فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
ژانرها
وتأييدا لهذا الزعم يقول الباكونيون إن باكون كان ابنا للملكة إليصابات من اللورد ليستر، وإنها عندما وضعته ألقت به إلى المحامي نقولا باكون - الذي تقدمت الإشارة إليه - بعد أن شملته بالنعم، فتبناه نقولا باكون وسماه باسمه. ولما شب هذا الغلام ظهر أنه نابغة عصره، فدارته الملكة في بدء الأمر وسهرت عليه، ولكنه لما درى بأنه ابنها انقلبت عليه وصارت تروم التخلص منه؛ لأن وراء أمره أمورا سرية أخرى - نضرب صفحا عن ذكرها - فكبر هذا الأمر على فرنسيس باكون، وأخذ يكتب روايات يلمح فيها بحوادث حياته وحوادث البلاط ويدفعها إلى ممثلي عصره كشكسبير وغيره. وكان قد ورث عظمة النفس من أمه وأبيه، فطلب العلا من طريق العلم والفلسفة، فنبغ فيهما وكتب كل الكتب المنسوبة إليه وإلى رجال النهضة الأدبية الإنكليزية في ذلك العصر؛ كشكسبير وماريو وبيل وغرين. فبناء عليه يكون فرنسيس باكون ملكا وابن ملك، من حيث النسب ومن حيث العقل، والوارث الحقيقي للعرش الإنكليزي. فليحذر جلالة الملك إدوار على عرشه من ورثة باكون، وليطأطئ الفلاسفة والعلماء والأدباء رءوسهم أمام ملك العلم والأدب والشعر والفلسفة الذي اجتمع فيه هوميروس وأفلاطون وإليصابات وغرين وشكسبير.
هذا ما يزعمه الباكونيون. ولا ريب أن باكون جدير بهذا الشرف العظيم، ولكنهم لم يثبتوه له بحجة قاطعة لا تقبل الرد. بقي لتمام هذا البحث أن نقول إن كثيرين من أعاظم الإنكليز، وفي جملتهم بيرون وبالمرستن وبيكنسفيلد وبريت وكلريدج وإيمرسن، يعتقدون أن الروايات المنسوبة لشكسبير ليست من قلمه، استنادا إلى أن شكسبير كان أجهل من أن يؤلف مثلها. ولا تزال الحقيقة ضائعة بين الفريقين.
سوريا حلقة التمدن
جمع صاحب كتاب التمدن الإسلامي أسباب عظمة العرب واتساع فتوحهم في أحد عشر سببا؛ وهي: نشاطهم وخفة أحمالهم، اعتقادهم بالقضاء والقدر وأن الإنسان لا يموت إلا إذا جاء أجله، مهارتهم في ركوب الخيل ورمي النبال، نبوغ رجال عظام في صدر الإسلام، صبرهم ومطاولتهم في الحرب، إنجادهم بعضهم بعضا ، حفظهم خط الرجعة، واقعة اليرموك التي شددت عزائمهم، انقسام الروم والفرس يومئذ وفساد أخلاقهم، انحياز اليهود إليهم، عدلهم ورفقهم وزهدهم.
وبديهي أن هنالك أسبابا أعظم من هذه الأسباب لم ينتبه المؤلف إليها، منها مسألة التوحيد التي كانت كبرق خلب تخطف الأبصار، ومنها - وهو أهمها كلها - النفس السامية العربية التي صاغتها عوامل بلاد العرب الطبيعية وغير الطبيعية. ولو أن أمة غير أمة العرب اجتمعت فيها كل الأسباب التي ذكرها المؤلف لما استطاعت أن تقوم بما قامت أمة العرب به إذا لم تكن سامية؛ ولذلك قال رينان وجميع المستشرقين إن النسل الذي صدر عنه الدين والحرية والنزاهة والإخلاص وتصورات النفس الغزلية إنما هو نسل هنود أوروبا والساميين.
أما الساميون فهم جميع الشعوب التي كانت تتكلم بلغة من اللغات التي يسمونها سامية؛ وهي: العربية، والسريانية، والعبرانية، والآرامية، والكلدانية، والآشورية، والحميرية. فمن هذين النسلين - هنود أوروبا والساميين - خرج تمدن العالم وأديانه الراقية. أما هنود أوروبا فقد كانت ثمار عقولهم تصورات رقيقة وحنانا وعواطف جدية؛ أي عواطف من ألزم لوازم الآداب والدين، ومع ذلك فإن الدين لم يخرج منهم؛ لأنهم كانوا شديدي التمسك بتقاليدهم الدينية القديمة، وإنما خرج من الساميين الذين كان لهم في ذلك فضل عظيم على الإنسانية؛ فالذين أعدوا إذا سبيل الدين للإنسانية في العالم هم أولئك البدو الذين كانوا سارحين في بلاد المشرق وتحت الخيام والأطناب، بعيدين عن فساد العالم واضطراباته. يعني رينان بذلك القبائل الإسرائيلية التي خرجت منها الديانة اليهودية والديانة المسيحية، والقبائل العربية التي خرجت منها الديانة الإسلامية.
نقول: وكما أن الساميين - أي الشرقيين في عرفنا اليوم - كان لهم فضل عظيم على الإنسانية من حيث خروج الأديان منهم، كذلك لهم فضل عظيم عليها من حيث تعزيز الصناعة والتجارة، وانتشار الفنون والمعارف. ولا ريب أن القارئ قد أدرك من هذا القول أننا لا نعني به أحدا غير الفينيقيين.
والذي أخطر هذا الموضوع في بالنا كتاب علمي كبير، نشره العالم الفرنسوي فيكتور برار، وعنوانه: الفينيقيون والأوديسة . وقد قصد به الكاتب أمرين؛ الأول : تأييد ما قاله سترابون من أن هوميروس؛ الشاعر اليوناني المشهور، اعتمد على الفينيقيين في وصف البلاد الخارجية التي وصفها في قصيدته الأوديسة، فهم إذا أساتذته، والثاني: أن حوادث الأوديسة المبنية على نكبات البطل اليوناني عولس أبي تليماك، بعد خروجه من جزيرة كاليبسو، ليست بحوادث خرافية. وقد ذكر المؤلف أنه اكتشف البلاد التي حدثت فيها تلك النكبات ونشر رسومها.
أما الأمر الأول فيؤيده المؤلف بإقامة عدة أدلة على أن الفينيقيين هم الذين مدنوا اليونان، وعلى الخصوص جهات الأرخبيل؛ وذلك أن قرصان اليونان كانوا يخطفون الفينيقيين، أي سكان صور وصيدا وغيرهما من الثغور الفينيقية السورية، ويأخذونهم إلى بلادهم فينشرون فيها الميل إلى الفنون والتجارة. وإليهم - أي إلى هؤلاء الأسرى الذين نبغوا في اليونان وعاشوا فيها - ينسب المؤلف نفائس الفنون اليونانية التي ظهرت في النهضة اليونانية.
وعلى ذلك فإن فينيقية أو سوريا تكون الوصلة الكبرى بين التمدن القديم والتمدن اليوناني الذي تلاه، بل إنها تكون أستاذ اليونان وأصل نهضتها.
صفحه نامشخص