مقدمة

تمر الايام وتتوارى الاجيال ، فيكتب التاريخ خلال ذلك صحفا خالدة ، هي مرآة للحوادث الاجتماعية العظيمة ، مرآة ترين البعيد من هذه الحوادث كالشبح الزائل ، وتعطينا عن الاقرب منها صورة أشد وضوحا ، حتى نخال البعيد عنا جامدا غريبا ، ونرى القريب الينا مثالا حيأ لما يجري امامنا ولما يدور حولنا .

وبرعم ذلك ، فان بين هذه الخوادث التاريخية المتباعدة صلة توبطها فيما بينها ربطا وثيقا ، وتجعلها تسير مع الزمن سير دريجيا متوازنا . فتصبح هذه الصلة تيارا ، يكاد يكون ظاهرا على ممر الدهور والعصور ، تيارا يربط الماضي بالحاضر ، والقديم بالجديد .

وهكذا نحن اذا أردفا درس الجديد لم يسعنا الا تفهم القديم وتفهم أسباب تطوره . واذا قصدنا الى درس القديم كان لا بد بنا من مقارنته بالجديد ومن معرفة اسباب نشوئه ووجوده .

ومن الحقائق التاريخية التابتة ان مظلهر الحياة الاجتماعية متغيرة بتغير الازمنة والامكنة . ولما كانت الشرائع والاحكام مظهرا من هذه المظاهر ، تتأثر بتلك الحياة تأثرا بينا ، وتؤثر فيها آتار واضحة ، آدركنا سبب اختلاف الشرائع باختلاف العصور والبلدان

صفحه ۶

و أدر كنا سبب تلومنها بصبغة الامم والاجيال الخاصة ، تبعا لعاداته وتقاليدها ، وأميالها ونزعاتها.

على أن هذه الشرائع المختلفة المتباينة تتقارب من أوجه عديدة .

ذلك لأنها تتقارب في أسباب وجودها ، وفي العلل التي ترتكز عليها . فمن ثم نستبين بين الشرائع جميعا ، اذا ما وضعت على بساط المقابلة والمقارنة ، شبهأ الى جانب التباين وموافقات الى جانب الفروق.

فاختلاف القوانين وتشابهها ، قديأ وخديثا ، أوحيا الى كاتب هذه السطور الفكرة الاولى لتصنيف هذا الكتاب . وهو ليس الا مقدمة وجيزة في دراسة التشريع الاسلامي على ضوء المذاهب المختلفة وضوء القوانين الحديثة .

وقد بذلت الجهد اثناء ذلك في أن أعتمذ على المراجع الصحيحة الموثوق بها ، وفي أن أنتقي منها ، اذا تعددته ، أقدمها، ومن ثمد أقربها الى مصادرها الاولى . ومعلوم أن معظم هذه الماقب ، ان لم أقل جميعها ، مطبوعة طبعا قديا متلاصقا ، على ورق أصفر رخيص . هنه الى ما فيها من الحواشي والهوامش .

فكان من نتيجة ذلك آن صعبت مطالعتها ، وأورثت في بعض الناس ضجرا وسأما ، فتركوها أو هجروها متأثرين بالشكل الخارجي دون الجوهر الحقيقي .

فأنا خالفت هؤلاء ، وعشقت الكتب الصفراء.، وأفخر : بأنت أكون من عشاقها ، لأنها تخزن من الكنوز الفكرية منا يفوق التقدير ، ولأنها تحوي ثمرة الجهود الجبارة التي قام بها الاسلاف في

صفحه ۷

هذا الميدان ، وزبدة الافكار القيمة التي تركوها .

