فلسفة علم الأحياء: مقدمة قصيرة جدا
فلسفة علم الأحياء: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
في الثمانينيات والتسعينيات، طورت التكنولوجيا اللازمة لتحديد تسلسل الجينات، أي لتحديد تسلسل النيوكليوتيدات الدقيق. خلص ذلك إلى مشروع الجينوم البشري، الذي نشر التسلسل الكامل لجميع الجينات البشرية في عام 2003. منذ ذلك الحين، حددت تسلسلات جينومات العديد من الأنواع الأخرى، وتطور سريعا مجال علم الجينوم، الذي يدرس الجينوم الكامل وكيفية عمله. لقد أدى علم الجينوم بالفعل إلى تطورات طبية جديدة، لا سيما في علم الأورام، ويمكن أن يؤدي إلى تحول أيضا في مجالات أخرى مثل الزراعة. لقد قطع علم الوراثة شوطا طويلا منذ نشأته المتواضعة من تجارب مندل على نبات البازلاء.
أهو اختزال؟
ما العلاقة بين الجين في علم الوراثة المندلي أو الكلاسيكي والجين في علم الوراثة الجزيئي؟ لطالما شغل هذا السؤال فلاسفة علم الأحياء. إحدى الإجابات المنطقية هي أنهما واحد. أي إن الكيان الافتراضي الذي افترضه مندل وعلماء الوراثة الكلاسيكية لتفسير بياناتهم تبين أنه كيان له وجود حقيقي، باعتباره جزءا من الحمض النووي يشفر بروتين ما. وفقا لوجهة النظر هذه، على الرغم من وجود مفهومين مختلفين للجين - المندلي والجزيئي - فإن هذين المفهومين يشيران إلى شيء واحد في الواقع.
هذه الإجابة معقولة. فاستمرار إشارة مفهومين مختلفين إلى عنصر واحد هي فكرة مألوفة في الفلسفة، وكذلك استمرار إشارة مصطلح علمي واحد إلى الشيء نفسه على الرغم من التغييرات الكبيرة في المعتقدات العلمية الهامة المرتبطة به. على سبيل المثال، يمكن القول إن مصطلح «إلكترون» كما يستخدمه الفيزيائيون المعاصرون وكما استخدمه فيزيائيو أواخر القرن التاسع عشر يشير إلى شيء واحد، على الرغم من تغير النظرية الفيزيائية بشكل كبير خلال هذه الفترة. لذلك، على الرغم من أن مندل وعلماء الوراثة الكلاسيكية لم يعرفوا شيئا عن الحمض النووي أو الشفرة الجينية، فمن المنطقي تماما أن نقترح أنهم عندما تحدثوا عن «عامل» أو «جين»، في سياق تجارب التهجين التي أجروها، كانوا في الواقع يشيرون إلى مقطع من الحمض النووي يشفر بروتينا ما.
يتوازى افتراض تطابق الجين عند مندل مع الجين الجزيئي مع فكرة أنه يمكن «اختزال» علم الوراثة المندلي في علم الوراثة الجزيئي. غالبا ما يتحدث الفلاسفة عن اختزال فرع من فروع العلم في فرع آخر، مما يعني تفسير مبادئ الفرع الأول من خلال مفاهيم الفرع الآخر. أحد الأمثلة على ذلك هو اختزال الديناميكا الحرارية الكلاسيكية في الميكانيكا الإحصائية. تصف الديناميكا الحرارية نظاما فيزيائيا مغلقا (مثل أسطوانة غاز مضغوطة بواسطة مكبس) من حيث خصائصه الكبيرة مثل درجة الحرارة؛ بينما تصف الميكانيكا الإحصائية النظام نفسه باعتباره تجمعا لجسيمات مجهرية متحركة. يمكن اشتقاق قوانين الديناميكا الحرارية من الميكانيكا الإحصائية، لذا فإن هذه الأخيرة تقدم تفسيرا أعمق لظواهر الديناميكا الحرارية. يتم الوصول إلى هذا الاشتقاق بمساعدة «المبادئ الجسرية» التي تربط مفردات النظريتين، مثل «درجة حرارة الغاز هي متوسط الطاقة الحركية لجزيئاته». وبالمثل، اعتبر بعض الفلاسفة مقولة «الجين هو مقطع من الحمض النووي يشفر بروتينا ما» مبدأ جسري يربط بين علم الوراثة المندلي والجزيئي.
للوهلة الأولى، يبدو هذا طرحا معقولا للغاية. من الواضح أن علم الوراثة الكلاسيكية كان مصيبا في شيء؛ إذ تبين أن أنماط الوراثة التي اكتشفها حقيقية، وأن التفسير الذي قدمه لتلك الأنماط من حيثية انفصال الجينات وفقا لقوانين مندل صحيح بصفة عامة. لكن التفسير كان غير مكتمل في جوهره نظرا لعدم معرفة ماهية الجينات وكيفية انتقالها وكيفية تأثيرها على نمو الكائن الحي. وهي تفاصيل وضحها علم الوراثة الجزيئي الذي يقدم شرحا أعمق للظواهر الوراثية، وبالتالي يمكن اختزال الوراثة المندلية والكلاسيكية فيه وفقا لذلك الطرح.
