فلسفة علم الأحياء: مقدمة قصيرة جدا
فلسفة علم الأحياء: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
كما هو شأن معظم الانقسامات الفكرية، يوجد متسع لإجابة وسط، على عكس ما يدعي المتطرفون من كلا الفريقين. أولا، يمكن لعلم الأحياء أن يسلط الضوء على بعض جوانب السلوك البشري دون غيرها؛ إذ لا يلزم أن يسلط الضوء عليها جميعا وإلا استبعدناه. على سبيل المثال، قد تكون تفضيلاتنا الغذائية ذات أصل بيولوجي، لكن مشاركتنا في الرياضات المنظمة ليست كذلك على الأرجح. ثانيا، قد يعتمد وجود تفسير بيولوجي على «معيار» وصفنا للسلوك البشري. إذا كان ذلك المعيار فضفاضا، فقد نجد قواسم سلوكية مشتركة تعكس طبيعتنا البيولوجية المشتركة؛ ولكن إن ضيقنا المعيار، فقد نجد اختلافات سلوكية غير بيولوجية الأصل. على سبيل المثال، يعتبر الارتباط الزوجي صفة بشرية عامة، لكن عادات الزواج المحددة تختلف من مجتمع إلى آخر. هذا يعني أن التفسيرات البيولوجية وغير البيولوجية للسلوك البشري سيكون كل منها مكملا للآخر في بعض الأحيان، إذ ستختلف الجوانب التي يرتكز إليها كلا التفسيرين. ثالثا، أركان تلك المناظرة تحتمل الطعن في صحتها. نظرا إلى أن السلوك البشري نتاج عوامل سببية متعددة، يعتبر بعض العلماء ثنائية التفسير البيولوجي وغير البيولوجي لا تصح. هذه الاعتبارات الثلاثة تعني أن مساحة الاحتمالات كبيرة جدا، لذلك يجب أن نتشكك في أي محاولة لطرح إجابة مبسطة لسؤال ما إذا كان علم الأحياء يمكن أن يخبرنا بأي شيء مفيد عن السلوك البشري.
الطبيعة مقابل التنشئة
معظم الناس على دراية بجدلية الطبيعة والتنشئة، التي تبحث ما إذا كانت العوامل الموروثة أو تلك البيئية هي التي «تجعلنا ما نحن عليه». لطالما شغلت تلك القضية العلماء وغيرهم، وهي قضية من شأنها أن تثير انفعالات قوية. أحد أسباب ذلك هو أن من يقفون على جانب «الطبيعة» بالأخص من الجدل، غالبا ما كانت لديهم أجندات سياسية مبطنة. على سبيل المثال، كان علماء العصر الفيكتوري العديدون الذين رأوا أن جينات الأشخاص «ضعاف الأذهان» (عادة يقصدون أولئك الذين يعانون من صعوبات التعلم) هي جينات رديئة، من علماء تحسين النسل الداعين إلى التعقيم الإجباري لمنع تدهور تجميعة الجينات. حديثا، في سنة 1994، نشر عالما النفس تشارلز هيرنشتاين وريتشارد موراي كتابهما «منحنى الجرس»، الذي زعموا فيه أن السود في الولايات المتحدة يسجلون درجات أقل من البيض في اختبارات الذكاء بسبب جيناتهم، لا بسبب الفقر أو عدم المساواة في التعليم. استنادا إلى هذا الادعاء (المرفوض بشدة)، دعا هيرنشتاين وموراي إلى إنهاء المساعدات الحكومية للفقراء، والتي رأوا أنها تشجع الأفراد ذوي الذكاء المنخفض على التكاثر. وتوجد أمثلة مشابهة بوفرة.
هل يمكننا مناقشة مسألة الطبيعة والتنشئة من منظور علمي بحت، بمنأى عن جميع المضامين الاجتماعية والسياسية؟ هذه في حد ذاتها قضية مثيرة للجدل. فكما ذهب الفيلسوف ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر في طرح شهير إلى أنه لا يمكن للمرء الاستدلال على ما «يجب» أن يكون بما هو «قائم» بالفعل. وفقا لهيوم، تختلف المقولات التي تصف العالم كما هو قائم اختلافا جوهريا عن تلك التي تصف ما يجب أن يكون عليه. لا تزال مقولة هيوم تلك شائعة إلى اليوم؛ فهي تدعم وجهة النظر السائدة التي ترى أن مهمة العلماء هي اكتشاف الحقائق الموضوعية، ومهمة صانعي القرار والمشرعين هي تقرير ما يجب فعله بهذه الحقائق. عند تطبيقه على جدلية الطبيعة والتنشئة، فإن هذا يعني أننا يجب أن نفصل بشكل قاطع السؤال العلمي حول ما إذا كانت صفة بشرية ما جينية الأصل عن السؤال السياسي حول ما يجب أن يفعله المجتمع بهذه المعلومة، هذا إذا كان هناك أي شيء يمكن للمجتمع أن يفعله. على سبيل المثال، تأصل المثلية الجنسية «في الجينات» من عدمه مسألة لا علاقة لها على الإطلاق بما إذا كان ينبغي منح المثليين حقوقا مساوية للمغايرين جنسيا، والأمر سيان بالنسبة لصفات أخرى.
