فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
ژانرها
أما اليوم فقد أسروك كما تؤسر الأسود في الأقفاص، وتجعل فرجة للناس، فأصبح شاطئاك مرتعا لذئاب ونمورة ودببة وقردة من جنس جديد لها طباع تلك، ولكنها تمشي على قائمتين لا على أربع. إن روحا مادية هائلة هبت على العالمين، فضعضعت المبادئ، وزعزعت الشرائع، وسحقت الأديان والآداب، وساقت الناس بعصا الحاجة الحديدية إلى مبادئ هائلة جعلتهم ذئابا هائلة. فإن الأمم الآن تتعادى وتتسلح تأهبا لاقتتال أفظع من اقتتال الذئاب، والشعوب يأكل في داخلها كبيرها صغيرها، وقويها ضعيفها كما تفعل أسماكك. فروكفلر يملك من المال ألف مليون بينما ملايين من البشر يستعطون الخبز الآن ولا يجدون، وهو يستخدمهم بأجور تافهة لزيادة ثروته الملطخة بدمائهم وعرقهم، وهم يسكتون ويعملون لأنهم مضطرون.
والسلطة في الأرض ضعفت وكادت تنحل؛ فإن الناس أسقطوا العروش والملوك، ولكنهم أقاموا مكانها ملوكا لكل واحد منهم ملايين من الرءوس، فقويت بذلك سلطة المشعوذين والدجالين والجهلاء الناصحين الذين يتملقون الشعوب ويضلونهم، كما كان أخصاء الملوك يتملقونهم ويضلونهم. والأفراد يتخاصمون ويتعادون ويفترس بعضهم بعضا بأيديهم وألسنتهم وأقلامهم تنازعا على الرزق والسيادة. وقبح هذا الرزق وهذه السيادة إذا كان لا يبلغ إليهما إلا بالرجوع إلى وحشية وهمجية أشد من الوحشية والهمجية الأولى .
فإذا كان كل هذا هكذا أيها الشلال، فأين الارتقاء الذي يزعمونه؟ وما فائدتك في استبدال ذئابك القديمة بهذه الذئاب الجديدة التي لها طباع تلك؟ وما هذا القبح الذي يدعونه جمالا؟ من أجل هذا صرخ حكيم مشهور قائلا: يا وحوش البر، وأفاعي الغابات، خذيني إليك آكل من طعامك، وأشرب من مائك؛ فإن صحبتك أهون على الإنسان من صحبة الإنسان.
كل متحمس لمبدأ أو فكر أو فضيلة أو فضل يعد الآن بين تلك الذئاب الجديدة ساذجا مخدوعا؛ لأننا أصبحنا ولا فضل غير الفضة، ولا مذهب غير الذهب، ولا كمال غير الريال. ويا للأمر المدهش! فإن المتحمسين القادرين المخلصين للمبدأ والفكر يضطرون إلى كتمان حماستهم وفكرهم وإخلاصهم لئلا يرموا بتلك التهمة، وطلاب المنفعة المادية الجهلاء العاجزون المراءون ينادون على السطوح بالمبدأ والفكر والإخلاص، ويمدونها كشرك للاقتناص. البوم يصرخ، أيها الشيخ، والبلبل يسكت، والناس لا يفرقون بين صوت البلبل وصوت البوم ... بل مبادئ الناس الواطئة أكثر موافقة لصوت البوم منها لصوت البلبل. الناس لاهون بمعدهم وخزائنهم وأنانيتهم، فلا تحدثهم عن شيء آخر. لا تذكر لهم الحياة العالية العقلية والأدبية، ولا تستنزل لهم من الملأ الأعلى همس الآلهة والملائكة، ولا تترجم لهم أصوات الطبيعة وعواطف النفس الجميلة، فإن كل هذه لا تهمهم، ولا تحرك أوتار قلوبهم؛ لأنها أصبحت لا تتحرك إلا عن طريق المعدة والخزانة والأنانية. إن الشراهة والجهالة والكبرياء قد اتحدت عليهم، وطوقت نفوسهم بأسلاك من فولاذ لتربطها بتراب الأرض، منعا لها من الارتفاع إلى الآفاق العليا التي تعيش فيها النفوس العليا. فأخبرني أيها الشيخ الخبير: من من الفريقين هم الضالون المخدوعون؟ ومن يكون المنتصرون الفائزون؟ أفدني لأستفيد وأفيد، وأمزق ذلك القناع بيد من حديد.
