من البطولة وعلو النفس. وبينما هما يتبادلان الحديث إذ دخل قرعويه، فقال سيف الدولة: هذا قرعويه يا بن عمى قائد جيوشي الذي أعددته للعظائم. فتقدم نحوه أبو فراس بالتحية، وقد علم من قبل بأمره من نجلاء، فرأى رجلا بساما وضيء الوجه، يدل مظهره على صفاء النية وطهارة النفس، ولكن فراسة أبي فراس كانت جديرة بأن تخترق الحجب، وأن تنفذ من طبقات الرياء إلى ما وراءها من خبث وخديعة، غير أنه رأى من الكياسة وحسن الرأي أن يجزي على ابتسام بابتسام، وأن يخدع الرجل الذي يحاول خداعه، فمد إليه يده في حفاوة كريمة، وأخذ يطريه وذكر ما وصل إليه بمنبج من أخبار شجاعته ونبله وإخلاصه في خدمة الأمير، ثم ابتسم في وجهه وقال: وطالما تمنيت يا سيدي أن أسعد بلقائك، فلما شملني ابن عمي بفضله كان تحقيق هذه الأمنية من أعظم مننه. ثم شد على يديه قائلا: أريد يا قرعويه أن نكون صديقين مخلصين، فهل تحب أن تكون لفارس من فرسان بني حمدان صديقا مخلصا؟ - أحب؟! هذا شرف أتيه به على الدنيا، وسنجتمع يا سيدي في حرب وفي سلم، وستجد مني فيهما الأخ الوفي والصاحب الأمين.
وبعد انصرافه اتجه سيف الدولة إلى ابن عمه مفكرا، وقد طافت غمامة من الحزن فوق وجهه الوسيم وقال: لقد دعوتك يا بن عمي في وقت أحس فيه أن قوائم عرشي تهتز من تحتي لما يعصف بها من خطوب، وما يحيط بها من كوارث، فقد أخذت قبائل العرب المعادية تتنمر حول حدود الدولة، وتتحين فرصة للوثوب، فإن لها عند بني حمدان ترات قديمة لا يمحوها كر السنين. والعربي ينسى كل شيء إلا دين الشرف، ويجف عنده كل شيء إلا الدماء. فلا بد لنا من يقظة الذئب ووثبة النمر، وفتكة الأسد، حتى نستأصل هذا الصلف من رءوسهم. ثم هناك دولة الروم، وهي ألد أعداء الإسلام من ناحيتين: ناحية الدين، وناحية السياسة والملك، فإنها لا تنسى ذلك الملك الضخم الذي دك الإسلام حصونه، وثل عروشه، ومزقه إربا إربا، بعد أن كانت أقوى ممالك الأرض وأعظمها عدة وعديدا، وأبعدها ملكا وأطرافا. لن تنسى مملكة الروم ما نكبها به الإسلام، وما أصابها من سيوف المسلمين ورماحهم، حتى أصبحت دويلة لا شأن لها ولا خطر، ولا تحكم إلا على القسطنطينية وبعض البلدان حولها. وقد أيقظتها هذه النكبة فأخذت تعد العدة بالليل والنهار، لتسترد ما فاتها من مجد، وتمحو ما نزل بها من هزيمة. وقد اتفق لما يريده الله لي من خير أو شر، أن تتم استعدادها في هذه الأيام، وأن يختارني القدر للدفاع عن ممالك الإسلام والذود عن حياضه. وزاد في جسامة الأمر وهوله أن ملكهم «نيقفور فوكاس» رجل من أكبر الدهاة، وقائد من أعظم القواد، وسيكون الصراع بيننا عنيفا، وستكون الحرب بيننا محتدمة الأوار، وسيرى الناس وسيشهد التاريخ أن الفتى العربي استطاع بسيفه ورمحه وقلة عديده أن يهزم دبابات الروم، وأن يبدد جيشهم اللهام، وأن يطفي نارهم اليونانية، التي