فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
ژانرها
ولا يخفى أن هذا القول لا يرضي أنصار التمدن اليوناني؛ لأنه ينفي عن النفس اليونانية صفة الإبداع؛ ولذلك أكثروا من الصياح بالمؤلف واستهزءوا به، ولكن الصياح والاستهزاء لا ينقضان الدليل والبرهان.
وأما إثبات صحة الحوادث التي نسبها هوميروس إلى عولس في الأوديسة، فلسنا في صدده الآن، ونكتفي بأن نقول إن المؤلف ذكر في كتابه أن جزيرة الآلهة كاليبسو، التي سافر منها عولس، هي جزيرة واقعة في المدخل الشرقي لجبل طارق، وتدعى اليوم جزيرة بريجيل، وأن الشاطئ الذي قذف عليه عولس بعد سفره منها هو شاطئ جزيرة كورفو في بلاد اليونان. وقد وصف المؤلف مواقع هذه الجزيرة التي زارها بنفسه وصفا ينطبق على وصف هوميروس.
ولكن إذا ثبت أن هوميروس لم يكن قادرا من تلقاء نفسه على وصف البلاد البعيدة التي وصفها، وأنه اقتبس وصفها من الفينيقيين الذين كانوا يعيشون في بلاد اليونان، بقي علينا أن نعلم السبب الذي أوجب على الفينيقيين تعليمه إياه، وجعله يرضى بنظمه، فنقول إن هنالك واحدا من ثلاثة: فإما أن هوميروس أراد بذلك خدمة بني جنسه اليونان وإفادتهم بمعلوماته الجديدة، وإما أنه أراد بإغراء من الفينيقيين تحذير قومه اليونان من أخطار السفر التي أكثر من ذكرها ووصفها في قصيدته صرفا لهم عن البحر؛ ليبقى الفينيقيون منفردين فيه، فلا يزاحمهم اليونان عليه.
وإما أن الفينيقيين راموا اتخاذ شعره البليغ بمثابة إعلان لبضائعهم وفضائلهم. وفي هذه الحالة تكون الأوديسة؛ تلك القصيدة البليغة السامية التي يقتبس منها شعراء الإفرنج أفكارهم وأساليبهم، عبارة عن إعلان تجاري، ويكون الفينيقيون أول من اخترع هذه الإعلانات البليغة التي كثرت في هذا الزمان.
وإذ ذكرنا الحلقة الفينيقية التي ربطت التمدن القديم بالتمدن اليوناني، وكانت أساسا له، فإننا نذكر معها مدنية أخرى كانت سوريا حلقة لها أيضا. وإليك البيان:
لما دب سوس الفناء في التمدن اليوناني والروماني على إثر الانقسامات والمشاحنات الدينية التي قامت بين أهله، قامت في العالم دولة جديدة لتجديد شباب العالم، وهي دولة العرب؛ فقيامها كان طبقا للنظام الأزلي الذي تديره اليد الأزلية. وكان روم القسطنطينية وروم روما في تلك الأزمان في نزاع شديد بشأن طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية؛ ففي أوائل القرن الخامس أظهر نسطوريوس؛ بطريرك القسطنطينية، رأيه في أن طبيعة المسيح البشرية منفصلة عن طبيعته الإلهية؛ ولذلك لا يجوز تسمية العذراء مريم والدة الإله، بل يجب أن تدعى والدة يسوع، فعارضه في ذلك البطريرك الإسكندري وأسقف روما لأغراض خصوصية غير الأغراض الدينية مما يطول شرحه، ثم اجتمع مجمع في أفسس وقرر تكفير نسطوريوس وعزله، من غير أن يحضر هذا المجمع أساقفة سوريا والشرق؛ لأنهم كانوا من حزب نسطوريوس، وكان أنصار البطريرك الإسكندري يخشون من ارتفاع كلمتهم. ولما عزل نسطوريوس ونفي إلى وطنه سوريا تفرق حزبه السوري في أنحاء آسيا كلها، وراح رجاله ينشرون معارفهم اليونانية وعقائدهم في جميع الأقطار، فبلغوا الهند والصين وبلاد العرب. وقد عرف صاحب الشريعة الإسلامية وأبو بكر الصديق بعضا منهم.
ولما قويت شوكة العرب كانوا يحمون هؤلاء النساطرة؛ لأن اعتقادهم بالسيد المسيح كان قريبا من اعتقاد المسلمين به من بعض الوجوه ، وربما كان يومئذ بين الاعتقادين شيء من العلاقة، فكان النساطرة يستخرجون علوم اليونان ومعارفهم وهم آمنون في حمى الإسلام، وراتعون في قصور خلفائه، وهم الذين كانوا أول من ترجم الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية، وهم الذين أنشئوا في مدينة أدسيس؛ الواقعة فيما بين النهرين، المدرسة المشهورة التي خرج منها العلماء للنهضة البغدادية. وقد ذكر مؤرخو العرب هؤلاء النساطرة، فقالوا إنهم قوم يحكمون في كل شيء بعقولهم، ويفحصون كل الآراء بأنفسهم. وقد ذكرنا في ترجمة ابن رشد أن هذا الفيلسوف لم يعرف فلسفة أرسطو إلا من الكتب التي ترجموها، فكأنه كتب لسوريا أن تكون حلقة ثانية بين مدنية اليونان ومدنية العرب، كما كانت حلقة بين المدنية القديمة والمدنية اليونانية.
إسكندر الكبير
في لبنان وفلسطين
بعد تغلب إسكندر الكبير على الفرس في معركة أيسوس الكبرى، أراد أن يذيق جنوده لذة النصر، فأرسل فريقا منهم إلى دمشق والشام ليأتوا بالأموال والنفائس التي كان داريوس قد وضعها فيها قبل زحفه إليه. وبعث إسكندر في جملة هؤلاء الجنود فرسان تساليا مكافأة لهم على ما أظهروه من البسالة والشجاعة في ساحة القتال، حتى قيل عنهم إنهم سبب النصر. فاغتنى الجنود الذين ساروا إلى دمشق لفرط ما نالوه من النفائس والأموال، ودب الطمع في نفوس المكدونيين، فأصبحوا يرغبون في طلب الفرس حيثما وجدوهم؛ للتمتع بأموالهم ونفائسهم. وبذلك كان إسكندر كأنه زاد حمية جنوده ورغبتهم في القتال.
صفحه نامشخص