إنني أيها الشيخ من أمة صغيرة، هجر كثيرون منها بلادهم إلى بلادك طلبا للرزق والارتقاء. وقد بدأ كثير من تلك المبادئ الهائلة يتسرب إليهم في بلادهم قبل هجرتهم إلى بلادك، وزاد تسربها إليهم بعد هجرتهم زيادة هائلة؛ فقد كانوا يعيشون منذ خمسين سنة مع سائر الأمم الشرقية بسذاجة، ودعة ، وتضامن، وطمأنينة، واحترام للنظام الاجتماعي بين الناس، كما يعيش الطفل في سرير أمه. ولما دخلت إليهم مبادئ قومك وبلادك تغيرت حالهم ونفوسهم كما تغيرت أحوال جميع الأمم الشرقية ونفوسها بعد دخول مبادئ قومك إليها، فأفدني أيها الشيخ ما سألتك إياه لأبلغه إليهم، فنعلم جميعا هل نحن على هدى أم ضلال؟ وما هو الغث والسمين في تلك المبادئ، وثق أنني لا أخشى في هذا البلاغ لومة لائم، وإن كان مما تضطرب له الشيوخ في القبور، والأطفال في التمائم، ولا تخش التثقيل علي أيها الشيخ، فإن حرفتي البلاغ ووظيفتي النشر، ومن سوء طالعي أنني اتخذت هذه الحرفة سبيلا لي في الحياة في بلادنا ولغتنا.
عفوا أيها الشيخ، ولا تلمني لقولي من سوء الطالع، فإنني ما أردت ما ظننت. إن طيور السماء تكتفي بقطرة ندى وحبة قمح، ونحن طيور الخيال نكتفي بما تكتفي به طيور السماء. وهذه الطيور تعيش بسلامة جسما وروحا في أصغر بقعة جدباء كما تعيش في الرياض الفيحاء، وتغرد بأنغام سماوية في تلك كما تغرد في هذه، فما أردت بكلامي الكسب المادي أيها الشيخ، وإنما أردت الكسب الأدبي. إن صناعتنا شقية في بلادنا ولغتنا، ومن طلبها لذاتها حرم لذاتها وجميع اللذات، فهو يضطر في سبيلها إلى مسالمة الفساد، والإغضاء عن أهل الأوهام والخرافات والاستعباد، ومعاداة الأصدقاء ومصادقة الأعداء، والخلط بين الكرام والغوغاء، وتسمية الانحطاط ارتقاء، ورؤية الجهل سائدا والسكوت عنه، والحق ضائعا والابتعاد عنه. وإذا جاشت في النفس تلك النار التي توقدها الآلهة في بعض النفوس، وأضرمت الغضب المقدس في الصدور والرءوس، وحركت اليد لاستنزال صواعق الفكر على الطروس، سكن العقل الجاف البارد تلك الصواعق قبل وقوعها بالابتسام وعدم المبالاة، وقال للنفس الغضبى: إياك والسذاجة والغرور. وأنشدها ذلك القول المشهور: «مكانك تحمدي أو تستريحي.» فتصبح النفس وفيها ما في مياهك، بعضها في المرتفع ثائر هائل كثورة شلالاتك، غال غليان أمواجك، يطلب السدود والحواجز والعقبات لكنسها بقوته كنسا، فلا تجترئ الجبابرة ولا الآلهة على الدنو منه، وبعضها في السفح على الشاطئ هادئ ساكن، كأنه ماء في بركة تلعب بجانبه الأطفال وهو بها غير مبال. وبين ذاك الهياج وهذا السكون قوة الآلهة، أيها الشيخ، وآلام المنون.
