الحالة الفكرية في قورينة
لم يختلف مؤرخان في أن نبض الحياة الفكرية في قورينة ظل يدق بخفوت خلال أزمان طويلة، فالمعارك الدائمة التي اشتبكت فيها المدينة الفتية مع سكان البلاد الأصليين، قبل أن تأسرهم مفاتن المدينة اليونانية، والحروب الطاحنة التي عانتها مع مصر - وهي إذ ذاك إحدى الدول العظمى - قد استنفدت كل القوى الحيوية والمعنوية التي كان من الممكن أن تزود بها قورينة أبناءها، بما كانت تصب في معينهم من جمال الموقع، واعتدال الإقليم وكثرة الأرزاق.
ولقد كان من أثر هذه الحروب أن المدينة كانت تحتاج إلى المهاجرين، ليملئوا فراغها الشاسع، فكانت مثلها كالسفين تمر على الثغور، ولكن لتفرغ موتى تضمهم القبور، ولتشحن أحياء تسلم بهم إلى الموت، كأنما شاءت أهواء الزمان والأقدار، أن تظل قورينة مغمورة في بحر من الدماء والأشلاء.
على أن الحروب لم تكن لتهدأ نوبتها حتى تنتاب المدينة هزة الخلاف على النظام التشريعي، أو نظام الحكم والنيابة بين أهليها.
فدارت معارك الحكم حول الملوكية أولا، ولكن الملوكية لم تدم فيها إلا بقدر ما دامت في أرض اليونان القديمة، فكان نصيبها الزوال في أواسط القرن الخامس قبل الميلاد.
أما أقدم ما وصل إلينا من ثمرات العقل اليوناني في قورينة فقصيدة من القصص الحماسي عنوانها التليغونية
Telegonia
وضعها الشاعر القوريني «أوغمون
Eugammon » في أواسط القرن السادس قبل الميلاد، وهو عصر كان يعتبر فيه الشعر القصصي في «إيونيا
Ionia »
صفحه نامشخص