لعل فن التصوير المعاصر هو النصر الوحيد الظاهر للعصر الجديد، ولا يجرؤ أحد، حتى أكبر الناس سنا وحكمة، على الاستخفاف به. إن أولئك الذين يعجزون عن حب سيزان وماتيس فهم يبغضونهما، وهم لا يقولون ذلك فحسب بل يجأرون به، ليس بدعا إذن أن يكون الفن البصري، الذي يبدو للكثيرين مرآة يرون فيها مثلهم العليا الخاصة متحققة، قد أصبح لدى البعض دينا جديدا؛ فهؤلاء لا يكتفون من الفن بدلالته الإستطيقية فيلتمسون فيه ملهما للحياة كلها. إن بعضنا يعد الدلالة الإستطيقية إلهاما كافيا، أما الآخرون فلن أغلظ لهم القول؛ إنهم إلى الفن يأتون معهم بأعمق انفعالاتهم وأخفاها، وأنبل أفكارهم وأعز أمانيهم، ومن الفن يجلبون عاطفة وطربا خصبين نقيين ومصادر جديدة للعاطفة والطرب، وفي الفن يتصورون أنهم يجدون تعبيرا عن أوثق مشاعرهم وأخفاها. ورغم أن هؤلاء يفوتهم (إلى حد ما) أفضل الذي يمنحه الفن، فليس لي عليهم لوم إذا جعلوا من الفن دينا.
في عهد ألكسندر سفيروس
Alexander Severus
كان يعيش في روما عبد يوناني معتق، وإذ كان الرجل صانعا ماهرا فلم يكن مقترا عليه في الرزق. لقد كان آمنا في نفسه ضامنا لقمته مشغول اليد والذهن بما يرضي ويسر، وكان يعيش وسط أناس أذكياء وأشياء جميلة، ويرخي لعواطفه العنان بالقدر المعقول الذي أوصى به أستاذه أبيقور، وكان يستيقظ كل صباح ليستقبل يوما هادئا يتوزع بين الإشباع المقدر، والضريبة المفروضة من عمل غير قاس، وقليل من المتعة الجسدية، وقليل من المحادثة العقلانية، وجدل هادئ، وإدراك حصيف لكل ما هو بوسع الفكر أن يعيه. وفجأة في هذا الوجود برز متعصب نزق بديانة، بالنسبة لليوناني، بدا أن نفسا من الحياة قد سرى خلال الشوارع الجهمة للإمبراطورية، ومع ذلك لم يتغير شيء في روما، باستثناء نفس واحدة خالدة، أو فانية؛ العيون ذاتها تنفتح على الأشياء ذاتها، إلا أن كل شيء كان قد تغير، كل شيء صار مشحونا بالمعنى، أشياء جديدة وجدت، كل شيء غدا ذا شأن وقيمة، وفي غمرة المساواة الشاملة للعاطفة الدينية نسي اليوناني وضعه وقوميته، صارت حياته معجزة ونشوة، ومثلما يستيقظ المحب العاشق، كان يقوم من نومه ليستقبل يوما مفعما بالدهش والبهجة. لقد تعلم أن يشعر، ولكي يشعر المرء يتوجب أن يعيش؛ ولذلك فقد كان من الخير أن يكون حيا.
أعرف رجلا واسع الاطلاع ذكيا، رجلا لم تكن حياته الجافة أفضل من نزلة برد طويلة بالرأس، رجلا لم يدخر ذلك الممسوس فان جوخ جهدا لإنقاذه.
الفصل الخامس
المستقبل
(1) المجتمع والفن
Society and Art
من المتفق عليه أن الاكتراث الزائد بأي شيء عدا الحاضر، لا يليق بمنزلة الحيوان البشري السوي، ورغم ذلك فكم منا من يستطيع أن يقاوم تلك اللذة الحمقاء، لذة التفكر في الماضي والتكهن بالمستقبل؟ سلم مرة بأن الحركة المعاصرة هي أمر خارج عن الشائع بعض الشيء، وأن فيها مخايل بداية، وستجد نفسك تسأل: «بداية ماذا؟» بدلا من أن تقر هادئا لتستمتع بالمشهد النادر - مشهد نهضة. إنه الفن، كما نأمل، جادا وحيا ومستقلا، يطرق الباب، ونحن مدفوعون لأن نسأل: «ماذا سوف ينجم عنه؟» هذا هو السؤال العام الذي ستجد أنه ينقسم إلى تساؤلين محددين تحديدا كافيا: «ماذا سيفعل المجتمع بالفن؟» و«ماذا سيفعل الفن بالمجتمع؟»
صفحه نامشخص