إن عادة تمييز البطاقة وإغفال الشيء، والرؤية الفكرية بدلا من الرؤية الانفعالية، هي علة ذلك العمى المذهل، أو بالأحرى تلك الضحالة البصرية، لمعظم الراشدين المتحضرين؛ فنحن لا ننسى ما حرك شعورنا، ولكن ما اجتزأنا بتمييزه ولم نزد، فهو لا يخلف في ذهننا أثرا عميقا. لي صديق صاحب ذوق حدت به الرغبة يوما إلى أن يجري بعض الإزالة في حدائقه؛ إذ كانت تعج بعدد وافر من الأشجار، ولسوء حظه أبدى معظم أصدقائه وكل أسرته اعتراضهم، على أساس عاطفي أو إستطيقي، مؤكدين أن المكان لن يعود كعهدهم به لو أنه أعمل الفأس في شجرة واحدة، وقد ظل صديقي يائسا إلى أن اقترحت عليه يوما أن عليه كلما سنحت فرصة يكون فيها أهله جميعا بمنأى عن المكان في زيارات أو أسفار كما اعتادوا كثيرا، أن يجتث ما يمكنه اجتثاثه بشكل تام ونظيف أثناء غيابهم، ومذاك شحنت عدة مئات من الأشجار بالكارة
2
من متنزهه الصغير وساحات متعته، وإنني على ثقة مفعمة بالمرح أنه لو أفشى السر للأسرة فلن يصدقه أحد، وبإمكاني أن أسرد ما لا يحصى من أمثلة هذه البلادة الحسية تجاه الشكل. وكم ذا أسمر مع جماعة في غرفة كل ما فيها مألوف لنا فيما عدا الديكور الذي تغير مؤخرا، فإذا بي الوحيد الذي يلحظ ذلك، لقد بقيت الغرفة من جهة الأغراض العملية كما هي، وحدها الدلالة الانفعالية للغرفة كانت جديدة. سل صديقك عن ترتيب الأثاث في غرفة استقبال زوجته، سله أن يرسم مخططا للشارع الذي يذرعه يوميا: بنسبة عشرة إلى واحد سوف يتخبط بلا طائل، ليس غير الفنانين والدارسين ذوي الحساسية الفائقة وبعض البدائيين والأطفال، من يشعرون بدلالة الشكل شعورا حادا؛ بحيث يعرفون كيف تبدو الأشياء، هؤلاء يرون؛ لأنهم يرون انفعاليا، وما كان لأحد أن ينسى الأشياء التي حركت مشاعره. أما أولئك الذين لم يشعروا يوما بالدلالة الانفعالية للشكل الخالص فينسون. إنهم ليسوا أغبياء، ولا هم في مجملهم فاقدو الإحساس، ولكنهم يستخدمون أعينهم لجمع معلومات فحسب لا لقنص انفعال، هذه العادة في جعل وظيفة الأعين وقفا على التقاط الوقائع هي الحاجز الذي يقف بين معظم الناس وبين فهم الفن البصري، إنه ليس بالحاجز الذي لم يخترقه مخلوق قط، ولا هو من اللازم أن يبقى حائلا إلى أبد الدهر.
في عصور الوجد الروحي العظيم يتفتت الحاجز في بعض البقاع ويغدو أقل منعة، يقال لمثل هذه العصور بعامة العصور الدينية العظيمة، وما جانب الصواب من أطلق عليها هذا الاسم؛ فالدين في أغلب الأحيان هو حجر الشحذ الذي يرهف عليه الناس حسهم الروحي؛ فالدين، شأنه شأن الفن، موكل بعالم الواقع الانفعالي، ولا تعنيه الأشياء المادية إلا بقدر ما تكون ذات دلالة انفعالية؛ فالعالم الفيزيائي بالنسبة للمتصوف، كما بالنسبة للفنان، هو وسيلة إلى النشوة؛ فالمتصوف يشعر بالأشياء كغايات بدلا من أن يراها كوسائل، إنه يتلمس داخل كل الأشياء ذلك الواقع النهائي الذي يثير الوجد الانفعالي، وهو إن كان لا يبلغه من خلال الشكل الخالص فثم كما قلنا أكثر من طريق لبلوغ هذا البلد. إن الدين، كما أفهمه، هو تعبير عن الحس الفردي بالدلالة الانفعالية للعالم، ويجب ألا أندهش حين أجد أن الفن كان تعبيرا عن الشيء نفسه. وعلى كل حال فكلاهما يبدو أنه يعبر عن انفعالات مختلفة عن انفعالات الحياة ومتجاوزة لها، وكلاهما بالتأكيد له القدرة على أن ينقل الناس إلى مواجيد فوق بشرية، كلاهما سبيل إلى حالات ذهنية غير أرضية، ينتمي الفن والدين لعالم واحد؛ فهما هيئتان يحاول البشر فيهما أن يحصروا أخفى تصوراتهم وأكثرها شفافية ويوفروا لها أسباب البقاء، ليست مملكة الفن ولا مملكة الدين من هذا العالم؛ ومن الحق لذلك أن نعتبر الفن والدين توءمين متلازمين من مظاهر الروح، ومن الخطأ أن يتحدث البعض عن الفن كمظهر من مظاهر الدين.
