فلسفه تاریخ نزد ویکو
فلسفة التاريخ عند فيكو
ژانرها
والمبدأ الثالث والأخير وهو دفن الموتى يؤكده أن ليس هناك شعب لا يدفن موتاه، هذا المبدأ هو الأصل في تأكيد إنسانية الإنسان. ويكفي أن نتصور الجثث البشرية ملقاة على الأرض نهبا للطيور الجارحة والوحوش الكاسرة، ولو افترضنا إمكان هذا لكانت عادة وحشية في مدن خلت من الإنسانية والتحضر. ويستشهد فيكو بقول المؤرخ الروماني «تاسيتوس» (من حوالي 55م إلى حوالي 120م) أن هناك اعتقادا ساد الأمم الأممية وهو اعتقادهم بأن أرواح الموتى الذين لم يتم دفنهم تبقى قلقة هائمة حول أجسادها ؛ فالأرواح إذن لا تموت بموت الأجساد؛ لذلك ارتبط مبدأ دفن الموتى بخلود الروح البشرية وأصبح تعبيرا عن وحدة الجنس البشري.
بهذه المبادئ يكون فيكو قد قدم الجانب النظري من فلسفته التاريخية متضمنا عناصر العلم الجديد وأصوله، ولا شك أن مبادئ العلم الجديد هي المبادئ التي تبين حدود العقل البشري وتتلخص كما ذكرنا فيما يأتي: الدين، الزواج، دفن الموتى. فإذا أضفنا إليها المعيار الذي يستخدمه العلم الجديد وهو أن القاعدة التي تقوم عليها الحياة الاجتماعية هي ما يتفق جميع البشر أو معظمهم على أنه عدل وصواب، كانت تلك المبادئ كما قلنا تعبيرا عن حدود العقل البشري، ومن يتعدى هذه الحدود فهو يتعدى الحدود البشرية. (3) المنهج
يؤكد الباحثون أن أهمية فيكو ترجع إلى المنهج أكثر مما ترجع إلى المذهب؛ فقد حدد القواعد التي يجب اتباعها لدراسة أصول التنظيمات الاجتماعية البشرية، وإذا كان قد عارض المنهج الرياضي لديكارت إلا أنه لم يرفضه لذاته ولكن رفض تطبيقه في مجال التاريخ، وحدد منهج علم التاريخ بالنسبة لمنهجي الرياضيات والعلوم الطبيعية، ولم يكن تحديد فيكو لمنهج علم التاريخ أو موضوعه وليد نظرة نقدية لمناهج وموضوعات العلوم الأخرى فحسب، بل أسهمت عدة علوم في تشكيل نظرته إلى منهج علم التاريخ وموضوعه أهمها دراسته للغويات؛ فالاشتقاقات اللغوية تكشف عن أسلوب الحياة والتفكير لدى شعب ما، والتعرف على طريقة تفكير شعب ما أو أسلوب حياته يستلزم دراسة اللغة وتتبع التطور الذي طرأ عليها خلال عصور التاريخ . ولقد أفاد من الفلسفة نزعتها الكلية الشمولية؛ فالمظاهر المختلفة للحياة الاجتماعية في مرحلة ما من مراحل التاريخ إنما تتداخل وتتشابك وتشكل نموذجا مترابطا ترابطا باطنيا؛ ومن ثم ينبغي دراستها بنظرة فلسفة شمولية.
ويعتمد فيكو في منهجه على مسلمته الأساسية «يجب أن يبدأ الموضوع من حيث تبدأ المادة التي يتناولها» ولهذا يجب أن نعود مع علماء اللغة والفلاسفة إلى البدايات الأولى للإنسانية عندما كانت في حالة توحش، أي يجب التوفيق بين فقه اللغة والفلسفة؛ لذلك يقيم منهجه على الأدلة الفلسفية والأدلة اللغوية معا، ويبدأ بالأدلة الفلسفية ثم يتبعها بالأدلة اللغوية لتكون أدلة واقعية تؤيد الأدلة التي اهتدى إليها بالتأمل والتفكير. وتنقسم الأدلة الفلسفية إلى أدلة لاهوتية وأدلة منطقية، ويبدأ بالأولى فيؤكد ضرورة البدء من فكرة الإله التي لم يفتقر إليها الإنسان الوحشي الذي لم تكن هناك وسيلة للحد من توحشه أو ترويضه إلا فكرة الخوف من إله معين. هذه الفكرة تبين أن الإنسان سقط في اليأس وتطلع إلى قوة أعلى منه لتنقذه، ولا توجد قوة أسمى من الطبيعة سوى الله. ولقد كان هذا هو النور الذي ألقته العناية الإلهية على جميع البشر، أي أن أفكار الإنسان الأول كانت مصحوبة بالاضطراب والانفعال، وفكرة الألوهية هي التي أضفت على تفكيره الطابع الإنساني وحولت انفعالاته الحيوانية إلى أفكار بشرية؛ لذلك يجب أن نبدأ من الميتافيزيقا الشعبية التي نجدها عند الشعراء القدامى لنجد كيف أن فكرة الألوهية كانت قوة دافعة لحرية الإرادة البشرية ومكنتها من التحكم في انفعالات الجسد وحركاته.
