شكر وتقدير
1 - لماذا فلسفة علم الأحياء؟
2 - التطور والانتخاب الطبيعي
3 - الوظيفة والتكيف
4 - مستويات الانتخاب
5 - الأنواع والتصنيف
6 - الجينات
7 - السلوك البشري والعقل والثقافة
قراءات إضافية
مصادر الصور
شكر وتقدير
1 - لماذا فلسفة علم الأحياء؟
2 - التطور والانتخاب الطبيعي
3 - الوظيفة والتكيف
4 - مستويات الانتخاب
5 - الأنواع والتصنيف
6 - الجينات
7 - السلوك البشري والعقل والثقافة
قراءات إضافية
مصادر الصور
فلسفة علم الأحياء
فلسفة علم الأحياء
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
سمير عكاشة
ترجمة
عمر ماجد
مراجعة
سارة ياقوت
شكر وتقدير
إنني ممتن للأجيال العديدة من الطلاب في جامعة بريستول الذين درستهم هذه المادة. أخص بالشكر بول جريفيث وأندرو هوارد وفيليب كيتشر وأرشام نيجاد كوركي ووالتر فايت ولوكاس واكلينج على تعليقاتهم على نص هذا الكتاب.
إلى والدي، وإلى ليلى ومنى ورامي.
الفصل الأول
لماذا فلسفة علم الأحياء؟
لطالما تداخلت الفلسفة مع العلوم الطبيعية. فقد تأثر العديد من أعظم الفلاسفة في الأربعمائة عام الماضية، ومن بينهم إيمانويل كانط وديفيد هيوم، بعلوم زمانهم؛ بل إن بعضهم مثل رينيه ديكارت وجوتفريد لايبنتز كانت له إسهامات علمية. هذا التداخل ليس بالمستغرب. فمنذ القدم تطرح الفلسفة أسئلة عن طبيعة الكون وموضع البشر فيه ومعرفتنا به؛ وتلك مسائل يتناولها العلم باستفاضة. بالفعل، مع نشأة العلم الحديث في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كان لزاما أن تنتقل أسئلة كانت في الماضي حكرا على الفلاسفة إلى ميدان العلماء. من تلك الأسئلة سؤال إذا كانت المادة بشتى صورها مكونة من ذرات كما تصور الفيلسوف القديم ديموقراط، أو إذا كان العقل البشري قوامه جوهر غير مادي كما تصور ديكارت. لا يستطيع أحد اليوم أن يبحث تلك الأسئلة عقلانيا دون الالتفات إلى قول العلم فيها.
على الرغم من أن ميلاد العلم أدى إلى استعماره لبعض جوانب الفلسفة، فقد أدى أيضا إلى نشأة نوع جديد من البحث الفلسفي يطرح أسئلة حول مناهج العلم نفسه. هل تثبت التجربة صحة نظرية علمية؟ هل يمكن اختزال المعرفة العلمية كلها في بضعة مبادئ أساسية؟ إذا تناسبت فرضيتان مع البيانات، فهل من الممكن أن نختار بينهما بالمنطق؟ هذه ليست أسئلة علمية بحتة، بل هي أسئلة فلسفية عن العلم. وهذا لا يجعلها حكرا على الفلاسفة. فقد بحث علماء كنيوتن وأينشتاين أسئلة كتلك. لكن في مطلع القرن العشرين، تبلور بحث المنهج العلمي إلى تخصص أكاديمي قائم بذاته يسمى بفلسفة العلم، وهو تخصص مزدهر في يومنا هذا. وعادة ما يكون المشتغلون بهذا التخصص من المعاصرين قد درسوا الفلسفة والعلوم، وفي بعض الأحيان يشتغلون بكليهما.
فلسفة علم الأحياء هي فرع من فلسفة العلم نشأ في سبعينيات القرن الماضي وشهد تطورا سريعا منذ ذلك الحين. وإذا تأملنا تاريخها، فسنجد أنه يمكن إرجاع نشأتها إلى ثلاثة عوامل. أولا، تبين أن فلسفة العلم التقليدية كانت تتمحور حول الفيزياء؛ أما علم الأحياء فكان مستبعدا من الصورة. ثانيا، بدأت المسائل المفاهيمية الدائرة داخل علم الأحياء تجذب انتباه الفلاسفة، وكان نتاج ذلك هو تبادلا فكريا مثمرا بين التخصصين. ثالثا، بحثا عن الإلهام اتجهت أنظار أنصار الفلسفة «الطبيعانية»، التي تستخدم المنهج العلمي التجريبي لبحث المسائل الفلسفية، صوب علم الأحياء. تلك العوامل الثلاثة مناظرة للمباحث الأساسية الثلاثة لفلسفة علم الأحياء المعاصرة؛ لذا فهي جديرة بأن نتناولها باستفاضة.