يرسلونها على الجيوش كأنها قطع من الجحيم، لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، لهذا يا بن عمي دعوتك لتكون عضدي وساعدي، ولينال سيفك من النصر ما هو جدير بآل حمدان. - لقد دعوت يا بن العم مجيبا، واخترت أمضى سيوفك حدا، وأصلبها مكسرا، ولم يخلق الله بني حمدان إلا لبذل الرغائب ودفع النوازل، وإن هذا الملك الذي بنيناه بسيوفنا سنصونه بسيوفنا وأرواحنا، لقد كنت أتحرق شوقا إلى خوض المعامع، وآسف لسيفي وهو يكاد يصدأ في غمده، فإذا دعوتني اليوم إلى نصرتك ونصرة البيت الحمداني الكريم، فإنما تدعو إلى الماء هيمان، وإلى الطعام سغبان، إن السيف الذي يسعد بالحرب إلى جانب سيف الدولة لسيد السيوف! - رعاك الله يا أبا فراس، وجعل مقدمك علينا يمنا وبركة، لقد منحتك ولاية منبج، وأعددت لك كل ما تحتاج إليه من سلاح وعدة، وجعلتك قائدا كبيرا بين قواد جيوشي، فاستعد فقد تتمتع بلقاء الروم قريبا. ثم إني وهبت لك قصرا بالقرب من «برج أبي الحارث»، وأمرت أن يبذل كل جهد في فرشه وتأثيثه، وأن يكون به من الجواري والخدم ما يليق بمثلك. اصعد الآن إلى أختك أسماء فإنها في شوق إليك.
خرج أبو فراس، فكان أول من التقى به محمد الخالدي، وكانت رسائل أخته فاطمة قد زودته بكل ما كان بين أبي فراس ونجلاء، فخطا نحوه قائلا: أنا محمد الخالدي يا سيدي أمين خزائن الكتب بالقصر، أريد أن أشرف بلقاء البطل الشاعر، وأحب أن يعدني من أوفى أصدقائه، ثم مد إليه يده في شوق وقال: سمعنا شعرك يا سيدي - قبل أن نراك - في سجع الحمائم، وشربناه في كئوس المدام، وشممناه في أكمام الزهر. فشد أبو فراس على يديه، ثم مد ذراعيه لعناقه، وهو الحبيب أخو الحبيبة، وقال: ما أسعدني برؤيتك، ثم ما أسعدني أن تكون لي أخا حميما! أما الشعر الرائع الذي تتحدث عنه فلن يصل إلى مدى شعر الخالديين. هل انتهى العراك المحتدم بينكما وبين السري الرفاء؟ - لا يا سيدي، إنه لن ينتهي، وهذا الرجل عجيب أمره، فقد أخذ يذيع في كل مكان أننا نسرق شعره وندعيه لأنفسنا، ويعلم الله أن شعره أهون من أن يدعيه غلام ناشئ. ثم إن اللئيم أراد أن يؤكد هذه الدعوى فذهب إلى أحد الوراقين بحلب واتفق معه على أن يكتب له نسخا من ديواننا، فكتبها ودس في غضونها كثيرا من شعره، ثم صاح بين الأدباء: لقد وجدت الدليل! اذهبوا إلى محمود الوراق تجدوا أن ديوان الخالديين به كثير من شعري! وهنا أقبل عليهما قرعويه وهو لا يزال بشا يكاد يسيل رقة وظرفا، وبعد أن حياه الخالدي انطلق يقول: هل يقبل سيدي أبو فراس وسيدي قرعويه أن يشرفا بيتي الليلة بعد الغروب ليبعثا فيه روحا من البهجة والسرور؟ إن فعلا كان ذلك منة منهما وتكريما. فقبلا الدعوة، وغادرهما أبو فراس ليصعد لزيارة أخته.
وفي ذلك الحين كان فارس يقفز من صهوة فرسه عند باب القصر، ويسرع وعليه وعثاء
صفحه نامشخص