فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
ژانرها
14
مؤكدا بهذا خطأ بيكون في إغفال أهمية الفرض، وأقام مل بنيانه الضخم على أساس العلية ومن أجلها، ومع هذا لم يقف إزاءها موقفا فلسفيا للحظة واحدة، بل سلم بها كما يفعل الإنسان العادي، هل لأنها تقيم صلب العلم؟ فماذا بقي لفلسفته إذن؟ صرح مل بإمكانية رد معلول واحد إلى عدة علل، ومع هذا تجد منهجي الاتفاق والاختلاف يردان المعلول إلى علة واحدة ... ويمكن أن نستأنف المسير طويلا في تعداد المآخذ على نظرية مل المنهجية، خصوصا بسبب تطرف تجريبيته حتى بلغت حد التسطيح.
بيد أن هذا التطرف التجريبي ذاته هو الذي جعلها صلب النزعة الاستقرائية، وبنظرة واحدة نلاحظ كيف أنها تساير إبستمولوجيا العلم الكلاسيكي المطروحة في الفصل السابق؛ فقد كانت الروح العلمية آنذاك تنزع نحو التجريبية المتطرفة. وحين أتى عام 1850م كان هذا المنزع التجريبي مصوغا جيدا بفضل جون ستيوارت مل وكتابه «نسق المنطق» إنه النزعة الاستقرائية التي أفلح مل في تأكيدها حين أسهب في تبيان أن كل المفاهيم العلمية يجب أن ترتد إلى دوال قابلة للملاحظة عن طريق الاستقراء الذي تنشأ عنه النظرية العلمية، والاستقراء يستند على العلية العامة التي لا تعدو أن تكون اطراد التعاقب في الطبيعة؛ لذلك يقوم منهج العلم على تعميم الوقائع الملاحظة، وسار خلف مل جمع غفير من فلاسفة العلم ذوي المنزع الوضعي، تواصلت مسيرتهم حتى بلغت النصف الثاني من القرن العشرين، بدا هؤلاء - أصحاب النزعة الاستقرائية - وكأنهم المعبرون الشرعيون عن العلم وفلسفته، على الرغم من أن تجريبيتهم الحادة فجة ومباشرة، لا تولي اعتبارا كافيا لدور العقل الإنساني في ملحمة العلم المجيدة، فضلا عن أنها ملغومة بمشكلة الاستقراء ... أشهر مشكلات فلسفة العلم.
وقبل أن ننتقل إلى مشكلة الاستقراء لا بد من العود إلى كلود برنار، الذي رأيناه، في الفصل السابق مقوضا لفرض القوى الحيوية ومؤسسا لعلم وظائف الأعضاء الحديث على أساس من الحتمية الشاملة والعلية والنظرة الميكانيكية، لقد انطلق من الخلفية الوضعية التي صيغت في وطنه فرنسا، اتخذ الموقف التبريري اللاتاريخي فلم يعارض النزعة الاستقرائية كما فعل هيوول، بل على أساس من استيعاب توجهاتها، حاول أن يداوي قصوراتها، ويضيف إلى النظرية المنهجية الاستقرائية إضافات ثاقبة سوف تفتح الطريق للحركة النقدية، وهذه سوف يتعاظم أمرها حتى تعصف في النصف الثاني من القرن العشرين بالنزعة الاستقرائية، عصفا مواكبا ومتسقا مع نواتج ثورة الفيزياء الكبرى في هذا القرن.