منذ أوائل القرن العشرين إلى منتصفه، كانت «الوضعية المنطقية» هي المدرسة المهيمنة في فلسفة العلوم. كان من رواد الوضعية المنطقية رودولف كارناب وهانز رايخنباخ وكارل همبل الذين هاجروا من أوروبا إلى الولايات المتحدة في فترة بين الحربين العالميتين. كانوا قد درسوا الفيزياء فكونوا صورة للعلم اتخذت من الفيزياء إطارا لها. شدد الوضعانيون المنطقيون على «قوانين الطبيعة»؛ تلك المبادئ النظرية الأساسية التي تكمن وراء الظواهر الملاحظة. وصفوا البحث العلمي بأنه البحث عن تلك القوانين، والتفسير العلمي بأنه استنباط الظواهر من القوانين. ينطبق هذا التصور تماما على الفيزياء، إذ تشمل الكثير من القوانين، كقانون الجاذبية الكونية؛ وكثير من الظواهر التي يمكن استنباطها من تلك القوانين، مثل حركة الكواكب. لكنه أقل انطباقا على العلوم البيولوجية. إذا فتحت مرجعا في أي من فروع علم الأحياء، كعلم الوراثة أو علم الأحياء الجزيئي أو علم الحيوان، فستجد العديد من الحقائق التجريبية ، يفسرها العديد من النماذج والنظريات. ولكنها تكاد تخلو من أي «قوانين طبيعية» يمكن استنتاج تلك الحقائق منها؛ إذ ببساطة ليست تلك هي الطريقة التي تسرد بها المعلومات العلمية. من هذا المنطلق وغيره، يصعب على الرؤية الوضعانية المنطقية للعلم أن تستوعب علم الأحياء.
لم يكن الوضعانيون المنطقيون هم الوحيدين الذين همشوا علم الأحياء. في العام 1962، نشر الفيلسوف والمؤرخ توماس كون كتابه «بنية الثورات العلمية» الذي انتقد فيه الوضعانية المنطقية، والذي كان أحد أسباب أفولها في نهاية المطاف. فيه ركز كون على كيفية تغير الأفكار العلمية بمرور الزمن. ودفع بأن أي تخصص علمي ناضج ينبني على نموذج فكري، وهو مجموعة من الفرضيات المشتركة التي يحتكم إليها العلماء في أبحاثهم العادية. تمر فترة على «العلم العادي» يقبل فيها النموذج دون تشكك باعتباره أساسا للبحث. لكن في بعض الأحيان تقع أزمة تظل تتفاقم حتى تؤدي إلى قيام ثورة تنتهي إلى إسقاط النموذج الفكري القائم ليحل محله آخر جديد. ذهب كون إلى أن هذه التغيرات في النماذج ليست مدفوعة بعوامل منطقية بحتة، وأن النموذج الجديد ليس بالضرورة «أفضل» من سابقه، وإنما يختلف عنه ليس إلا. بالتالي يرى كون أن تاريخ العلم ليس سبيلا مستقيما يؤدي إلى «الحقيقة الموضوعية».
كان عمل كون جذريا؛ إذ تعارض مع المعتقد السائد في فلسفة العلوم. لكن على غرار المعتقد الذي هاجمه، كان اهتمام كون منصبا على العلوم الطبيعية. إذ كان من الأمثلة التي استشهد بها على تغير النماذج الثورة الفلكية الكوبيرنكية التي أطاحت بنموذج مركزية الأرض للنظام الشمسي ليحل محله نموذج مركزية الشمس؛ والثورة الأينشتاينية التي أطاحت بالميكانيكا الكلاسيكية لتحل محلها نظرية النسبية؛ والثورة الكيميائية التي أطاحت بنظرية الاحتراق عن طريق الفلوجيستون لتحل محلها نظرية الأكسجين. لكن كون لم يخض كثيرا في العلوم الحيوية، على الرغم من أنه ألف كتابه في ذروة الثورة الجزيئية في علم الأحياء. كما أنه لم يتعرض لقضايا بديهية كنشأة نظرية داروين عن التطور، ونظرية جرثومية المرض، ونظرية مندل عن الوراثة. على غرار فلسفة الوضعانيين المنطقيين ، همشت فلسفة كون العلمية علم الأحياء. كان أحد دوافع نشأة فلسفة علم الأحياء هو إدراك الحاجة لمعالجة هذا الخلل.
كان الحافز الثاني وراء نشأة فلسفة علم الأحياء نابعا من العلم نفسه لا من الفلسفة. فقد شهد القرن العشرين تقدما هائلا في العلوم الحيوية. في النصف الأول من القرن احتل علم الأحياء التطوري مركز الصدارة إذ نشأت «الداروينية الجديدة». دمجت الداروينية الجديدة نظرية داروين عن التطور، بعد أن أدخلت عليها تحديثات ملائمة، مع مجالات حيوية أخرى؛ كعلم الوراثة وعلم الإحاثة وعلم الحيوان. كانت النتيجة منظومة فكرية نظرية مثيرة للإعجاب، تقوم على فكرة أن التطور مدفوع بالانتخاب الطبيعي لبعض المتغيرات الوراثية دون غيرها. في النصف الثاني من القرن تحول التركيز إلى علم الأحياء الجزيئي، الذي يدرس الأساس الجزيئي للكائنات الحية ومكوناتها الخلوية. بدأ هذا المشروع في ثلاثينيات القرن الماضي بتجارب على العاثيات (هي نوع من الفيروسات التي تهاجم البكتيريا). ووثب وثبة كبيرة في عام 1953 باكتشاف جيمس واتسون وفرانسيس كريك لبنية الحمض النووي؛ المادة المكونة للجينات. في العقود اللاحقة ازدهر علم الأحياء الجزيئي؛ إذ كشف علماء الأحياء عن التفاصيل المعقدة لآلية عمل الجينات ونسخها. أدى ذلك بدوره إلى نشأة علم الجينوم الحديث الذي يدرس تأثير المجموع الجيني على نمو الكائن الحي.