وان غايتي الاولى من هذا الكتاب أن أبيض ما استطعت من الدفائن الصفراء ، وأن أظهر منها ما تمكنت ، ثم أن أضع م آستخرجه امام ما يقابله من الآراء الحديثة ، . موضحا أوجه الوفاق وأوجه الخلاف فيما بينها ، مع حجج المؤيدين والمخالفين لكل مسن هذه الآراء . وقد سعيت. في غالب الاحيان ان اعرض ما توصلت اليه مع مصادره دون ان اذهب مذهبأ معينأ ، او ان افاضل بين رأي وآخر ، تاركا الامر في ذلك الى القاريء الكريم او اليى غيري من الباجثين وارجو أن أتوصل بذلك الى ايضاح وجهة النظر الاسلامية في التشريع الى الاجانب والى المثقفين بثقافتهم ايضاحا حقيقيا و أرجو أن أتوصل الى ازالة ما تركه بعض الناس في الاذهان من آثار التشويش والتدجيل . وقد كان من هؤلاء طائفة مسن المستشرقين ومن نحا نحوهم من المتطفلين وأسباههم ، عودونا الكتاية ي مواضيع لا يحسنون لغتها ، أو لا يعزفون مراجعها الاصلية .

فالحقائق العلمية الثابتة لا يغتفر طمسها آو تشويهها ، مهما كان الباعث على ذلك ، سواء أكان السهو أم التسرع أم قلة التدقيق أم الجهل أم التغرض أم المزاج من هذه البواعث جميعا .

و أرجو أن أتوصل ايضا الى تقريب الاسلوب القانوني الغربي الى المطلعين على الشرع الاسلامي ، خصوصا على مجلة الاحكام العدلية ، والى بيان الموافقات والفروق بين الطريقتين ، ما استطعت الى ذلك سبيلا .

صفحه ۸

هذه ، على الجملة ، هي الغاية التي قصدت اليها غند تآليف هذا الكتاب . فاذا بلغت بعض ما قصدت اليه ، كنت سعيدا بهذ التوفيق." وما اوتيتم من العلم الا قليلا" ..

بواقد اعتاد غيري من المؤلفين تصدير مؤلفاتهم بالاعتذار عما قد يجدة القارىء فيها من خطأ أو سهو . على ان اعتذارهم هذا اذ كان أحيانا من نوع اظهار التواضع ، فليس هذا شاني على كل حال . واني أراني أشد منهم حاجة الى: طلب المعذرة والحلم عن مواضع الخطأ أو النقصان في هذا الكتاب .

و أخيرا ، لا بد من التنبيه الى أمر . وهو آن هذا الكتاب ليس الا مقدمة . أرجو أن أتبعها ان شاء الله بكتاب آخر 1 ، يبحث في "التظرية العامة للعقود والموجبات في الشريعة الاسلامية عل ضوء المذاهب المختلفة ، خصوصا المذهب الحنفي وباقي المذاهب السنية ، وعلى ضوء القوانين المدنية الحديثة ، واخص منها القوانين البنانية والانكليزية والفرنسية . والله ولي التوفيق في البداية والنهاية .

بيروت في اول تشرين الثاني سنة 1945 .

صبعي ربب ححصاني هه

(1) هو الان قيد الطبع ، ويقع في جزئين م

صفحه ۹

-1 -11

الباب الاول

|

لسنا في معرض يسمح لنا بتعداد النظريات التي تبحث في اصل المجنمع ، ولا ببيان فساد قول روسو وامثاله ان الانسان كان في البده يعيش منفردا " على الطبيعة "1 ، وان المجتمع تكون بنتيجة عقد اجتماعي بين افراده . بل نكتفي بتدوين الرأي السائد عند علماء الاجتماع اليوم . وهو ان الانسان اجتاعي بطبعه ، وان الحياة الاجتماعية لازمة له .

وبديهي ان تستتبع هذه الحقيقة ضرورة وجود الشرائع في المجتمع ، لتكون محكمة بين افراده . ذلك لان الحياة الاجتماعية توجب على هؤلاء التعامل المتبادل ، وتولد العلاقات المختلفة فيم بينهم ، وتورث المنازعات التي تنشأ من هذه العلاقات . فكان ل بد من قواعد تحدد حقوق كل فرد بالقياس الى حقوق الآخرين ، وتكون من ثم وازعة للنزاع والشقاق .

وقد تبنت مجلة الاحكام العدلية هذا الرأي . ويلاحظ القارىء

صفحه ۱۰