فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
ژانرها
كان جون ستيوارت مل قد عمل في مطلع حياته بشركة الهند الشرقية، وتدرج في مناصبها حتى وصل إلى أعلاها. ولما حلت الشركة عام 1858م وصار البرلمان الإنجليزي هو الذي يحكم الهند، وعم الفرح في إنجلترا بالجوهرة التي ظفر بها التاج البريطاني، كان مل - وهو عضو بالبرلمان في ذلك الوقت - من أعنف المهاجمين لهذا والمنددين بالاستغلال الوحشي للهند، والمطالبين بترك حكم الهند لأهلها! ولا غرو، فقد اقترن اسم مل بتمجيد الحرية واحترام رأي الفرد وحقوقه. ويعد كتابه «في الحرية 1859م» دستورا للنظام الديمقراطي للحكم في إطار ليبرالي. واتخذ في الأخلاق المذهب الذي ورثه عن أبيه وأستاذه بنتام، مذهب المنفعة العامة الذي يعني أن هدف القيم الأخلاقية هو تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس. وفي النهاية أخرج مل كتابه «استعباد النساء 1869م» الذي يعد المقدمة الحقيقية لاستقلال المرأة في القرن العشرين. لقد عاش مل ملء الأسماع والأبصار، فهل ساعد هذا على التمكين للنزعة الاستقرائية؟!
فقد كان جون ستيوارت مل متطرفا في تجريبيته حتى بلغ إيمانه بالاستقراء مبلغا لم يبلغه أحد من قبله ولا من بعده، فالاستقراء عنده الطريق الوحيد الذي لا طريق سواه، ليس فقط للمعرفة العلمية، بل أيضا لكل وأية معرفة صحيحة أو حقيقية. وباختصار كل مكونات الذهن ومحتوياته مجرد تعميمات استقرائية، لا يستثنى من ذلك شيء البتة، حتى قوانين الرياضة «2 + 2 = 4»، وقوانين الفكر الصورية مثلا «أ هو أ» ... كلها ليست إلا تعميمات استقرائية لكثرة ما لاحظته حواسنا من أن اقتران 2 و2 ينتج عنه دائما 4، ومن أن أ هي دائما أ، لم يكن الاستقراء عند مل مجرد منهج للعلم، بل هو أيضا منطق الحقيقة
Logic of truth .
أجل، كان مل معاصرا لمواطنه جورج بول
G. Boole (1815-1864م) الذي فجر ثورة المنطق الرياضية الرمزية، لكنه لم يشهدها وهي تؤتي أكلها في القرن العشرين. وفي أيام مل كان المنطق لا يزال هو المنطق الصوري الأرسطي. رفض مل المنطق الصوري بجملته وليس فقط قياساته العقيمة، قائلا: إنه منطق للاتساق وإقامة البرهان ... لذلك فهو استدلال ظاهري لا يتضمن أية إضافة ولا يناسب إلا الله الذي أحاط بكل شيء علما، فيستنبط من هذا العلم الشامل ما يريد. أما الإنسان فهو بحاجة إلى منطق يتعقب الحقيقة ويأتيه بمعرفة جديدة لن تكون إلا بالاستقراء؛
10
أي الاستدلال التجريبي الذي هو الاستدلال الحقيقي الوحيد. إن الاستقراء - كما يجزم مل - هو منطق العلم ومنطق العمل ومنطق التفكير ومنطق الحياة، والسبيل المعرفي الواحد والوحيد المثمر الذي يمتلكه الإنسان.
وفي هذا الإطار وضع مل أضخم وأهم كتبه «نسق المنطق 1843م»، محاولا تحقيق حلمه بأن يكون نبي الاستقراء مثلما كان أرسطو نبي القياس. وكما وضع أرسطو للقياس أشكالا وضروبا، وضع مل للاستقراء لوائح أو مناهج، ضمنها الكتاب الثالث من «نسق المنطق»، الفصول الثامن والتاسع والعاشر. إنها خمسة مناهج رآها مل جامعة مانعة لأساليب البحث التجريبي والعلمي، ولطرق التفكير المنتج إجمالا! خمسة مناهج هي وسيلة اكتشاف العلاقات العلية وإثباتها، وهي على النحو التالي: (1)
منهج الاتفاق
Method of Agreement : وينص على أنه إذا اتفق مثالان أو أكثر للظاهرة المطروحة للبحث في نفس الظرف، كان هذا الظرف الذي تتفق فيه كل الأمثلة علة لهذه الظاهرة، أو معلولا لها،
صفحه نامشخص