عندما اطلع الفلاسفة على تلك التطورات العلمية وجدوا فيها العديد من القضايا المفاهيمية التي تحتاج إلى التحليل الفلسفي. على سبيل المثال، عادة ما يستخدم المتخصصون في علم الأحياء التطوري مصطلحات وظيفية عند الحديث عن الكائنات الحية وصفاتها. يتحدثون عن «وظيفة» صفات معينة أو «الغرض» منها. فالغرض من خياشيم السمكة هو التنفس، ومن أشواك الصبار هو ردع آكلي الأعشاب. يبدو هذا الحديث محيرا لأول وهلة. إذ تخلو مجالات أخرى من العلوم كالفيزياء والكيمياء من حديث مناظر عن الوظيفة. لماذا إذن يستعمل علماء الأحياء تلك المصطلحات، وماذا يعني ذلك؟ هل هي متوارثة من حقبة ما قبل الداروينية حين كان ينظر للكائنات الحية باعتبارها من خلق الإله؟ كيف نكتشف وظائف السمات؟ وهل يمكن أن يكون لسمة واحدة أكثر من وظيفة؟ هذا أحد المواضيع التقليدية في فلسفة علم الأحياء نتناوله في الفصل الثالث.
نجد مثالا آخر لذلك في علم الوراثة. ففي هذا المجال يشيع استخدام مفاهيم مستعارة من أنظمة التواصل البشرية مثل «التشفير» و«المعلومات» و«الترجمة». فيقال إن الجينات تشفر المعلومات وتنقلها من الوالد إلى الذرية، وتلك المعلومات «تقرأ» خلال النمو، ممكنة البويضة الملقحة من أن تنمو إلى كائن بالغ حسب ما يلائم نوعها. هنا أيضا يبدو هذا الحديث محيرا للوهلة الأولى. ففي نهاية المطاف، ما الجين إلا جزيء ضخم من نوع خاص، مصنوع من الحمض النووي. نحن عادة لا ننظر إلى الجزيئات باعتبارها حاملة للمعلومات، ولا نصف أغلب التفاعلات الجزيئية من منطلق نقلها للمعلومات. إذن فلماذا يشيع استخدام المصطلحات المعلوماتية في علم الوراثة، وماذا يعني ذلك؟ هل ينبغي أن نفهمها بالمعنى الحرفي أم أنها مجازية؟ نتناول هذا الموضوع في الفصل السادس.
أكرر أن هذا لا يعني أن تلك الأسئلة لا تخطر لعلماء الأحياء. بل العكس صحيح، فالمثالان المذكوران آنفا ناقشهما علماء أحياء بارزون، مثل جاك مونو وإرنست ماير وجون مينارد سميث. لكن في العموم، لا ينشغل علماء الأحياء التجريبيون بالانخراط في تحليلات فلسفية لمعاني مفاهيمهم بقدر انشغالهم بتحقيق اكتشافات تجريبية. وهكذا ينبغي لهم. فعلى الرغم من أن التفاعل بين الفلاسفة والعلماء أمر مفيد، ينبغي أن تقف الممارسة العلمية على مسافة من التأمل الفلسفي. فهذا يسمح للعلماء بالتركيز على وظيفتهم اليومية، ويعطي الفلاسفة الحرية في استخدام أدواتهم - كالتحليل المنطقي والتفسير وتوضيح الفروقات - في تناول المسائل المفاهيمية التي يجدونها في العلم.
أما العامل الثالث لنشأة فلسفة علم الأحياء فنابع من توجه أوسع في الفلسفة الأنجلوفونية (التحليلية). وهي الحركة التي نادت بأن ينحو البحث الفلسفي منحى العلوم الطبيعية؛ وذلك من خلال محاولة دمجه مع العلوم التجريبية. في الماضي، استخدم الفلاسفة منهجا «عقلانيا» لبحث المسائل التي تثير اهتمامهم، كماهية الأخلاق وحدود المعرفة الإنسانية ومعضلة الإرادة الحرة. والتوظيف الأمثل لهذا المنهج يكون بدراسة معنى مفهوم ما وبحث علاقاته المنطقية بغيره من المفاهيم. حقق هذا المنهج نجاحات، لكن نقاده لطالما اتهموه بأنه غير مثمر. في منتصف القرن العشرين، ذهب الفلاسفة ذوو التوجه العلمي، مثل ويلارد فان أورمان كوين، إلى أن العلم التجريبي يمكن أن يسلط الضوء على تلك الأسئلة الفلسفية المطروحة منذ الأزل. وجادل كوين بأنه من الخطأ أن نتعامل مع المسائل الفلسفية باعتبارها تختلف في جوهرها عن تلك العلمية، وبالتالي فإنه من الخطأ أن نتطرق إليها بالمناهج العقلانية فقط. تختلف الآراء حول مزايا هذا «التحول الطبيعاني» في الفلسفة، لكنه ساعد في ظهور جيل من الفلاسفة لديه القدرة والاستعداد لاعتماد العلم التجريبي مرجعا لبحث المعضلات الفلسفية.
