فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
ژانرها
فقال سليم همسا: نعم، لا نجد فيه شيئا حتى ولا سكانا، فأجاب كليم همسا أيضا: يظهر أن صاحبنا مجنون.
ثم التفت كليم إلى الشيخ وقال: إنني أعجب يا عم كيف استطعت تهذيب هذه المملكة، مع أن الملوك عجزوا حتى الآن عن تهذيب ممالكهم.
فصاح الشيخ حينئذ بغضب: ويل للملوك، ولترتجف عروشهم من غضب الله، ولو كان أصغر الملوك يصنع بمملكته ما صنعته بمملكتي لما بقي فيها شر، فإنني سألت نفسي حين تسلمت هذه المملكة: ما هو أصل الشر؟ فرأيت أن أصله الوحش الذي في الإنسان، فإنكم تعلمون أن في الإنسان شيئين: الوحش والإنسان؛ فالوحش يطلب كل شيء لنفسه ولو مات غيره، والإنسان يشفق على نفسه وعلى غيره أيضا، فقلت إن رأس واجباتي كملك لهذه الديار قتل الوحش لاستئصال الشر، فاقتنيت هذه البندقية، وقد اشتريتها بجلود عشرين ذئبا وأسدين وخمسين ثعلبا وعشر ضباع، وكنت أجلس على هذه الرابية، وكلما رأيت أحدا يعتدي على غيره - أي كلما رأيت الوحش يطمع فيما هو لغيره - قتلته برصاصة واحدة؛ ففي بدء الأمر قتلت مئات، ثم عشرات. أما الآن فقد تناقص الشر، وقلما أقتل في الشهر واحدا.
فارتعدت فرائص سليم وكليم لهذا الكلام وتحققا جنون ذلك الشيخ التعيس، وصار همهما إظهار التقوى والصلاح والقداسة لئلا يلحقهما بمن فتك بهم جنونه من قبل. أما الشيخ فكان في هذا الحين يسرح نظره في مملكته الواسعة، وإذا به قد صرخ بغتة بصوت كصوت الوحوش: «الوحش الوحش الوحش!»، وقام يعدو وبندقيته في يده، فالتفت كليم وسليم وهما مدهوشان إلى الجهة التي سار فيها، فنظرا على أكمة قريبة ذئبين يتقاتلان، فلما خرج الشيخ من واديه أطلق على الذئبين طلقين فصرعهما بالحال، ثم أسرع إليهما فأجهز عليهما وجرهما إلى كوخه، وطرحهما أمام سليم وكليم وهو يضحك لفوزه ويقول: كلاهما معتد، فأرحنا المملكة منهما.
فتنفس سليم وكليم حينئذ الصعداء؛ لأنهما علما أنه إنما كان يقصد بكلامه الحيوانات لا البشر، وقال كليم للشيخ الذي كان يحشو بندقيته: لقد أدهشتنا يا عم بقوتك ونشاطك وصلاحك، فلماذا لا تذهب معنا إلى المدن لمحاربة الشر هناك وتكوين العالم الحقيقي فيها؟ إن مدننا الفظيعة القبيحة محتاجة إلى هذا الإصلاح، فلماذا تحرمها من مساعدتك؟
فعبس الشيخ حينئذ وقال وشرر الغضب يتطاير من عينيه: المدن، ويل للمدن، وويل لي إذا دخلت المدن، فإنني لا أقدر على جميع الوحوش التي فيها؛ إذ ليس لي غير يدين، ولا أقدر أن أمسك بهما أكثر من بندقية واحدة، وبندقية واحدة لا تكفي لإخضاع الوحوش التي فيها. آه من المدن ومن العذاب الذي ذقته في المدن! لا تصدقوا أنني ولدت هنا ، بل إنني ولدت في المدن، وعشت في المدن، ولكن الوحوش فيها أكلتني وطحنتني، ففررت منها. كلا يا إخوان، إن صحبة الذئاب والضباع والنمورة في البر أفضل من صحبة الإنسان في المدن، ولكن لا بأس، ستأتي نوبة المدن، وحينئذ أدخل إليها - بإذن الله - دخول المنتقم لله من وحوشها الضارية.
فقال سليم: ومتى يكون ذلك يا عماه؟ فقال الشيخ: أما سمعت ما قلته من أن الأمر قد انتهى؟
فمنذ هذا الحين وقف كليم وسليم على حقيقة حالة ذلك التعيس، فعلما أنه رجل أضاع صوابه لظلم أصابه، فبرح بلدته وأقام في تلك الجهات المقفرة، وهو يعتقد أن الله ولاه عليها لمحو الظلم والشر، ثم يملكه المدن لاستئصالهما منها أيضا. وقد افتقد سليم وكليم كوخه ومعيشته، فوجدا أنه يعيش في أشد الحالات، ورب يوم لا يتناول فيه غير كسرة خبز أسود يصنعه من دقيق يعجنه ويشويه على النار، أو قطعة من لحم الوحوش المعتدية التي يصطادها، وكان يمر عليه في زمن الثلج والشتاء عدة أيام مخبوءا في كوخه الحقير لا يخرج منه لتراكم الثلج عليه في ذلك الجبل. وكان قد تعود احتمال البرد كالحيوانات، فإذا ذاب الثلج قليلا زحف من كوخه وخرج على الثلوج يسير عليها زلقا لا مشيا كأنه سائح فوق ثلوج القطبين.
فأشفق كليم وسليم أشد إشفاق على ذلك الرجل الذي يعيش في شيخوخته هذه المعيشة القاسية، فصارا يفكران في سبيل لنفعه، وقبل توديعه عرضا عليه نقودا وسألاه: ماذا يتمنى؟ فرد النقود بعظمة ضاحكا وقال: ماذا أصنع هنا بالمال؟ أما حاجتي فهي ألا تطلقا النار في مملكتي على أحد إلا إذا كان ظالما معتديا، وإلا اضطررت إلى تأديبكما. فأخبره حينئذ سليم وهو يضحك في نفسه أنهما لم يطاردا الذئب إلا لأنه هجم عليهما تلك الليلة في الأرز، فقال له الشيخ: إنني أعرف هذا الوحش، وهو يسمى أبا اليد الحمراء، فسأؤدبه قريبا. (12) الجميع في الأرز
ونزل سليم وكليم من رأس القضيب بعد أن وعدا ذلك الشيخ التعيس بأن يعودا إليه لزيارته ما داما مقيمين في الأرز.
صفحه نامشخص