فتاريخ العلوم هو قصة الاكتشافات التي حققها الذكاء، وتاريخ الأمم يقص خبر الحوادث المعينة بتأثير مختلف المشاعر التي يندر أن يوجهها العقل.
وخلط ما بين المشاعر التي تسير الإنسان وما تستدعيه من عوامل العمل أمر عام لدى المؤرخين، وكان يخيل لصانعي الثورة الفرنسية أنهم يقيمون مجتمعا جديدا على العقل الخالص، فكانوا يستوحون العقل في خطبهم، فالواقع أن معظم أفعالهم كان يشتق من المشاعر التي لا نصيب للعقل فيها، أي من الحاجة إلى المساواة والحسد والأحقاد، إلخ. •••
أجل، يوجد لدى جميع الناس متمدنين كانوا أو متوحشين مشاعر متقاربة، غير أنه يوجد بين الابتدائي والمتمدن فارق عميق قائل إن المتمدن حائز لقوة خلقية يقاوم بها تأثر الاندفاعات، مستعينا بالعقل في معارضة شعور بشعور.
وقليلون من يقدرون على مقاومة نزواتهم العاطفية، أي من هم حائزون صفة: «ضبط النفس» كما يسميها الإنكليز، وتكون الجماعات مجردة منها تماما، واندفاع الساعة هو رائدها الوحيد على العموم، ولا يقوم العقل على معارضة الشعور ببرهان منطقي، بل على إقامة شعور بعيد حيال اندفاع حاضر.
وعلى ما وقع من تقدم الحضارة بقي معظم الأمم عند أدنى طور حيث لم يكتسب الحظر المدبر بعد من السلطان الكافي ما يزجر الانعكاسات الطبيعية معه، وقد نشأ كثير من الحروب عن عدم القدرة على ردع اندفاعات الساعة.
ولا يتطلب إمكان تغيير السلوك بمعارضة الاندفاعات الحاضرة بنتائجها القادمة ضبطا للنفس أو قوة خلقية فقط، بل يتطلب أيضا صفة التمييز الموصوفة بالحكم، وتمثل هذه الصفة أعلى القابليات الذهنية، وهي تتضمن روح نقد نفاذة يقرأ بها تسلسل المعلولات والعلل.
وإذا ما اقترنت العوامل الشعورية التي يتألف الخلق منها ببعض العوامل الوجدية تكون مجموع يعبر عنه بكلمة: «القوى الأدبية.»
وقد غير سلطانها مجرى التاريخ أحيانا، ويمكن أن يقال إن القوى الأدبية مثلت دورا مهما في أول الحرب الأخيرة وآخرها، فقد غلب الألمان بالقوى الأدبية أكثر مما بالمدافع، ولا مراء في أن القيمة الحربية لمقاتلي أمريكة المرتجلين كانت صفرا تقريبا، غير أن الأثر الذي نشأ عن وصول ما لا يحصيه عد من الكتائب كان من السلطان الأدبي ما أدخل اليأس إلى العدو وأطفأ حميته في آخر الأمر. وكان المريشال الشهير فوش يعلق أهمية عظيمة على القوى الأدبية، فيقول: «إن الحرب مضمار للقوى الأدبية، فيقوم النصر على التفوق الأدبي لدى الغالب وعلى الانحطاط الأدبي لدى المغلوب.» •••
وتتجلى إحدى مشاكل الزمن الحديث في الاختلاف الزائد بين نشوء الذكاء بسرعة وتطور المشاعر والأخلاق ببطء.
وكان اتباع الذكاء للمشاعر ذا نتائج كبيرة في التاريخ دائما، ولم تلبث الجهود العقلية لدى اثنين وخمسين ممثلا لمختلف الدول التي تتألف منها جمعية الأمم حفظا للسلم بين الشعوب، أن ثقلت تحت انفجار غريزي لمشاعر جماعية من حسد وكرامة مجروحة ورغبة في الانتقام، إلخ.
صفحه نامشخص