لعب علم الأحياء، وبالأخص علم الأحياء التطوري، دورا رئيسيا في هذا التطور. فقد توقع داروين أن تكون لنظريته عن التطور تبعات على الفلسفة. («من يفهم قرد البابون بوسعه أن يقدم للميتافيزيقا أكثر مما قدمه لوك»، هكذا كتب داروين في إشارة إلى فيلسوف القرن السابع عشر الإنجليزي جون لوك.) شهد المنحنى الطبيعي الذي سلكته الفلسفة تحقق نبؤة داروين جزئيا؛ إذ أثرت الأفكار التطورية على مسائل فلسفية متنوعة. أحد أمثلة ذلك هو مسألة القصدية. فالقصدية في اصطلاح الفلاسفة هي سمة من سمات الحالات العقلية كالاعتقادات أو الأحكام، وتعني أنها «موجهة إلى» أو «متعلقة» بعناصر موجودة في العالم الخارجي. أي إنني إذا كنت أعتقد أن البرازيل أكبر دولة في أمريكا الجنوبية، فاعتقادي هذا «متعلق» بدولة البرازيل. يعبر عن ذلك المعنى أحيانا بالقول: إن اعتقادي ذلك ذو «محتوى تمثيلي»؛ إذ يمثل لي العالم في صورة ما دون غيرها. أبرز سمات المحتوى التمثيلي هو احتمالية التمثيل الخاطئ. فقد يمثل لي عقلي العالم بصورة خلاف الحقيقية، أي إن اعتقادي قد يكون خاطئا. لطالما اعتبر الفلاسفة القصدية ظاهرة محيرة؛ إذ يصعب تصور كيف يمكن أن تنشأ في عالم مادي بحت. ففي نهاية المطاف يفترض أن الحالات العقلية تعتمد في الأساس على الدماغ، وبالتبعية على الخلايا العصبية وترابطها، لكن الخلايا العصبية بحد ذاتها ليس لها متعلق خارجي أو محتوى تمثيلي. فكيف تفسر القصدية إذن في العالم الذي يصفه العلم الحديث؟
في الثمانينيات من القرن الماضي، اقترحت الفيلسوفة روث ميليكان حلا عبقريا لهذه الأحجية مستمدا من الداروينية. كي تفهم فكرتها الأساسية، تأمل رقصة النحل الاهتزازية. يستخدم النحل هذه الرقصة المعقدة التي تتخذ شكل رقم
8
ليرشد أقرانه في الخلية إلى مكان أي مصدر غذاء. لما كان رقص النحل قد تشكل بفعل الانتخاب الطبيعي لغرض محدد - وهو الإشارة بدقة إلى مكان الغذاء - فإنه يمكن لنا أن نستخلص من الرقصة الاهتزازية نوعا من القصدية الأولية. فيعقل أن نقول إن حركات رقصة معينة تعني أن الغذاء موجود على بعد 30 مترا في اتجاه الشمس، بمعنى أن الوظيفة البيولوجية للرقصة هي حث أقران النحل في الخلية على التحليق إلى الموضع المشار إليه. رقصة النحل الاهتزازية إذن تحتمل التمثيل الخاطئ؛ إذ يمكن ألا يكون الغذاء موجودا في الموضع المشار إليه حال أخطأ النحل في أداء حركات الرقصة سهوا على سبيل المثال. باختصار، فكرة ميليكان هي أنه يمكن اعتبار المحتوى التمثيلي مقبولا علميا إذا اختزلناه في وظيفته البيولوجية، وهي فكرة تلعب دورا أصيلا في علم الأحياء التطوري. هذه المحاولة الجريئة لإسباغ القصدية صبغة العلوم الطبيعية مثيرة للجدل، لكنها تلخص كيف يمكن للمنظور البيولوجي أن يساهم في حل معضلة فلسفية قديمة.
إيجازا، نشأت فلسفة علم الأحياء باعتبارها مجالا بحثيا قائما بذاته نتيجة ثلاثة عوامل: الاحتياج إلى رؤية عن العلم أقل ارتكازا على الفيزياء؛ ووجود معضلات مفاهيمية في علم الأحياء نفسه؛ والمنحى الطبيعاني الذي سلكته الفلسفة في مجملها. يستعرض هذا الكتاب فلسفة علم الأحياء بأسلوب لا يفترض وجود معرفة متخصصة لدى القراء، فلسفية كانت أو علمية. ويركز في الأساس على علم الأحياء التطوري وعلم الوراثة؛ إذ كانا مجالي علم الأحياء الأكثر جذبا للاهتمام الفلسفي في السابق. أما في السنوات الأخيرة فقد تغير الحال نوعا ما، إذ حول فلاسفة علم الأحياء تركيزهم إلى مجالات مثل علم الأحياء النمائي وعلم المناعة وعلم الأحياء الدقيقة. وقد فتحت هذه التطورات المثيرة آفاقا جديدة للبحث الفلسفي في العلوم الحيوية.
هذا الكتاب منظم على النحو التالي. يضع الفصل الثاني الخطوط العريضة لنظرية التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي، مفسرا مكانتها الفريدة في علم الأحياء وأهميتها الفلسفية. ويبحث الفصل الثالث مفهوم الوظيفة البيولوجية ويتعرض للجدل المثار في علم الأحياء التطوري حول «التكيف». ويستعرض الفصل الرابع مسألة مستويات الانتخاب، التي تناقش ما إذا كان الانتخاب الطبيعي يعمل على مستوى الأفراد أم الجينات أم الجماعات. ويناقش الفصل الخامس التصنيف البيولوجي، مركزا على ما إذا كانت هناك طريقة «صحيحة» لإلحاق الكائنات بالأنواع، والأنواع بوحدات تصنيف الأعلى. ويستعرض الفصل السادس المسائل الفلسفية المتعلقة بعلم الوراثة، مع التركيز على مفهوم الجين نفسه. ويبحث الفصل السابع انعكاسات علم الأحياء على الإنسان، متسائلا ما إذا كان من الممكن تفسير السلوك والثقافة الإنسانيين بيولوجيا.
