model
والتعويل عليه، كانت كل لوحة يرسمها تنقله خطوة في اتجاه هدفه؛ أي في اتجاه التعبير الكامل، وإذ كان ما يشغله هو التعبير عن إحساسه بدلالة الشكل وليس صناعة لوحات بحد ذاتها، فما كاد يفرغ من التعبير عن كل ما أمكنه استيعابه حتى فقد شغفه بعمله. إن لوحات سيزان لم تكن بالنسبة إليه غير درجات في سلم يرجى أن تفضي ذروته إلى التعبير الكامل، وكانت كل حياته المتأخرة ارتقاء صوب مثل أعلى، كانت كل لوحة يرسمها هي بالنسبة إليه مجرد وسيلة، خطوة، عصا، دعامة، حجر يخطو عليه؛ كانت شيئا هو على استعداد للتخلي عنه بمجرد أن يؤدي غرضه. كانت اللوحات عنده تجارب، ولقد قذف بها في الأحراج أو غادرها في الحقول المنبسطة لتكون من بعده حجر عثرة لفصيل من النقاد الأشقياء.
إن سيزان نمط من الفنان الكامل؛ وهو النقيض التام لمحترفي صناعة اللوحات، ومحترفي صناعة القصائد، ومحترفي صناعة الموسيقى، لقد كان يخلق الأشكال لا لشيء إلا لأنه بهذا الفعل وحده يمكنه أن يحقق غاية وجوده؛ وهي التعبير عن إحساسه بدلالة الشكل، وعندما نكون بصدد الحديث عن الإستطيقا، فإن خير ما نفعله هو ألا نبالي بكل هذا، وأن ننصرف فحسب إلى الموضوع وتأثيره الانفعالي علينا، ولكننا حين نحاول أن نفسر التأثير الانفعالي للوحات؛ فإننا نلتفت تلقائيا إلى أذهان الأشخاص الذين صنعوها، ونجد في قصة سيزان معينا لا ينضب من الإلهام؛ فقد كانت حياته جهدا متصلا لخلق الأشكال التي يسعها أن تعبر عما أحس به في لحظة الإلهام. إن فكرة فن بلا إلهام ... فكرة وصفة لصنع اللوحات، كان لا بد أن تبدو له ممتنعة، فلم يكن هم سيزان الحقيقي في حياته هو أن يصنع لوحات بل أن يصنع خلاصه، ومن حسن حظنا أنه لم يمكنه ذلك إلا بواسطة الرسم. إن أي لوحتين لسيزان من المتعين أن تختلفا فيما بينهما اختلافا بعيدا؛ فلم يحلم سيزان قط بأن يكرر نفسه، ولم يكن بإمكانه أن يتجمد في مكانه، وهذا هو السر في أنه استطاع بأعماله أن يلهم جيلا بكامله من الفنانين المتباينين الذين لم يتفقوا في شيء عدا استلهام سيزان؛ ولذا فلست أغض من شأن أي من الفنانين الأحياء حين أقول إن السمة الرئيسية للحركة الفنية الجديدة هي أنها مستمدة من سيزان.
لقد كان العالم الذي صادفه سيزان ونشأ في كنفه هو عالم يعج بالنزاع بين الرومانسيين والواقعيين، وما النزاع بين الرومانسية والواقعية سوى نزاع بين أناس يعز عليهم أن يتفقوا حول مسألة هل تاريخ إسبانيا أم عدد البذر هو الأهم في شأن برتقالة! لقد كان الرومانسيون والواقعيون أشبه بأناس صم يختلفون حول صرير أحد الخفافيش. دأب الرومانسي كلما سئل عما يحسه تجاه أي شيء هو أن يتذكر تداعيات هذا الشيء، فإذا كان بصدد وردة من الورود فهي تذكره بما مر به في سالف أيامه من جنائن وفتيات، وتذكره بإدموند وولر
E. Waller
وبالساعات الشمسية، وبألف شيء من الأشياء الطريفة والفاتنة التي جرت له أو لغيره في وقت أو آخر، فهذه الوردة تمس من حياته ألف موضع جميل، وهي طريفة لأن لها ماضيا، هكذا يتحدث الرومانسي، فيرد عليه الواقعي: «هراء، سأنبئك بما تكونه الوردة؛ أي سأقدم لك وصفا مفصلا لخواص الفصيلة النباتية المسماة «روزا سيتيجيرا»، ولن أغفل ذكر أنبوب الكأس الوعائي الشكل، أو الفصوص المتراكبة الخمسة، أو التويج المفتوح المكون من خمس بتلات بيضاوية مقلوبة»، إن كل وصف من الوصفين (الرومانسي والواقعي) هو خارج عن الموضوع قدر خروج الوصف الآخر؛ ذلك أن كليهما يغفل الشيء المهم في الفن، وهو الشيء الذي اعتاد الفلاسفة أن يسموه «الشيء في ذاته»
the thing in itself ، وإخالهم الآن يسمونه «الواقع الماهوي»
the essential reality ، وإلا فما هي الوردة على أية حال؟ ما الشجرة، الكلب ، الجدار، القارب؟ ما هي الدلالة الخاصة لأي شيء من الأشياء؟ من المؤكد أن ماهية قارب من القوارب ليست أنه يستحضر في الذهن مشاهد أساطيل تجارية ذات أشرعة أرجوانية، ولا أنه ينقل الفحم إلى نيوكاسل، ولتتخيل قاربا في عزلة تامة، وافصله عن الإنسان وأنشطته الملحة وتاريخه الخرافي، فما الذي يتبقى؟ ما الذي نظل نستجيب له انفعاليا؟ ماذا غير الشكل الخالص، وغير ذلك الذي يكمن خلف الشكل الخالص ويهبه دلالته؟ فتجاه هذا الشيء كان سيزان يشعر بالانفعال الذي صرف عمره في التعبير عنه.
أما السمة الثانية للحركة الجديدة فهي الولع المشبوب، الموروث عن سيزان، بالأشياء معتبرة كغاية في ذاتها، وحين أقول ذلك فإنني لا أعدو أن أقول إن مصوري الحركة الجديدة قد قرروا عن وعي أن يكونوا فنانين. إن التفرد يقبع في الوعي؛ الوعي الذي به نذروا أنفسهم لنبذ كل ما يحول بينهم وبين الأشكال الخالصة للأشياء. لقد أيقنوا أن بحسب المرء أن يكون فنانا؛ فكم من موهوب بل كم من عبقري قد فوت على نفسه أن يكون فنانا حقيقيا؛ لأنه سعى إلى أن يكون شيئا آخر. (2) التبسيط والتصميم
Simplification and Design
صفحه نامشخص