أنت قوي وتستطيع الثبات على هذا السكون والهياج معا، وإنما مزيتك العظمى وقوتك الكبرى ثباتك هذا، فثبتنا في ثبات كثباتك. إنك أيها الشيخ لو انقطعت عن الجريان منذ عام أو مائة أو ألف، لكان نياغرا الآن في خبر كان، ولضحك منك الأمازون والمسيسيبي، بل النيل والدجلة ضحكا ملأ السهول والأودية. فيا لهذا الثبات العجيب مدة ألوف من السنين! كل شيء في الحياة حولنا؛ نحن معاشر البشر، يتغير ويتغبر، أصدقاؤنا يخونون، وأحبابنا يسلون، وأجدادنا وآباؤنا وأبناؤنا يذهبون، وأعداؤنا يعادوننا بسبب وبلا سبب ولا يعودون، وأمم تنقرض وأمم تقوم، والأسافل يستعلون، والأعالي يسفلون، والسلاطين على العروش يرتعدون، وكل شيء في الأرض يتزعزع ويتضعضع حينا بعد حين، حتى المبادئ التي خلناها أزلية أبدية، بل حتى الأرض التي نمشي عليها يوم تزلزل زلزالها وتخرج أثقالها. نعم، كل شيء يتغير إلاك. فبارك الله في عظمة ثباتك، وحياك وبياك.
يا روح نياغرا وإلهة مياهه: بعيني قد أبصرتك، وبعد هذا اليوم أصبحت أعتقد أن لك نفسا كنفسي، ولست أعني بهذا مسألة الخلود، فأنت خالدة كما دل على ذلك تاريخك، وقد استدللت عليك حين صافحت ماءك بغمس يدي فيه، وتجلى لي بين رشاشه المتطاير كالغبار أمامي قوس قزح بديع. يا لذة الحياة العقلية الكبرى، حين رأيت قوس قزحك هذا، كأن نفسك تنتصب ضمنه للترحيب برجل جاءك تعبا ملولا متألم الضمير، ولا يعزيه في الدنيا لذة أو جمال غير جمالك وجمال أمثالك. إنني بعد أن رأيت هذا القوس، وسمعت على الأثر هديرك الهائل كأنه طبول بعيدة تضرب، ووقع في أذني تغريد العصافير في أشجارك، ورأيت الأزهار تتمايل على شاطئيك وحولها الفراش يطير ويقع، وماؤك بينها كلها مسرع تحت الجسر إلى حيث لا أعلم ولا هو يعلم، خيل لي برهة - لغروري ودهشتي - أن روحك حية حاضرة في هذا الاحتفال الطبيعي العظيم، وقد أقامته استقبالا لي، وردا لتحيتي، واستعدادا لإجابة طلبتي.
ولكنني لما رأيت في أشجارك السنجاب يصيح وهو ساكن على الغصن ينظر إلي، وصوته شبيه بصوت الضاحك ضحكا مستترا، والغراب على الشجر البعيد ينعب نعيبا شبيها بأنين الثكلى وبكاء الباكي جهرا، وقفت حائرا أمامك أستنطقهما وأستنطقك؛ إذ خيل لي أن ذلك الضحك والبكاء إنما هما ضحك من حجي إليك أطلب سرا وغاية، حيث لا سر ولا غاية، وبكاء على آمال الصبي الذهبية والأماني السماوية التي خلتها أبدية، وإذا بها كالسراب جميل في العين، ولكن لا أثر له ولا عين. وبين الأمل في روحك المتجلية في قوس قزحك، واليأس لضحك سنجابك وبكاء غرابك، أطرقت على الجسر أمامك ولبثت صامتا، ولم يبق حينئذ في نفسي لذة ولا ألم، ولا يأس ولا أمل؛ إذ هي كادت تصبح جمادا كجمادك.
أي نعم أيها الشيخ الذي ما عضه ناب الهرم، وإن كان قد طال عليه القدم، ستبقى على مرور الزمان حجا لبني الإنسان كما كنت حتى الآن، فسيأتيك جمهورهم من بعدي كما جاءوا قبلي، ما دامت الأرض أرضا والسماء سماء، ومنهم العاشق عشقا شرعيا يتساقى هو وعروسه في شهر العسل في الفنادق المشرفة عليك كئوس سعادة وقتية، ومنهم العاشق السارق، يجعل ظلال أشجارك على شاطئيك في ظلام الليل مخبأ لسرقاته، ومنهم سياح لا صناعة لهم غير السياحة، بل لا صناعة لهم ولا عمل أصلا؛ لأنهم من أهل الترف والكسل والبطالة، يقصدونك لقتل أوقاتهم؛ لأن غيرهم يتعب ويعمل لهم، ولا يفهمون منك غير جريان مياهك، ومنهم جمهور متوسطي العقول الذين سمعوا بأنك جميل عظيم، فاختلسوا فرصة من أوقاتهم وساروا إليك مع السائرين، والتهوا بالملاهي الصبيانية التافهة عن جلالك وجمالك.
صفحه نامشخص