الفصل الثاني
التطور والانتخاب الطبيعي
في عام 1859 نشر تشارلز داروين كتابه «أصل الأنواع» الذي قدم فيه نظريته عن التطور. مثل الكتاب نقطة تحول في فهمنا للعالم الطبيعي، وأحدث ثورة في علم الأحياء في العقود التي تلت. فيه طرح داروين ثلاث أطروحات رئيسية. أولا، الأنواع ليست ثابتة بل تغير صفاتها بمرور الزمن تأقلما مع الظروف البيئية. ثانيا، الأنواع الحالية تنحدر من سلف واحد أو بضعة أسلاف مشتركين، ولم يخلق الإله كلا منها مستقلا. لا بد إذن أن أنواعا سالفة من الحياة خضعت لعملية تطورية ما حولتها إلى الأنواع الحديثة. ثالثا، أن «الانتخاب الطبيعي» هو الوسيلة الرئيسية للتعديل التطوري. كان داروين يقصد بالانتخاب الطبيعي أن الكائنات الأقدر على البقاء والتكاثر في بيئتها هي التي ستبقى من بين أفراد جماعتها بينما يفنى سواها. وذهب داروين إلى أن التأثير التراكمي للانتخاب الطبيعي على مدى أجيال كثيرة سوف يجعل الكائنات تتأقلم تدريجيا على بيئتها مؤدية في النهاية إلى ظهور أنواع جديدة تماما من الحياة.
لم يكن داروين أول من طرح فكرة تغير خصائص الأنواع بمرور الزمن ولا فكرة الأسلاف المشتركة للأنواع. فقد ناقش علماء سابقون له تلك الأفكار، ومن بينهم جده إراسموس داروين. ولكنها لم تلق قبولا واسعا، إذ لم تطرح «آلية» معقولة تفسر كيفية حدوث التغير التطوري. فكان إسهام داروين الأساسي هو وصف هذه «الآلية»، التي تمثلت في الانتخاب الطبيعي، واستعراض أدلة مقنعة على إمكان نشأة صفات جديدة في الكائنات، مؤدية في النهاية إلى نشأة أنواع جديدة. يعرض «أصل الأنواع» حجة مقنعة لقدرة الانتخاب الطبيعي على إحداث التعديل التطوري. إذ يقدم داروين مجموعة من الحقائق والملاحظات التي يصعب تفسيرها من خلال فرضية خلق الأنواع منفصلة، وهي مع ذلك منطقية تماما إذا ما ثبتت صحة نظريته.
الانتخاب الطبيعي فكرة بسيطة لكنها ذات تأثير عميق. يقوم الانتخاب الطبيعي في الأساس على الفكرة المنطقية التالية. تأمل أي جماعة من الكائنات الحية. ستتطور هذه الجماعة بمرور الزمن، بمعنى أن تكوينها سيتغير، طالما تستوفي ثلاثة شروط. أولا، لا بد أن يتباين أفرادها في السمات الظاهرية، لا أن يتطابقوا فيها. («السمة الظاهرية» أو «السمة»، هي صفة ملاحظة في الكائن كالطول أو لون البشرة أو شكل الجمجمة.) ثانيا، لا بد أن ينتج عن ذلك التباين في السمات تباين في «الصلاحية»، أو القدرة على البقاء والتكاثر. هذا يحدث لأن بعض التباينات عادة ما تكون أكثر ملاءمة لبيئتها من غيرها. على سبيل المثال، في غابة كثيفة، النباتات الأطول سيصل إليها ضوء الشمس أكثر من تلك الأقصر. ثالثا، لا بد أن تميل الذرية إلى مشابهة الأبوين. هذه الشروط مجتمعة تعني أنه في الأجيال المستقبلية، ستصبح السمات المرتبطة بالصلاحية العالية أكثر شيوعا في أفراد المجموعة، بينما ستنحسر تلك التي تقلل من الصلاحية. يفرد داروين مساحة كبيرة في «أصل الأنواع» للاستدلال على أن الجماعات الحيوية الفعلية عادة ما تستوفي هذه الشروط الثلاثة.
توصل داروين إلى فكرة الانتخاب الطبيعي من خلال قراءة أعمال الديموجرافي الفيكتوري توماس مالتوس. ذهب مالتوس إلى أن نمو التعداد السكاني للبشر دائما ما سيفوق المخزون الغذائي. بالمثل، ذهب داروين إلى أن جميع الكائنات تخوض «صراعا من أجل البقاء»، لأن عدد الكائنات التي تولد في أي جيل يفوق العدد الذي يمكن بقاؤه على قيد الحياة. هذا يرجع إلى قيود متعلقة بالموارد؛ إذ لا يمكن لأي جماعة حيوية أن تظل تنمو إلى الأبد. إذن، لا محالة سيكون هناك رابحون وخاسرون. من ملاحظاته الميدانية، أدرك داروين أن الكائنات في أي جماعة عادة تتباين في نواح لا حصر لها. لذلك فإنه من المرجح، كما استنتج، أن بعض الكائنات ستمتلك صفات تمنحها أفضلية، مهما كانت طفيفة، في الصراع من أجل البقاء. هذه الكائنات سوف تبقى وتتكاثر، ناقلة هذه الصفات ذات الأفضلية إلى ذريتها.
