والجدير بالانتباه مما تقدم ثلاثة أمور :
الأمر الأول:
اكتفاء الفيلسوف بالوحي في تلك المسألة ورغبته في عدم عرضها على العقل مع تأويل صفتها تأويلا ينطبق على العقل. وهذه هي طريقته في كل المسائل التي كان يحتك بها الدين بالعلم أو العلم بالدين.
والأمر الثاني:
تسامح ابن رشد وتساهله بشأن باقي الأديان. فإن قوله: إن الحكيم لا يتعرض للشرائع بقول مثبت أو مبطل في مبادئها العامة، وإن الشرائع كلها نبهت بما يجب تنبيه الخاصة والعامة إليه، وأنه لا يجوز الاستهانة بها والتصريح بشك في مباديها، بل يجب تأويلها أحسن تأويل؛ لأنها كلها حق، وإن الفضائل الخلقية لا تمكن إلا بالعبادات المشروعة للبشر في ملة ملة (أي في كل الملل) مثل القرابين والصلوات وما يشبه ذلك، وإن الحكماء يوجبون على الناس تقليد الأنبياء والواضعين «في كل ملة» لأن المبادئ التي وضعوها لا يقصد بها إلا حث الجمهور على الأعمال الفاضلة. هذه الأقوال ستبقى في كتاب (تهافت التهافت) دليلا على شرف نفس المؤلف ونزاهته التامة وكماله الأدبي الذي لا تزحزحه أهواء الخاصة والعامة. وكأنه رحمه الله قد رسم بهذين القولين طريق الألفة الحقيقية في الشرق ودائرة الإخاء الممكنة. كأنه قال بهما: إن جميع الأديان صحيحة في حد ذاتها إذا عمل الناس بفضائلها؛ لأنها كلها لا غرض لها سوى الترغيب في الفضائل لإبلاغ الإنسان السعادة في الدارين. كأنه قال: إن الذي يطعن في أحد الأديان ليثني على دين آخر سواء كان ذلك بحق أو من غير حق يكون كمن يطعن على جميع المبادئ الدينية العامة المشتركة بين جميع الملل، وبذلك يخرج عن دائرة الفضيلة الدينية والمبادئ الأدبية. فنحن ننحني هنا باحترام أمام أبي الوليد لشكره على هذا القول الذي أظهر به نزاهته. ونهديه هذا الشكر باسم النبت الجديد في الشرق، أي الناشئة الجديدة المجتمعة على مبادئ الإخاء والإنسانية.
بقي الأمر الثالث:
وهو اهتمامه بأمر الزنادقة الذين يقصدون «إبطال الشرائع وإبطال الفضائل» وإيجاب قتلهم على كل من يقدر عليهم.
فنقول في هذا بكل حرية أننا كنا ننتظر من أبي الوليد تساهلا أكثر من هذا التساهل، لأن القتل في شريعة الإنسانية الحقيقية محرم أيا كان سببه، ولكن لا يجب أن ننسى أن أبا الوليد رحمه الله إنما كان في هذا الكتاب (تهافت التهافت) يرد على الإمام الغزالي. ولذلك كان فيه أقل جرأة مما كان في غيره. فلا غرابة بعد هذا أن يقصد تقوية حجته بشيء من التطرف والشدة.
ومع ذلك فربما كان لأبي الوليد في هذه المسألة حجة أخرى. وهي رغبته في أن يتنصل من كل شبهة كانت تقع على المشتغلين بالفلسفة في تلك الأزمان، بسبب بعض من أصحاب العقول الجافة الذين يرون في الفلسفة ذرية إلى الانطلاق من كل قيد.
وتأييدا لهذا القول ننقل ما رواه رنان في الصفحة 171 من كتابه (ابن رشد) وهذا نصه بحرفه: «كان خصوم الفلسفة يقولون إن هذه الصناعة تؤدي إلى الاعتقاد بقدم العالم ووجوب وجوده وإنكار البعث والحساب، والمعيشة بلا قيد ولا شريعة جريا مع الشهوات. (قال الغزالي): ومما لا بد من التصريح به أن العلم الطبيعي أدى أحيانا ببعض العلماء المسلمين إلى شيء من المادية. فإن طائفة «الحشاشين» الذين كان الخلفاء والأمراء يرتجلون منهم في قصورهم، إنما كانوا فلاسفة يقطعون أوقاتهم بتأليف كتب في الفلسفة. ولما دخل جيش المغول إلى قصرهم في علموت ذلك القصر الذي كان بمثابة عش للعقبان، وجدوا فيه مدرسة علمية كاملة ومكتبة واسعة وغرفة لدرس العلم الطبيعي بالتجربة والامتحان، ومرصدا للفلك آلاته في غاية الإتقان. وفضلا عن ذلك؛ فإن الفلاسفة عند العرب كانوا على وجه الإجمال قليلي الاهتمام بالعبادات. فإن (ابن سينا) كان يشرب الخمر ويحب الغناء ويعكف على الملاذ ويفعل أفعال الجاهلية. وكثيرا ما كان يصرف الليالي مع تلامذته في هذه الأمور. ولما قيل له مرة أن الخمر محرمة أجاب: «قد حرمت الخمر لأنها تثير الخصام والعداء بين الشاربين. وبما أنني معصوم من ذلك بحكمتي؛ فإنني أتناولها لتنبيه فكري وحث خاطري» (رواه الغزالي). وبذلك كان فلاسفة العرب معتبرين بين أبناء وطنهم بمنزلة «الفجار» في القرن السابع عشر عندنا؛ لأنه يصعب التصديق بأن رجالا واسعي النظر كأولئك الرجال لم يعلموا من قواعد الدين الرمزية فوق ما كان العامة يعلمونه . وقد قال الغزالي: «وقد نجد أحدهم (أي أحد الفلاسفة) يقرأ القرآن ويحضر الحفلات الدينية والصلوات ويثني على الدين من شفتيه، إذا سئل إذا كنت لا تعتقد بالنبوءات فلماذا تصلي.؟ فإنه يجيب: لأن الصلاة عادة ووسيلة لإنقاذ حياتي من الموت. وهكذا لا يكف عن شرب الخمر وإتيان كل ضروب الشناعات والكفر». انتهى نقلا عن رنان.
صفحه نامشخص