هنر معاصر: مقدمه ای بسیار کوتاه
الفن المعاصر: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
شكر وتقدير
1 - منطقة حرية؟
2 - نظام عالمي جديد
3 - الثقافة الاستهلاكية
4 - استخدامات الفن وأسعاره
5 - قواعد الفن الآن
6 - تناقضات
المراجع
شكر وتقدير
1 - منطقة حرية؟
صفحه نامشخص
2 - نظام عالمي جديد
3 - الثقافة الاستهلاكية
4 - استخدامات الفن وأسعاره
5 - قواعد الفن الآن
6 - تناقضات
المراجع
الفن المعاصر
الفن المعاصر
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
صفحه نامشخص
جوليان ستالابراس
ترجمة
مروة عبد الفتاح شحاتة
مراجعة
ضياء وراد
إلى بيتر وأودري
شكر وتقدير
في حين أن هذا الكتاب يتبنى موقفا ضد جزء كبير من الأدبيات التي تناولت الفن المعاصر، فإنه بالطبع يشكل جزءا منها، وأود أن أعبر عن خالص تقديري لكافة الأشخاص الذين أدرجتهم في قسم المراجع، كما أود أن أحث القارئ على أن يستخدم هذه الرؤية كنقطة انطلاق نحو البحث عن مزيد من التحليلات المفصلة حول الموضوعات التي لم يسعني سوى تناولها بإيجاز في هذا الكتاب.
لقد استفدت جل الاستفادة من المحادثات التي جمعتني بالفنانين والأساتذة الجامعيين والنقاد ومشرفي المعارض، وعلى وجه الخصوص زملاء العمل والطلاب بمعهد كورتولد للفنون. وأتوجه بجزيل الشكر إلى سارة جيمس وهايلا روبيزك اللتين قدمتا لي العون في بحثي، كذلك أتوجه بالشكر إلى كل العاملين بمطبعة جامعة أكسفورد، وتحديدا كاثرين ريف التي دعمت هذا المشروع.
الفصل الأول
صفحه نامشخص
منطقة حرية؟
فكر بداية في استخدام الفنانين المعاصرين للجسد البشري: تمشيط الشعر في أنماط تمثل الحروف الصينية، أو نسجه داخل بساط، أو نتفه من جسد الفنان لوضعه في تمثيل شمعي صغير لجثمان والد الفنان؛ تقطير الدم من جروح ألحقها الفنان بنفسه فوق لوحة الرسم، أو استخدامه في صنع تمثال نصفي لنفسه؛ وضع علامات فوق اللوحات - أو فوق الصلبان - عن طريق قذف المني فوقها؛ إجراء جراحات تجميلية كفن أدائي؛ أذن بشرية مزروعة في صحون بتري المختبرية؛ وجثة رضيع تطهى (وعلى ما يبدو تؤكل). يبدو أن الفن المعاصر يحيا داخل نطاق حرية، منفصلا عن السمة الدنيوية والعملية للحياة اليومية، وعن قواعدها وتقاليدها. يزدهر داخل ذلك النطاق - جنبا إلى جنب مع لهو فكري وتأمل أكثر هدوءا - مزيج غريب من الابتكار الكرنفالي، والانتهاكات الهمجية للأخلاق، والإساءات ضد نظم الاعتقاد. إن نقاشات الفن المعاصر - بدءا من المجلات المتخصصة إلى الأعمدة الصحفية الموجزة - تنطوي على تأويلات تتسم بالاحترام، وانحرافات فلسفية معقدة، ودعايات متملقة، وفي النهاية إدانة وتهكم ورفض. بيد أن هذا المشهد المألوف - مدى قدم خرق القواعد في مجال الفن ورسوخه، ومدى رتابة التوصيات والإدانات - يحجب تغيرا حديثا مهما.
جزء من هذا التغير كان مدفوعا بمخاوف داخلية بمجال الفن، في حين أن جزءا آخر جاء استجابة لتحول سياسي واقتصادي أوسع نطاقا. للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد نظام وفقا له يكون الفن في وقتنا الحالي مختلفا عن الاقتصاد النيوليبرالي العالمي، القائم على نموذج - إن لم يكن ممارسة - التجارة الحرة. يعمل الاقتصاد على نحو صارم وذرائعي وفقا لتقاليد صارمة تفرضها الكيانات الاقتصادية الكبرى متعددة الجنسيات بطريقة جائرة على الشعوب كافة، كما يرسخ هياكل هرمية للثروة والسلطة، ويفرض على الأغلبية العظمى من سكان العالم حياة عملية منظمة ومحكومة بجداول زمنية، فيما يواسيهم برؤى عن حيوات سينمائية اكتسبت دلالتها من خلال المغامرة والحكاية المترابطة (يجعل فيها أبطالها حياتهم حرة عبر خرق القواعد تحديدا)، وبأغان شجية عن التمرد أو الحب. وقد أكد جوناثان ريتشمان على هذا الأمر الشائك في أغنيته التي تبدو في ظاهرها عاطفية «المركز الحكومي»، إليك بعضا من كلمات الأغنية:
سنرقص ونغني في المركز الحكومي
كي نجعل السكرتيرات يشعرن بأنهن أفضل حالا
بينما يلصقن الطوابع البريدية على الخطابات ...
تنتهي الأغنية بصوت قرع جرس الآلة الكاتبة. تخبر الأغنية مستمعيها الغاية من وراء الأغاني الشعبية (في الغالب).
يبدو أن الفن يقف خارج هذا الحيز من الذرائعية الصارمة، والحياة التي تهيمن عليها البيروقراطية، وثقافتها الجماهيرية التكميلية، وما يمكن الفن من فعل ذلك هو اقتصاده المميز الذي يقوم على صناعة أشياء فريدة أو نادرة، وازدراؤه للنسخ الميكانيكي. يقيد الفنانون والتجار - ولو بصورة اصطناعية - من إنتاج الأعمال المصنوعة في نطاق وسائل الإعلام القابلة لإعادة الإنتاج، وذلك من خلال الكتب والصور ومقاطع الفيديو والأقراص المدمجة ذات الإصدارات المحدودة. إن هذا العالم الصغير - الذي عندما نراه من الداخل يبدو اقتصادا جزئيا مستقلا بذاته تحكمه أفعال قلة مهمة من جامعي التحف والتجار والنقاد ومشرفي المعارض الفنية - يولد حرية الفن من السوق من أجل الثقافة الجماهيرية. غني عن البيان أن أفلام فيديو بيل فيولا لم تعرض تجريبيا أمام جماهير مستهدفة في الغرب الأوسط الأمريكي، كذلك لم يفرض المنتجون على فرق فنية مثل «أوادا» ضمان أن أصواتهم ستبدو غير منفرة عند سماعها في المحلات التجارية، أو أنها ستروق لسوق جوهرية قوامها من الفتيات البالغات من العمر أحد عشر عاما. من ثم فإن هذا المنعزل الثقافي محمي من الضغوط التجارية الفاحشة، بما يسمح بالعبث الحر بالمواد والرموز، إلى جانب الخرق النمطي للتقاليد والمحرمات.
إن حرية الفن أكثر من كونها مبدأ مثاليا. إذا كانت مهنة الفنان أمرا محبوبا للغاية - رغم فرص النجاح الضئيلة - فهذا يعود إلى أنها توفر فرصة لعمل يبدو أنه يخلو من التخصص المحدود، بما يسمح للفنانين - على غرار أبطال الأفلام السينمائية - بإضفاء معان خاصة بهم على العمل والحياة. وبالمثل لمشاهدي الفن، ثمة حرية موازية في استحسان العبث العشوائي بالأفكار والأنماط، ليس في محاولة تفتقر للأصالة للتكهن بنيات الفنانين، بل في إفساح المجال للعمل لاستنباط الأفكار والمشاعر المرتبطة بتجاربهم. يبتاع الأثرياء لأنفسهم المشاركة في هذا المجال الحر عبر الملكية والرعاية، وهم يشترون شيئا ذا قيمة أصيلة، وتكفل الدولة أن يحظى قطاع أعرض من الجمهور على الأقل بفرصة تنسم عبير الحرية الذي ينبعث من العمل الفني لبرهة.
مع ذلك، ثمة أسباب تجعلنا نتساءل: هل تتعارض التجارة الحرة والفن الحر كما يبدوان؟ أولا: إن اقتصاد الفن يعكس عن كثب اقتصاد التمويل الرأسمالي. في تحليل حديث لدونالد ساسون لمعنى الهيمنة الثقافية، يستطلع فيه أنماط استيراد الرواية والأوبرا والأفلام وتصديرها في القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت البلدان ذات الهيمنة الثقافية تملك إنتاجا محليا غزيرا يلبي حاجات الأسواق المحلية بها، فتستورد القليل وتصدر الكثير بنجاح. ففي القرن التاسع عشر، كانت فرنسا وبريطانيا تمثلان قوتين ذواتي هيمنة أدبية، أما الولايات المتحدة فهي الآن إلى حد بعيد البلد الأكثر هيمنة من الناحية الثقافية، تصدر منتجاتها على مستوى العالم فيما تستورد أقل القليل. وكما أوضح ساسون، هذا لا يعني أن الجميع يستهلك الثقافة الأمريكية، بل يعني أن الجزء الأعظم من الثقافة المتداولة عبر الحدود القومية أمريكي.
صفحه نامشخص
يستثني ساسون الفنون الجميلة من تحليله بناء على أسباب منطقية بأنها ليست لها سوق جماهيرية. ومن الصعوبة بمكان فهم الأرقام التجارية الخاصة بمؤشرات الهيمنة الثقافية في إطار نظام عالمي بمعنى الكلمة؛ إذ إنه من الممكن أن يشتري جامع تحف ألماني عبر تاجر بريطاني عملا لفنان صيني مقيم في الولايات المتحدة. لكن بإمكاننا أخذ فكرة عن حجم التجارة في كل دولة، وهو ما يقدم بالفعل إشارة على الهيمنة العالمية، في ضوء النسبة المرتفعة للتجارة الدولية في سوق الأعمال الفنية، وهنا تكمن توازيات لافتة للنظر مع توزيع القوى المالية. ليس من المفاجئ أن الولايات المتحدة هي القوة المهيمنة، فهي تمثل ما يقل بصورة طفيفة عن نصف المبيعات الفنية في العالم؛ وتمثل أوروبا أغلبية النسبة الباقية، ويأتي نصيب بريطانيا حوالي نصف نسبة أوروبا. تتجه أسعار الأعمال الفنية وحجم المبيعات الفنية إلى التشابه مع أسواق المال كثيرا، وليس من قبيل المصادفة أن المراكز المالية الكبرى بالعالم هي أيضا المراكز الرئيسية لبيع الأعمال الفنية. إن إثارة هذا التوازي تتيح لنا النظر إلى الفن ليس فقط باعتباره منطقة للعبث الحر العشوائي، بل أيضا كسوق مضاربة صغيرة تستخدم فيها الأعمال الفنية من أجل مجموعة من الغايات الذرائعية، بما في ذلك الاستثمار، والتهرب الضريبي، وغسيل الأموال.
ثانيا: في سبيل صرف مثل هذه الاعتبارات الاقتصادية الفجة من أذهان مشاهدي الفن المعاصر، لا بد وأن يبرز الفن المعاصر بصفة مستمرة أمارات حريته وتميزه، عن طريق تمييز إنتاجاته عن ذلك المبتذل من خلال الإنتاج الجماهيري والاستحسان الجماهيري، كذا يمكنه استغلال حالة الغموض أو حتى الملل إلى الحد الذي يصيران فيه تقاليد في حد ذاتهما. إن افتقاره إلى العاطفة هو صورة سلبية للقصص الخيالية العذبة والنهايات السعيدة المنتشرة في الأغاني الشعبية والأفلام السينمائية والتليفزيون، وفي استكشافات الفن المعاصر الغامضة للنفس الإنسانية - التي عامة ما يفترض الأسوأ فيها - يبدو أنه لا يقدم أية مواساة. مع ذلك، من الطبيعي أن يفضي كل ذلك إلى تقديم مواساة إلى حد ما؛ لأنه من رحم السلبية تظهر رسالة مختلفة تماما، مفادها أن ذاك المجال الحر، والنقد الحر، يمكن أن يصونهما النظام الذرائعي للرأسمالية.
ثالثا: والأكثر خطورة على المبدأ المثالي القائل بالحرية الثقافية غير الملوثة، أننا من الممكن أن نرى تجارة حرة وفنا حرا كمصطلحين غير متعارضين، بل بالأحرى يشكلان نظاما مهيمنا وآخر مكمل له على التوالي. ربما يبدو المكمل كشيء زائد غير ضروري، لكنه (كما جاء في تحليل جاك دريدا الشهير) شأنه شأن خاتمة كتاب أو حاشية سفلية بمقال، يلعب دورا في إتمامه ويتقاسم معه سمته الجوهرية. يحمل الفن الحر تشابها غير معترف به مع التجارة الحرة، فالممارسة الثانوية المكملة تلعب دورا هاما في عمل الممارسة الرئيسية؛ لذا فإن خلط الرموز ومزجها دون كلل في الفن المعاصر في إطار سعيه وراء الابتكار والاستفزاز (من بين الأمثلة الحديثة: أسماك القرش وخزانات العرض الزجاجية، الطلاء والروث، القوارب والنحت الحداثي، طاولات البلياردو البيضاوية) يعكس بدقة مجموعات العناصر اللافتة للنظر في الدعاية، وكلاهما يستفيد من الآخر باستمرار. وكما في عروض المنتجات في الثقافة الجماهيرية، تمتزج الأنماط والعلامات وتتطابق، وكأن كل عنصر من عناصر الثقافة رمز قابل للاستبدال والتداول كالدولار. إن الابتكار الجريء في الفن الحر - في خرقه المستمر للتقاليد - ليس سوى ترجمة باهتة للتبخر المتواصل للقواعد اليقينية التي أفرزها رأس المال نفسه، وهو ما يعصف بأية مقاومة أمام التدفق غير المقيد بين أرجاء الكرة الأرضية للأموال، والبيانات، والمنتجات، وأخيرا أجساد ملايين المهاجرين. وكما جاء على لسان ماركس منذ قرن ونصف في فقرة تحمل قوة معاصرة مثيرة للدهشة:
إن الطبقة البرجوازية - بفعل التحسن السريع في كافة أدوات الإنتاج، وبفعل وسائل الاتصال الميسرة بصورة هائلة - تجذب كافة الأمم، حتى أكثرها همجية، نحو الحضارة. والأسعار الرخيصة لسلعها هي المدفعية الثقيلة التي تدك بها الأسوار الصينية كلها، وترغم بها الكراهية الشديدة للغاية التي يبديها البرابرة تجاه الأجانب على الاستسلام، وتجبر كل الأمم - إذا شاءت إنقاذ نفسها من الهلاك - على تبني نمط الإنتاج البرجوازي، وترغمها على تقبل ما تصفه بالحضارة ... باختصار، تخلق البرجوازية عالما وفقا لتصورها.
إلا أنه لم تتحطم الحواجز القومية فحسب، فالابتكار المستمر في الصناعة والثقافة يذيب البنى والتقاليد والارتباطات القديمة، كما في قول ماركس الشهير: «كل ما هو صلب يذوب في الهواء ...»
سنرى أن هناك الكثير من الفنانين يسبرون على نحو نقدي أغوار التشابه بين الفن المعاصر ورأس المال بدرجات مختلفة، إلا أنه في التوجه العام للتصريحات في عالم الفن - لا سيما في تلك الموجهة للعامة أكثر منها للمتخصصين - لا يظهر ذلك التشابه. إن أي فرد كثير الاطلاع على الفن المعاصر كثيرا ما تصادفه صياغة ما من قبيل هذه العبارات المكررة التالية: إن هذا العمل الفني، أو عمل هذا الفنان، أو إن المشهد الفني في مجمله يسمو فوق الفهم العقلاني، ويقذف بالمشاهد داخل حالة من الشك المتأرجح تختفي في طياته كافة التصنيفات العادية، وتفتح معها نافذة محيرة على اللامتناهي، جرح فاجع يقطبه في المعتاد المنطق، أو داخل الفراغ. وفقا لهذه الرؤية القياسية، لا تعدو الأعمال الفنية كونها منتجات تصنع وتشترى وتعرض بصورة عرضية، نظرا لكونها جوهريا وسائل نقل خيالية للأفكار والمشاعر، وفارض مهام الإدراك الذاتي الذي يكون أحيانا صارما وأحيانا أخرى لينا.