لتوضيح قوة الانتخاب الطبيعي، وضعه داروين في مقارنة مع الانتخاب الاصطناعي الذي يمارسه مربو الحيوانات. وهو مصطلح يشير إلى طريقة تحسين المربين لماشيتهم عن طريق الانتقاء المتكرر للكائنات التي تمتلك خصائص مرغوبا فيها كي تؤسس للجيل القادم. من شأن ذلك أن يؤدي إلى نتائج سريعة إلى حد مدهش، كما حدث في سلالات كثيرة للكلب المستأنس اختلف مظهرها تماما بعد عدة مئات من الأجيال من التناسل الانتقائي. في الانتخاب الاصطناعي يوجد فاعل واع - المربي البشري - يختار قصدا بعض التنوعات دون غيرها لأغراض خاصة. لكن داروين ذهب إلى أن شيئا مشابها يحدث في الطبيعة على مدى زمني أطول. في الانتخاب الطبيعي لا يوجد فاعل واع بالطبع؛ بل تفرض البيئة مصفاة انتقائية، محابية الكائنات الأقدر على البقاء والتكاثر فيها. ينتج هذا كائنات تتكيف جيدا مع بيئتها، ويصنع تنوعا بيولوجيا، إذ تتأقلم مختلف الجماعات على مختلف الظروف البيئية.
حجة التصميم
كانت إحدى النتائج المباشرة لنظرية داروين هي تقويض «حجة التصميم»، وهي حجة فلسفية قديمة لوجود الإله. تنسب النسخة الأشهر من حجة التصميم إلى ويليام بيلي، وهو قس عاش في القرن الثامن عشر. أشار بيلي إلى أن الكائنات تظهر «توافقا» مذهلا مع بيئتها وتعقيدا وظائفيا. لتوضيح معنى التوافق، تأمل قدرة صبار الصحراء على تخزين المياه، أو تشابه الحشرة العصوية مع أوراق النبات المحيطة، أو الديناميكية الهوائية لجناح الطائر. في كل من هذه الحالات، يتمتع الكائن بخصائص تبدو ملائمة بشكل مثالي لبيئته. وكأن مهندسا لديه دراية مسبقة بالتحديات البيئية التي سيواجهها قد زوده بالصفات المناسبة. لتوضيح المقصود بالتعقيد، تأمل عضوا جسديا كعين الفقاريات. كما أشار بيلي، تعتمد وظيفة العين على نشاط متسق لعدة أجزاء ثانوية تتوالف بدقة بالغة، كالعدسة والقرنية والشبكية، وهلم جرا. ليست العين مميزة في هذا الصدد؛ فحتى كائن معقد نسبيا كالأميبا يحتوي على العديد من المكونات داخل الخلية التي لا بد أن تعمل باتساق كي تؤدي وظائف حيوية كالتنفس والتمثيل الغذائي. يعتبر بيلي التوافق والتعقيد دليلين على تصميم قام به إله واع.
دعم بيلي حجته بتشبيه جدير بالذكر. تصور أنه يمشي على مرج وصادف غرضين: حجرا وساعة. يقول بيلي إن ردة فعلنا تجاه إيجاد الغرضين ستكون مختلفة. فوجود الحجر أمر عادي؛ إذ من الممكن تصور أنه لطالما كان موجودا في المرج. أما الساعة فسنستنتج على الفور أن لها صانعا لا محالة؛ فاعلا واعيا صممها. ذلك لأنه على عكس الحجر، يظهر في الساعة تعقيدا وظائفيا. إذ تتوالف أجزاؤها الداخلية بدقة لإنتاج حركة منتظمة لها غرض واضح؛ ألا وهو متابعة الوقت. أبدا لن يخطر لنا جديا فرضية أن قوى فيزيائية بحتة، كالرياح، أدت بالصدفة إلى تجمع كل القطع الداخلية للساعة صانعة التكوين المناسب؛ فهذا يكاد يكون مستبعدا تماما. ذهب بيلي إلى أنه كما لا بد للساعة من صانع، بالإمكان أن نستدل على أن الكائنات الحية أيضا لا بد لها من صانع، فهي على درجة من التعقيد الوظيفي تضاهي تلك الموجودة في أي مصنوع بشري.
على الرغم من أن حجة بيلي انتقدت من قبل، وبالأخص من قبل الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم، إلا أنها لم تهدم تماما إلا بظهور نظرية داروين. إذ قدم داروين تفسيرا طبيعيا للظاهرة التي استدل بها بيلي على عمل الخالق. (المقصود بالتفسير الطبيعي أنه لا يستند إلى أسباب خارقة للطبيعة أو إلهية.) ذهب داروين إلى أن تعقيد الكائنات وتوافقها مع بيئتها ينشآن نتيجة للانتخاب الطبيعي. وأن استمرارية بقاء أفضل التباينات في المجموعة وانحسار غيرها «يوهم» بوجود التصميم في الطبيعة. إنما في الحقيقة لا يوجد مصمم؛ بل عملية سببية عمياء - الانتخاب الطبيعي - تعدل الكائنات تدريجيا بمرور الزمن.