وإذن فالفكرة الجوهرية التي تحدد منهج البحث عند فيكو وتجعل منه الرائد الحق للأبحاث التاريخية الحديثة هي ضرورة التوفيق بين فقه اللغة وبين الفلسفة، أي أنه يبرهن بالمقابلة والموازنة - كما يقول برييه في كتابه تاريخ الفلسفة
29 - على الأسانيد المستمدة من الأمم المختلفة (من مصر وبلاد اليونان وروما على سبيل المثال) ووحدة قانون التطور في كل أمة من هذه الأمم. ويضيف برييه أنه إذا كان فلاسفة العقل لا يعترفون بشيء واحد بين البشر سوى العقل الذي يفترضون أنه مشترك بين الجميع وأن ما هو خيال وانفعالات فهو سبب الفرقة بين البشر، فإنهم ينقلون هذا العقل عن طريق الفكر إلى فجر البشرية لعجزهم عن تكوين فكرة عن الأشياء البعيدة والمجهولة؛ من ثم يتصورونها على نمط الأشكال التي يعرفونها. وقد حاول فيكو أن يقلب هذه الآراء معتمدا على فقه اللغة؛ وذلك لكي يثبت أن بين البشر وحدة لا تقوم على العقل؛ بل أن هناك حسا مشتركا أو حكما بغير تأمل يمكن أن نجده عند كل الطبقات وكل الشعوب بل والجنس البشري بأكمله؛ فالأفكار الواحدة تنشأ في نفس الوقت عند شعوب بأكملها يجهل بعضها البعض، وهناك قوانين واحدة أو مشتركة بين الأمم لا تنبع من العقل.
ويؤكد منهج العلم الجديد دور العناية الإلهية كحقيقة تاريخية؛ فتطور الإنسان والمجتمع يكشف عن منطق يعلو على الوعي والرغبات الفردية، كما يؤكد وجود عقل مدبر هو العناية الإلهية، وهي في رأي فيكو لا تعمل بقوة القوانين وإنما تعمل من خلال عادات البشر وتقاليدهم؛ فالبشر بحكم طبيعتهم الإنسانية يسعون دائما إلى مصلحتهم الخاصة، وعندما عرف الإنسان الزواج حرص على مصلحته في نفس الوقت الذي حرص فيه على مصلحة أسرته. وكذلك كان شأنه في التنظيمات الأخرى التي تتجاوز الأسرة كالمجتمع بمعناه الضيق والمجتمع البشري بمعناه الواسع. لقد وجهته العناية الإلهية دون أن يشعر إلى هذه التنظيمات الاجتماعية.
ويميز فيكو بين نوعين من العناية الإلهية: (أ) العناية الإلهية المتعالية المباشرة التي عبرت عن نفسها في أعمال تاريخية خاصة وفريدة، وهذه مقصورة على الشعب المختار. (ب) العناية الإلهية الباطنة أو الكامنة في التاريخ التي تعمل وفق قوانين موحدة وتستخدم وسائل طبيعية وبسيطة مثل العادات البشرية نفسها وهي ما كانت تمتلكه كل الأمم الأممية، ويتعارض النوع الأول (المباشر المتعالي) مع فاعلية البشر؛ فهي هنا قد صنعت تاريخ البشر عن طريق الرسالات السماوية، أما النوع الثاني فهو لا يتعارض مع الفاعلية البشرية التي اتبعت وسائل بسيطة وطبيعية كالعادات البشرية، وإن كانت العناية الإلهية هي التي توجهه أيضا ولكن بطريق غير مباشر. لقد تركت البشر يتبعون قوانين موحدة ويستخدمون وسائل بسيطة فكانت أفعالهم البشرية هي التي تصنع التاريخ وتضفي معنى على التاريخ، ويقابل هذا التعارض. (أ) استثناء التاريخ العبري المسيحي من نطاق الدائرة التي يختص بها العلم الجديد. (ب) تصور عالم الأمم باعتبار أن له أصولا عديدة مستقلة بحيث يتمثل أو يتجسد في كل أمة نفس التاريخ المثالي الأبدي.
ويزعم فيكو أنه لم يلجأ إلى فكرة العناية الإلهية ليبرر إمكان قيام العلم الجديد، وإنما هو افتراض أساسي يقوم عليه هذا العلم كما هو أحد وجوهه الرئيسية، بحيث أمكنه أن يصف العلم الجديد بأنه «لاهوت عقلي مدني عن العناية الإلهية.» ويهمنا هنا في حديثنا عن منهج العلم الجديد أن نتبين كيف طبق فيكو منهجه اللغوي واستفاد منه في تحليل فكرة العناية الإلهية؛ فهو يوجه أنظارنا إلى معنى الألوهية
Divinitas
صفحه نامشخص