في كتاب «قواعد الفن» تحليل فذ للأدب الفرنسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يتتبع بيير بورديو الظروف الاجتماعية التي أفضت لظهور فن مستقل، متحرر من مطالب الدين ومن الرعاة الخاصين والدولة، ويشير إلى بقاء هذا الاعتقاد - بأن الفن غير قابل للتفسير - الذي ولد في ذلك الوقت، واستمر حتى الوقت الحاضر:
كنت سأسأل ببساطة: لماذا يغرم كثير من النقاد وكثير من المؤلفين وكثير من الفلاسفة هكذا في الزعم بأن تجربة عمل فني ما تعلو عن الوصف، وأنها بطبيعتها تتجاوز الفهم العقلاني؟ لم يتلهفون إلى التسليم جدلا دون أي عناء بهزيمة المعرفة؟ ومن أين أتت حاجتهم غير المسئولة إلى الحط من شأن الفهم العقلاني، وهذا الشغف إلى التأكيد على عدم قابلية العمل الفني للاختزال، أو بكلمة ملائمة أكثر، سموه؟ (ص14).
من المفترض اليوم أن الفن قد دخل في عصر مختلف، لا يمت بصلة للموجة الأولى من النشاط الريادي في أعمال فلوبير وكوربيه، والتفاني المتجدد للفن من أجل الفن. بداية من منتصف سبعينيات القرن العشرين، وبقوة متزايدة، كان الغرض من مرحلة ما بعد الحداثة أن تنحي تلك المخاوف جانبا، وتتحدى فئة الفن الراقي نفسه، أو على الأقل تتلذذ بتلوثه من قبل عدد لا حصر له من الأنماط الثقافية. وهكذا نبدأ بأمر مثير للغرابة: أنه في الفنون المرئية اليوم لا تزال تلك الأفكار العتيقة الخاصة بسمو الفن عن الوصف - والتي تناقش من منظور متصوف أكثر منه تحليلي - تلقى رواجا.
إن هذا الإصرار المستمر على عدم قابلية الفن للتعريف غريب بصورة أكبر لأنه كان مصحوبا مؤخرا ببعض الممارسات الفنية الذرائعية على نحو واضح. ولأننا لا يمكننا معرفة ما لا نستطيع معرفته، فهذه العبارة المكررة حول عدم قابلية مجال الفن للتفسير تبرز على أنها دعاية إعلامية فجة. إن استخدامات الفن، وهوية هؤلاء الأشخاص الذين يستخدمونه، غالبا ما تكون غير غامضة على الإطلاق. ومنذ انهيار شيوعية أوروبا الشرقية وظهور الرأسمالية باعتبارها نظاما عالميا حقا، أصبحت تلك الاستخدامات أكثر تقدما وأكثر وضوحا على حد السواء.
صفحه نامشخص
ما وراء الحرب الباردة
إن الأحداث العالمية لعام 1989 وما تلاه - إعادة توحيد ألمانيا، وتفكك الاتحاد السوفييتي، وظهور اتفاقيات التجارة العالمية، واندماج التكتلات التجارية، وتحول الصين إلى اقتصاد رأسمالي جزئيا - غيرت من شخصية عالم الفن بشدة. ومنذ أن تحولت عاصمة الفنون من باريس إلى نيويورك بعد الحرب العالمية الثانية، قام عالم الفنون، مع ذلك، على تقسيم الحرب الباردة للعالم إلى الكتلة الشرقية والكتلة الغربية. كان الفن الراقي الذي تدعمه الدولة لكل كتلة يقدم صورة سلبية عن الآخر: إذا كان الفن الخاص بالكتلة الشرقية يتوافق مع أيديولوجية محددة ويمثلها وله فائدة اجتماعية واضحة، فلا بد إذن أن يكون الفن الخاص بالغرب على ما يبدو خاليا من مثل ذلك الاتجاه، ويحقق انعدام الفائدة التام له. إذا كان الفن الشرقي يحتفي بإنجازات الإنسانية، ولا سيما تلك الخاصة بالإنسان الاشتراكي، فلا بد أن يركز الفن الخاص بالغرب على حدود الإنسانية، وإخفاقاتها، وقسوتها (فيما يبرز الأمل بأن الفن نفسه، في تنقيبه الحقيقي عن تلك المشكلات، ربما يكون إنجازا في حد ذاته). ومع تلاشي هذه الخصومة (ببطء إبان سياسة الجلاسنوست في الاتحاد السوفييتي، ثم بسرعة مع انهيار نظم الحكم في الشرق من تلقاء نفسها)، ومع انتصار الرأسمالية الذي يكثر التفاخر به (إقامة «نظام عالمي جديد» تكون فيه الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة)، سرعان ما أعاد عالم الفن تهيئة نفسه، وكما سنرى، اجتاحت سلسلة من الفاعليات الفنية العالم، فيما حقق فنانون من أمم وأعراق وثقافات عديدة، طالما تجاهلها الغرب، نجاحا على المستويين التجاري والنقدي.
مهد لهذا التحول نقد ما بعد الحداثة الذي أكد - في سلسلة معقدة من الإجراءات النظرية - على ما أجازته السوق ببطء، كاشفا النقاب عن الرجل الأبيض «العبقري» الذي يتخفى وراء مظهر الثقافة الراقية الشامل. وتحدى مناصرو حقوق المرأة الهيمنة الذكورية على الساحة الفنية، وقدموا الكثير لإعادة صياغة معايير الحكم عينها التي كفلت إقصاء النساء. أما تحرك الجماعات العرقية الأخرى فاتخذ وقتا أطول، وفي الولايات المتحدة - كما سنرى - صاحبه جدل عنيف.
تزامن ظهور المعارض متعددة الثقافات الشهيرة تحديدا مع نهاية الحرب الباردة بمعرضين خطط لهما خلال سنوات الجلاسنوست، وحطما الاحتكار المؤسسي للبيض في لندن وباريس، وهما: معرض «سحرة الأرض» بمركز بومبيدو، ومعرض «القصة الأخرى» بمعرض هيوارد جاليري، وأقيما كلاهما في عام 1989. كان كل منهما مثيرا للجدل، واتسما بالتحيز بلا شك، باعتبارهما أولى الغزوات في هذا المجال. تعرض معرض «سحرة الأرض» على وجه الخصوص للانتقاد؛ لأنه اعتبر فناني العالم الثالث غرباء، وهو توجه انعكس في عنوان المعرض نفسه، غير أنه كان أول معرض ضخم يقام في مركز فنون عالمي حضري يعرض فن العالم الأول والعالم الثالث معا على قدم المساواة. وحارب رشيد آرايين اللامبالاة والتعالي للنخبة الفنية البريطانية ليقدم معرض «القصة الأخرى»، والذي عرض للمرة الأولى لفنانين بريطانيين سود ومن أصول آسيوية في مكان عام بارز. حقق المعرضان رؤية جديدة للفنانين المعاصرين من الملونين، وكلا المعرضين - على الرغم من مخاوف آرايين الذي ساوره القلق بوجه حق بعد سنوات من التهميش حيال أن معرضه لن يعدو كونه «شيئا مثيرا للفضول» منعزلا في وسط يتعذر تحديد ملامحه - أثبت أنه بشائر نظام لم يعد يحتاج في إطاره الفنانون غير البيض أن يتذمروا من أنهم غير مرئيين، واضطروا إلى أن يبدءوا في القلق بدلا من ذلك حيال نوع الاهتمام الذي يحظون به.
عقب انتهاء الحرب الباردة، تزامن أيضا توحد العالم خلف نمط جامح من الرأسمالية، أطلق عليه «النيوليبرالية»، مع ظهور غير البيض على الساحة الفنية. تحت شعار النيوليبرالية، تردد أحاديث عن التجارة الحرة، لكن الكيانات التنظيمية العالمية (البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية) تفرض قواعد تحمي الصناعات والزراعة في الدول الثرية فيما تفتح الاقتصاديات الهشة أمام التجارة غير المنظمة (هذا يشمل إغراق الأسواق بسلع بأسعار أقل من التكلفة)، والخصخصة، وتفكيك برامج الرعاية الاجتماعية. تظهر النتائج العامة عبر أرجاء العالم في الأجور المنخفضة والعمالة غير الآمنة، والبطالة المرتفعة، وإضعاف النقابات. بين جوزيف ستيجلتز - الخبير الاقتصادي بالبنك الدولي سابقا - مؤخرا هذا النظام، وعواقبه الكارثية على الشعوب الأضعف، والذي أوضح، على سبيل المثال، كيف صنع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الأزمات في روسيا وغرب آسيا وفي مناطق أخرى أو فاقمها؛ مما كان له عواقب خطيرة وكثيرا ما تكون وخيمة على قاطني تلك المناطق. مع ذلك، رغم الثروة التي تتدفق على الشركات متعددة الجنسيات - وعلى الساحة الفنية كما سنرى - لم يتجل الأثر الأكبر على الفن في اقتصاده بل في خطابه. تردد صوت جوقة مرتفعة من الأصوات تمتدح تحطيم الحواجز الثقافية الذي صاحب الهدم المفترض للحواجز التجارية، والاختلاط الثقافي المجيد الذي نتج عنه. ليس المجال الفني وحده في هذا الأمر؛ إذ إن موجة من الحماسة للعولمة اجتاحت الخطابات الاقتصادية والسياسية ، إلى جانب العلوم الإنسانية، بدءا من المؤتمرات الأكاديمية إلى الصحف الليبرالية. انتقد جاستن روزنبرج المنطق وراء تلك الأحاديث انتقادا لاذعا بصورة تحليلية، إذ بين التنافر الذي بزغ من تحليلات تزعم استخدام الصفات المجردة للمكان والزمان باعتبارها المحركات الرئيسية في النظرية الاجتماعية، وتحل بذلك محل المؤشرات الخاصة بالقوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وتقدم نتائج غالبا ما تكون مبهمة أو مجرد فصاحة فارغة ليس إلا. أما على الساحة الفنية، فغالبا ما كانت هوجة الحديث عن العولمة يعوزها الزخم وموجودة في كل مكان.
في حين أن المجال الفني تبنى الجانب الليبرالي من الناحية السياسية لهذا الخطاب، وبوجه خاص استحسان منافع الامتزاج أو الاختلاط الثقافي، فإن الرؤية الشاملة وراءه - حلم رأس المال العالمي - سرعان ما انعكست عليه وبصورة كاملة؛ نتيجة لذلك، تغير سريعا الخطاب الفني والمؤسسات والأعمال الفنية. وخلال تسعينيات القرن العشرين، أقيم العديد من البيناليات وغيرها من الفعاليات الفنية في أنحاء العالم، فيما شيدت المدن متاحف جديدة للفن المعاصر، أو قامت بتوسعة القديمة. أضحت أنشطة تلك المتاحف تجارية أكثر بصفة متزايدة مع تبنيها مبادئ المؤسسات التجارية، فأقامت تحالفات مع الشركات التجارية، وجعلت منتجاتها أقرب إلى الثقافة التجارية، وحاكت المحال التجارية والمدن الترفيهية أكثر مما حاكت المكتبات. وفي الوقت نفسه، اتجه الفن المعاصر نحو اتصال أقرب بعناصر منتقاة لثقافة جماهيرية أضحت متغلغلة للغاية لدرجة أن هذا التوجه يختلط أحيانا مع ارتباط جديد «بالواقع» أو «الحياة الواقعية». لطالما كان نجوم الفن من المشاهير، لكن المشهد الفني الآن في مجمله يعامل كثيرا مثل عالم الأزياء أو عالم موسيقى البوب، حتى إن أصحاب الأدوار الثانوية به يظهرون في الوسائل المخصصة لتتبع سير النجوم. وبوجه خاص، تزايد ظهور عالم الفن وعالم الأزياء جنبا إلى جنب مع قيام جمهور الشباب الذي طوق الثقافة ككل بملء عالم الفن أيضا.
إن هذا الكتاب في جله سيناقش الفترة منذ عام 1989 كما لو أنها كيان موحد بحيث يتسنى لنا فحص بنية العالم الفني ومنتجاته بوضوح أكثر، لكن يجدر بنا أيضا الحديث بإيجاز عن بعض من التغيرات المهمة المرتبطة بالعولمة التي غيرت من الفن المعاصر، وهي قضايا ذات صلة بالفن المسيس في الولايات المتحدة، والدورة الاقتصادية، وتحول النمط القياسي لمعارض الفن المعاصر.
حروب ثقافية
في الولايات المتحدة، كان الفن المعاصر - لا سيما التصوير الفوتوغرافي والفن الأدائي - في قلب معركة سياسية حول التمويل الحكومي المركزي للفنون. أشعل شرارة تلك الحرب عرض أعمال يمكن اعتبارها فاحشة أو تجديفية في أماكن تدعمها الدولة. في عام 1989، مزق ألفونس داماتو أمام زملائه أعضاء مجلس الشيوخ نسخة من صورة فوتوغرافية لأندريس سيرانو باسم «تبول على المسيح»، ويظهر بالصورة صليب عادي مغمور في بول الفنان. في عام 1990 وجد دينيس باري، مدير مركز سنسيناتي للفن المعاصر، نفسه مدانا أمام منصة القضاء باتهامات متعلقة بانتهاك قوانين مكافحة الإباحية؛ وذلك لتقديمه معرض روبرت مابلثورب «اللحظة المثالية». تضمن المعرض تصويرا في صور مابلثورب الفوتوغرافية بالأبيض والأسود شديدة الجمال متعلقة بالجنس بين الشواذ، والسادية المازوخية، وثمار بحث الفنان الطويل عن قضيب «رجل أسود» مثالي الشكل. أبرئ باري من التهم المنسوبة إليه، رغم أن الدفاع اضطر إلى التأكيد أن الصور هي فن، ولم تكن صورا إباحية؛ وذلك لأنه يمكن التمتع بها بصورة تقليدية. استخدمت هذه الأعمال وغيرها بوصفها أساسا لهجوم الحزب الجمهوري على المنحة الوطنية للفنون - المصدر الفيدرالي لتمويل الفنون في الولايات المتحدة. نجح الهجوم جزئيا، وأدى إلى خفض المبلغ المتواضع بالفعل المودع تحت تصرف المنحة الوطنية للفنون خفضا كبيرا، وفي النهاية إخافة المعارضة والمساهمة في إنتاج مشهد أكثر جمودا، رغم الجدل السياسي الغاضب. وكما أوضح دوجلاس ديفيز في وصف رائع وتفصيلي حول سجل إدارة الرئيس كلينتون الخاص بالفنون أن الاستراتيجية المتبعة في وجه الهجمات المحافظة المتتابعة كانت دفاعية ومحدودة، ولم تمتد يقينا إلى أي دعم صريح للفنون المرئية. وكانت النتيجة مزيدا من الاقتطاع المدفوع سياسيا من ميزانية المنحة الوطنية للفنون.
كان غضب المحافظين موجها نحو الأشكال التصويرية والفنون الأدائية التي احتفت بالشذوذ الجنسي، أو اعترضت على التراخي الحكومي حيال الإيدز، أو عرضت علانية أجسادا سوداء وعلاقات جنسية ، في حين أن تلك الأعمال كان يندد بها علنا بغضب شديد كشف النقاب عن العنصرية ورهاب المثلية الجنسية في جزء كبير من المشهد السياسي بالولايات المتحدة، كذلك امتد الهجوم ليشمل الأعمال السياسية في حد ذاتها، ولا سيما استكشاف العنصرية في الفن برمته. في عام 1994، كان معرض «الذكر الأسود» بمتحف ويتني للفنون - وكانت ثيلما جولدن المشرفة على المعرض - مثار جدل خاص؛ نظرا لاحتوائه على صور كثيرة لأجساد عارية في معرض سياسي بصورة واضحة تعامل مع خوف المؤسسة البيضاء وإخضاع السود. في إحدى الصور التي لخصت على نحو معبر مخاوف العرض كانت صورة ميل تشين «راب ليلي»، التي تظهر هراوة شرطي، ويأخذ المقبض الجانبي بها شكل قضيب منتصب.
صفحه نامشخص
شكل 1-1: ميل تشين، «راب ليلي».
1
قوبل معرض «الذكر الأسود» باعتراضات ليس فقط من قبل المحافظين البيض الذين أزعجهم الصدى السياسي للموضوع، بل أيضا من النشطاء والفنانين السود الذين انتقدوا تركيزه على العري، ومن ثم التأكيد الممكن على المواقف الفعلية التي شرع لانتقادها.
بصورة أكثر إجمالا، عرض قدر كبير من الفن السياسي الصريح على نحو بارز في الولايات المتحدة في أوائل تسعينيات القرن العشرين، وصدرت ردود فعل حادة ضده حتى بين النقاد المحافظين المعتدلين، على غرار بيتر شيلدال وروبرت هيوز اللذين بذلا محاولة مشتركة لاستبعاد مثل هذه الأعمال من تصنيف «الفن». بعد بضع سنين، نجح أمثال هؤلاء النقاد بالفعل في صناعة شعبية «للجمال» في الفن المعاصر، كما سنرى. على النقيض، فشلت هجمات اليمين المتطرف في النهاية في تغيير مشهد الفن المعاصر بصورة جوهرية. وقليلون فقط هم من استطاعوا تقبل البديل الموصى به؛ ألا وهو الفن الوطني والمبجل الذي خرج مباشرة من العهد المكارثي، لكن كان هناك أيضا تناقض جوهري في موقفهم: إذ إن المظاهر الثقافية التي اعترضوا عليها اعتراضا شديدا أفرزتها القوى الاقتصادية بعينها التي التزموا بالدفاع عنها.
