لم يشغل حريق موسكو بال نابليون، ولا معركة ستالينغراد بال هتلر، كما شغلت القرية هذه الحادثة، وظلوا كذلك أياما حتى أطل على القرية وجه جديد، أونباشي غير فارس آغا، يحمل «مذكرات جلب» بالعشرات، فوجم الناس.
المدعوون لزيارة جونيه ثلاثون نفسا، كل من سمع وحضر دعي إلى الشهادة، ومن لم يلب دعوة مذكرات الجلب أجاب غصبا عنه دعوة مذكرات الإحضار ... ينفق مما رزقه الله، إن لم يتكرم عليه من سماه شاهدا بغداء أو أجرة مركوب. كذلك كانت شريعة ذلك الزمان، فصارت الشهادة وسيلة للتشفي ... وأخفتت هذه الدعوة جدال الأهلين فسبوا
10
المتخاصمين، وانتظروا الموعد عازمين على القول: «لا علم ولا خبر.» ليخلصوا من ضر هذه الدعوى بداية واستئنافا. •••
كان قرياقوس مع الفجر ينطق بلسان المهدة والمخل والعتلة، يفلق هام الصخور حاسبا أنه يقتل أعداءه، فكلما ضرب ضربة أتبعها بهذا الصوت: حه. لم تحط الدعوى من همته، فهو يجدد ويحسن ملكه كل ساعة؛ فارقه شيء من ذلك المرح وملاقاة الدهر بلا اكتراث. كان يضحك ولكن ضحكة غير فاقعة، ينقض على الأرض فيجعل عاليها سافلها، ولكن من عرفه قديما يعلم أن هناك شيئا يشغل باله، وإن كان قرياقوس لا يعلم بتغير حاله.
ليس الفلاح كالتاجر؛ الفلاح يخاف من الدين خوفه من الطاعون، والمثل عنده: الدين جرب، ومن تزوج بالدين باع أولاده بالفائدة. ولا عجب إن خاف، فهو أسير الأنواء؛ ولذلك يسمي المطر رحمة وغيثا. إذا جاءه الري في حينه تباشر، وقال: شتوة كلها ذهب. يعتمد على الطبيعة التي يسميها الله، وإذا انحبس المطر أمسى كل بيت كنيسة. صلوات تتصاعد من كل نافذة ذاهبة إلى العلي عملا بالآية: «إذا كان فيكم إيمان قدر حبة خردل ...» علام يعتمد الفلاح اللبناني؟ إذا برد الربيع ازرقت دودة القز الذهبية وقيحت، وضاعت آماله. إن موسم الحرير خليق بأن يسمى عنده «ممزق الدفاتر» يستلف ويقترض والموعد حزيران، فإذا محل موسمه ركبه الدين وبات مكثورا عليه.
كان قرياقوس يشتغل ويفكر بأشياء شتى: يفكر بأول سند أمضاه، أيستطيع أن يمزق الكمبيالة، أم يتبع الدين بالدين؟ تلك أول مرة استدان بها، فهو يحدثك وخوف الدين مستول عليه، يعمل وشبح الفائدة يرعبه. وعلى خلو باله كان هذا السند يزعجه من حيث لا يدري، فخفت أغانيه بعد إمضاء السند، وقل تهديده للثعالب وتلذذه برجع صدى صوته، ولكن ما الحيلة؟ وقع الرجل في شراك لا يخلصه منها إلا إقبال موسم القز والعسل؛ فهو يسهر على التوتة لينمو ورقها، وعلى خلية النحل يكش عنها الزنابير، ينظر إلى السماء ويقول كأنه يحدث رجلا آخر: سنة خير إن شاء الله، السما زرقا مثل النيل. وكثيرا ما كان يحسب ما عليه فيرى المواسم كفيلة بالتسديد، فيقول بلا وعي: ما أحلى ما يدبر الله! ربك كريم. ثم ينهض آخذا المعول مرددا: اطعمها تطعمك، حتى إذا أعيا تمشى بين خلايا النحل المنتشرة.
إذا طارت نحلة ضحك لها قائلا: روحي، طيري يا مباركة، كل الدنيا لك. وإذا تذكر أنه اقترض من جناديوس بضع ليرات وريالات قطب وجهه؛ لأن موسمه لا يفي الدين كله وينفق عليه. ويتذكر أن دين جناديوس بلا فائدة؛ فتنقشع تلك الغمامة، ويقول بابتسام: دين صاحبنا اجناديوس لا يرعى، صائم مثل النصارى اليوم. ويرى خلية تبشر بخير جزيل، فبيش لها، ويخاطبها بلهجة عذبة ما ظفر بها منه ابنه الوحيد، ولا زوجته ليلة الإكليل. يربت على ظهر الجرة ويناديها: الهمة همتك يا مباركة، خلصيني من ملحم ودينه. ويقف قليلا مرحبا بالعائدات ومتمنيا الرجوع بالسلامة للصادرات، حتى إذا رأى زنبورا سب دينه واستقبله بالمنشة، وما منشته إلا مكنسة عتيقة من سعف النخل، لا يدعها حين يزور النحل زيارة رعائية ...
ساورت قرياقوس فكرة الدين بادي بدء، ثم أخذ يتناساها شيئا فشيئا. كان يزحزحها «موعد الجلسة» ليحل محلها، وقبل ثلاثة أربعة أيام نسي أنه مديون، وجعل وكده كله في اليوم الثاني والعشرين من آذار.
وفي ضحى اليوم العشرين شق قرياقوس صدر صخر عنيد بالسفين، فسره النصر المبين. وراح يتفرج بين خلايا النحل، ويا لهول ما رأى! رأى الخلية التي يسميها «الأميرة» خاوية خالية. لم يبق في قصر الأميرة إلا عشرات لا تدن ولا تتحرك إلا بالجهد الجهيد؛ فاستولت عليه كآبة سوداء. الخسارة محدودة، بضعة أرطال من العسل، ولكن غاظ قرياقوس ذلك المنظر، فانثنى عنه بقلب يشعر بانقباض عظيم ما شعر بمثله قط في حياته. تساءل عن السبب فلم يدركه ... إلا أن رؤية قصر الأميرة خاليا من السكان، هاجت في أعماق نفسه شجونا، فقال: تف! ما أبشع خراب البيوت!
صفحه نامشخص