فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
ژانرها
ثم برح إسكندر غزة بعد أن أنزل فيها نزالة يونانية تستعمرها وسار إلى مصر.
عبادة الإنسان النبات
كان العالم الطبيعي الشهير داروين يسيح في سنة 1833 في أفريقيا الجنوبية؛ ففي 11 آب من هذه السنة كان قاصدا بونس أيرس، فنظر في سهل فسيح هنالك منظرا عجيبا وصفه بما يلي، قال: بعد انقضاء بضع ساعات على مروري بالبئر الأولى لمحت شجرة شهيرة في ذلك السهل الفسيح، وكان الوقت شتاء، فدنوت من الشجرة فلم أجد فيها ورقا، ولكني وجدت مكان الورق خيوطا لا يحصى لها عدد معلقة بها، وقد ربطت بهذه الخيوط هدايا كثيرة من السكائر والخبز واللحم والأنسجة وما أشبهها. وهذه الهدايا يقدمها إليها الأغنياء. أما الفقراء الذين لا يستطيعون أن يقدموا مثلها، فيكتفون بأن يسحبوا من ملابسهم خيطا ويربطوه بها، وأما الممتازون في الغنى، فإنهم يصبون في ثقوبها المشروبات الروحية المصنوعة من الحبوب أو من نبات عندهم يدعى «ماته»، ثم يقفون تحت أغصانها ويدخنون مرسلين دخانهم فوق رءوسهم؛ لاعتقادهم أن تلك الشجرة التي هي إلههم ترتاح إلى ذلك. وحول هذه الشجرة شيء كثير من عظام الخيل التي كانوا يقدمونها ضحايا لها.
وقد سأل داروين بعض الهنود هناك عن اسم هذه الشجرة، فقالوا له إنها إلههم «واليشو»، ولكن داروين يعلم أن الشعوب مهما انحطت أخلاقها الدينية، فإن الألوهية تبقى لديها في مقام سام؛ فلذلك ولما كان يعلمه من أن الإله واليشو إنما يقيم في بطن الأرض، ويتمثل أحيانا في النباتات، قال: إن الهنود كانوا يعتبرون تلك الشجرة بمثابة هيكل لواليشو، لا واليشو نفسه.
غير أنه مهما يكن من أمر هذا القول، فإن عبادة هذه الشجرة وسواها من النباتات التي روى المؤرخون أن الشعوب قد عبدوها لا تخرج عن كونها مسألة علمية في غاية الأهمية، يجب النظر فيها لمعرفة الأسباب التي دعت إليها. وتوصلا لذلك يجب النظر في تاريخ بعض النباتات التي عبدها الأقدمون. (1) مقاومة الإسلام لها
على أن هذه العبادة كانت عامة في الدنيا كلها؛ فإن قبائل الأشانتي في جهات النيجر كانت تذبح منذ بضع سنوات الذبائح لأشجار مقدسة عندها تدعى «الميموزا المقدسة»، وهي الشجرة المستحيية، ويعلقون الهدايا بأغصانها. وكان سكان الداهومي في القرن الماضي يضعون المرضى في ظل أشجار عندهم ليشفوا من أمراضهم. وروى مونغو بارك أنه وجد في إحدى سياحاته شجرة قال له الدليل عنها إن الإنسان إذا مر من أمامها دون أن يلقي إليها شيئا، فإنها تغضب عليه. وقد نقل ريشارسون أنه كان يوجد في مملكة البورنو غربي بحيرة تشاد أشجار يعدم الأهالي تحتها المجرمين، وكانوا يعبدونها قبل دخولهم في الديانة الإسلامية، وكان عدد هذه الأشجار خمسا أو ستا. والسلطان ملك البلاد كان يخرج إليها مرة في السنة للاحتفال بإكرامها وعبادتها، وذبح البقر والغنم ضحايا لها، فلما دخل أهلها في الإسلام بطلت هذه الخرافات كلها.
وروى العالم قسطنطين الذي نعتمد عليه في كتابة هذه المقالة أنه لا يزال يوجد في القطر المصري أثر لعبادة النبات، قال: منذ بضع سنوات كان الإنسان يستطيع أن يشاهد في ضواحي القاهرة شجرة كبيرة يعتبرها أهل القاهرة مقدسة، ويسمونها الحكيم الكبير؛ لأنها تشفي من الأمراض، وهم يقصدونها أفواجا أفواجا للاستشفاء من الحمى وغيرها من الأمراض الالتهابية. وطريقة استشفائهم أنهم يجثون لدى جذورها ويتلون الصلوات. وهذه الشجرة قديمة العهد، ضخمة الجذع والأغصان، وعلى فروعها أمتعة كثيرة يلقيها الناس إليها على سبيل الهدية، ومن فرط احترامهم لها يمنعون الناس من تصويرها.
انتهى قول الراوي، وكان بودنا ألا يتورط المسيو قسطنطين في هذا القول، فإنه إذا كان بعض البسطاء في بلد يعتقدون أن الزيارة لإحدى الأشجار والصلاة عندها مما يشفي المريض من مرضه، فليس يصح ذلك على جميع أهل البلد.
وكما وجدنا عبادة النبات في أفريقيا نجدها في آسيا، فإن السائح برلوارو في سنة 1471، والسائح بطرس دل فال في سنة 1622 قد وجدا في بلاد الفرس أشجارا كثيرة عليها الأنسجة المختلفة، ويقال إن هذه العادة لا تزال موجودة هناك إلى هذه الأيام. على أن العرب كانوا يقطعون كثيرا من هذه الأشجار إبطالا لبدعها، وربما قطعوا معها رءوس بعض المعارضين في قطعها. (2) مقاومة المسيحية لها
وقد قاومت الديانة المسيحية هذه البدع كما قاومتها الإسلامية؛ فقد كان في القرن الرابع للميلاد المسيحي قرب أوكسر - على مسافة 175 كيلو مترا من باريس - شجرة كانوا يعلقون بها الأسلاب التي يغنمونها من العدو في ساحات القتال، والأسلحة المختلفة التي كانوا يزينون منازلهم بها. وكان الشعب يكرمها إلى حد اعتبر عنده قطعها فوزا للدين المسيحي الذي كان يومئذ يضطهد أنصاره. وكان أهل الجهات الجنوبية في فرنسا يعبدون المغاور والأشجار في عهد القديس أماندوس، وكان من الفضائل المسيحية يومئذ تخريب هذه المغاور وتقطيع هذه الأشجار. وقد قررت مجامع أرل وتور وننت قرارا تحرم فيه إكرام الأشجار والينابيع والحجارة، وقس على ذلك في الهند وبلاد اليونان والأقطار الأميركية مما يصح أن يقال فيه مع العالم لانج: إن الإنسان قد عبد النبات منذ أزمنة المصريين الأولى إلى أزمنة المتوحشين في هذا الزمان.
صفحه نامشخص