لكن كيف وصل الفن المسيس - الذي صنعه نشطاء يناضلون ضد الاتجاه السائد منذ زمن بعيد، لكن قليلا ما عرض - إلى هذه الدرجة من الأهمية؟ من ناحية ، كان ردة فعل مضادة للفن صديق السوق بالثمانينيات والذي تعرض للهجر على نحو مفاجئ للغاية بفعل الركود. ومن ناحية أخرى، كان توقعا بمنعطف ليبرالي في السياسة؛ فكثير ممن عملوا بمجال الفن دعموا كلينتون في انتخابات عام 1992، حتى إن بعضهم اشترك في جمع التبرعات لحملته الرئاسية. ورغم أن تلك التوقعات خاب أملها على المدى البعيد، فقد أمد دهاء كلينتون في التعامل مع الإشارات الثقافية التي أوحت بتغيير وليد، الكثير بالشجاعة في البداية، الأهم من هذا وذاك كان إعادة تهيئة للفن الأمريكي في وجه عالم فني معولم حديثا. إذا كان ترسيخ مدينة نيويورك بوصفها مركزا لعالم الفن عقب الحرب العالمية الثانية يعني تحولا في تركيز الفن الأمريكي من الشئون المحلية والوطنية إلى موضوعات من المفترض أنها عالمية، فقد استلزم النظام الجديد التخلي عن العالمية لصالح استكشاف التنوع والاختلاف والتهجين. ظل المركز المادي لعالم الفن بعد الحرب العالمية الثانية حيث كان بالضبط، وكما سنرى؛ حيث إن أكثر الشعوب التي تتمتع بتعددية ثقافية - وهي الولايات المتحدة - تملك هذه الميزة بموجب النظام الجديد لتضيف إلى قوتها الثقافية والسياسية، إلا أنها لم تستطع استغلال تلك الميزة إلى أن تمت مواجهة تحيزاتها وإقصاءاتها، والعوائق التجارية. كانت «الحروب الثقافية» والمعركة حول الفن السياسي التي تبعتها عملية تحديثية، وكان مقررا لها أن تتكرر في بلدان أخرى مثل بولندا واليونان؛ حيث يحتل الدين فيهما مكانة مميزة في السياسة والحياة العامة، وشهدتا فضائح فنية مشابهة حول إساءة استخدام الرموز الدينية والمشاهد الجنسية الفاضحة؛ مما أدى إلى فرض الرقابة وفصل مشرفي المعارض الفنية عن العمل.
إذا كان بزوغ نجم هذا الفن السياسي قصيرا نسبيا، فإن ذلك يرجع جزئيا إلى أنه أدى الغرض المرجو منه؛ فقد تنوع الفن بالفعل، وما إن كيف نفسه مع ظروفه الجديدة حتى فقد القدرة على العودة إلى سابق عهده. وإذا أخفق هذا الفن في تحقيق مبادئه الأوسع نطاقا، فهذا يرجع إلى طبيعته الناقصة، لا سيما انعزاله عن العمليات السياسية الفعلية. ويؤكد بنجامين بوكلو في وصف لاذع - بيد أنه مقنع - للفن المعاصر، أن التوجه طويل الأمد في الولايات المتحدة (ويمكن للمرء أن يضيف بلدا آخر) لانتقال السياسة من المجالات العامة إلى الخاصة، انعكس في فن ركز على هويات الفنانين والطريقة التي يمكن تشكيلها بها عن طريق تجميع إشارات تقليدية. كان من الأيسر استكشاف تلك المخاوف منه عن القضايا المستعصية الخاصة بالطبقة الاجتماعية والمؤسسات السياسية غير المبالية.
شكل 1-2: كارا ووكر، «سيدات كامبتاون».
2
بيد أن الهويات التي شكلها كل من المال والطبقة الاجتماعية، وروابطها الوثيقة بهويات أخرى، كانت نسيا منسيا في هذه السياسة؛ لذا لما انتعش الاقتصاد الأمريكي، على وجه التحديد خلال منتصف التسعينيات، برزت إلى السطح أعمال متحولة صديقة للسوق مرة أخرى، أضحت فيها الهويات اتحادات طيفية، وأضحى مزجها ودفعها في كافة الاتجاهات أمرا خاضعا للنزوة الاستهلاكية. أحد الأمثلة الجيدة اللافتة للنظر هو العمل الناجح للغاية لكارا ووكر الذي أثار بما يحويه من مشاهد خيالية تصور الجنس والعنف فوق أرض خضراء جدلا واسعا.
إن الهوية في أكثر صورها الصادمة - الإذلال المطبق للعبودية - نجدها حرفيا في صورة ظلية تظهر أشخاصا كاريكاتوريين يقومون بأكثر أعمال الاستعباد فظاعة بأسلوب القصص الخيالية اللطيف. كما أشارت كوكو فوسكو، لا يوجد ثمة إطار مرجعي أخلاقي واضح في عمل كارا ووكر، وهذا العمل لا يوثق ولا يعظ، لكنه يستميل الخيال والرغبة المكبوتة. السؤال هو: «رغبات من؟» انزعج بعض المعلقين السود، خصوصا بيتي سار، بشدة من النجاح المفاجئ والمثير الذي حققته ووكر على مستوى المؤسسات الفنية السائدة التي اعتبرت العمل مسليا لجمهور من البيض لديهم تأكيد خطير على تحيزاتهم الخاصة.
صفحه نامشخص
ولما كان المجال الفني مرتبطا بالاقتصاد ارتباطا وثيقا كما ارتبط آهاب بالحوت الأبيض، فإن ثمة طريقة أخرى للنظر إلى العلاقة نفسها، وهي من خلال الدورة الاقتصادية. إن الفترة محل النقاش في الكتاب - من عام 1989 إلى يومنا الحالي (أخط هذا الكتاب بينما تجتاح القوات الأمريكية مدينة بغداد، مؤسسة بذلك لنظام إمبريالي جديد ومعاد للعولمة بلا جدال) - يحدها الركود من كلتا الناحيتين: الركود الأول يتمثل في الانهيار الهائل لعام 1989 الذي قضى على عمالقة الفن الأثرياء خلال الوفرة الإنتاجية بالثمانينيات؛ مما أدى إلى تحطيم الزهو والثقة بالنفس اللذين وسما المجال الفني، وعلى مدى أبعد أفرز أعمالا أكثر فظاظة وأكثر شعبية، جنبا إلى جنب مع الفن الملتزم سياسيا. إن الفقاعة التي انفجرت كانت نتيجة لوخزة الانسحاب المفاجئ لليابانيين الذين يشترون من السوق، كنتيجة جزئية لمشكلات اقتصادية أوسع، لكنه أيضا نتيجة للكشف الفاضح بأن جزءا كبيرا من شراء الأعمال الفنية في اليابان كان يتم كطريقة للتهرب من الضرائب على الأرباح العقارية؛ مما كان له تأثير جانبي متمثل في تضخم الأسعار على نحو زائف.
أما الركود العالمي الثاني فكان مسألة تفاقمت تدريجيا في الغرب، نتيجة لإخفاق قطاع التكنولوجيا المتقدمة، وأعقبته انهيارات عامة في سوق الأوراق المالية، وفضائح حول الفساد المالي، وأخيرا الحرب. بين هذين الركودين، كان الانتعاش الاقتصادي غير مؤكد، عدا في الاقتصاديات الأكثر اتباعا للنيوليبرالية تماما بالغرب حيث اعتمدت على التكنولوجيا العالية وفقاعة الإنترنت. في تلك الشعوب، أدت الوفرة الإنتاجية (كما سنرى، على نحو متوقع) إلى ردة فعل ضد الفن المرتبط بالنظرية والسياسة، لصالح الأعمال الفنية التي تشرع في التجميل والإدهاش والتسلية ويمكن بيعها.
أما التغيير البارز الآخر في فن التسعينيات فتمثل في ظهور «فن التجهيز في الفراغ»، وهذا مصطلح معقد ومحل جدال. يراه البعض أنه فن يقاوم بصرامة البيع والشراء، لكونه في حد ذاته سريع الزوال ويصعب أو يستحيل تحريكه؛ لذا، كما أكدت جولي إتش رايس، انتعش فن التجهيز في الفراغ - الذي ولد في الستينيات - من سباته الطويل إبان سنوات الثمانينيات ذات الدوافع التجارية. في ظهوره الأول (وكان يعرف حينئذ بفن «البيئة») عرض في «بديل» أسس حديثا وأماكن يديرها الفنانون في الغالب. تزامن تجدد شعبية فن التجهيز في الفراغ مع ركود عام 1989، لكنه في صورته المستعادة رسخ نفسه في قلب عالم الفن، في المتاحف. إن تغير الاسم من فن «البيئة» إلى «التجهيز في الفراغ» يحمل دلالة؛ وذلك لأن المعارض يجب أن تجهز. لم يعد التجهيز في الفراغ يقاوم الطابع التجاري بالضرورة؛ لأنه الآن كثيرا ما يتم تحريكه ويدفع المال من أجله، حتى عندما لا يحدث ذلك، عادة ما يستخدم فن التجهيز في الفراغ فنانون وتجار كسلعة اجتذاب تباع بالخسارة من أجل بيع منتجات أكثر رواجا.
إن التجهيز في الفراغ لا يتغير بتغير الوسيلة، وليس في حد ذاته وسيلة؛ فهو يستوعب الفيديو ووسائل أكثر قدما كالرسم، ولعله يمكن النظر إليه باعتباره فنا مكانيا تندرج فيه كافة الوسائل - حتى عناصر الأداء. مع ذلك، صاحب ظهوره انخفاض نسبي في الوسائل التقليدية كالرسم الزيتي والنحت، إلا أن عالم الفن يقسم رأسيا وأفقيا بتفاوت، متضمنا العديد من الأطر المتداخلة للتنظيم والتجارة. لا يزال الرسم الزيتي - سواء أكان يشغل تركيز الخطاب الفني أم لا - الشكل الفني الأكثر رواجا، ولا يزال يصنع ويباع للأفراد والشركات بنجاح إلى حد ما وفقا للحالة الاقتصادية. يمكن قول الأمر نفسه إلى حد بعيد عن الرسم، والطباعة، وكتب الفنانين، وعدد كبير من الممارسات الأخرى، إلا أن محور التركيز هنا هو على ما يحظى بالأضواء، وما يتم تداوله على المستوى الدولي في أفق الساحة الفنية العالمية.
في هذا السياق، يتسم فن التجهيز في الفراغ بميزتين واضحتين: الأولى تتمثل في المنافسة المستمرة مع الثقافة الجماهيرية - كيفية إقناع جمهور ما بالسفر إلى متحف أو موقع آخر بدلا من مشاهدة التليفزيون، أو الذهاب إلى السينما، أو حفلة موسيقية، أو مباراة كرة قدم، أو التسوق. كان هناك ازدياد لحدة المنافسة في هذا الصدد، تنافس على المشاهدين، خاصة مع تحول التليفزيون - كأحد الأمثلة - إلى شاشة واسعة ضخمة ذات دقة عالية، وبه مسجل دي في دي. لقد رأينا أن الفن يختلف عن الثقافة الجماهيرية في تعامله مع المحتوى، بعيدا عن ذلك، ما لم تحاكيه الوسائل القابلة لإعادة الإنتاج بعد هو إحساس جسم يتحرك في فضاء محدد محاط بأجهزة عرض فيديو ضخمة أو عمل له وزن أو رائحة أو اهتزاز أو حرارة؛ لذا يحتل فن التجهيز في الفراغ، الذي يسمح لفراغ بأن يملأ بدلا من مجرد تقديم عمل فني يشاهده الناس، مكانة بارزة .
أما الميزة الثانية، فهي أن تفويض عمل فني لموقع محدد تفويضا حصريا هو طريقة لضمان أن المتفرجين سيذهبون حتما إلى هناك، وحشد مجموعات من تلك الأعمال الفنية الخاصة بفنانين ذوي شأن في بيناليات هو عامل جذب قوي لانتباه عالم الفنون. وهكذا، يرتبط التجهيز في الفراغ وخصوصية الموقع بعولمة المجال الفني، وبفن يستخدم بغرض التنمية الإقليمية أو الحضرية. لما كانت هذه هي الاستراتيجية المعتادة الآن، فإن حضور تلك المعارض - ليس فقط في فينيسيا وبازل ومدريد، لكن الآن في ساو باولو ودكار وشنغهاي - أضحى طريقة أخرى للتأكيد على التميز الاجتماعي للمتفرج (ومجرد التعرض الطفيف لثرثرة الساحة الفنية - في أغلب الأحيان نجدها تدور حول آخر المهرجانات الغريبة - سيؤكد ذلك).
في الفصول الأخيرة سنسبر أغوار الروابط التي تصل بين هذه العناصر المختلفة للفن منذ عام 1989؛ إذ قد ينظر إلى الحروب الثقافية في الولايات المتحدة باعتبارها مقدمة محلية للقضايا الأوسع نطاقا الخاصة بالاختلاط العالمي، وأنها نشأت نتيجة لنسق القوى نفسه: من ناحية، الاستهلاكية الليبرالية الملتزمة بتحطيم القيود على التجارة بمعناها الأوسع، ومن ناحية أخرى، القوى المحلية الخاصة بالتقاليد والدين والسلوك الأخلاقي. إن التجهيز في الفراغ (إذا نظرنا إليه من منظور شامل مرة أخرى) يقترن بالمشهد وبالمنافسة مع وسائل الاتصال الجماهيري. إن فن التجهيز في الفراغ المعاصر باهظ الكلفة ويعتمد عامة على الرعاية الخاصة والتمويل العام؛ ومن ثم فهو مرتبط بتدخل المؤسسات التجارية في الفن واستخدام المتاحف في أغراض تجارية، على نحو يتنافى مباشرة مع نشأته الأولى في مشروعات الفنانين بمبادرات خاصة، وهذا بدوره يتصل بالعلاقة بين العولمة والخصخصة التي تكون فيها خصخصة عالم الفن جزءا صغيرا ليس إلا، والتي تدفع المتاحف والمعارض نحو تقديم عروض مذهلة أكثر باستمرار. على نحو مماثل، يعد التكافل بين العناصر الراقية للثقافة الجماهيرية، والدافع إلى التعامل مع «الحياة الواقعية» (أي ثقافة المستهلك وشواغل وسائل الإعلام الجماهيرية) جزءا من الحافز نفسه.
مخافة أن يبدو هذا الكتاب مقسما على نحو منظم أكثر من اللازم، آمل أن يتضح فيما بعد أن هناك توترات وتناقضات هائلة بين هذه العناصر. وفي الفصول التالية عن العولمة، والعلاقة بالثقافة الجماهيرية، وتكلفة الفن واستخداماته، وسمات الفن وسمات الكتابة عنه، سنسبر أغوار هذه التناقضات. وفي النهاية، تأكيدا على ما هو بين، لا يمكن لكتاب بهذا الطول إلا أن يكون مقدمة فحسب، وقد اضطررت إلى الإقصاء أكثر من الإدراج بكثير. إن ذكر الفنانين والأعمال الفنية لا ينبغي أن يؤخذ على أنه يلمح إلى أي حكم على الجودة، بل إنه بالأحرى إشارة إلى أهميته المحورية في القضايا الجوهرية التي يتناولها الكتاب: تنظيم الفن ودمجه في النظام العالمي الجديد.
هوامش
الفصل الثاني
صفحه نامشخص
نظام عالمي جديد
دوريس سالسيدو فنانة كولومبية تصنع تماثيل من قطع أثاث كانت في السابق تنتمي لأشخاص «اختفوا» خلال الحرب الأهلية الطويلة في بلادها. خلال ذلك الصراع المرير، مولت الجبهتان - العصابات والحكومة - الحرب من خلال تجارة المخدرات، فيما مولت الولايات المتحدة الجيش الكولومبي ببذخ، رغم سجله الحافل بانتهاكات حقوق الإنسان. اختطفت الجماعات شبه العسكرية المتحالفة مع القوات الحكومية تحالفا وثيقا الأشخاص وقتلتهم دونما عقاب. في بعض من أعمال سالسيدو، نجد قطعة من الأثاث معشقة بعناية داخل قطعة أخرى، وفي أعمال أخرى، ما يبدو للوهلة الأولى أنه ألياف خشبية يتضح أنه شعر آدمي، تكون هذه التركيبات مملوءة بالأسمنت، والذي أحيانا يغمر أيضا جزئيا بابا أو طاولة مقلوبة رأسا على عقب. عند النظر إلى تلك القطع يتملكك شعور بالانغمار أو التلاشي البطيء للغاية، وكأنها رسم بياني لذكرى ذبلت نتيجة للعنف داخل الذهن، وقضى عليها الصمت والرقابة، ثم عادت غير مرغوب فيها في الأحلام والأفكار اللاإرادية، وفقدت على نحو قاس بالمثل تعريفها الدقيق مع مرور الوقت، وتراكمت ذكريات جديدة وذكريات عن ذكريات فوق القديمة.