وقد كان كلود برنار أيضا من الشخصيات النبيلة حقا في مسار العلم وفلسفته على السواء، تخرج في كلية الطب، وتنازل تماما منذ بدء حياته العملية عن الممارسة الإكلينيكية والعمل في العيادات، مضحيا بفرص الكسب المالي لكي يتفرغ تماما للبحث العلمي في الفيزيولوجيا، تكرس له طوال حياته، حتى بعد أن وهنت صحته وغزاه المرض كان يحمل إلى قلب معمله، علم البشرية كيف يكون التفاني بين جدرانه كما يتبتل العابد الصوفي في محرابه، لم يكن يتوقف إلا إذا قهره الإرهاق. وذات مرة طلب فنجانا من الشاي ليقاوم الإرهاق ويجدد نشاطه، وبهدوء وضعه الخادم الذي تعلم ألا يقطع تركيزه، امتدت يد برنار للفنجان، لكنه سحب كأسا به عينة من بول أرانب جيء بها من أجل التجارب على فيزيولوجيا الجهاز الهضمي. الوعي كله مكرس للتجربة العلمية، وبلا وعي أخذ برنار رشفة من بول الأرانب! ربما انتفض الإنسان العادي اشمئزازا وتقززا إن حدث هذا، لكن العالم المتبتل برنار انتبه فجأة على خبرة تجريبية لا تعوض، فلم يهدرها ولاحظ المذاق السكري لبول الأرانب التي لم تتناول طعاما منذ فترة. طرح برنار السؤال: من أين جاء المذاق السكري؟ وللإجابة عليه دخل في سلسلة أبحاث معملية طويلة انتهت إلى اكتشاف وظيفة البنكرياس ومرض السكر الذي يعاني منه الكثيرون.
وما يعنينا من أمر كلود برنار الآن، أنه توقف هنيهة في خضم أبحاثه العلمية التي لا يشغله عنها شاغل؛ ليضع في عام 1865م كتابه «مدخل إلى دراسة الطب التجريبي»
Introduction a l’etude de la medicine experimental. ، حيث يؤكد أن فن البحث العلمي حجر الزاوية من كل العلوم التجريبية، لكن قواعد المنهج لا تفرض على العالم من الخارج، بل تنبع من صميم ممارساته، وتتطور وفقا لمتطلبات البحث العلمي ذاته، من هنا شرع في تطوير النزعة الاستقرائية تطويرا نقديا يكاد يفتح طريقا جديدا.
وقد رأينا كيف كان كلود برنار كعلماء عصره شديد التمثل لإبستمولوجيا العلم الحديث الحتمية، وبالتالي العلية واليقين والضرورة، وتراتب العلوم الفيزيوكيماوية والحيوية في نسق واحد. وإذا كان يشق طريقا جديدا، طريقا نقديا لحدود المعرفة التجريبية، فإنه حريص على تأكيد الطابع النقدي للعلم ذاته ولمنهجه التجريبي، فيقول: «عندما تكون الواقعة التي تواجهنا متعارضة والنظرية السائدة، يجب قبول الواقعة ونبذ النظرية، حتى ولو أخذ بها الجميع؛ نظرا لتأييد مشاهير العلماء لها.»
15
ويؤكد برنار أن الفارق بين التفكير المدرسي في العصر الوسيط والتفكير العلمي، يتمثل في أن المدرسيين يبحثون دائما عن نقطة بدء مطلقة الصدق كي يبدءوا منها. أما العالم المجرب فعلى العكس من ذلك؛ يشك في كل شيء دائما، حتى في نقطة بدئه، وذهنه بالضرورة متواضع مرن؛ لأن العلم الصحيح يعلم الشك والتورع والإحجام عند الجهل. ومن هنا يؤكد برنار على ضرورة تسلح الباحث بروح النقد المتشككة؛ لأن القاعدة العامة التي تمثل أساس المنهج التجريبي هي الشك. نتيجة الاستدلال العلمي يجب أن تظل دائما ظنية، فالعلم يتقدم دوما في طريقه نحو إدراك الحتمية الشاملة، والحالة الراهنة مصيرها إلى زوال لا محالة ... إلى هنا ويتوقف برنار ليؤكد أن «النقد التجريبي يشك في كل شيء ما عدا مبدأ الحتمية العلمية والعقلية المسيطرة على الوقائع»،
صفحه نامشخص