وهذا العمل الذي لم تستغرق كتابته سوى جملة واحدة أو بضعة أسطر قد يستغرق لإنجازه أعمارا بأكملها، فهو عمل ليس سهلا أبدا، إنه في حاجة إلى جهد وعرق وقدرات ضخمة على الخلق والابتكار، في حاجة إلى تكاتف جهود وإضافات و«مهاويس» مسرح، في حاجة إلى تنظيمات مسرحية على هيئة جمعيات صغيرة متآلفة تبحث وتنقب وتجرب. أو قد ينقذنا من هذا المجهود كله ظهور عبقرية مسرحية فذة تختصر الزمن والعمل وتقدم هكذا ببساطة العباقرة الموضوع المسرحي المصري الإنساني العالمي في الشكل المسرحي المصري الذي يصبح علما على إنتاجنا المسرحي ويقف جنبا إلى جنب مع غيره من الأشكال المسرحية الأوروبية والصينية واليابانية.
وإيجاد هذا المسرح واكتشافه وتطويره ليس مهمة على كل أصدقاء المسرح ومؤلفيه والمهتمين به أن يؤدوها كنوع من الواجب أو مدفوعين بالنعرة القومية أو الوطنية، إنه ليس واجبا ولا «عياقة»، إنه ضرورة كضرورة أن نعيش ونتحدث ونغني ونسمع الموسيقى. ضرورة لا يمكن أن يؤديها مجرد الشعور بالواجب أو مجرد الحماس، فهي ضرورة فنية لا بد للتصدي لها من قدرة على خلق الفن وحاسة مرهفة لتمييز الأصيل فيه من المستورد. لا بد من موهبة مسرحية حقيقية، كل المطلوب من نقاد المسرح وأصدقائه أن يخلقوا الجو الملائم للإقدام على هذا العمل، أن يتبنوا الدعوة إلى إيجاد المسرح المصري، أن تعم حركتنا الفنية والأدبية موجة حماس لكل ما هو مصري وأصيل في النصوص المسرحية وفي الديكور المسرحي وفي طريقة الإخراج المصري وطريقة التمثيل، أن تتولد الرغبة المتصلة لتمصير كل هذا أو لإيجاد المقابل المصري له. لا بد أن لنا طرقنا الخاصة في التقمص والتشخيص والتمثيل، ولا بد أن لنا خيالنا الخاص في تصور بيئة النصر المسرحي ونقلها إلى حيز الوجود. لا بد أن لنا ذوقنا الخاص في التنكر، فنحن مثلا نكره الأقنعة ولا نستحب التمثيل بها، فماذا بالضبط نحبه ونفضله، تلك هي واحدة من عشرات المشاكل التي سوف تثيرها في أذهان المهتمين موجة المطالبة بالمسرح المصري.
وفي النهاية
وإذ أقول هذا لا أعني مطلقا أن تتوقف حياتنا المسرحية حتى نحقق لها المسرح المصري، إنه عمل يجب أن يسير جنبا إلى جنب مع حركة سيرنا المسرحية، بل يجب أن نبحث فيما قدمه المسرح المصري من مسرحيات مؤلفة لنعثر على كثير من ملامح مسرحنا الأصيل. حقيقة أن مؤلفي هذا النوع من المسرح قد تأثروا ونقلوا لنا الأشكال والموضوعات المسرحية الأوروبية، ولكنهم رغما عنهم وبحكم طبيعتهم وتكوينهم الحي قد أفرزوا في إنتاجهم هذا مصريتهم، متفرقة أحيانا، مستترة أحيانا أخرى. إن في روايات توفيق الحكيم بالذات ملامح كثيرة من ملامح مصريتنا الفنية، في طريقة إدارته للحوار، في القافية اللغوية المستترة، في ادعاء بعض الشخصيات الغباء أو التغابي، في كثير جدا من المواقف