إن كاتدرائية جايلز جيلبرت سكوت الإنجيلية بليفربول عبارة عن مبنى شاسع بجدران جرداء قوطية الطراز، وهي تقليدية في فخامتها وتصميمها المعماري، رغم أنها شيدت أثناء القرن الأخير. يتملكك وأنت تتجول داخلها حس قوي بالغرابة. يفكر الزوار: أين الزخارف التي تحمل الذاكرة التاريخية؟ وأين آثار انمحائها وتآكلها، وكذلك حالة الفوضى المألوفة التي تخلفها القرون؟ إلا أن هذه الكاتدرائية العتيقة جددت مؤخرا وتركت جرداء.
أقيم أول بينالي للفن المعاصر في ليفربول عام 1999، وضم مكونا دوليا، تحت عنوان «اقتفاء الأثر»، وأشرف عليه أنتوني بوند، ووضعت قطع الفن المعاصر في مواقع مختلفة حول المدينة، وظهرت أعمال سالسيدو في الكاتدرائية الإنجيلية. ماذا يمثل هذا الجمع؟ إن السبعين عاما التي مرت على تشييد الكاتدرائية شهدت حربين عالميتين، وظهور الراديكالية السياسية وزوالها في بريطانيا، وتراجع أهمية التصنيع، واكتساح العلمانية للمجتمع؛ فتولد المنتج المكتمل بحجم أكبر من المألوف داخل مدينة ناضبة من العمل والسكان والإيمان. إن عمل سالسيدو الفني - وهو محاولة دقيقة وشاقة لتبجيل الذاكرة - هو النظير المرئي لأعمال إدواردو جاليانو الفذة الخاصة باستعادة الذاكرة السياسية الجماعية في وجه القمع العنيف للاحتجاج كلمة أو فعلا في أغلب بلدان أمريكا اللاتينية. بصورة أكثر تحديدا، كما أوضح تشارلز ميرويزر، ينتقد تجميد الذكرى وكبحها التي يهدف الاختفاء إلى توليدها، فأهل المختفي الحزان ليس لديهم جثمان أو مقبرة أو حتى اليقين بأن حبيبهم توفي. من الناحية البصرية، تلاءمت أعمال سالسيدو الفنية جدا مع المساحات الشاسعة الجرداء بالكاتدرائية، فبدت الخزائن ككراسي اعتراف متحولة أو نعوش عملاقة. إن الغاية من الجمع بين الموقع والعمل الفني في مثل هذه المقاربة هو إثراء أحدهما الآخر، والمقاربة بين الثقافات على نحو مثمر، وتحفيز الفكر، والتزويد بلمحة عن تواريخ وثقافات أخرى. ورغم أن وضع أضرحة داخل كاتدرائية أمر ملائم، فقد بدا الجمع بينهما تضاديا؛ نظرا لأن الأنماط الطقسية للذكرى عند سالسيدو تعارضت مع شبح المذهب الإنجيلي، داخل مبنى شيد وكأن شيئا لم يتغير.
يعد العنوان «اقتفاء الأثر» موضوعا نمطيا لبينالي؛ نظرا لأنه يمكن أن يتسع ليشمل كل شيء تقريبا، ومن ثم لا يعني شيئا تقريبا. إن بينالي ليفربول هو فعالية شاملة تستوعب المعارض السنوية الأقدم، منها معرض نيو كونتمبراريز ومسابقة جون موريس للرسم. إن مدينة ليفربول ملائمة للغاية لمثل هذه الفعالية؛ مدينة تمتلئ بأحواض السفن، اعتمدت ثروتها العظيمة في السابق على التجارة، بما في ذلك تجارة الرق ، مثلت موقعا ملائما لفن يتدبر في أمر العولمة ووقائعها التاريخية. ونسيجها الحضاري المهترئ الآن به الكثير من المساحات الشاسعة الخالية لعرض الأعمال الفنية، ومناطقها المتهالكة، وجذول الأشجار العائمة التي تناسب التصورات الرومانسية، جاهزة للتحسين والتطوير. كل هذا يهيئ لبعض الفرص المثمرة والاستفزازية لعرض الأعمال الفنية، لا سيما أكياس البهارات المنتفخة لإرنستو نيتو المعلقة في معرض تيت، والتي تملأ فضاء المكان الذي كان في السابق مخزنا لتلك السلع بالفعل بالروائح. على نحو مماثل، قدم فيك مونيز في سلسلة «الأثر» أعمالا عاطفية ومعقدة حول أطفال الشوارع في مسقط رأسه ساو باولو، فقدم للأطفال نسخا من لوحات لفان دايك وإل جريكو وفيلاسكويز، وأقنعهم بتمثيل الأوضاع، ثم التقط لهم الصور الفوتوغرافية، ثم استخدم هذه الصور بعد ذلك كأساس لصور مفصلة مكونة من النفايات والقصاصات الملونة من النوع الذي يترك في الشوارع بعد مرور كرنفال، ومنها تظهر صور تخطيطية للأطفال محاطة بالسكر على نحو طيفي، ثم التقط صورا فوتوغرافية لها وعرض الصور الضخمة في المعرض. اكتسبت الصور التي عرضت في متحف تيت، الذي يحمل اسم أحد أقطاب تجارة السكر، بعدا آخر.
شكل 2-1: فيك مونيز، «الأثر» (أنجيلكا).
1
زعمت المقدمة في الكتالوج الخاص بمعرض «اقتفاء الأثر» أن هذا البينالي يعكس «النهضة المدنية الحالية» للمدينة، رغم أنه في عام 1999 كان ذلك مطمحا أكثر منه بيانا للواقع. كتب بوند أن توزيع معارض الفنون حول المدينة «يضمن أن الزوار سيكتشفون الطابع الثري لمدينة ليفربول فيما يشاهدون الأعمال الفنية.» من ثم صرح علانية بارتباط المناسبة بالسياحة، وبالطبع إن مشاهدة زوار المدينة للحدث الفني تتضمن الانتقال من مكان لآخر بوصفهم سياحا، والاستعانة باستمرار بالخرائط. كانت هناك سلسلة محيرة من الأعمال والأماكن، ونقص في المادة السياقية لكلتيهما، وفي ضوء أن مبادئ الحدث كانت مبهمة على أفضل تقدير، أصبحت التجربة بصورة أساسية ممارسة جمالية في رؤية العمل داخل سياق معماري، فيما عدا للأشخاص المطلعين للغاية على بواطن العالم الفني (الذي ربما أقيم لهم الحدث بصورة أساسية).
أدرج الكتالوج رعاة البينالي والمنظمات المساهمة، والتي اشتملت على شركات تجارية ومؤسسات أكاديمية محلية، وهيئات فنية، ومجالس الفنون القومية، والأجهزة الحكومية التي تدعم الثقافة في الخارج، مثل معهد جوته. كشف هذا المزيج عن نوع التحالفات الذي يولده أي بينالي: مؤسسات تجارية، كبيرة وصغيرة، ترغب في تعزيز شهرة علاماتها التجارية، وشعوب تدفع بمنتجاتها الثقافية، وكيانات إقليمية تأمل في تجديد نشاطها، وجامعات ترغب في رفع تقييماتها البحثية.
إن بينالي ليفربول لا يعدو كونه نموذجا واحدا لظاهرة آخذة في الانتشار أكثر فأكثر. وفي حين أن العالم الفني طالما كان أمميا؛ إلا أن نهاية الحرب الباردة - كما شاهدنا - قد تسببت في إعادة تنظيم ممارساته وعاداته. مثلما طاف المسئولون التنفيذيون بالشركات الكرة الأرضية بحثا عن أسواق جديدة، شرعت مجموعة من مشرفي المعارض الفنية الرحالة الدوليين في فعل الأمر نفسه، فيتنقلون من بينالي إلى آخر متعدد الجنسيات، من ساو باولو إلى فينيسيا إلى كوانج جو إلى سيدني وكاسل وهافانا. من بين تلك الأحداث الفنية في الدول النامية والشيوعية، كان بعضها يقام منذ مدة طويلة (على غرار بينالي ساو باولو الذي انطلق عام 1951، رغم أنه جرى تجديده وتمويله مؤخرا على نطاق أوسع) فيما كانت أحداث أخرى حديثة تماما. إليك بعضا من الأحداث الفنية الجديدة إلى جانب تواريخ انطلاقها: بينالي هافانا (1984)، بينالي الشارقة، الإمارات العربية المتحدة (1993)، معرض كوانج جو، كوريا الجنوبية (1995)، بينالي جوهانسبرج (1995)، بينالي شنغهاي (انطلق عام 1996، وفتح أبوابه أمام الفنانين الدوليين عام 2000)، وبينالي ميركوسور الذي يقام في بورتو أليجري بالبرازيل (1997)، معرض داكار، السنغال (1998)، بينالي بوسان، كوريا (1998)، بينالي برلين (1998)، وترينالي يوكوهاما (2001)، ومعرض براغ (2003).
صفحه نامشخص
سارة هي رؤية عالم الفن الشاملة لهذا التطور؛ فقد انهارت أخيرا مبادئ الحداثة الخطية، والفردية، والبيضاء، والذكورية، وحل محلها عدد هائل ومعقد من الممارسات والمخاطبات المتعددة والمتنوعة، والملونة. وردا على السؤال: «ما هي مقومات البينالي؟» أجابت روزا مارتينيز، أحد هؤلاء المشرفين الدوليين:
إن البينالي المثالي هو حدث سياسي وروحاني في الأساس؛ فهو يتأمل الحاضر برغبة في تغييره، كما يقول آرثر دانتو في تعريف أحبه للبينالي: «هو لمحة ليوتوبيا متعددة الجنسيات.»
إن الهدف من كل حدث، بصورة مثالية، إحداث تبادل لمعايير الفن المعولم الثمينة - عند فحص قوائم البيناليات نلاحظ تكرر نفس الأسماء باستمرار - نحو اتصال مثمر مع الفنانين المحليين والظروف المحلية. على نحو مثالي أيضا، ينبغي أن يفرز هذا مع الوقت مزيجا هجينا من الأنماط الفنية يأتي به أشخاص من خلفيات وارتباطات مختلفة على نطاق واسع، يعبر على المستوى الدولي والمحلي على حد سواء، ويملأ المساحات البينية وينتجها، والتي تقوض التكتلات المتماثلة - لا سيما الدولة القومية - التي تعتمد عليها السلطة.
وهذا مبدأ مثالي له دعم نظري قوي - لا سيما من كتابات هومي بهابها وستيوارت هول - عادة ما يذكر صراحة في المناسبات الفنية وفي المطبوعات المصاحبة، وقد ساهم في زيادة شهرة فنانين من شعوب لم تحقق في السابق هذا النجاح إلا في حالات استثنائية. يجلب هؤلاء الفنانون - من الصين أو كوبا أو روسيا أو جنوب أفريقيا أو كوريا، على سبيل المثال - إلى الساحة الفنية العالمية أصواتا ورؤى وأفكارا وأنماطا جديدة. إن حدة أعمال سالسيدو، والتي تأتي من تعاونها مع الأقارب الحزان للمختفين، بعيدة كل البعد عن القصص الخيالية للعنف غير الأصلية والمستوحاة من الإعلام كما في أعمال داميان هيرست، على سبيل المثال، أو الأخوين تشابمان، والمقارنة تجعلها تبدو مثيرة للسخرية قطعا. غيرت مثل هذه الأعمال المشهد الفني وتصدرت سلاسل المعارض الفنية. اضطرت «ثيرد تكست» - مجلة متخصصة تهدف إلى تعزيز وجهات نظر العالم الثالث حول الفن والثقافة وتحليلها - إلى تبديل غاياتها الأساسية من إظهار مثل هذا الفن والرأي إلى استكشاف ظروف نجاحه الكبير. على حد تعبير جين فيشر، فإن المشكلة الرئيسية لم تعد في التواري عن الأنظار، بل في تركيز الأنظار المفرط الذي حدث؛ لأن الاختلاف الثقافي أضحى سلعة يسهل ترويجها الآن.
يمكننا أخذ فكرة حول الشروط التي حدث هذا النجاح بناء عليها من خلال النظر تباعا إلى البيناليات، وبعض حالات الفن المتناقضة في مناطق مختلفة، ثم إلى وظيفة وأثر هذه الهوجة الجديدة من إنتاج الفن المعولم واستهلاكه.
إن العدد الهائل للبيناليات مدفوع بالقوى نفسها التي أدت إلى إنشاء هذا الكم الكبير من المتاحف الجديدة، وتوسعة القديمة وترميمها. تدرك الحكومات جيدا أن المدن تتنافس على المستوى العالمي مع بعضها بصفة متزايدة من أجل الحصول على الاستثمارات وإقامة المقرات الرئيسية للشركات بها وجذب السياحة. لا بد أن توفر المدن الأكثر نجاحا مجموعة واسعة من الفعاليات الثقافية والرياضية. والبينالي لا يعدو كونه سهما واحدا في جعبة سهام أية مدينة ترغب في أن تكون عالمية - أو مدينة تتطلع إلى تلك المكانة، كما في أغلب الأحوال - لاجتذاب فئة بعينها من السائحين (بعضهم فاحش الثراء) على أمل إمتاع هؤلاء المقيمين الذين لديهم حرية المغادرة.
في تصريح لمشرف المعارض الشهير، هوه آي هانرو، الذي جمع سلسلة من المعارض تستكشف المدن الآسيوية سريعة النمو والتغير، أوضح فيه اهتمام الساحة الفنية:
إن هذه المدن العالمية الجديدة تمثل قيام قوى اقتصادية وثقافية بل وسياسية جديدة تخلق نظاما عالميا جديدا ورؤى جديدة لكوكب الأرض. إن الشيء الأهم هو أنه مع تراث تلك المدن الخاص بها، أصبحت تلك المدن مساحات جديدة وأصلية يتسنى فيها التعمق في الرؤى والتفاهمات الجديدة للحداثة، واحتمالات جديدة لخيال «اليوتوبيا/الديستوبيا» وإعادة ابتكارها.
من ثم فإن تلك المعارض هي تأكيد ثقافي لقوى اقتصادية وسياسية جديدة، من بين الأمثلة على ذلك بينالي إسطنبول الذي يعد جزءا من جهود الحكومة التركية للتأكيد للاتحاد الأوروبي أن الشعب يمتثل بدرجة كافية للمعايير العلمانية والنيوليبرالية كي تضمن العضوية بالاتحاد. مثال آخر هو بينالي هافانا الذي يهدف إلى تقديم صورة أكثر لينا ومنفتحة ثقافيا للحكومة الكوبية بالتصديق على المعارضة في هذا الإطار الضيق.
للبينالي فائدتان أخريان تميزانه عن معرض لتكنولوجيا جديدة أو مباراة كرة قدم هامة. أولا: رغم كل الرفض الأكاديمي من جانب النقاد وواضعي النظريات، فإن الفن يحتفظ بمجد يسمو فوق الثقافة والترفيه المألوفين، وإشارات نحو العالمية من وجهات النظر العامة والمدنية، وهو في حد ذاته يؤدي الوظيفة نفسها لمدينة - في ظل التزاحم الفج لنيل مكانة في السوق العالمية - كما تفعل لوحة لبيكاسو معلقة فوق المدفأة لدى تنفيذي بشركة تبغ. ثانيا: إنه لا يجسد فضائل العولمة فحسب، بل يروج لها بفاعلية أيضا.
صفحه نامشخص
ثمة أحوال تتعارض فيها فوائد البينالي مع المبادئ المثالية التي من المفترض بها أن تجسدها. تأسس بينالي جوهانسبرج عام 1995، بعد فترة وجيزة من إجراء أول انتخابات حرة في جنوب أفريقيا عام 1994، كان الهدف إعادة ربط جنوب أفريقيا بالعالم الثقافي بعد سنوات من المقاطعة. في البينالي الأول نظمت سلسلة غاية في التنوع من المعارض في محاولة تصوير مدينة جوهانسبرج على أنها مدينة عالمية مكتملة الجوانب. تعرض الفنانون المحليون الذين سيعرضون نظرة مشكلة عن الأمة للإقصاء بصورة عامة، ورأى الكثيرون أن البينالي قدم صورة إيجابية مريبة عن المجتمع الجنوب أفريقي. وفي حين أن البينالي ضم مشرفين جنوب أفريقيين، إلا أنه تعرض لنقد كبير من جانب السكان المحليين لاعتباره غزوة أجنبية داخل مناطق معدمة ومقسمة لم تكن مستعدة على الإطلاق لذلك الحدث. تملكت توماس مكافيلي، من بين آخرين، الدهشة لإدراكه أن الحدث قاطعه كما يبدو جزء كبير من السود الذين نفروا من المغازلة الخانعة لساحة الفن العالمية.