على الرغم من معقوليته في البداية، فقد قابل فلاسفة علم الأحياء هذا الاقتراح الاختزالي برفض واسع. كان من أوائل الاعتراضات ذلك الذي طرحه فيليب كيتشر، والقائل بأنه لشرح سبب صحة قانون مندل للفصل، لا نحتاج إلا للإشارة إلى أن الجينات تستقر على الكروموسومات التي توجد في أزواج، وإلى أنه أثناء الانقسام المنصف أو الميوزي (عملية الانقسام الخلوي التي تنتج خلايا أحادية المجموعة الكروموسومية)، تنقسم الكروموسومات في كل زوجين؛ لذلك يصبح في كل مشيج كروموسوم واحد فقط من كل زوجين. هذا التفسير خلوي أو على مستوى الخلية، وليس على المستوى الجزيئي. يرى كيتشر أن إضافة «تفاصيل جزيئية دقيقة» لا يجعل التفسير أفضل، ومن ثم لا يفسر علم الوراثة الجزيئي حقا قانون الفصل.
يقوم اعتراض ثان على أن المبدأ الجسري المزعوم الذي يربط بين علم الوراثة المندلي والجزيئي خاطئ، أو هو على الأقل تبسيط مخل، استنادا إلى أن بعض مقاطع الحمض النووي تعتبر جينات مندلية ولكن ليست جينات جزيئية، والعكس صحيح. أحد أسباب ذلك هو أن الجزء الأكبر من الحمض النووي في جينوم أي نوع لا يشفر بروتينات؛ وهي حقيقة لم تكن معروفة لواضعي مفهوم الجين الجزيئي. تلعب بعض تسلسلات الحمض النووي غير المشفرة دورا رئيسيا في تنظيم التعبير الجيني، أي إنها تؤثر على تحديد أي جينات تنسخ ومتى. هذا يسمح للخلية بإنتاج منتج بروتيني عند الحاجة، وهي الآلية التي تضمن تمايز الخلايا، أي إنتاج أنواع مختلفة من الخلايا والأنسجة في الكائن الحي النامي. بشكل حاسم، يمكن أن تؤثر الطفرات في الحمض النووي غير المشفر على سمات الكائن الحي بقدر ما تؤثر الطفرات في الجينات الجزيئية. يعتبر تسلسل الحمض النووي غير المشفر جينا مندليا إذا كان له تأثير نظامي على النمط الظاهري، كأن تؤدي تباينات ذلك التسلسل إلى صور مختلفة لصفة ما. باختصار، إن تشفير البروتين ليس الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يلعب بها تسلسل الحمض النووي دور جين مندلي.
الاعتراض الثالث هو أن بعض المفاهيم الجينية المندلية تستعصي على التعريف من الناحية الجزيئية. أحد أمثلة ذلك هو مفهوم «السيادة». فلا بد من وجود تفسير على المستوى الجزيئي لسبب سيادة جين على أليلاته؛ أي لسبب تطابق الكائنات الحية التي لديها نسخة واحدة من الجين في النمط الظاهري مع تلك التي تحمل نسختين. قد يكون التفسير معقدا، ولكنه ممكن من حيث المبدأ. ومع ذلك، على حد علمنا، لا توجد سمة جزيئية واحدة مشتركة بين جميع الجينات السائدة فقط. أي إن فئة الجينات السائدة تفتقر إلى أي قواسم مشتركة بينها يمكن وصفها جزيئيا. (بلغة الفلاسفة، لدى السيادة «تحققية متعددة» على المستوى الجزيئي.) وبالتالي، بعض الأنماط الوراثية لا يمكن وصفها إلا باستخدام مفاهيم مندلية.
يرى اعتراض رابع أن العلاقة بين علم الوراثة الجزيئي والمندلي أكثر تعقيدا مما توحي به الصورة الاختزالية. ارتبط الجين المندلي/الكلاسيكي بممارسة تجريبية ونمط تفكير معينين، لا يستعاض عنهما بعلم الوراثة الجزيئي. في الواقع، لا يزال مفهوم الجين المندلي قائما إلى اليوم، على عكس ما توقعه المنظور الاختزالي. على سبيل المثال، لا يزال المتخصصون في علم الأحياء التطوري يستخدمون مفهوم الجين المندلي عندما يبنون نماذج رياضية لانتشار الجينات في جماعة ما. المقصود بالجين أساسا في مثل هذه النماذج هو أي جسيم ينتقل كما هو من الأبوين إلى الذرية، ممتثلا لقانون الفصل وله تأثير نظامي على النمط الظاهري. وبالمثل، فإن فكرة «الجين الأناني» لريتشارد دوكينز التي نوقشت في الفصل الرابع، تستند إلى حد كبير على مفهوم الجين المندلي. كما يشير دوكينز، سواء كان «الجين الأناني» جينا بالمعنى الجزيئي أم لا، فهذا لا يغير شيئا في منطق حجته.
صفحه نامشخص