والعلامات المسرحية ستجد أن هذا الكاتب المسرحي الكبير كان كاتبا مسرحيا مصريا، سواء بوعي أو بغير وعي، ونفس الشيء في نعمان عاشور وسعد وهبة ورشاد رشدي. ولكن المشكلة أنها ملامح متفرقة، ساهم الشكل الأوروبي الكلاسيكي الذي نؤلف عليه في تشتيتها وإضاعتها، بحيث يبدو العمل مصريا حقيقة وأبطاله بأسماء مصرية والصراع صراعا مصريا، ولكنا نحس أنه بالضبط ليس هو المسرح المصري كما نريد ونشتهي. فمسرحنا هذا مثلا غارق في الواقع إلى آذانه، من الواقع تنبع مشاكله، وبالواقع تعالج، في حين أن مؤلفنا المسرحي الشعبي لا يهتم بالواقع هذا الاهتمام كله، إنه يستعمل منه بعض اللبنات والكلمات، ولكن التركيبة المسرحية مختلفة تماما عن تركيبة الحياة في الواقع والشخصيات شخصيات مسرحية، بينما الشخصيات في عيلة الدغري مثلا أو السبنسة أو لعبة الحب شخصيات واقعية، والفرق بين الشخصية المسرحية والشخصية الواقعية هو تماما كالفرق بين هاملت وبين بطل سارق الدراجات أو بين ناعسة أيوب المصري وبين زوجة مسعد في مسرحية اللحظة الحرجة. إن الشخصية المسرحية عالم مختلف تماما عن عالم الشخصية الواقعية، إنها كون بذاته، ليس منتزعا من كوننا الواقع، ولكنه يوازيه، بل وأحيانا يتفوق عليه. إن المسرح ليس هو المرآة التي ننظر فيها فنرى أنفسنا. إن هذه هي إحدى مهام المسرح، ولكن مهمته الأكبر والأعم أن نرى أنفسنا من مستوى أعلى، من كون آخر، بعين بطل مسرحي حقيقي.
إنه ليس نقدا أوجهه لمسرحنا المعاصر ولا محاولة لتحسينه، فهو كما هو في أحسن صوره وأشكاله، ولكني أقول إن المسرح المصري والموضوع المسرحي المصري والشخصية والطريقة المسرحية المصرية شيء آخر غير هذا، شيء ليس أحسن أو أبشع، ولكنه ببساطة مختلف، هذا كل ما في الأمر.
وأنا لا يعنيني بهذا الذي أكتبه أن أخاطب كل المهتمين بالمسرح في مصر من مؤلفين ومخرجين ونقاد وممثلين وجمهور، فمثل هذا الافتراض عبث، ليس من ورائه طائل، فأنا أعرف أن معظمهم سيثور بشدة وستتعالى أصوات كثيرة تحتج وتقول: كيف نطالب بمسرح مصري ونحن الآن نزاول ونتردد ونؤلف المسرح المصري؟! أعرف هذا تمام المعرفة، ولكني أخاطب بما كتبته أناسا آخرين، أناسا يحكمهم الإخلاص لشعبنا وفنوننا بحيث لا يقف أمام هذا الإخلاص حائل من مصلحة أو ارتباط ... أخاطب القابلين للإيمان بالفن المصري وبإمكانية وجود واكتشاف وتطوير هذا الفن المصري ليستمتع به شعبنا أولا ويكتفي، ثم ليأخذ مكانه بعد هذا بين فنون بقية شعوب العالم. أنادي بضرورة تحرر فنوننا وعلومنا وآدابنا من التبعية لأوروبا، بأن نعب ما نشاء من التراث الأوروبي، ولكن حين نبدأ العمل أو نخلق علينا أن نعمل لأنفسنا ولشخصيتنا نحن، علينا أن نحقق ذاتنا نحن، علينا أن نكون تلامذة في دراستنا ومصريين في خلق علومنا وفنوننا وآدابنا.