في عام 1998، سعى البينالي الثاني - الذي أشرف عليه أكوي إنويزر وفريق دولي، وكان موضوعه «مسارات تجارية: التاريخ والجغرافيا» - إلى الاستجابة للانتقادات التي وجهت للبينالي الأول، فكان معرضا سياسيا تناول قضايا العرق والاستعمار والهجرة. مجددا، كان البينالي تجربة عولمية ضمت معارض تحت إشراف هوه هانرو وخيراردو موسكيرا، رغم أنه في هذه المرة أكد على الروابط بين بلدان الجنوب. ورغم التغيير في موضوع المعرض، والإشراف صارم التنظير، بدا في مثل هذا الإطار أن الصورة الفعلية للبينالي تعمل ضد نجاحه. هددت الأزمة المالية لمجلس مدينة جوهانسبرج الحدث وتسببت في إرجائه، ومجددا، تبرم الفنانون والنقاد المحليون من أن الإنتاج الأفريقي حل ثانيا لصالح شأن أممي يحمل هجينا عالميا، وأنه لحقه الضرر على وجه الخصوص نتيجة للاهتمام المنصب نحو فنون الميديا التي لا يملك خبرة بها - أو حتى الفرصة لاكتسابها - سوى عدد محدود من الفنانين المحليين. علاوة على ذلك، رؤي أن الأنماط القياسية للفن ما بعد المفاهيمي والفنون القائمة على التصوير الفوتوغرافي فرضت عنوة على الثقافة المحلية المتلاشية بأسلوب استعماري، فجاءت النتيجة متمثلة في تعذر وصول الجماهير المحلية له وابتعاده عن القضايا التي تشغلهم. عزز هذا التصور نقص أموال الدعاية والإعلان، نتيجة للأزمة المالية للمدينة مرة أخرى. شعر الزوار الأجانب للبينالي بالعزلة، وذلك في ظل مخاطر المدينة بالخارج؛ لذا لم يتدفق التبادل الثقافي في أي من الاتجاهين كما كان مخططا. جذب البينالي عددا أقل من المتوقع بكثير، وأنهى مجلس المدينة فعالياته قبل شهر من موعد انتهائه، وأعلنت المدينة بعد ذلك أنها لم يعد لديها أموال لإقامة بينالي آخر.
ما سبب هذا الإخفاق؟ تؤكد جين بودني أن البينالي كان يسعى إلى اجتذاب جمهور الطبقة المتوسطة (إما من البيض أو القطاع الأسود الصغير حينئذ) ممن لديهم اهتمام ضئيل بالمبادئ الثقافية المثالية للمعرض. إن مواجهة البينالي صعوبة في جذب جمهور محلي أمر لا يدعو إلى الدهشة؛ لأن الكثير من بيض جنوب أفريقيا حافظوا على الفصل العنصري على أرض الواقع ولم يتقبلوا معرضا عن العولمة متعددة الثقافات، في حين أن النخبة السوداء كانت لديها شواغل آنية أكثر، أما باقي أهل البلاد، فإن المعاهدة مع الغرب التي أسفرت عن نهاية سياسة الفصل العنصري، والتي تم الوصول إليها بتعهد بإدارة الاقتصاد تمشيا مع القيود العالمية المعهودة ومن ثم الحكم على أهل البلاد باستمرار الفقر؛ لم يكن في إمكانها الاحتفاء به دون مشاعر متناقضة.
حتى تلك المناسبات التي لاقت نجاحا حوت توترات مماثلة؛ ففي هافانا، جذبت البيناليات - التي تناولت الفن الكوبي وفن العالم الثالث - عددا كبيرا من الجماهير. ومع أن عامة الناس في مدينة هافانا يتمتعون بقدر أكبر كثيرا من الثقافة عن سكان المناطق العشوائية بجنوب أفريقيا، فهذا لا يعني أنهم حظوا باهتمام أفضل من قبل البينالي الذي بدا أنه أقيم في المقام الأول للأجانب. ترددت أقاويل عديدة عن أعمال وسائطية أوقف تشغيلها بعد الافتتاح، أو عن أماكن أغلقت قبل انتهاء البينالي. كتبت كوكو فوسكو عن إعادة هيكلة الفن الكوبي تحت الرعاية الأجنبية في بينالي هافانا 2000:
وصلت طائرات ممتلئة على آخرها بمشرفي معارض من أمريكا وأوروبا ... تم توجيههم إلى الاستديوهات المنتقاة وحفلات المشروبات الخاصة بهم دون غيرهم، وكذلك مرافقتهم إلى المعرض الرئيسي، وكان حدثا باهظ الكلفة للغاية بدرجة حالت دون حضور أغلب الكوبيين. وهناك، وعلى مدى بضع ساعات، شغل العديد من عروض الفيديو وأقيمت بعض الأحداث المباشرة للمتفرجين الأجانب فقط. لما وصل زوار آخرون في الأيام التالية كانت أجهزة عرض قليلة للغاية هي التي تعمل، هذا إن وجد أي منها من الأساس.
في عمل الفنان سانتياجو سييرا الذي عرض في بينالي هافانا لعام 2000 بعنوان «سانتياجو سييرا يدعوك لمشروب»، يوجه الفنان نقدا لاذعا للعلاقات المحتملة للسلطة والاستغلال بين سياح الفنون وأهل البلاد عن طريق تقديم المال للعاهرات وتخبئتهن في الصناديق التي وضعت كمقاعد لرواد الحفل.
شكل 2-2: سانتياجو سييرا، «وشم خطي طوله 160 سم على أربع سيدات».
2
تنزع البيناليات إلى مخاطبة جمهور الفن العالمي أكثر من السكان المحليين. ورثت تلك المناسبات بنيتها من نموذج المعارض الفنية أو التجارية الدولية التي تتنافس فيها الشعوب للدفع بأبرز سلعها الثقافية، في حين أن الكثير من البيناليات ابتعدت عن التجسيد المادي لهذه المنافسة في المعارض الفنية القومية، فأحيانا ما تبقى أجواء المنافسة القومية. علاوة على ذلك، فإن مشرفي تلك المعارض المتخصصين الرحالة هم صنيعة النظام الفني العالمي، وبالطبع هم يصغون إلى الأصوات المحلية ويتشاورون معها ويقدمونها، بيد أن «علة وجودهم» والبيئة التي يتحركون فيها عالمية ومختلطة. كتبت كارول بيكر في تحليل نقدي عن دور المشرف الذي يجوب العالم:
البعض ممن يجوب مثل هذا العالم الراقي للفن والثقافة والكتابة والإنتاج والمعارض يبدون الآن أنهم يستجيبون للساحة الفنية فحسب، ورغم أن العمل يبدو أنه مدفوع اجتماعيا، فإن النتيجة الحقيقية الوحيدة لهذا الجهد النقدي تتمثل في درجة إيجاد عالم الفن للعمل مقبولا أم غير مقبول أم استثنائيا، وهو الأمر الذي يقاس بقدر التقييمات التي يحظى بها العمل، من حيث جودة الوثائق والسجلات التي يولدها، والمبيعات التي يحققها في نهاية المطاف.
صفحه نامشخص
إن انتقاء المادة المحلية عبر النظام الفني يفرز في النهاية التماثل. هذا النظام - ليس فقط الإشراف، بل مصالح كافة الهيئات، الخاصة والعامة أيضا، التي تشكل التحالفات التي تتمحور حولها البيناليات - ينزع إلى إنتاج فن يخاطب الاهتمامات الدولية. بصورة أدق، هو يعزز القيم النيوليبرالية، لا سيما تلك الخاصة بحركة القوى العاملة والفضائل ذات الصلة بالتعددية الثقافية.
من بين الأمثلة البارزة عمل ألفريدو جار، «مليون جواز سفر فنلندي»، الذي عرضه في مهرجان الفنون الدولي إيه آر إس 95 بمتحف الفن المعاصر في هلسنكي. صنع جار نسخا معدلة على نحو طفيف لمليون جواز سفر فنلندي ونظمها في كتلة هائلة تذكرنا بالبنى التبسيطية، ووضعها خلف لوح زجاجي. كانت جوازات السفر ترمز إلى تلك الجوازات التي كان من الممكن أن تمنح إلى المهاجرين في حال سمحت الحكومة الفنلندية بالهجرة بنفس المعدل الموجود في باقي القارة الأوروبية، وبسبب إصرار سلطات الهجرة الفنلندية، دمر عمل جار في وقت لاحق.
كان هذا العمل مثالا نموذجيا للإنتاج الفني المعولم بطرق عديدة، فقد استخدم حرفيا كلا من المادة المحلية واللغة العالمية للفن المعاصر، كما استجاب للقضايا السياسية المحلية وعلق عليها. وهو في فعله ذلك انحاز لمصالح رأس المال العالمي على حساب الاهتمامات المحلية؛ إذ تمثلت رسالة العمل في أن حق الأشخاص في التوطين لا بد وأن يتجاوز أية قرارات قومية، حتى تلك التي تم التوصل إليها بطريقة ديمقراطية، وذلك لحماية التجانس والترابط الاجتماعي.
سنعود إلى هذا الموضوع مرة أخرى، وكذلك إلى التأثير المجانس للنظام الفني العالمي، لكن كي نؤكد أولا على تنوعه، نود مناقشة زوجين من الحالات المتناقضة: الأنماط المختلفة للأعمال الفنية التي خرجت نتيجة لصدمة الاحتكاك بالقوى الاقتصادية النيوليبرالية، في روسيا والدول الإسكندنافية؛ ثم الأعمال الفنية من دولتين أبقتا على الحكومات الشيوعية؛ الصين وكوبا.
روسيا والدول الإسكندنافية
إبان تسعينيات القرن العشرين، كانت روسيا والدول الإسكندنافية دولا حديثة التعرض للضغوط السوقية القصوى. في روسيا، أوعز خبراء الاقتصاد النيوليبراليون من الغرب للحكومة بأن التعرض السريع والحاد للسوق - «العلاج بالصدمة» - سيثبت أنه قاس على المدى القصير ، إلا أنه سيسفر عن ثراء سريع. أضحى عدد ضئيل من الروس فاحش الثراء، لكن النتائج على الشعب ككل كانت كارثية، مع انهيار أكثر الخدمات الأساسية، وتفشي الجريمة، وانخفاض متوسط العمر المتوقع، وانتشار الفقر المدقع على نطاق واسع.
وبدافع من هذه الكارثة، حازت الأعمال الفنية القادمة من روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة اهتماما واسعا؛ إذ قدمت شظايا الانحطاط الاجتماعي لإدخال السرور إلى قلوب الجماهير في الغرب. وأضحى «فن الواقع» فنا مطلوبا، من خلال الأفلام الوثائقية والتصوير الفوتوغرافي والفن الأدائي وفن التجهيز في الفراغ. كان تقديم مثل تلك العناصر الأولية للفن الواقعي مرتبطا بالصدمة (كما يمكن أن يتوقع المرء من وصف هال فوستر بالغ الأثر عن فن حقبة التسعينيات: «عودة الفن الواقعي»)، وعلى وجه التحديد بالأثر المسجل جماعيا للعلاج بالصدمة الاقتصادية.
صنع بوريس ميخايلوف سلسلة من الصور الفوتوغرافية التي يقدم فيها المال لأشخاص مشردين لاتخاذ وضعيات معينة وتعرية أنفسهم أمام الكاميرا، مسلطا الضوء على الاضطهاد المضمن في تقديم الجسد مقابل المال (وهو يقترب في هذه النقطة من سانتياجو سييرا الذي دفع المال أيضا لأشخاص ليفعلوا أشياء مذلة مختلفة ولتعرية أجسادهم). يحاكي بوريس ميخايلوف في صور «قريبا من الأرض» (1991) و«عند الغسق» (1993) مظهر صور أوائل القرن العشرين مصورا الحياة في شوارع أوكرانيا، ويركز مرة أخرى على العديد من قاطني الشوارع، لكنه أيضا يركز على أولئك الذين لديهم منازل لكن بالكاد يستطيعون البقاء على قيد الحياة.
شكل 2-3: بوريس ميخايلوف، «سلسلة عند الغسق».
3
صفحه نامشخص
إن الموضوع إلى جانب الأسلوب استحضرا عصر ما قبل الثورة، وهنا يكمن تماثل مرئي فعال مع الشعور الذي تملك العديد من أفراد مجتمع ما بعد الاتحاد السوفييتي عن التاريخ والتقدم بعد انتكاسهما، وذلك بعد أن تمخضت الرأسمالية التي كان من المفترض أن تنقلهم إلى حاضر استهلاكي ثري عن تراكم لأطر زمنية، دافعة بذلك أغلبية الشعب نحو الفقر المدقع الذي ساد عصور القياصرة في روسيا.
شكل 2-4: سيرجي بوجايف أفريكا، «إم آي آر: صنع في القرن العشرين».
4
مثل سيرجي بوجايف أفريكا روسيا في بينالي فينيسيا عام 1999 بتجهيز أطلق عليه «إم آي آر: صنع في القرن العشرين». رأيت ذلك العمل الواعد متعدد الوسائط في نيويورك، حيث كانت أرضية المعرض وجدرانه مغطاة ببلاط قصديري يحمل صورا دعائية للحياة أيام الاتحاد السوفييتي، وقد طبعت أيضا لتبدو وكأنها قديمة من عشرات السنين. كانت الأرضية المعدنية تنبعج عند السير فوقها، وكانت الصور الفوتوغرافية تحمل سمة الرسومات الطفولية الموجودة فوق علب البسكويت، وفي منتصف الغرفة توجد كرة معدنية ضخمة تحوي داخلها مقطع فيديو لرجل مقيد بجهاز كهربائي يصرخ ويعض على رباط في ألم. بدا الفيلم أنه مقطع فيديو مكتشف، لكن يمكن تزييفه. كانت ردة فعلي المباشرة على العمل الفني - لأنه في معرض تجاري - أن ظننت أن مقطع الفيديو هو مقطع أدائي، إلا أن الفيديو في حقيقة الأمر نسخ من فيلم وثائقي عن شخص أجبر على خوض علاج بالصدمة الكهربائية، وما كنا نشاهده - نحن جمهورا كيسا نحمل كئوس الخمر بين أيدينا - كان مشهدا حقيقيا لتدمير العقل. سعت قطعة أفريكا الفنية إلى الجمع بين الصدمة النفسية والاجتماعية، في سبيل إماطة اللثام عن القمع المؤلم والوحشي الذي ينطوي عليه النظام الذي صور نفسه بالسماح والبطولة في صوره الفوتوغرافية، وطرح تلك الأوصاف القديمة والحنينية ربما أمام تدمير الذاكرة.
صنع أفريكا بعد ذلك عملا، كان مثارا لجدل أوسع، مستوحى من فيلم وثائقي عن ذبح دورية روسية على يد متمردين شيشان. إن المثالين السابقين يدلان على أهمية فن ما بعد الاتحاد السوفييتي الواقعي في الساحة الفنية الغربية، ربما تجلى في الصور الفوتوغرافية والأفلام، مع تلاشي كافة دروس ما بعد الحداثة القديمة عن التمثيل من الذاكرة، لكن مع ذلك اعتبرت أنها واقعية. وربما نراه في أداء معبر، كما في المشهد الأدائي «الكلب» لأوليغ كوليك، والذي ينقض فيه الفنان العاري على الجمهور محاولا عضهم، وكأنه إنسان تحول إلى كلب، في تمثيل واقعي على ما يبدو لخسة الروس وانحطاطهم.
إن انجذاب الجمهور الغربي لمثل هذه الأعمال الفنية واضح وضوح الشمس؛ فهي مزيج مدهش من الرأسمالية المزدهرة (بارونات لصوص ومدعين ، أو - بعبارة أخرى - محتالين وقتلة على نطاق واسع)، ومن المولد المفاجئ لعالم ثالث أوروبي أبيض، ومن قصة انهيار إمبراطورية «فاسدة» وعدو منهزم (قصة ممتعة لليبراليين والمحافظين على حد سواء)، ومن أيديولوجية أضحت جزءا من الماضي. إن الروسنة التي تنطوي الآن على كل هذا، تظهر على أفضل نحو عندما تعرض على الملأ.
لكن ما قد يصعب على الجمهور الغربي استيعابه هو كيف أن تلك الأعمال الفنية لا تصور بالضرورة الاختلاف الغريب للروح السلافية، أو حتى التاريخ السوفييتي، لكنها تشير بالأحرى إلى الحاضر الرأسمالي. إن عمل ميخايلوف الفني هو عن نتائج الرأسمالية الجامحة التي أضحى فيها كل شيء للبيع ليس إلا، وعمل كوليك «الكلب» هو بالتأكيد نسخة محدثة لقصة بولجاكوف «قلب كلب»، والتي يخضع فيها كلب لعملية جراحية بحيث يأخذ هيئة بشرية، وينجح في العيش بفضل غرائزه الأساسية في المجتمع السوفييتي في عشرينيات القرن العشرين. إلا أن المجتمع الذي تفحصه بولجاكوف تفحصا دقيقا كان يمر بتراجع منهجي من محاولة لإثارة شيوعية ثورية كلية، وكان يستخدم معايير السوق الحرة لتحفيز الاقتصاد مؤقتا؛ إذ ظهرت في فترة «السياسة الاقتصادية الجديدة» طبقة من الأثرياء الجدد ممن يتباهون بثرواتهم التي اكتسبوها بطرق مشبوهة في الغالب. بعبارة أخرى، كان صورة أكثر اعتدالا لروسيا اليوم.
