فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
ژانرها
Trobriand
قرب أستراليا (من 1914م إلى 1918م)، وكان أول من أجرى بحوثه باللغة الأهلية للسكان. ويمكن اعتبار الدراسة التي تعرضنا لها سابقا - عن مبدئيات العلم والتكنولوجيا عند قبائل الأزتك - تطبيقا للتعاليم التي أرساها مالينوفسكي للمعنيين بهذه المجالات.
في عام 1936م أخرج مالينوفسكي دراسة هامة بعنوان «السحر والعلم والدين» تعد في طليعة الأبحاث الرائدة التي تلقي الضوء على الأصول الأنثروبولوجية بظاهرة العلم.
بادئ ذي بدء يسلم مالينوفسكي تسليما بأن العلم الحديث هو هذه القوة المتعملقة الدافقة في سياق الحضارة المعاصرة، كإنجازات عقلية جبارة لا تهدأ ولا تستكن أبدا، تصوب ذاتها وتتجاوز الوضع الراهن باستمرار، وتفتح دوما أفقا أعلى وأبعد في متوالية لتقدم يتسارع؛ ليمثل العلم الحديث العقل النقدي البناء في أبهى صوره، وأكثرها حسما وجزما وفعالية ... العلم بهذه الصورة التي تنامت في العصور الحديثة لا وجود له بالقطع في المجتمعات البدائية، ولا حتى في الحضارات القديمة. بيد أن العلم بشكل عام هو أساسا نمط من المعرفة تستند على الملاحظات التجريبية لوقائع العالم في إطار من افتراض النظام والاطراد في الكون وما شابه هذا من خطوط منطقية أولية، فتزيد من سيطرة الإنسان على بيئته وإحكام تعامله مع عالمه. والمعرفة العلمية بهذا التوصيف المبدئي لا بد حاضرة في كل مجتمع إنساني مهما كان بدائيا. وإذا كنا نسلم بأن الدين والسحر كائنان وحاضران بقوة في المجتمعات البدائية، فلا بد وأن نضيف إليهما أيضا العلم.
ويسهب مالينوفسكي في إيضاح كيف أن هذه الدوائر الثلاث، السحر والعلم والدين، متمايزة تماما في العقلية البدائية، وغير صحيح أن دائرة السحر تبتلع دائرة العلم، أو أن دائرة الدين تنفيها، فلولا المساحة التي تنفرد بها أصول التفكير العلمي من ملاحظة للطبيعة واعتقاد راسخ بنظام فيها، لما سارت عمليات الصيد والزرع وسائر الفنون والحرف والصنائع التي تقيم الحياة البدائية.
لقد اهتم السير إدوارد ب. تايلور
E. B. Tylor (1832-1917م) مؤسس علم الأثنولوجيا الحديث بدور الدين في المجتمعات البدائية، واهتم جيمس فريزر بالسحر البدائي، ووضع ما يشبه موسوعة كبرى في هذا الصدد، وهي كتابه الشهير «الغصن الذهبي»، فضلا عن كتابه المترجم إلى العربية «الفولكلور في العهد القديم» الذي يعرض للأصول الأنثروبولوجية أو الأصول الفكرية البدائية لمضمونات التوراة. وبعد السحر والدين يأتي مالينوفسكي ليهتم بدور العلم في المجتمعات البدائية وإبراز تمايزه عن السحر وعن الدين. فالدين مختص بالعالم العلوي والحياة الأخرى وما بعد الموت، والعلم مختص بالعالم الأرضي والحياة الدنيا، يمكن أن يتواجدا معا في نفس العقلية في حالة الإنسان البدائي، كما هو الأمر في حالة الإنسان المعاصر.
أما السحر، فصحيح أنه يتشارك مع العلم في أن كليهما يصدر عن رغبة في السيطرة على الطبيعة، إلا أنهما مع هذا يختلفان جذريا في أن السحر إقصاء تام للعقل ولا يستند إلا على قوة التقاليد والاعتقادات المتوارثة، في عالم غامض هلامي مجهول، مما يجعل السحر حكرا على طبقة معينة في المجتمع البدائي؛ هي طبقة الكهنة والسحرة. أما العلم البدائي، فلأنه علم ينبع من العقل البدائي وتصوبه الملاحظات البدائية، ويمثل خيرا عميما متاحا للجميع، وليس حكرا على فئة ما، ولن يصبح العلم هكذا إلا بعد أن تمتهنه الكهنة في الحضارات الشرقية القديمة.
ربما كان كل إنسان بدائي مؤمنا بقوة السحر الخارقة وقدرة التمائم والتعاويذ على صد الكوارث الطبيعية الجامحة والغير متوقعة كالفيضان والأعاصير والزلازل والأوبئة وهجوم أسراب الحيوانات الضارية ... لكن الإنسان البدائي لن يترك أصوليات حرفته أو زراعته أو طهوه للطعام ... إلخ ارتكانا على السحر فقط، ويؤكد مالينوفسكي بأن الإنسان البدائي سوف يستخف تماما بأي اقتراح كهذا، مما يعني حدودا مصونة لأصوليات المعرفة العلمية في عقل الإنسان البدائي، وبطبيعة الحال يستشهد مالينوفسكي على هذا من واقع دراساته لجزر التروبرياند.
وعلى هذا الأساس يرفض مالينوفسكي تماما رأي ليفي بريل الذي يقطع كل صلة بين الإنسان البدائي والعقلية البدائية، وبين العلم وأصوله المنطقية، ولكنه أيضا لا يأخذ بالرأي المناقض تماما من قبيل الرأي الذي يأخذ به عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الأمريكي ذو الأصول الروسية ألكسندر جولدنفايزر
صفحه نامشخص