تقديم
من قراءة المقالات الثلاث التي نشرتها في مجلة الكاتب، لا بد أن يحس القارئ أن مهمة خلق مسرح مصري وروايات مصرية أصيلة تتناول حياتنا بالأسلوب المسرحي الشعبي مطورا إلى المستوى الذوقي والجمالي والمفهومات الفنية العالمية - مهمة شاقة. والبحث عن شيء غير موجود وغير معروف أو كائن دائما مهمة شاقة وعسيرة، وهو بحث أضناني على مدى سبع سنوات منذ الفترة التي انتهيت فيها من كتابة مسرحية اللحظة الحرجة وطويت في ذهني بعدها صفحة هذا النوع من المسرح والمسرحيات، مصمما أن لا أعود للكتابة المسرحية إلا إذا عثرت على المسرح والمشكلة المصرية المحلية العالمية الحديثة كما أتصورها.
ولو خيل لي أن نتيجة هذا البحث الدائب الطويل والتفكير المتصل والتأزمات التي استغرقت مني عامين بأكملهما، لو قيل لي إن هذا كله سينتهي فجأة ذات ليلة من ليالي سبتمبر 1963 لما صدقت. كنت قد عدت من إجازة متقطعة قضيتها في مصيف بور سعيد، وشرعت بعد العودة مباشرة في إكمال مسرحية كنت قد بدأتها قبل الذهاب إلى بور سعيد، واحدة أخرى من أربع أو خمس تجارب كاملة لا تزال راقدة في درج مكتبي إلى الآن. أبدأ الواحدة منها وأنا مدرك أنها ليست بالضبط ما أريد، وطريقها ليس هو الطريق، وأنتهي منها لأقبرها بين الأوراق مهما بلغ مستواها ومهما أعجب بها الأصدقاء، فلقد صممت، وكنت غير مستعد أن أساوم نفسي أو أقبل أنصاف الحلول. وذات ليلة وصل مشهد المسرحية إلى نقطة حوار معينة، حوار روحه قريبة الشبه جدا من روح «الفرافير»، ومرة واحدة وجدت الفرافير تخطر لي: الفرافير المسرح، والفرافير المسرحية، هكذا معا في لحظة واحدة. وقضيت أياما محمومة ممتعة أكتب، حتى حين مرضت وأصر الأطباء على دخولي المستشفى لإجراء عملية جراحية، رفضت وأبيت أن أتحرك من حجرة المكتب إلا بعد أن أنتهي تماما من الفرافير.
وقدمتها على الفور للمسرح القومي، ولكني كنت لا أزال غير مستريح تماما إلى وجود الفصل الثالث، معتقدا أني لو غيرت محاكمة فرفور السافرة للفلسفة والفلاسفة وأوردتها ضمن الفصل الثاني على ألسنة أصحاب الأدوار كلها و«المتفرجين»، وقمت بحذف بعض الأجزاء وإضافة أخرى لتكاملت وحدة العمل. ولقد شجعني على هذا الاتجاه أنه كان نفس رأي الصديق الأستاذ أحمد رشدي صالح والأستاذ أحمد عباس صالح، في حين عارض الأستاذ محمد عودة وأصر على إبقاء الفصل الثالث. ولكن المسرحية بحجمها الأول كان تمثيلها يستغرق أكثر من أربع ساعات، وكان لا بد من إجراء التغيير، كل ما في الأمر أني دفعت للمسرح القومي بالنسخ كما هي لتوزيعها على أعضاء لجنة القراءة وحجز مكان لها في الموسم واتخاذ بقية الإجراءات اللازمة لعرضها، وفي نفس الوقت عكفت على إعادة كتابة الجزء الثاني بالطريقة المنشورة هنا، وهي نفس الطريقة التي قدمت بها على المسرح، وقد كان في نيتي لدى نشر المسرحية أن أنشر الطريقتين معا، تاركا للقارئ أن يفصل بينهما خاصة، والأمر ليس بدعة، فبعض الكتاب الأوروبيين يفعلون الشيء نفسه وينشرون المسرحية بأكثر من صورة، ولكن حجم هذا الكتاب لا يكفي، ومن ناحية أخرى أنا أميل إلى تفضيل الشكل المدمج، وهو نفس رأي مخرج العرض الأول الأستاذ كرم مطاوع الذي فضل الطريقة الثانية ونفذها على المسرح.
صفحه نامشخص