على النقيض من ذلك اضطرت الاقتصاديات الديمقراطية الاشتراكية الفاعلة للدول الإسكندنافية فجأة إلى أن تسلك اتجاها نيوليبراليا خلال التسعينيات عن طريق إلغاء تنظيم الأسواق المالية والتخلي عن ضوابط سوق صرف العملات. ساءت الأوضاع أكثر مع ركود أوائل التسعينيات، وهو الأمر الذي أجبر الحكومات الإسكندنافية جزئيا على تفكيك البرامج الاجتماعية الخاصة بالصحة والرعاية الاجتماعية، والتي طالما اعتبرها المواطنون أمرا مسلما به. ارتفعت البطالة - التي كانت شيئا مستجدا غير مرحب به - مع انهيار النشاط التصنيعي. بدأت الهجرة الجماعية في تغيير ما كان في السابق مجتمعات منغلقة ومتجانسة تماما.
كانت الحداثة والديمقراطية الاشتراكية في الدول الإسكندنافية، كما في غيرها، مرتبطتين بقوة. ومثلما تخطت الديمقراطية الاشتراكية على مدى طويل القوى النيوليبرالية واليمينية والتي ألقت بظلالها على كثير من باقي دول العالم منذ أواخر السبعينيات فصاعدا، نجحت حداثة بنيوية ونقية في البقاء على الساحة الفنية الإسكندنافية. أدى الركود وتبعاته إلى تحول في دور الفن من التصميم المنفعي وتأسيس مشروعات بنيوية مثالية إلى النقد الصريح. قدمت الحكومات الديمقراطية الاشتراكية الدعم المالي للفنون، وجعلت الفنانين أشخاصا مطلعين ذوي نفوذ، بطريقة من الصعب إنكارها، مثلما فعل الكثير في بلدان أخرى. استمر هذا التوجه حتى في الفترات النيوليبرالية، حتى مع شروع الفنانين في أعمال معادية للمجتمع. ضمت مجموعة من كتابات الفنانين الإسكندنافيين - حملت العنوان اللاذع «كلنا عاديون (ونريد حريتنا)» - فقرة عبرت عن الأمر جيدا: «يبدو أن الفنان يؤدي دور المؤشر على قدر الحرية في المجتمع الإسكندنافي، وبقدر رفض الفنان للمجتمع - كما هو الدور التقليدي للفنان - يتأكد هذا الدور.»
إن ذلك النقد، الذي تطلبه النظام الجديد، يتوافق عن كثب مع الخطاب الليبرالي الذي صاحب النيوليبرالية. لا تحقق المقاومة المحلية أو القومية للاقتصاد والمجتمع النيوليبرالي سوى القليل من التعبير الثقافي في المجال الفني العالمي، وهذا من شأنه زيادة الشكوك حول احتمال أن الفن قد لعب دورا (ثانويا على نحو لا يمكن إنكاره) في الدعاية، ليس لسياسات الهوية فحسب، بل أيضا للنيوليبرالية نفسها.
صفحه نامشخص
إن تصادم تلك المجتمعات التي تتمتع بقدر وافر من الحماية مع القوى الاقتصادية القاسية أثمر عن فيض لامع ومتنوع من الجزيئات الثقافية التي لم تر من قبل، ونتيجة لذلك، وصل الفن الإسكندنافي المعاصر إلى محور الاهتمام العالمي، جنبا إلى جنب مع الموسيقى والسينما الإسكندنافية. انعكست تبعات الوضع الجديد بوضوح في معرض «حرية التنظيم: الفن الإسكندنافي في التسعينيات» عام 2000، كما ذكر ديفيد إليوت - مشرف المعرض - في الدليل الخاص بالمعرض، أن هؤلاء الفنانين «يبدو أنهم غاضبون للغاية» حيال شيء ما، ولديهم مشكلات مع المعمار العقلاني، والأحلام اليوتوبية، والمثالية، والهندسة الاجتماعية (من بين أشياء أخرى). استخدم جاكوب كولدينج الأشكال النيوية في تجميعات الصور الخاصة به، واضعا رؤى قديمة وراديكالية عن فقدان الاتجاه الشديد (كما يمكن أن نراها في أعمال الطليعيين الثوريين الروس) أمام التخطيط المجتمعي والمعمار المنظم على نحو رفيع اللذين كانا نتاجها الإسكندنافي. ترعرع كولدينج في أحد أحياء كوبنهاجن النموذجية والذي كانت الشوارع فيه آمنة للمشاة، والمحال التجارية والمدارس ورياض الأطفال والعيادات الطبية في المتناول. وهذا، كما لنا أن نفترض، هو مصير مروع، ومما لا شك فيه أنه كان كذلك حتى أغلقت تلك المرافق.
إن «الإنسان» الحداثي العالمي صاحب الاحتياجات الأساسية تمزق إلى شظايا من المصالح المتنافسة والهويات العدوانية. صورت ميريام باكستروم التصميمات الداخلية للمعرض بمتحف شركة إيكيا: سلسلة من المساحات الضيقة والعقيمة. إن شركة إيكيا لها مهمة حداثية تنادي بالمساواة بين البشر والديمقراطية، وهي التطوير العقلاني والاقتصادي والتدريجي للمساحة الداخلية. وترى باكستروم، شأنها شأن باقي الفنانين الإسكندنافيين المعاصرين، أثر الحداثة باعتباره شيئا يثير رهاب الاحتجاز. من السهل تخيل السكان المثاليين الغائبين لتلك المساحات الداخلية، شخصيات راضية متأنية وعقلانية تجلس في المنزل في تجانس. على النقيض من ذلك، يفضح الفنانون خبايا تلك الثقافة العقلانية باستمتاع، ويسلطون الضوء على المشكلات المحيطة بدخول المهاجرين من ثقافات أخرى، ويحتفون بمزاعم العناصر الكثيرة لسياسات الهوية. سافر بيارن ميلجارد - وهو فنان يتناول في أعماله المثلية الجنسية - في رحلة إلى تاهيتي، وما إن وصل إلى هناك حتى استمنى فوق قبر جوجان. إن شبح الحداثة يطارد الدول الإسكندنافية (لم يمر سوى وقت قليل على جنازتها) ويطلب طرد الأرواح الشريرة باستمرار، ولا يزال الكثير من الفنانين منشغلين بدق غطاء التابوت.
مع ذلك، إن الدرب الذي تسير فيه هذه الديمقراطيات الاشتراكية واضح للغاية، بالنظر إلى ظروف الحياة الديمقراطية بمناطق أخرى. يفحص مشروع مانس رانجي «المواطن العادي» الظروف الجديدة التي تحولت فيها السلطة من عامة مشكلة سياسيا إلى أولئك الأشخاص الذين يتلاعبون بالرأي العام والعملية السياسية باحتراف. يتناول المشروع مفهوم المواطن العادي كما شكلته حالة الرفاهية الاجتماعية بالسويد، وبعد أن عين مواطنة عادية حسب الإحصائيات واستجوبها عن آرائها السياسية مستخدما أدوات احترافية من ضمنها أفراد جماعات الضغط السياسي لتطوير اهتماماتها، وصلت آراؤها إلى عامة الناس في الخطب السياسية ووسائل الإعلام الجماهيرية. واستخدمت الاقتراعات لاختبار فاعلية هذه الاستراتيجيات، وقد حدثت أكثر التدخلات فاعلية عندما ذكرت آراء المواطنة على لسان إحدى الشخصيات بمسلسل تلفزيوني شهير. إن هذا العمل الممتع على نحو لاذع يضع التغير في الحياة العامة محل دراسة، متهكما على كل من التشبث القديم بالوسيلة الإنسانية، وفساد النظام الجديد، هذا إضافة إلى إيحائه بأن تشظي الكيان الاجتماعي تحت وطأة ضغوط الركود الاقتصادي والاختلاف الثقافي لعب دورا في فتح السياسة أمام تلاعب المجموعات المتنافسة، والتي تكون أقواها هي أثراها.
يطلعنا ديفيد ماكنيل في مقالة رائعة عن الفن والعولمة، على حادثة شهيرة بمعرض «الإنتربول» الذي أقيم في ستوكهولم عام 1996، والذي جمع شباب الفنانين من السويد وروسيا ممن كان مفترضا بهم أن يتعاونوا معا. ومع تطور المعرض، أضيف فنانون من دول مختلفة، وصنع الفنان الصيني جو ويندا، دون الإشارة إلى أي فنان آخر، بجهد جهيد نفقا من الشعر الآدمي المجدول. وعند افتتاح المعرض، مزق ألكسندر برينر - وهو فنان أدائي روسي - النفق تمزيقا بمنجل. استدعيت الشرطة وألقي القبض على كوليك وهو متقمص دور الكلب وحاول عض طفل، لكن برينر لاذ بالفرار، في حين أن جو ويندا اعتبر تدمير عمله إحباطا مستوحى من الحركة الدادية، وهو سلوك نمطي لروسيا المتردية والفوضوية، فما أثار ثائرة برينر ليس فقط ما اعتبره معاملة سيئة لبعثة أوروبا الشرقية على يد المشرفين الغربيين، لكن أيضا إضعاف الفكرة الأصلية للمعرض وتحويله إلى تجمع عالمي نمطي لإبداء مشاعر المحبة والصداقة. ما يلي تصريحه الخاص حول فعلته:
في اليوم التالي عقد مؤتمر صحفي لقبت فيه بالفاشي، كلا يا أعزائي، لا أوافقكم الرأي. في هذا المعرض كنت الشخص الديمقراطي الوحيد الذي أعلن صراحة موقفه وأظهر خلافه مع المنظمين. إنها الديمقراطية الراديكالية على أرض الواقع! المحاكاة والابتذال النيوليبرالي تحديدا!
كوبا والصين
إن الفن القادم من الأمم الشيوعية في عصر النظام العالمي الجديد له جاذبية مختلفة عن ذلك الخاص بالدول التي مرت بالتحول من الشيوعية مثل روسيا. نجحت كل من كوبا والصين حتى الآن في البقاء في ظل النظام العالمي الجديد بطرق مختلفة للغاية دائما. خرج من كلا البلدين أنماط معقدة ومختلفة من الفن، ولا يسعني هنا سوى التحدث بإيجاز عن بعض الأمثلة القليلة التي حققت نجاحا على المستوى العالمي.
بدأت أعمال متنوعة ابتعدت عن مبادئ الواقعية الاشتراكية في الظهور في الصين في أعقاب نهاية الثورة الثقافية؛ ارتبط بعضها بالموضوعات الدينية، فيما أثارت أخرى النزعة الإنسانية الماركسية، والبعض الآخر (منذ أواخر الثمانينيات فصاعدا) تناول الثقافة الاستهلاكية الجديدة سريعة النمو. تحول الاهتمام العالمي نحو الفن الصيني على المدى القصير نتيجة لمذبحة المنشقين عن النظام في ميدان السلام السماوي في يونيو عام 1989، والتي أدت إلى التركيز على الفنانين الذين يمكن فهم أعمالهم على أنها معارضة. عزز الاهتمام العالمي طويل الأمد الظهور الفائق للأسواق المنظمة في الصين والتوليد السريع للثروات الهائلة وانعدام المساواة، هذا إلى جانب وجود تحسن متوسط ملحوظ في مستويات المعيشة لمعظم أفراد الشعب، ونشأة مجموعة واسعة من المستهلكين (على النقيض من روسيا).
حدد جاو مينجلو النزعات الفنية التي أعقبت هذه التغيرات المثيرة، وأشار إلى أنه بحلول عام 1988، مع تسارع وتيرة التطور الرأسمالي في الصين، اتجه الفنانون (من ضمنهم وانج جوانجي) ممن أبدوا اهتماما بالموضوعات الإنسانية والروحانية الجليلة إلى نسيانها لصالح نقد اجتماعي أكثر صراحة. دعا وانج إلى وضع حد للحماسة للحركة الإنسانية، موضحا أن الفن ما وجد إلا ليحقق النجاح في عالم الإعلام وفي السوق فقط. تجلى أحد العناصر المهمة في هذا التوجه الجديد في العودة إلى تمثيل ماو، لكن على نحو معدل ليتناسب والمناخ الثقافي والسياسي الجديد جيدا؛ فظهر تمثيل لماو من عدسة الفن الشعبي، في صورة رديئة ومزعجة في الوقت نفسه.
مما لا شك فيه أن وضع كوبا مختلف للغاية، بحكم أنها جزيرة صغيرة تقع بالقرب من الولايات المتحدة المعادية التي تستمر في فرض الحظر التجاري عليها، بل وتزيد من وطأته، وتهدد بما هو أسوأ. إن العلاقات مع أفراد الشعب الكوبي المنفي مضطربة وخطيرة أيضا؛ فقد تلقى خيراردو موسكيرا - وهو مشرف معارض ومؤرخ وناقد مشهور لفن أمريكا اللاتينية - دعوة للتحدث في مركز ميامي للفنون الجميلة عام 1996 لكن سحبت الدعوة؛ وذلك نظرا لحقيقة أنه يقيم في كوبا، وهذا يجعله غير مرغوب فيه لدى الجمهور المحتمل، كذلك تعرض المتحف الكوبي للفن والثقافة في ميامي للتفجير مرتين لعرضه لفنانين كوبيين مقيمين فيها. لكن من ناحية أخرى، تتوافق كوبا توافقا جيدا مع الوضع المعولم الجديد نتيجة لمزيجها الثقافي والعرقي، والتكوين المتناغم نسبيا من العناصر الأفريقية والأوروبية والأمريكية.
صفحه نامشخص
كانت ردة الفعل الأولى لنظام الحكم جراء انهيار شيوعية أوروبا الشرقية، والتوقف المفاجئ للإعانات السوفييتية، قمع الحرية الفنية؛ إذ أغلقت المعارض الطليعية، وأقيل الوزير الذي أجازها، وسجن أنجيل ديلجادو الذي تغوط علانية على نسخة من صحيفة الحزب الشيوعي الرسمية «جرانما». وردا على ذلك، هاجر في أوائل التسعينيات معظم الفنانين الطليعيين الذين ظهروا في الثمانينيات.
منذ ذلك الحين - كما يروي موسكيرا - صب التركيز الدولي على حقوق الإنسان المقترن بانتعاش اقتصاد السوق والبحث عن الاستثمار الأجنبي في صالح الانفتاح الثقافي. كان جيل التسعينيات من الفنانين الكوبيين الناجحين هو الجيل الأول الذي ظل في كوبا بعد أن سمح لهم بالسفر، والأهم من ذلك، بيع أعمالهم بالدولار؛ مما مكن العديد منهم من التمتع بحياة كريمة للغاية. كذلك أجيز النقد المخفف والمتفق عليه، وأحيانا ما كانت الأعمال تناقش مع المراقبين. كتب موسكيرا: «تكمن الخطورة في أن هذا العنصر الحيوي ربما يصير نمطيا باعتباره ميزة جذابة للتصدير. لقد أصبح النقد السياسي ميزة بيع مغرية لهواة الجمع والمعارض الأجنبية.»
لا تزال وسائل الإعلام الجماهيرية تخضع للرقابة في كوبا، بيد أن الفنانين مباحة لهم حرية محدودة لانتقاد نظام الحكم، وهذه محاولة تشكيل قانونية للبنى الفعلية في الغرب التي تكفل تعزيز وسائل الإعلام الجماهيرية للتوجه السياسي السائد (لطالما كان ذلك موضوع تحليل لنعوم تشومسكي)، وكما في كوبا فإن الفن السياسي الراديكالي هو الأعلى احتمالا أن يعرض في البيناليات.
في كل من كوبا والصين، أنتج الفن الترويجي لمزيج الرأسمالية-الشيوعية، ويمكن للمرء مقارنة أعمال وانج جوانجي وخوسيه آنخيل تويراك اللذين صنعا صورا لماو وكاسترو على التوالي ، تتداخل فيها مواد إعلانية تجارية.
شكل 2-5: خوسيه آنخيل تويراك، «أوبسيشن»، من سلسلة «أوقات جديدة».
5
ظهرت صورة كاسترو في تمثيلات الفن الشعبي، شأنه شأن ماو في الصين، فقد أظهر خوسيه آنخيل تويراك كاسترو في إعلان عطر أوبسيشن (هاجس) من كالفن كلاين، ويقصد بالهاجس هنا إصرار الولايات المتحدة على إبعاده. كذلك عندما ظهر كاسترو وهو يدخن سيجارة ويمتطي فرسا في إعلان مارلبورو من تصميم تويراك، أصبح من الجلي أي مغزى يرمز إليه عنوان السلسلة «أوقات جديدة». كما أعاد تقديم صور وثائقية شهيرة للثورة مستعينا بأصدقائه، مؤكدا على السمة البلاغية للصورة الأصلية.
