لعل خاطر فكر طارقي عرضا
يدنو بما أنا طول العمر أبغيه
يوضح الغامض المستور عن فطن
وأفهم العيش تستهوي بواديه
هيهات ما كشفت لي الحق خاطرة
ولم يجب لي سؤالا ما أناديه
فهذه القصيدة وكثير من أمثالها من روائع شكري قد تبدو فكرية الطابع ولكنها في الحقيقة ليست من التفكير والتفلسف في شيء، بل هي تأمل وجداني خالص للمجهول ومعمياته، واستبطان ذاتي لوقع هذا المجهول وتلك المعميات في نفسه البشرية المعذبة، وفي كل هذا ما يحيل شعره إلى شعر وجداني رفيع يجمع بين التأمل الفكري والانفعال الوجداني والاستبطان الذاتي على نحو ما أوضحنا في الجزء الأول من كتابنا عن الشعر المصري بعد شوقي؛ حيث اتخذنا من شعر عبد الرحمن شكري كله ومن خواطره النثرية ما أيدنا به نظرتنا إليه كرائد ضخم من رواد شعرنا العربي المعاصر الذي ماشى التطور العالمي؛ إذ رأيناه ينتقل بالشعر من ظاهر الحواس إلى باطن النفس البشرية، ومن التفكير الفلسفي إلى التأمل الوجداني عن طريق الرمز والإيحاء حينا، والإفصاح والتصوير البياني حينا آخر.
وهكذا نخلص من حديثنا عن المضمون الشعري إلى النتيجة نفسها التي حاولنا تأييدها، وهي أن هذا المضمون سواء استمده الشاعر من الطبيعة الخارجية أو من ذات نفسه العاطفية أو الفكرية لا بد أن يتخذ في الشعر الغنائي الطابع الوجداني الذي إذا فقده الشعر فقد جوهره، ولم يستطع أن يعوض هذا الفقدان بأية واقعية أو طبيعية أو محاكاة، فالشعر في مضمونه أولا وآخرا تعبير عن وجدان الشاعر أيا كان مصدر هذا الوجدان الذي تختلط فيه الطبيعة في ذات الشاعر وبمجتمعه وحياة ذلك المجتمع. وإذا كان هناك تطور جديد قد طرأ على نظرية الشعر الغنائي فهو ذلك التطور الذي جاء نتيجة لظهور فلسفات سياسية واجتماعية جديدة غطت جميع مجالات النشاط البشري بما فيها مجال الشعر الغنائي، وإن يكن من المؤكد كما سبق أن أشرنا أنها لم تستطع أن تقضي على الطابع الوجداني للشعر الغنائي، وكل ما استطاعته هو أن حولت جانبا من هذا الوجدان من الذاتية؛ أي من الرومانسية إلى الجماعية؛ أي إلى النظرة الاشتراكية للحياة، ولكن دون أن تحيله إلى فن موضوعي خالص كما استطاعت أحيانا في مجال القصة والمسرحية النثريتين.
الصورة أو الشكل
أما من ناحية الصورة والتركيب الموسيقي للقصيدة العربية، فيخيل إلينا أن هذه القضية لم تدرس بعد في شعرنا العربي دراسة علمية يجب أن ترتكز على المنهج التاريخي والمنهج المقارن معا؛ وذلك لأننا لو نظرنا إلى صور الشعر وتركيباته في الآداب العالمية لوجدنا أنها قد اتخذت أشكالا متباينة، فالملحمة الشعرية كانت لها صورتها وتركيبها الموسيقي، والمسرحية الشعرية كذلك، بل إن القصائد الغنائية التي تعيننا هنا قد اتخذت هي الأخرى عدة صور وتراكيب في الآداب الكبيرة، وإذا كنا لا نستطيع استقصاء كل هذه الصور والتراكيب فلا أقل من أن نختار بعضها لنرتكز عليها في الدراسة المقارنة التي تستطيع وحدها أن تكشف لنا صورة القصيدة العربية وتركيبها، بل وأن تعيننا على تفسير هذه الصورة وذلك التركيب.
صفحه نامشخص