لم يجعل له موقفه هذا بين رجال الاقتصاد ورجال السياسة من نصير بين النقاد الذين كتبوا في تاريخ عصره، فإن الذين دافعوا عن الجمعية الثورية، قد أجمعوا على كراهية الاقتصاديين، والمؤرخين الذين دافعوا عن سياسة «تيرجو
Turgo » وأتباعه، كانوا من أقسى الذين حملوا على الجمعية الثورية، وبخاصة بعد أن امتد فيها نفوذ فرنيو ودانتون وربسبيير، واستأثروا بالسلطة فيها، وفي فرنسا بالاستتباع؛ لهذا ظل اسم كوندورسيه نسيا منسيا، وقد أسدل عليه من تطرف الحزبين في التنابذ حجابا مسدولا.
وما أرسطبس بين القدماء إلا نفس كوندورسيه بين المحدثين؛ فإن توسط مذهبه بين مذهبي أفلاطون وأرسطوطاليس أوقعه في موقف أشبه بموقف كوندورسيه بين رجال الاقتصاد ورجال السياسة في فرنسا؛ فإن دعاوة أفلاطون ضد العلوم العملية، وقوله إنها لا تفيد إلا بقدر ما تهذب النفس، وتكون وسيلة للفضيلة، ودعوة أرسطوطاليس إلى القول بأن الخير الأعلى الذي يجدر بالإنسان أن ينشده هو فاعلية النفس، على أن تكون هذه الفاعلية مقودة بالفضيلة؛ لم يجعل لمذهب أساسه اللذة الراهنة من موضع، مع ما حوط به المذهب من المبادئ السامية، والتأملات العميقة، كذلك كان تسود مذهب أرسطوطاليس حتى نهاية القرن السابع عشر تسودا تاما في كل فروع المعرفة؛ سببا في أن يظل اسم أرسطبس نسيا منسيا، ولكن غالب الظن على أن الزمان سوف ينصف هذا الفيلسوف العظيم، ولعل ناشئتنا توجه جهودها نحو الإكباب على درس المذاهب القديمة التي نبذها العرب، ولم يصلنا منها عنهم إلا نتفا وأقوالا مقتضبة أو إشارات لا تجدي ولا تغني من الحق شيئا.
إن حاجتنا إلى درس المذاهب القديمة كبيرة، وبخاصة المذاهب الأدبية التي ظلت بينة الطابع في جميع ما ظهر من المذاهب الأخلاقية في الأعصر الحديثة، على أننا لا ننكر أن العلم الحديث منذ عصر غليليو قد أطفأ الأنوار العلمية التي أشعت من جنبات العالم القديم، ونعني بالعلم العلم التجريبي العملي، أما نظريات الأخلاق فلا نظن أن المحدثين لهم فيها من فضل بقدر ما لليونان.
يجب أن تقوم كل نهضة على أساس، وأساس نهضة الشرق العربي مذاهب اليونان في الفلسفة عامة، ومذاهب الأدب العربي خاصة، أما من ينكر ذلك فمأخوذ ببهرج كاذب. •••
بقي علينا أن نزيد إلى ما تقدم بضعة أسطر في التعريف بالمنبع الذي استقينا منه أصول هذا البحث، والطريقة التي اتبعناها في تأليفه، أما المنبع الأصلي فقد اعتمدنا فيه على الأستاذ تيودور جومبرتز الألماني، فقد نقلنا عنه كثيرا من الأصول التي استندنا إليها، ثم رجعنا إلى مراجع أخرى وتفسيرات عديدة وشروح واسعة على الفلسفة اليونانية، فأخذنا منها كل ما يتعلق بالمذهب وأثبتنا بعضها كتعليقات يرجع إليها عند الحاجة إلى الدرس والمقارنة، ثم سقنا البحث على طريقة رد كل فكرة أو نظرية أو حقيقة إلى مصدرها، ثم علقنا على ما وجدنا أن الضرورة تقضي بالتعليق عليه، وشرحنا ما يجب شرحه، ونقدنا ما يجب نقده، وزدنا إلى ذلك كثيرا من البحوث والنقود والمقارنات المبتكرة، التي لم نجد لها من أثر في المراجع التي رجعنا إليها، وبخاصة المقارنات والنقود التي سقناها في الموازنة بين أرسطبس من ناحية، وبين أفلاطون وأرسطوطاليس وسقراط من ناحية أخرى.
كذلك لم نأل جهدا في الرجوع إلى الكتب القديمة إذا اضطررنا عند الاستطراد في البحث إلى ذلك، مثل كتب أفلاطون وزينوفون وديوجنيس لايرتيوس وغيرهم.
هوامش
الفصل الثاني
القورينيون
صفحه نامشخص