إن أوجه التشابه هذه لا ينبغي أن تثير الدهشة؛ إذ إن الحكومتين الصينية والكوبية أرختا قبضتيهما على اقتصاد البلاد، وأجازتا المشروعات الخاصة المحدودة، وكان عليهما بالضرورة تغيير لغة الخطاب في غضون ذلك؛ مما سمح بتسلل نماذج متنافسة للدعاية التجارية إلى الساحة؛ لذا انهالت دعاية الحكومة ودعاية المؤسسات التجارية على كلا الشعبين، تسعى كل واحدة جاهدة لإقناع الشعب بتفرد منتجاتها. أما في الغرب، فتمثل هذه الأعمال على نحو جميل دور سجلات تشهد على تضاؤل عدوين بعثا في السابق على الخوف وأيديولوجيات إلى صورة فحسب، وكذا أمثلة على الاختلاط الثقافي. إن الموقف المطمئن تجاه الشيوعية الموجودة فعليا سمح بإدماج رموزها داخل الثقافة المعاصرة دون أدنى خوف من خطر يعدو ظهور وجه تشي جيفارا على تي شيرت.
شكل 2-6: وانج جوانجي، «سلسلة الرأسمالية العظمى: كوكا كولا».
6
صفحه نامشخص
ثمة تشابهات أخرى. فقد وصف الناقد لي شاينتينج الطليعيين الجدد بأنهم «معادون للعقلانية والمثالية، مناهضون للميتافيزيقا والبطولة»، وبالتالي باعتبارهم بعد حداثيين. بالمثل في كوبا، يقتبس يوخينيو فالديز فيجيروا عبارة على غرار البيانات الرسمية لمعرض فني بديل بهافانا - إسباسيو أجلوتينادور:
احتمالات الخطأ لا نهائية.
إذا كان هناك شيء يتجنبه معرض «أجلوتنادور» تجنبا تاما فهو الاتساق، «صلاح» الضمير المثير للضجر والاشمئزاز.
إن أعمالا مثل طائرات الفنان تاتلين الشراعية ولكن بجسد أنثى من تصميم تانيا بروجيرا - والتي تقدم البنيوية الروسية بمواد رقيقة وشفافة - هي نموذج على هذا النفور من الترابط؛ فهي تأتي بمجموعتين من المصطلحات المتقابلة داخل شكل نحتي واحد، مزجت فيه الذكوري مع الأنثوي، والهندسة مع الحياكة، والبناء اليوتوبي مع البناء العشوائي في مجسم صغير ينعكس على نحو بارز على كل مجموعة من المصطلحات. وكما المألوف في عالم الفن المعاصر، يخلو العمل من أي تركيب أو وضوح.
في كلا البلدين، تعبر الأعمال الفنية الأكثر نجاحا بالمحافل العالمية صراحة عن الطبيعة الصينية أو الكوبية أمام الجمهور الغربي، ومع الإنتاج الفني الكوبي الأكثر شهرة، على سبيل المثال في أعمال كاتشو ولوس كاربينتيروس، ثمة عنصر قوي للإنتاج منخفض التكنولوجيا، والابتكار الإبداعي بمواد مجمعة ببطء وعناية، واستخدام المهارات اليدوية القديمة، ومن المؤكد أن جزءا من هذا الأمر من منطلق الضرورة، لكنه أيضا تلبية لتوقعات الغرب عن كوبا. ويستخدم اثنان من بين أكثر مصدري الأعمال الفنية الصينية فاعلية - جو ويندا وشو بينج (يقيم كلاهما الآن في الولايات المتحدة) - فن الخط الصيني كوسيلة رئيسية للتعبير. بصورة أشمل، إن معايير الاندماج واضحة للغاية؛ إذ يجب أن يعكس العمل الفني الأحوال الصينية المعروفة جيدا والتي تمثل محور اهتمام لدى الغرب، على غرار القمع السياسي والنمو الاقتصادي والنزعة الاستهلاكية، وإخضاع المرأة، وتحديد حجم الأسرة. إن هذه الشئون «الصينية» بشكل واضح يجب أن يجري التعبير عنها في أساليب غربية معاصرة مميزة لإنتاج عمل مهجن بوضوح.
اتضح هذا الأمر لي بجلاء حال رؤيتي مجموعة أعمال منتقاة من «المعرض القومي الصيني التاسع للفنون» في هونج كونج عام 2002. كان قسم اللوحات الزيتية بهذا المعرض عبارة عن عرض كبير وهائل لرسومات اشتراكية-واقعية للحياة الصينية المعاصرة، مرسومة بمجموعة واسعة من الأنماط، وغالبا ما كانت بارعة على المستوى التقني للغاية. بعض الأعمال، مثل لوحة وانج هونججيان الحزينة عن العمال المهاجرين المنتظرين لوسيلة نقل إلى الوطن في ضوء القمر، عبرت مباشرة وببراعة عن تجارب الناس في مجتمع يتغير سريعا. وأعمال أخرى، على غرار لوحة جين يي عن أناس ريفيين يبتسمون في ضوء الشمس، بدت (من وجهة نظري) رديئة بصورة يائسة؛ فالعنوان «أرواح بسيطة تبرق تحت الشمس» ليس بعنوان يستطيع المرء أن يتجنب التهكم عليه في لندن أو نيويورك. نتيجة لنقص المراجع الغربية المطلوبة (كان هناك العديد حقيقة، لكن لأنماط أقدم، من ضمنها الفن الانطباعي) وظهور انعدام الجدوى لأن جميعها له وظيفة دعائية، كانت تلك الأعمال مختلفة على نحو حقيقي عن الإنتاج الغربي، ومن ثم غير مرئية لنظام الفن العالمي.
على النقيض من ذلك، بإمكاننا فحص نموذجين ناجحين على المستوى العالمي: شو بينج من الصين، وكاتشو من كوبا، واللذين تمثل أعمالهما ما هو منشود في مثل هذا الفن. اكتسب شو بينج - وهو عنصر رئيسي في البيناليات - شهرته بعد أن قدم عملا في معرض بكين عام 1988 بعنوان «كتاب من السماء».
شكل 2-7: شو بينج، «كتاب من السماء».
7
كان هذا العمل - على غير العادة - عملا تصنيعيا كثيف العمالة من 1250 حرفا مبتكرا، مستوحى من عناصر الصور الرمزية الصينية لكنها لا تعني شيئا. استخدمت تلك الحروف في صنع تجهيزات لكتب ولفائف ضخمة وهائلة، تبدو للقراء الصينيين على أنها أجزاء عظيمة لنص ذي معنى، لكن جمعيها تتعذر قراءته بشكل معقول. إن هذا العمل مشروع متواصل، يتغير مع تجهيزه في أماكن مختلفة، ويتبنى تكنولوجيا الحاسب الآلي، وينتج كتبا لهواة جمع التحف. أثار العمل جدلا واسعا للغاية في الصين، حيث تعرض للهجوم والدفاع في آن واحد، وأصبح مرتبطا بوضع الإنتاج الطليعي تحت الضغط من قبل السلطات في أعقاب مذبحة ميدان السلام السماوي. وقد قال ستانلي كيه آبي - على لسان شو بينج نفسه - عن الاستقبال الجماهيري الصاخب للعمل، الذي تلا فترة طويلة من العزلة كان يصنع خلالها العمل:
صفحه نامشخص
إن تقديم عمل المرء إلى المجتمع يشبه تماما توجيه حيوانات حية إلى المذبح، لم يعد العمل ينتمي إلي؛ فقد أصبح ملكية للناس كافة ممن مسوه، فهو الآن شيء مادي وقذر.
في مقال جدير بالذكر، خطط آبي القراءات المختلفة لعمل «كتاب من السماء»، وما إن عرض العمل خارج الصين حتى تغير تغيرا عميقا، فلم يحاول أغلب الجمهور الجديد قراءة الحروف أو استشعار ألفتها الغريبة. وعندما عرض العمل في الولايات المتحدة ، لم يشاهد إلا من منظور مذبحة ميدان السلام السماوي، بوصفه رمزا للخير (التعبير الفردي) مقابل الشر (الاستبداد الشرقي). لم يوافق شو بينج على هذه التفسيرات لكنه لم يرفضها أيضا. على أية حال، لما كانت التفسيرات تتسع مع الانشغال بقضية ميدان السلام السماوي، فإنه فسر على نحو مطلق ووحيد على أنه انتقاد للتقاليد والمؤسسات والتاريخ الصيني، ولم يفسر أبدا - على سبيل المثال - على أنه تعليق عام على المعنى في حد ذاته.
عبر جاو مينجلو عن مسألة التفسير الخاطئ بقوة، عندما كتب عن إفساح النشاط الطليعي النقدي المجال إلى:
نشاط طليعي جديد براجماتي يسعى جاهدا إلى تخطي المستوى المحلي لصالح القبول على الساحة الدولية. إن هذا التحول هو إلى حد بعيد ثمرة الضغوط الخارجية التي أعقبت الحرب الباردة، لكن ثمة نزعة مثابرة في الغرب لتجاهل هذا التحول وتفسير الفن الصيني المعاصر من المنظور الأيديولوجي للحرب الباردة.
يستمر مينجلو في التأكيد بالقدر نفسه بأن ما يسمى «بالفن الطليعي» متواطئ مع ترويج الثقافة الاستهلاكية في الصين (فالانجذاب إلى الفن الشعبي ليس بمصادفة إذن)، وبأن ما قد يبدو طليعيا عندما نراه من خارج الصين ربما يبدو رجعيا عندما نراه من الداخل. ينافس هذا الفن المطلوب على المستوى العالمي فنا يطلق عليه جاو «فن الشقق السكنية»، ويعرض في أماكن خاصة أو في الشارع، ويتألف من أعمال مؤقتة وغير قابلة للبيع. مثال على ذلك الجدار الثلجي الفذ الذي صنعه وانج جين أمام أحد مراكز التسوق الرئيسية بمدينة تشينجتشو عام 1996، كان مطمورا داخل الجدار الثلجي أغراض استهلاكية ثمينة لجأ العامة إلى استخراجها بحفر الثلج كيفما استطاعوا، وفي النهاية دمروا الجدار.
شكل 2-8: كاتشو، «الحديث عما هو بين لم يكن متعة لنا قط».
8
يصنع كاتشو قطعا نحتية، أغلبها من الخشب، تتألف على نحو نمطي من عناصر تذكرنا بهياكل القوارب الصغيرة. حقق كاتشو نجاحا سريعا للغاية بعد أن عرض أعماله في بينالي هافانا عام 1994 وبينالي كوانج جو في العام التالي. ظفر بعقد مع معرض بارز بنيويورك - باربرا جلادستون - واشترى متحف الفن الحديث منحوتة ضخمة - «العمود اللانهائي 1» - في العام الذي صنعها فيه، عام 1996. كانت هذه القطعة أحد هياكل القوارب البديلة لدى كاتشو، مقرونة بالنحت مع إشارات للحداثة الأوروبية (في هذا الحالة، منحوتة برانكوزي «عمود لا نهاية له» التي صنعها عام 1938)، والتي تشير بوضوح إلى المحاولات المفجعة للهجرة الجماعية للكوبيين بعد إعلان الولايات المتحدة بأن جميع الأفراد الذين نجحوا في الوصول إلى شواطئها سيتم قبولهم بوصفهم مواطنين. وكما في حالة شو بينج، موضوع قومي على نحو واضح يقدم بمهارة فنان، ومؤطر داخل نسق فني معاصر مقبول.
إن جزءا كبيرا من هذه الأعمال الفنية، رغم اعتمادها على صدى القضايا السياسية، لا يتبنى أي موقف، ويتميز بالسياسة التهكمية أو الصامتة. حاولت كوكو فوسكو في مقالة لمجلة «فريز» الفنية الرائعة للغاية (وأعادت طبعها في كتابها «الأجساد التي لم تكن أجسادنا»)، فهم عمل كاتشو من منظور سياسي، لا سيما بفحص استخدامها من قبل السلطات في بينالي هافانا. أمام مثل هذه الجرأة في تحليل عمل محبوب جديد للسوق تلقت كوكو تهديدات، واضطرت المجلة إلى التعامل مع شكاوى من موزعي أعمال كاتشو. يعبر هذا الحدث كثيرا عن مستوى الكتابة الفنية في هذه المجلات - والقدر الذي يضمن به الموزعون ذوو النفوذ والمؤسسات الفنية المؤثرة «النقد» الخانع - لدرجة أن مثل هذا المقال ينبغي أن يبرز كحالة استثنائية بدرجة كبيرة في المشهد النقدي. ثمة حاجة ضئيلة بوجه عام للتهديدات والشكاوى، بالطبع؛ لأن أغلب الكتاب يراقبون أنفسهم. كما تشير المجلة الفنية الصفراء - «كواجيلا» - فإن هذا على وجه التحديد سلوك مثير للشفقة من جانب الكتاب لأنهم (مع استثناءات قليلة للغاية) يكسبون مالا زهيدا من ذلك.
في الفن العالمي المتميز، تستعرض الهويات من أجل ترفيه المشاهدين الدوليين. إن ملامح التمازج الثقافي والتهكم والعرض الصريح للهوية أمور تبعث على الراحة لدى المشاهد الغربي الذي لا يشعر بالطمأنينة لفكرة الاختلاف إلا إذا لم يكن هو الآخر في واقع الأمر (كما يؤكد على نحو جدلي سلافوج زيزك). أجملت فوسكو النتائج جيدا: إن العولمة غيرت المجال الفني، جنبا إلى جنب مع إدارة الاختلاف الثقافي والعرقي، بحيث يتبع نموذج الدولانية المشتركة. إن الشهرة في عالم الثقافة ليست بضمان على النفوذ السياسي، والخصخصة المتزايدة للمتاحف والمعارض تدمر الأثر الذي ربما تدفق من تلك الشهرة في السابق. عوضا عن ذلك، جرى تطبيع التنوع فيما ابتعد عن المحتوى النقدي له. يمكننا إيضاح هذه النقطة حرفيا أكثر بالنظر إلى هجرة الفنانين أنفسهم؛ فربما تكون أصولهم متنوعة، لكن الكثير منهم - وبالطبع ليس أولئك الذين فروا من دول بها رقابة قانونية فحسب - انتهى بهم المطاف بالعيش في نيويورك، مركز الفنون العظيم. من ثم أفرز التعدد التجانس، مع مواجهة الجميع لإقرار السوق.
صفحه نامشخص
بيد أن جزءا كبيرا من هذا الفن - على جاذبيته المريبة في الغرب - يعبر بالفعل عن أشياء رائعة، وينجح على مستوى الحدة والارتباط بدرجة نادرا ما نجدها في المجتمعات المستقرة والرغدة. أكد فريدريك جيمسون على نحو مقنع عندما كتب عن النظرية، على أن أكثر الأعمال النظامية تنتج في ظروف يواجه فيها المفكرون أقصى التناقضات في المشهد؛ نظرا لتطور متحد وغير متجانس، وكأنهم عاشوا في بيئة يتسنى فيها الانتقال من حقبة تاريخية إلى أخرى. ربما يرفع المزارعون في حقول الأرز ناظرهم نحو السماء ليلمحوا جارهم الجديد، بناية شاهقة الارتفاع ما بعد حداثية الطراز. هذا الأمر - على حد زعم جيمسون - يعزز التفكير النظامي والإجمالي عن التغير التاريخي. في الفن، لا توجد توقعات حيال مثل هذه الصفات النظامية، لكن هذه الظروف لها تأثير بالفعل، لا سيما في التفكير فيما وراء الانتشار الواسع للثقافة الاستهلاكية. بالمثل، ربما يمكن للمرء أن يتوقع إنتاج الأعمال الفنية الأكثر ضحالة وتفككا وانهزامية في الاقتصاديات النيوليبرالية الأثرى والأقدم، وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وبالطبع - كما سنرى في الفصل القادم - هو كذلك بالفعل.
ما فحصناه بإيجاز هنا ليس النسق الكامل للإنتاج الفني العالمي الذي يتسم بالتنوع الشديد وينتج لظروف محلية كثيرة معقدة ومختلفة، لكن بالأحرى ما يمر عبر أداة ترشيح نظام الفن العالمي ليحظى بالشهرة الدولية. ورغم أن هذا النمط من الفن يمكن إنتاجه في الأغلب وفي مخيلتنا النخبة الفنية العالمية، فإن عالم الفن يفصح عما فيه؛ فرغم هيمنة الولايات المتحدة وسطوة المحترفين، فإن منتجاتها الفنية لها صدى أوسع بين جمهور متنوع، الكثير منهم لا يزال يتبنى المعتقد اليوتوبي بأن الفن يحمل رسالة أوسع نطاقا. من وجهة نظرهم، ربما يقدم تجارب متنوعة، بل وأحيانا راديكالية.
ما تحدثت عنه بإيجاز هو فكرة أن تنوع الفن المعولم الذي كثيرا ما يشاد به ربما يخفي فنا آخر، وتجانسات أجدد. ومثلما خرجت الرأسمالية كنظام عالمي من تحت عباءة خصمها المنهزم بعد عام 1989، تبين، في تحولها السريع، أنها النظام الجشع العنيد الذي هي عليه، ومن ثم ربما تكون الحال كذلك مع عالم الفن. إن الغاية من استخدامه كأداة في مواصلة الحرب الباردة بينت ما كان قيد التطور بالفعل: وظيفته الجوهرية كداع للقيم النيوليبرالية.