قدم علم الأحياء التطوري الحديث أدلة كافية على صحة التفسير الدارويني. في حالات لا حصر لها، وضع علماء الأحياء تصورا مفصلا لكيفية تطور التكوين الداخلي المعقد للكائنات وتوافقها مع بيئتها. في الواقع يعد مثال العين الذي ضربه بيلي - والذي ما يزال معارضو التطور يستشهدون به أحيانا - هو خير مثال لذلك. فبفضل الدمج بين التحليل الجيني والدراسات الخاصة بنمو العين في أجناس مختلفة، أصبحنا ندرك الآن التسلسل المحتمل للمراحل التي من خلالها تطورت العين الحديثة للفقاريات من عضو بدائي حساس للضوء. نحن نعلم أنه من 500 مليون عام، تطورت عين حديثة في الأصل لدى السلف المشترك لجميع الفقاريات؛ وبعد ذلك، عدلها الانتخاب الطبيعي وصقلها في الأنواع المختلفة لتتوافق مع المتطلبات البيئية.
مع أن داروين ضرب حجة التصميم في مقتل، فقد اتفق مع بيلي في جانب واحد. إذ وافقه في أن الخصائص العضوية التي أشار إليها حقيقية وتحتاج إلى تفسير خاص. (معظم علماء الأحياء الجدد يوافقونهما في ذلك أيضا.) بالفعل يوجد اختلاف جوهري بين جماد كالحجر وبين كائن حي، ومن ثم من المنطقي تماما الإصرار على إيجاد تفسير لذلك الاختلاف. بعبارة أخرى، اتفق بيلي وداروين على أن التصميم «البادي ظاهريا» هو ظاهرة حقيقية، ليس فكرة من وحي خيالنا ولا وهما نسقطه على الطبيعة. لكنهما اختلفا على تفسيره. إذ اتخذ بيلي ذلك التصميم البادي ظاهريا دليلا على وجود تصميم حقيقي، بينما أرجعه داروين إلى الانتخاب الطبيعي.
في الأعوام الماضية، أعاد أنصار حركة «التصميم الذكي» في الولايات المتحدة إحياء نسخة معدلة من حجة بيلي. على نهج بيلي، ذهبوا إلى أن الكائنات الحية لديها خصائص لا تفسير لها سوى أن فاعلا واعيا خلقها فيها. غالبا ما يلبس مؤيدو التصميم الذكي أفكارهم رداء العلم؛ إذ يدفعون بأن الكيمياء الحيوية الحديثة قد أظهرت أن الخلايا - التي هي الوحدات الأساسية المكونة لجميع الكائنات - يظهر فيها تعقيد «غير قابل للاختزال» لا يمكن أن يكون قد نشأ من الانتخاب الطبيعي. غير أن تلك الحجة لا يقبلها أي عالم أحياء جاد؛ لأنها تتجاهل الأدلة التجريبية العديدة على أن الخلايا تطورت بالفعل، وأن الدافع الكامن وراء حركة التصميم الذكي ديني بحت لا علمي. كانت حجة بيلي معقولة تماما في عصره؛ نظرا لأنه كان يكتب في وقت غابت فيه ميزة النظرية الداروينية، أما مناصرو التصميم الذكي فليس لديهم مثل هذا العذر.
الداروينية الجديدة
كانت نظرية داروين مميزة لكن ناقصة، إذ اعتمدت على فرضيتين أساسيتين لم يتضح لهما تفسير إلا لاحقا. أولا، تستلزم نظرية داروين أن يتوالى التباين دون انقطاع. فكي يأخذ الانتخاب الطبيعي مجراه، لا بد أن تتباين صفات أفراد الجماعة. غير أن الانتخاب هو نفسه أداة مجانسة؛ فهو يستمر في «تقليل» تباين الصفات إذ يبقي على التباينات الأصلح ويقضي على ما سواها. إذن كي يستمر الانتخاب الطبيعي لمدى زمني طويل، لا بد من ضخ تباينات جديدة في الجماعة. لكن من أين لتلك التباينات أن تأتي؟ ثانيا، افترض داروين أن الذرية سوف تنزع إلى مشابهة الآباء؛ وأطلق على ذلك «المبدأ القوي للوراثة». هذا التشابه لازم كي يعدل الانتخاب الطبيعي جماعة من الكائنات بالطريقة التي وصفها داروين. إذا كانت النباتات الأطول في جماعتها تحظى بأفضلية للبقاء مقارنة بتلك الأقصر، فلن يكون لذلك تأثير تطوري إلا إذا نزعت ذرية النباتات الطويلة إلى مشابهتها في صفة الطول. وإلا كان تأثير الانتخاب عابرا، إذ لن يستمر إلا لجيل واحد. لكن كيف يمكن تفسير هذا الشبه بين الآباء والذرية؟
اليوم أصبحنا نعلم الإجابة على كلا السؤالين بفضل اكتشافات علم الوراثة، وهو علم لم يدركه داروين. معظم الكائنات تنمو من خلية واحدة، تتكون في الكائنات التي تتكاثر جنسيا من اتحاد مشيجين، أحدهما من الأب والثاني من الأم، ليكونا لاقحة (الأمشاج الذكرية والأنثوية هي الحيوانات المنوية والبويضات). تحتوي هذه الأمشاج على جينات مستمدة من الأبوين. ويكون للجينات في اللاقحة تأثير نظامي على الصفات التي تنمو لدى الكائن. باختصار، هكذا يتحقق التشابه بين الآباء والأبناء الذي اعتبره داروين أمرا مسلما به. أما ضخ تباينات جديدة فمنشؤه عاملان. أولا، التكاثر الجنسي ينتج باستمرار كائنات لها تركيبات جينية جديدة؛ هذا لأن الكائن الحي ينقل إلى المشيج عشوائيا نصف جيناته فقط. ثانيا، لا تنتقل الجينات بدقة تامة. بل تتخللها طفرات متفرقة أثناء نسخ المادة الوراثية، ومن ثم قد تحتوي اللاقحة على تباينات جينية غير موجودة في أي من الأبوين. هكذا، توفر الطفرات إمدادا مستمرا من التباينات الجديدة التي تساعد الانتخاب الطبيعي في عمله.