إذا زعم أحد أن الفن والدين مظهران توءمان لشيء ما قد يسمى «الروح الدينية» على سبيل التيسير؛ فإن علي ألا أبتئس، غير أني أصر على التمييز بين «الدين» بالمعنى السائد للكلمة، و«الروح الدينية» التي نوردها، تمييزا ينفي كل احتمال لإثارة مماحكات تافهة، وعلي أن أصر على أنه إذا كان لنا أن نقول بأن الفن هو مظهر للروح الدينية فلا بد أن نقول الشيء نفسه عن كل دين موقر وجد يوما أو يمكن أن يوجد على الإطلاق، ويجب أن أصر فوق كل شيء على أنه أيا من كان القائل فيجب أن يقر بالذهن كلما قالها إن كلمة «مظهر» مختلفة عن كلمة «تعبير» اختلاف «مونموث» عن «مقدونيا» على أقل تقدير.
تتولد الروح الدينية عن اقتناع بأن بعض الأشياء أكثر أهمية من الأخرى؛ فبالنسبة لأولئك الذين تتملكهم هذه الروح ثمة تمييز قاطع بين ما هو كوني وغير مشروط من ناحية، وما هو محلي ومحدود من ناحية أخرى. إن الوعي بالكوني وغير المشروط هو ما يجعل الناس دينيين، وإن هذا الوعي، أو على الأقل تلك القناعة بأن بعض الأشياء غير مشروطة، وكونية، هو ما يجعل موقف الناس أحيانا تجاه المشروط والمحلي موقفا جافيا بعض الشيء، هذا الوعي هو ما يجعلهم يضعون العدل فوق القانون، والعاطفة فوق المبدأ، والحساسية فوق الثقافة، والذكاء فوق المعرفة، والحدس فوق الخبرة، والمثالي فوق المستطاع، وهذا الوعي هو ما يجعلهم أعداء العرف والتوفيق والحس المشترك. الحق أن جوهر الدين هو قناعة بأنه ما دامت بعض الأشياء لا متناهية القيمة؛ فمعظم الأشياء غاية في التفاهة، وما دامت لدينا كعكة الزنجبيل فلا علينا من طلائها الذهبي.
3
ومن غير المجدي للاهوتيين التحرريين أن يزعموا أن لا تنافر بين الطبيعة الدينية والطبيعة العلمية، صحيح أن ليس هناك تنافر بين الدين والعلم، ولكن هذا أمر مختلف تماما؛ فالحق أن فرضيات العلم لا تبدأ إلا حيث ينتهي الدين، ولكن كلا من الدين والعلم يولد متعديا يدخل أراضي الآخر دخولا غير مشروع. إن لكل من الشخص الديني والشخص العلمي تحيزاته، ولكن تحيزاتهما ليست من صنف واحد؛ فالذهن العلمي لا يستطيع أن يتخلص من تحيز ضد فكرة أنه قد توجد معلولات لا يدري (أي الذهن العلمي) عن عللها شيئا. أما الأذهان الدينية فليس بوسعها فقط أن تعتقد بمعلولات لا تعرف علتها وربما لن تعرفها أبدا، بل إنها لا ترى ضرورة مطلقة لافتراض أن لكل شيء علة، ويميل العلميون من الناس إلى أن يثقوا بحواسهم ويكذبوا عواطفهم عندما تناقضها، بينما يميل الدينيون إلى تصديق العاطفة حتى لو كانت الخبرة الحسية مناقضة لها، والدينيون بصفة عامة هم الأكثر انفتاحا عقليا؛ فافتراضهم بأن الحواس قد تخدع هو أقل غطرسة من افتراض أنه ليس من غير طريق الحواس قد يمكن لنا أن نبلغ الواقع؛ ذلك أنه كما قال دكتور مكتاجارت
McTaggart
ببراعة: «إذا كان إنسان حبيسا في منزل تكون شفافية النوافذ شرطا ضروريا لأن يرى السماء، غير أن من الحماقة أن نستنتج من ذلك أنه إذا مشى خارج المنزل فلن يمكنه أن يرى السماء لأنه لم يعد هناك أي زجاج يمكنه من خلاله أن يراها!»
صفحه نامشخص