هوامش
الفصل الثالث
الثقافة الاستهلاكية
شكل 3-1: تاكاشي موراكامي، «هيروبون».
1
إذا كان التعبير الاقتصادي للنيوليبرالية هو عدم المساواة الأشد قسوة، والتعبير السياسي لها هو رفع القيود التنظيمية والخصخصة، فإن التعبير الثقافي لها هو النزعة الاستهلاكية الجامحة بلا شك. وفي حين أن «النظام العالمي الجديد» دفع الفن إلى إعادة صياغة نفسه عبر عولمة عملياته، فقد خضع الفن في العالم المتقدم لضغط متزايد من شريكه وخصمه القديم: الثقافة الجماهيرية. منذ السنوات الأولى للقرن العشرين على أقل تقدير، مع اختراع السينما، والفونوغراف، والراديو، اجتمع الاثنان في رقصة غير متكافئة، وكانت الثقافة الجماهيرية هي القائد أحيانا كثيرة.
ينزع الفنانون المعاصرون إلى تناول قضية الثقافة الاستهلاكية بافتتان وقلق، وثمة سبب وجيه لكل ردة فعل منهما؛ فالافتتان سببه أن النزعة الاستهلاكية يبدو أنها تتحول إلى سمة ثقافية على نحو متزايد، فاهتمامها بالبيع أو بمجرد عرض الصور والأصوات والكلمات يضاهي اهتمامها بالأشياء المادية. أما القلق، فمرده إلى أن محركات هذا الإنتاج طائلة للغاية وتمول ببذخ، والناتج صاخب للغاية وواسع الانتشار. وإذا كانت السلع تصير ثقافية، فما المساحة المتبقية للفن إذن؟
صفحه نامشخص
إنه قلق قديم، وجد في الحداثة وأيضا ما بعد الحداثة، وإن كان في أشكال مختلفة . وقف فرنان ليجيه أمام المعروضات من الآلات «بمعرض باريس» عام 1924، مندهشا من الحد الذي غطت فيه هذه المنتجات الخالية من العيوب على الجهود المتواضعة الخجولة للفنانين. إن الحجة القائلة بأن الفن لم يعد ممكنا نظرا لأن عالم المنتجات مشبع بالجماليات هي الصورة المختلفة بعد الحداثية للقلق نفسه؛ حلم حداثي بدمج الفن والحياة يبدو أنه قد تحقق، وإن كان باستسلام الطرف الأضعف أكثر منه بالتوليف بينهما.
وفي حين أن قضية انفصال الفن عن الثقافة السلعية أو دمجه معها لها تاريخ طويل، إبان التسعينيات كان هناك تكثيف للقوى المعنية، كثير منها سمات قديمة للرأسمالية، ساهمت في غلبة الثقافة الاستهلاكية المنتصرة ليس على الفن فقط بل أيضا على كافة أنماط الإنتاج الثقافي الأخرى. بدت السلع أنها تصير أقل تشابها مع الأشياء الوظيفية وأكثر تشابها مع حركات ثقافية زائلة في نطاق لعبة معقدة وذاتية المرجع. انتقلت العلامات التجارية بين منتجات غير متصلة، فيما دار الإعلان بين المرجع، والمرجع الذاتي، والمرجع الوصفي في التهام متسارع للارتباطات الثقافية قديمها وجديدها. أما الأرباح الكبرى فقد تواصل تحقيقها ليس في مجال الصناعة بل في مجال الخدمات، ومعالجة البيانات، والموارد المالية؛ وكان نجاح هذه القطاعات مرتبطا إلى أبعد حد بالاقتصاديات النيوليبرالية، لا سيما في الولايات المتحدة. أما في الغرب، فقد استشعر هذا التغيير في وقت مبكر منذ منتصف السبعينيات، إلا أن التسعينيات شهدت انهيار النماذج البديلة، ليس فقط في أوروبا الشرقية، بل أيضا في الاقتصاديات الصناعية العظمى كألمانيا واليابان اللتين عانتا الركود والتراجع. اتجهت أوروبا القارية نحو تبني النموذج النيوليبرالي الذي كان جذابا للغاية خلال أغلب منتصف وأواخر التسعينيات بحوكمة اشتراكية ديمقراطية اسمية. وسع النموذج النيوليبرالي من نطاقه وعمق من سطوته، شأنه شأن التسليع نفسه.
لقد شاهدنا أنه في بعض من هذه المناطق (بما فيها الدول الإسكندنافية) التي أدى الركود إلى فتحها مؤخرا أمام قوى السوق الجامحة والمدمرة، قام الفن بدور أداة للنيوليبرالية، ساحقا المحاسن المريحة وإن كانت خانقة للديمقراطية الاشتراكية، وعبر عن المخاوف المحررة من سياسات الهوية ، والنزعة الاستهلاكية، والابتذال، والاستمتاع بالانحطاط الأخلاقي. وكانت مثل هذه الأعمال حليفا نافعا، وإن كان بصورة ضئيلة، للخصخصة والقوى الاستعمارية للتسليع، وكثيرا ما نوقشت التشابهات بين تقاليد ما بعد الحداثة وروح السوق الحرة تفصيلا. عبر مايكل هارت وأنطونيو نيجري، في كتابهما بالغ الأثر «الإمبراطورية» عن هذا الأمر جيدا:
إن أيديولوجية السوق العالمية لطالما كانت الخطاب اللاتأسيسي واللاجوهري بلا جدال؛ فالتداول والحراك والتنوع والخلط هي شروطها الفعلية للإمكان. إن التجارة تجمع الاختلافات، وكلما كانت أكثر كانت أفضل! والاختلافات (اختلافات السلع والشعوب والثقافات وما إلى ذلك) يبدو أنها تتضاعف إلى ما لا نهاية في السوق العالمية التي تشن أعنف الهجوم على الحدود الثابتة، وتقهر أي تقسيم ثنائي بتعددياته اللانهائية.
إن هذا الأمر ليس بتشابه وقع من قبيل المصادفة، بل بالأحرى (كما أشار فريدريك جيمسون في مقالته التأسيسية عن حركة ما بعد الحداثة) علاقة وظيفية: عنصر جمالي أدمج داخل الإنتاج العام للبضائع الاستهلاكية، والتي تتغير مع الإيقاع المتزايد دائما للموضة. كما أن الشركات التي تنتج مثل هذه السلع تقدم الدعم المالي لسلاحها البحثي والتدويري: الفنون. تصف مارثا روسلر الموقف في كتابتها عن النزعة الراهنة والباهظة في فن الفيديو ذي الإنتاجية العالية: «لا شيء أكثر ملاءمة لصناعة الوعي من وجود فنانين يلهون عند حدوده، يزينون أنماطه ويصيغون حرفيا إلى حد بعيد استراتيجيات جديدة للإعلانات والجرافيك.»
ربما يمكن تخيل الفن كنزعة استهلاكية تسبح في الأحلام، وتجمع من جديد على نحو لعوب عناصر الثقافة الجماهيرية في تركيبات مضطربة، وفي غضون ذلك، تصادف أشياء نافعة. وفي إعادة مزج ما لم يعد مستخدما وتخزينه، ربما يخدم الفن غاية مشابهة للحمض النووي «المهمل»، الذي يعتقد أنه يدخر التسلسلات العتيقة في حال الاحتياج إليها ثانية.
استوعبت ثقافة المؤسسات تماما الخطاب الملطف لحركة ما بعد الحداثة. وكما في الثقافة الجماهيرية، أصبح افتقار الفن الفعلي للعرف هو الأمر المتعارف عليه تماما. أصوات ملحة توجد في كل مكان تحث المستهلكين على التعبير عن أنفسهم، وعلى أن يكونوا مبدعين، ومختلفين، وعلى كسر القواعد، والتميز عن الحشود ، بل والتمرد، لكنها لم تعد كلمات نابعة من مثيري الفتنة الراديكاليين، بل من رجال الأعمال. إن الكتاب في مجلة التحليل الثقافي الأمريكية «ذا بافلر» يصفون وصفا حيا مدى هذه الإيعازات والتوحيد القياسي لها، ونجد المثال الموجز على نحو رائع الذي أوردوه لهذا الإلزام هو ظهور ويليام بوروز في إعلان لنايك. إن قدرا كبيرا من المجال الفني منذ عام 1990 قدم تمثيلا واعيا من منطلق هذه الفضائل الراديكالية التي اختلستها ثقافة المؤسسات.
إن نظرية ما بعد الحداثة نفسها، في انتقالها من كونها قصة ليوتوبيا أو ديستوبيا ممكنة إلى وصف سطحي لواقع قائم، فقدت قوتها النقدية والأخلاقية. وفي حالتها المختزلة، حظيت النزعة الاستهلاكية والتمكين المزعوم للمتسوق على أهمية في خطاب ما بعد الحداثة، في حين أنه إبان التسعينيات تعرضت نظرية ما بعد الحداثة لوابل من الانتقادات على سخافاتها الداخلية وإرهابها للقراء بلغة اصطلاحية علمية لا معنى لها (برزت في قضية سوكال)، فلم تستبدل بقدر ما توارت في جزء كبير من عالم الفن الأكاديمي على الأقل، بقبولها كخلفية لا جدال فيها تخرج منها تصريحات بشأن الفن.
معظم ما ورد في نظرية ما بعد الحداثة أكد على أن المحاكاة قد أشبعت العالم بصورة كاملة، ورأى أنه ليس هناك إفادة في بيان الموضع الذي ينتهي فيه التمثيل وتبدأ الحقيقة. مع ذلك، سارت السمة الطيفية للسلعة العصرية، غير المادية على ما يبدو، جنبا إلى جنب مع ظهور النيوليبرالية. إن هذا النمط العدواني للرأسمالية أضحى ممكنا من خلال التغيرات التكنولوجية بالغة الأثر، لا سيما في مجال اتصالات الكمبيوتر الذي جعل تبادل المعلومات زهيدا وسريعا وسهلا. وكما وصف دان شيلر في كتاب «الرأسمالية الرقمية»، كان تأسيس البنى التحتية الهائلة لشبكات الكمبيوتر مدفوعا باستغلال خصخصة صناعات وسائل الاتصال المملوكة للدولة، كذلك حول ترقيم البيانات المعلومات المجانية في السابق (على سبيل المثال، في المكتبات) إلى سلع، في تطويق لمشاعات البيانات.
ساهم تطور بارز آخر في إظهار السلعة في صورة أقل مادية، وهو: تحقيق التمييز بعلامة تجارية أهمية أكبر على مدار التسعينيات مع إنفاق الشركات المال الذي ادخرته من تعهيد الإنتاج على تحسين صورتها الخاصة. تؤكد ناعومي كلاين في كتابها الشهير عن استحقاق «بلا شعار» أنه مع تصدير الإنتاج إلى الاقتصاديات منخفضة الأجور، انقطعت الصلة بين مستهلكي منتج ما وصانعيه. وفي المقابل ترقت العلامة التجارية، وتحررت من المنتجات المجردة لتصبح شخصية مجازية، وتجسيدا موثوقا لتركيبات بعينها من الفضائل أو الرذائل المحببة. في بعض الأحيان، كما في حالة رونالد ماكدونالد، تجسدت داخل شخصية رسوم متحركة. كنتيجة لذلك، أخذ الفن والتجارة يقتربان أحدهما من الآخر.
صفحه نامشخص
لدى الانتقال إلى صفحة الروابط بموقع الفنان المفاهيمي المحنك كلود كلوسكي، يجد المشاهد قائمة أبجدية بالمواقع الإلكترونية التي تضم أسماء مألوفة، لنقرأ منها أسماء نجوم الفن المعاصر: تبدأ بآدامز، آكرمان، آليس، آمر، آندريه، آراكي. جميع الروابط هي في الحقيقة روابط لمواقع شركات؛ لذا عند النقر فوق
www.billingham.com ، على سبيل المثال، تنتقل إلى موقع يبيع حقائب الكاميرات. إن نطاقي المنتجات والخدمات المجتمعين معا اللذين يتشاركان أسماء الفنانين يشكلان قاعدة بيانات صغيرة لافتة للنظر، وهذا الأمر يحث القارئ على التفكير في أسماء الفنانين على أنها علامات تجارية، وفي المواقع الإلكترونية لأعمالهم.
كلما ازداد اكتساب السلع السمة الثقافية، ازداد تسليع الفن أكثر، مع توسع سوقه ومع ازدياد تضمينه داخل المسار العام للنشاط الرأسمالي. أدرك أدورنو التوازي بين الفن والسلع الاستهلاكية حتى في الأيام الأولى لحركة ما بعد الحداثة، لا سيما إبان فترات الانتعاش الاقتصادية: ... حيث تتضاءل أهمية قيمة الانتفاع المادية للسلع، وحيث يصير الاستهلاك متعة بديلة للوجاهة الاجتماعية ... حيث يبدو، في النهاية، أن السمة السلعية للمواد الاستهلاكية تختفي تماما. إنها محاكاة تهكمية للوهم الجمالي.
والنتيجة ظهور موقف تجاه الفن يماثل موقف الأشخاص تجاه السلع، والتي تتظاهر بأنها ليست أقل من الفن. بيد أن هذا ليس بتطور تاريخي حتمي أو غير قابل للتغيير، ولد من منطلق الجوهر المنكشف للفن والسلع، لكنه تطور مرتبط بالإيقاع المتصاعد والمتناقص للدورة الاقتصادية، ولا ينعم به سوى من يتمتع بالثراء الكافي للاستهلاك بتفاخر.
استجابت ممارسات فنية عديدة في التسعينيات إلى هذه التغيرات، واستفادت منها ودفعتها قدما. أخذت سيلفي فلوري ثمار رحلاتها التسوقية إلى المحلات التجارية الراقية ووضعتها فوق أرضية المعرض، أو وضعت أشياء محبوبة وعصرية (فعليا) فوق منصات العرض. تفحصت فلوري أيضا المستويات المختلفة للنشاط الاستهلاكي، وربطت بين الأقل جاذبية والأكثر منفعة والاستهلاك التفاخري من خلال عربات التسوق المطلية بالذهب.
شكل 3-2: سيلفي فلوري، «سيري إي إل إيه 75/كيه (سهل ومريح وجميل)».
2
أما جيوم بيل فقد فتح ببساطة محال تجارية داخل نطاق المتحف. وقد تحول معرض «التسوق» بمتحف تيت بليفربول إلى فرع جيوم بيل الخاص لسلسلة متاجر «تيسكو». قدم فريق عمل متاجر تيسكو الدعم، وأخذوا يعيدون ترتيب السلع ويسعرونها وينظمون الأرفف. مع ذلك، لأنه لم يكن متاحا لأحد أن يشتري شيئا بالفعل، وكانت جميع الأرفف ممتلئة بالسلع ومضاءة بأضواء المتحف الكاشفة، أضحى «المتجر» معرضا جماليا لكتل متعددة الألوان من العبوات المتكررة. من ناحية، يذكرنا هذا العمل بعربات تسوق فلوري من حيث تحويل أقل الخبرات التسوقية جمالية إلى مشهد بصري منفصل مثير للاهتمام. شعر المشاهدون الذين لم يعتادوا على التوقع الضمني بأنه ينبغي أن ينظروا إلى العرض التجاري للسلع المعلبة كخبراء بالإحباط. ومن ناحية أخرى، أسهم هذا الشعور بعدم الارتياح كدحض ثانوي للموقف (نجده في كتابات بودريار) أن الجانب الجمالي قد أتم غزوه للتجارة منذ زمن بعيد.
لدى قراءة بعض التصريحات ما بعد الحداثية ربما يمكن أن نغفر للمرء تفكيره في أنه لا توجد منطقة ثقافية محصنة ضد الغزو الفني، وهذا في واقع الأمر ليس القضية؛ فالمجال الفني يختار حلفاءه بتمييز عنصري، فلا يوجد اهتمام مستدام بلعبة رمي السهام أو بهواية اقتناء الحمام، على النقيض من ذلك، بذل الكثير من الجهود للتقريب أكثر بين الفن وعالم الموضة. يكشف تصريح مثير للضجر من هوجو بوس (راعي معرض فلوري) من خلال اختلاط مصطلحاته ونتيجة لها أيضا، الآلية الأيديولوجية في أرض الواقع:
لطالما سار الفن والموضة جنبا إلى جنب، أحيانا بأسلوب راديكالي وصادم، وأحيانا أخرى بطريقة تقليدية ومحافظة، وكلاهما تصدر الأحكام عليه وفقا لمعايير تذوق ذاتية، وكل منهما يمثل بأسلوبه الخاص أجواء العصور وروحها. إن الفن والموضة يحفزان الحواس ويصنعان أشياء مرغوبة ومعبودات للمجتمعات الثرية وتراثيات ثقافية.
صفحه نامشخص