ومن الظاهرات العجيبة في تاريخ المذاهب أن تتكرر مظاهرها مع اختلاف حقائقها ، فقد قيل بحق إن السبب في اختلاف أوجه النظر بين المذاهب السقراطية، إنما يعود - كما قدمنا - إلى أن سقراط لم يحدد «الخير»، فأدرك أهل كل مذهب من معنى الخير الذي تركه سقراط غير محدد؛ صورة قام عليها مذهب جديد من بعده. وكذلك أرسطبس فإنه لم يستطع أن يحدد اللذة تحديدا ينجيها من إجمال سقراط لمعنى «الخير»، ومن هنا كان السبب في اختلاف أوجه النظر في العصر الحديث، وقيام مذاهب جديدة تدعي كل منها الأمانة الكاملة للمذهب «الهيدوني» كما كان يدعي كل من أصحاب المذاهب السقراطية، الأمانة الكاملة لمذهب سقراط.
ومن الواجب ألا نغفل ذكر أنه منذ عهد أفلاطون وأرسطوطاليس قام بجانب الفكرة في اللذة
على أنها غرض ينشد فكرة المنفعة
Utility
على أنها الغرض الأسمى، وقد اعتنقها كثير من فلاسفة الإنجليز وعلى رأسهم بنتام ومل، وسوف نعود إلى الكلام في هذا المبحث، كلما اضطررنا إلى الإلماع إلى طرف منه. (8) أرسطبس وجرمي بنتام
إذا وجب أن يتخذ تحصيل اللذة والسعي وراءها، أساسا تقوم من فوقه كل القواعد الضرورية التي تخضع لها الحياة الإنسانسة، كان علينا أن نميز بين أشياء حتم أرسطبس ضرورة العناية بالتمييز بينهما، كما فعل من بعد جرمي بنتام الفيلسوف الإنجليزي المعروف، هذا الشيء هو الاعتقاد بأن «اللذة» يجب أن تؤخذ دائما، وحيثما كانت وفي أية صورة كانت على أنها «خير» وأن الصورة التي تلجئنا، في أكثر الحالات، أن تتنكب طريق «اللذة» يعضدها دائما تفكير عقلي هادئ.
هذا القول إجمالا، يسوقنا إلى وجوب التفريق بين الشعور باللذة، وبين الظروف التي تحدث اللذة أو تصحبها، أو النتائج التي تترتب عليها، وأن الخلط بين هذين الأمرين - أي بين الشعور باللذة وبين نتائجها وبواعثها - يجب الاحتراز منه بكل وسيلة.
على أن أرسطبس - وقد جاراه بنتام في هذا إلى نهاية الشوط - قد قضى بأنه حتى في حالة عدم الاحتراز من الخلط بين الشعور باللذة وبين بواعثها؛ فإن اللذة تنتج خيرا دائما، بصرف النظر عن الحالة التي تحصل فيها اللذة وأسبابها ونتائجها، وقد يكون للأسباب التي تنتج «اللذة» أو النتائج التي تترتب علي تحصيل اللذة نهايات باعثة على أشد الألم، بيد أنك إذا وازنت بين اللذة والألم الناتج عن تحصيلها ألفيت أن كفة اللذة ترجح دائما.
إذن فالسلوك الواجب ينحصر في الاحتراز من الاسترسال مع بواعث الألم، والتحرر منها جهد المستطاع، وقد نجد في حالات أخرى أن أعمالا تصحبها مشاعر مؤلمة تكون هي الوسائل الوحيدة للحصول على مشاعر ملذة، وهذا الثمن - أي الألم - الذي نبذله في سبيل الحصول على اللذة يدفعنا إليه «هس خفي» لا يجب أن نتوجس منه خيفة، أو نشعر منه بوجل ما دام غرضنا الحصول على لذة ترجح الألم.
وعلى هذا يصبح «فن الحياة» عبارة عن ضرب من الأقيسة والاستنتاجات الهادئة على الصورة التي استنتجها أفلاطون في آخر كتابه «بروطاغوراس
صفحه نامشخص