فلسفة كارل بوبر: منهج العلم … منطق العلم
فلسفة كارل بوبر: منهج العلم … منطق العلم
ژانرها
أما النقد الجدير بالاعتبار حقا، فإنه للعلية التي جعلها مل محور تفكيره، بينما لم يقدم لها أي إثبات، وأصر على أنها تقوم على أساس الخبرة الإنسانية، فلم يزد موقفه في هذا عن موقف رجل الشارع، ثم إن العلية بالصورة التي آمن بها مل كانت تحتاج إلى استقراء تام لأحداث الكون تقتضينا أن ننتظر حتى نهاية العالم، إن مل رأى فعلا أنه من الممكن رد حادثة واحدة إلى عدة علل اشتركت في أحداثها، لكن مناهجه - خصوصا منهجي الاتفاق والاختلاف - كانت تشير بوضوح إلى أن لكل معلول علة واحدة، وهذا بالطبع خطأ، كما أن التفسير العلمي ليس هو كل التفسير العلمي، وليست القوانين العلمية دائما قوانين الربط العلمي فقط.
66
لقد كان مل عظيما عظيما بوصفه إنسانا وبرلمانيا، وما هكذا بوصفه فيلسوفا وميثودلوجيا، فقد كان رفيع الخلق جم الفضائل مرهف المشاعر، نموذجا للباحث الجاد والمفكر الملتزم، يبذل قصارى ما يستطيعه، مهدرا الكثير من حقوقه الخاصة، غير أنه لم يكن يستطيع الكثير، فلا هو ذو مقدرة عقلية غير عادية، ولا هو ذو طاقة إبداعية، ولا حتى حس فني أو قدرات جمالية، وفي تذوقه للفنون كان يبحث فيها عن المضمون ولا يلقي بالا إلى القيم الجمالية؛ لذلك فنصوصه الكثيرة ثرية ولكنها جافة، لكل ذلك ليس غريبا أن يبلغ إيمانه بالتجريبية وبالاستقراء هذا المبلغ، والحق أن مبلغ هذا الإيمان كفيل بأن يفقد أبحاثه المنطقية والميثودولوجية والإبستمولوجية أية قيمة لها، فستانلي جيفونز بعد أن درس كتابه «نسق المنطق» عشر سنوات - كما يقضي برنامج الجامعة - صرح بأن هذا الكتاب يسيء إلى تكوين عقلية الطالب ونمو تفكيره المنطقي، بل وإن عقلية مل ليست عقلية منطقية، وإنه استعار طرق البحث العلمي من بيكون، وسلب المادة التي بنى عليها فصوله في الاستقراء من سابقيه ويول وهرشل؛
67
ولذلك أيضا قال عنه برتراند رسل: «ناطحات السحاب لا يمكن بناؤها في لندن؛ لأنها تقتضي أساسا صخريا، وكذلك آراء مل كانت كناطحات سحاب مقامة على أساس من الطفل، تظل مهزوزة لأن أساسها غائر على الدوام»،
68
وأيا ما كان يعنيه رسل بهذا الطفل من خضوعه لتأثير والده وإتيانه في مرحلة تحول فلم يضف جديدا إلى السابقين، وعزف عنه اللاحقون ... فإنا نشير به ها هنا إلى التجريبية المتطرفة؛ أي الاستقراء المباشر.
وأخيرا فإن هذا المثلب التجريبي لمل، لا يشفع فيه إلا شيء واحد، هو أنه من أوائل من نادوا - في الأمة الإنجليزية - بضرورة إخضاع العلوم الأدبية والعقلية - خصوصا علم النفس - للمنهج التجريبي، وكان يؤازره في هذا صديقه الفرنسي أوجست كونت، وقد قوبل باستنكار ورفض شديدين، ولكننا بالطبع أصبحنا اليوم ندرك قيمة هذه الدعوة. (8) تلك هي الخطوط العريضة في تاريخ المنهج الاستقرائي؛ إذ لم يتعرض الاستقراء إلى إضافة تذكر بعد مل، بل اتخذ مفهوم المنهج العلمي طريقا مغايرا، بلغ أوج انحرافه على يد بوبر.
السالف ذكرهم هم الأعلام الذين مكنوا من عقيدة الاستقراء كل هذا التمكين.
ومن هذا العرض التاريخي، نخرج إلى استعراض خطوات المنهج الاستقرائي. (4) خطوات الاستقراء
صفحه نامشخص