على الرغم من أن هذا يبدو منطقيا، فإن فكرة أن العلم متجرد تماما من القيم وأنه لا يهتم إلا ب «الحقائق الموضوعية»، هي فكرة ساذجة إلى حد ما، لسببين. أولا، يمكن أن تكون الأحكام القيمية حاضرة ضمنا في وصف العلماء للعالم. فالعلماء الفيكتوريون الذين أرادوا منع «ضعاف الذهن» من التكاثر لم يرتكبوا فحسب خطأ تجاوز حدود العلم والشرود إلى مسائل السياسة العامة. بل وقعوا أيضا في خطأ أكبر، وهو الاعتقاد بأن «ضعف الذهن» صفة صحيحة في المقام الأول؛ وقد انعكس هذا الاعتقاد في قناعاتهم الأيديولوجية. ثانيا، يحتاج العلماء إلى تحديد ما سيبحثونه، وغالبا ما يكون للأحكام القيمية تأثير على هذه القرارات. كتب هيرنشتاين وموراي كتابا كاملا عن الاختلافات بين الأعراق في درجات معدل الذكاء، لكن لم يوضحا في أي موضع لماذا ينبغي أن يهتم بها أي أحد. وبالمثل، يكرس المتخصصون في علم النفس التطوري الحديث (طالع القسم التالي) جهودا كبيرة لدراسة الاختلافات المزعومة بين مخ الذكر والأنثى، لكنهم نادرا ما يفسرون سبب أهمية هذه الاختلافات، حتى لو كانت موجودة. وبالتالي فإن اختيار «الحقائق الموضوعية» المراد دراستها قد يعكس في حد ذاته القيم الفردية أو المجتمعية.
هذه التحفظات مهمة، ولكن لا يزال من المنطقي محاولة معالجة المشكلة من ناحية موضوعية بحتة. دعونا بعد ذلك نسأل ماذا يخبرنا علم الأحياء الحديث عن سؤال الطبيعة والتنشئة التقليدي؟ أحد الدروس المستفادة هو أنه في كثير من الحالات، لا يكون السؤال في الحقيقة محددا جيدا. قد يبدو هذا مفاجئا لأن علماء الأحياء كما نعلم يميزون بين التأثيرات الجينية والبيئية على الصفات الظاهرية للكائن الحي، وهو ما يناظر تمييز غير المتخصصين بين الطبيعة والتنشئة. علاوة على ذلك، في الطب الحيوي، غالبا ما توصف بعض الأمراض بأنها «وراثية»، بينما في دراسة سلوك الحيوان، غالبا ما توصف بعض السلوكيات على مستوى الأنواع بأنها «فطرية»؛ ويبدو أن كلا المصطلحين مرادفان لعبارة «بسبب الطبيعة». إذن ما الذي يجعل التمييز بين الطبيعة والتنشئة مشكلا؟
أحد الأسباب ينبع من علم الأحياء النمائي. إذ اتضح أن العوامل الجينية والبيئية دائما ما تشتركان في تطور الصفة، لا سيما الصفات المعقدة مثل السلوكيات. نتيجة لذلك، حتى الصفات المصنفة تقليديا على أنها «وراثية» قد تكون عرضة للتعديل البيئي. أحد الأمثلة الكلاسيكية هو مرض بيلة الفينيل كيتون الذي يصيب الإنسان، وهو ينتج عن طفرة تؤثر على القدرة على استقلاب الحمض الأميني فينيل ألانين، مما يؤدي إلى تلف في المخ. ولكن، إذا لزم الرضيع المصاب بالطفرة نظاما غذائيا منخفض الفينيل ألانين، فإن مخه سوف يتطور بشكل طبيعي. لذا في الحقيقة، بيلة الفينيل كيتون ليس مرضا «وراثيا» بحتا؛ لأنه ناتج عن اجتماع عامل وراثي (الطفرة) وعامل بيئي (تناول الفينيل ألانين)، ولا يتسبب أي منهما في الضرر منفردا. هذا يعني أن سؤال الطبيعة والتنشئة غير محكم «على مستوى الفرد». بمعنى أنه ليس من المنطقي أن نسأل إن كانت إصابة مريض معين ببيلة الفينيل كيتون ناتجة عن جيناته «أم» عن استهلاكه للفينيل ألانين؛ إذ إنها نتيجة اجتماع السببين. ينطبق نفس المغزى بشكل عام على شتى أنواع الصفات.
