فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

یمنی طریف الخولی d. 1450 AH
40

فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية

ژانرها

قائمة التفاوت في الدرجة، حيث يسجل الباحث الدرجات المتفاوتة لحدوث الظاهرة موضوع الدراسة، وهذا التنويه السطحي لأهمية التجريب لا يجدي فتيلا، فبيكون قد تحامل على الرياضيات؛ لأنها استنباط خالص وتجريد ينأى بالباحث عن الطبيعة والتجريب! هذا بينما يقوم العلم الحديث على التآزر بين الوقائع التجريبية واللغة الرياضية، وتعد الصياغات الرياضية من معالمه المميزة؛ لذلك يقال: إن ديكارت الذي انطلق من أهمية الرياضيات وخصائص التفكير الرياضي إنما يشارك بيكون في إرساء الأصول المنهجية للعلم الحديث.

وهناك عامل آخر يوضح مدى ابتعاد بيكون عن الروح الحقيقية للعلم الحديث أكثر من هذا الإغفال لأهمية الرياضيات؛ ذلك أنه كان يهدف من الاستقراء هدفا مغايرا لهدف العلم الحديث، فإذا كان العلم الحديث يهدف إلى وصف وتفسير الظواهر الطبيعية، فإن بيكون كان يريد من هذا المنهج أن يفضي به إلى معرفة أو اكتشاف الصور

Forms ، أي صور الطبائع البسيطة

Simple Natures ، فقد رأى أن كل شيء في هذا العالم يمكن رده إلى مجموعة من الطبائع البسيطة عددها اثنتا عشرة، كالضوء والوزن والحرارة ... إلخ. ومن اجتماع هذه الطبائع وتفرقها تتكون سائر الموجودات، وهدف العلم الطبيعي هو اكتشاف أسباب هذه الطبائع، أي صورها. فالصورة ليست تجريدا أو فكرة مثالية، بل هي شرط فيزيائي للطبيعة البسيطة، أساس لها ومباطنة فيها، إن الصورة تمثل علة معلولها الطبيعية البسيطة. بيد أن الطبائع البسيطة ذاتها فكرة ميتافيزيقية لا علمية، توضح أن بيكون لم يتخلص تماما من شوائب العصور الوسطى المسرفة في الميتافيزيقيات، والأدهى أنه تصور مجموعة من الأبحاث تجرى في بضع سنوات تستقصي صور الطبائع البسيطة، فيكتمل نسق العلم الطبيعي! هكذا كان تصور بيكون لعالم العلم على قدر كبير من السذاجة!

على أية حال، كان السبيل الوحيد لمعرفة صور الطبائع البسيطة هو تطبيق المنهج الاستقرائي، أي التجريب، ثم تسجيل نتائج التجريب في القوائم الثلاث المذكورة، وهذا ما فعله بيكون بشأن الطبيعة البسيطة: الحرارة، وانتهى إلى أن صورتها أو علتها هي الحركة.

ويبقى أهم المآخذ على منهج بيكون هو أنه لم يفطن لأهمية الفروض، بل حذر منها وأسماها استباق الطبيعة

Anticipation of Nature ؛

14

أي استنتاجات للعقل الإنساني تنصب على الطبيعة، بينما هي تتجاوز ما تخبر به الطبيعة. وفي سياق هجومه على المنطق الأرسطي هاجم الفروض باعتبارها كالقياس الأرسطي، قضايا لفظية وليست سيطرة على الأشياء، هذا في حين أن الفروض سر تقدم العلم، إن لم تكن هي العلم نفسه، وبغيرها لا جديد إطلاقا. ثم إن بيكون بعد إنكاره للفروض كان هو نفسه يستخدمها دون أن يدري، وإلا كيف توصل إلى أن الحركة هي علة الحرارة؟ «ليست الحركة هي الظاهرة التي كان يبحثها، وإنما كان يبحث ظاهرة الحرارة، ولم تكن الحركة مذكورة في أي من القوائم الثلاث، فالحركة اقتراح، أي فرض لتفسير تلك القوائم.»

15

صفحه نامشخص