جدير بالذكر، أن السؤال قد يظل منطقيا على مستوى الجماعة. أي إنه لا يزال بإمكاننا أن نسأل إذا كانت «الاختلافات» في النمط الظاهري بين أفراد جماعة ما جينية أم بيئية الأصل. إذا كان جميع أفراد جماعة ما يتبعون نظاما غذائيا غنيا بالفينيل ألانين، فإن إصابة بعضهم ببيلة الفينيل كيتون دون غيرهم ستكون نتيجة للاختلافات الجينية بينهم. وفي الواقع، فإن العلماء الذين يدرسون علم الوراثة السلوكي البشري عادة ما يركزون على مستوى المجموعة. وأداتهم الرئيسية هي «تحليل قابلية الانتقال بالوراثة». يتضمن ذلك دراسة الأقارب من أجل الوصول إلى تقدير عددي لقابلية صفة ما للانتقال بالوراثة، وهو يعرف بأنه الجزء من تباين الصفة الذي يرجع إلى التباين الجيني. لتوضيح المنطق، افترض أنه وجد أن توءمين متطابقين انفصلا عند الولادة، يتشابهان في بعض الصفات أكثر من فردين مختارين عشوائيا من الجماعة. لأن التوءمين نشآ في بيئتين مختلفتين، يمكننا أن نستنتج أن التشابه بينهما يرجع على الأرجح إلى الجينات المشتركة، من ثم فالصفات المشتركة لها قابلية عالية للانتقال بالوراثة. وجد أن قابلية العديد من الصفات السلوكية والمعرفية البشرية للانتقال بالوراثة متوسطة إلى عالية. وهي تشمل سمات شخصية مثل الانبساط وليونة الطبع؛ وسمات إدراكية مثل معدل الذكاء والمهارة الموسيقية؛ والاضطرابات النفسية مثل القلق والفصام؛ والمواقف الاجتماعية مثل المحافظة والتدين. يرى العديد من الباحثين أن هذا يشير إلى أن التأثيرات الجينية على السلوك البشري جوهرية.
ولكن التفسير الصحيح لتحليل قابلية الانتقال بالوراثة محل جدل. أنصار ذلك التحليل يرونه أداة دقيقة من الناحية الكمية لمعالجة مسألة الطبيعة والتنشئة التقليدية. هذا مبرر في بعض الأحيان، ولكن يثير عددا من التعقيدات. أولا، تعتبر قابلية صفة ما للتوريث نسبية بطبيعتها، ويمكن أن تختلف اختلافا كبيرا من مجموعة إلى أخرى. ثانيا، من الخطأ مساواة قابلية الانتقال بالوراثة العالية بالعامل «الوراثي» والمنخفضة بالعامل «البيئي»، على عكس ما يعتقد أحيانا. لنأخذ مثالا صفة امتلاك ساقين في البشر. في مجموعة نموذجية، سيكون الأشخاص الوحيدون الذين لا يملكون ساقين قد فقدوا إحداهما أو كلتيهما في حادث؛ من ثم فإن الاختلافات في هذه الصفة ليست وراثية. وهذا يعني أن قابلية انتقال صفة امتلاك الساقين بالوراثة تقترب من الصفر؛ لكن سيكون من الخطأ البين أن نستنبط من ذلك أن الجينات لا تلعب دورا في تفسير سبب تطور صفة الساقين لدى الإنسان. ثالثا، أينما يوجد «تفاعل وراثي-بيئي»، يفقد تحليل قابلية الانتقال بالوراثة جزءا كبيرا من معناه. في هذا السياق، «التفاعل» يعني أن التأثير السببي للجين على صفة ما يعتمد في حد ذاته على البيئة. على سبيل المثال، قد يزيد جين معين من خطر الإصابة باضطرابات القلق في المناخات الدافئة، ولكنه يقلله في المناخات الباردة. في مثل هذه الحالات، تتشابك الطبيعة والتنشئة بشكل لا ينفصم، حتى على مستوى الجماعة. أخيرا، يحدث «الارتباط الجيني-البيئي» عندما يرجح أن يواجه الأفراد المتشابهون جينيا بيئات متشابهة. كما هو الحال مع التفاعل، يمنع هذا الارتباط تحليل قابلية الانتقال بالوراثة من الوقوف على حد فاصل بين التأثيرات الجينية والبيئية.
لنلخص ما سبق. على المستوى الفردي، تنشأ جميع الصفات من مزيج من العوامل الجينية والبيئية، ولا معنى هنا لسؤال أيهما أهم. على مستوى المجموعة، يمكن أحيانا قياس الأهمية النسبية للعوامل الجينية والبيئية في تفسير الاختلافات بين الصفات كميا، ولكن ليس في كل الحالات. تنطبق هاتان النقطتان على جميع الصفات، ومن بينها الصفات السلوكية والإدراكية للإنسان. لذا، على الرغم من أن علم الأحياء قد لا يحل جدلية الطبيعة والتنشئة الأزلية، فهو بالتأكيد يساعد في توضيح معناها.
صفحه نامشخص