معظم الطفرات الجينية تكون إما غير مؤثرة على الكائن أو مضرة له. ولكن من حين لآخر تظهر طفرات مفيدة، كتلك التي تجعل الكائن أكثر مقاومة للعدوى أو أقل عرضة للوفاة في مرحلة الطفولة أو أكثر جاذبية للتزاوج. سيحابي الانتخاب الطبيعي مثل تلك الطفرات، إذ ستترك الكائنات الحاملة لها في المتوسط ذرية أكثر من تلك غير الحاملة لها. على مدى العديد من الأجيال سيؤدي هذا إلى تغير التركيب الجيني للنوع، إذ ستشيع فيه الطفرات المفيدة. التأثير المجمل لذلك هو أن النوع سيصير أكثر تكيفا مع بيئته، تماما كما افترض داروين.
عادة ما توصف الطفرة الجينية بأنها «عشوائية»، وهو تعبير فيه شيء من التضليل. فهو لا يعني أن الطفرات لا تخضع لمسببات، أو أن جميع جينات الكائن الحي تتساوى في فرص تحورها، فكلاهما غير صحيح. بل المقصود هو أن الطفرات «غير موجهة»، من حيثية أن كون طفرة معينة نافعة أو ضارة للكائن الحي في بيئة معينة لا يؤثر على فرص حدوث هذه الطفرة. أي إن الطفرات ببساطة تحدث وقتما وأينما شاءت؛ وتأثيرها على صلاحية الكائن الحي هو الذي يحدد ما إذا كانت ستنتشر بواسطة الانتخاب الطبيعي، ولكنه لا يحدد ما إذا كانت ستحدث أم لا في المقام الأول.
أدى اندماج نظرية داروين مع علم الوراثة في مطلع القرن العشرين إلى نشأة الداروينية الجديدة، القائلة بأن التحور العشوائي والانتخاب الطبيعي هما المحركان المتلازمان للتغيير التطوري. بالفعل، عادة ما يعرف الداروينيون الجدد التطور بأنه تغير في التركيب الوراثي لجماعة حيوية ما، استنادا إلى أن كل الظواهر التطورية الأخرى، مثل نشأة أجناس جديدة، تنبع في النهاية من هذه التغيرات. رفض «الوراثة اللاماركية» هو مبدأ آخر لدى الداروينيين الجدد. وهو المصطلح الذي يشير إلى الفرضية المنسوبة إلى جون-بابتيست لامارك العالم التطوري الذي عاش في القرن الثامن العشر، القائلة بأن الخصائص المكتسبة من الممكن أن تورث، الفكرة التي اعتقد بها داروين أيضا. الخصائص المكتسبة هي تلك التي يكتسبها الكائن الحي أثناء حياته بفعل مؤثرات خارجية؛ وهي تختلف عن الخصائص الفطرية التي لها أساس وراثي. احتج الداروينيون الجدد بأن الخصائص المكتسبة لا تشفر في الجينات، إذن فهي لن تورث. تجريبيا، هذا صحيح بشكل عام؛ فلاعب كمال الأجسام الذي يرفع أثقالا طوال اليوم لن ينجب أبناء لهم كتلة عضلية أكثر بالتبعية. على الرغم من ذلك، ليست الوراثة اللاماركية مستحيلة، وقد وثق مؤخرا عدد من الحالات لحدوثها. يدرك علماء الأحياء اليوم أن الجينات ليست العوامل الوحيدة التي يرثها الأبناء من آبائهم؛ تشمل العوامل الأخرى التي يرثونها الهرمونات والمغذيات، والكائنات التكافلية مثل بكتيريا الأمعاء، والسلوكيات المكتسبة، والبنى المادية مثل الأعشاش، والتغيرات «فوق الجينية» للحمض النووي التي تؤثر على التعبير الجيني (العملية التي تصنع الجينات بواسطتها البروتينات التي تحتاجها الخلايا).
نشأ علم الأحياء التطوري الحديث من الداروينية الجديدة لكنه تجاوزها إلى ما هو أبعد، وقد أسهم في ذلك استعانته باكتشافات علم الأحياء الجزيئي (طالع الفصل السادس). اليوم صار لدينا فهم أعمق لآليات التطور، ولكيفية نشأة أنواع جديدة، وللأساس الجزيئي للعديد من الخصائص التكيفية التي أنتجها الانتخاب الطبيعي. علاوة على ذلك، صار لدينا معرفة تفصيلية بشكل شجرة الحياة، ألا وهي مخطط السلالة الذي يربط جميع الكائنات الحديثة بسلف مشترك واحد. ولدينا بعض المعرفة، وإن كانت أقل مما نود، عن أقدم أشكال الحياة على الأرض وكيف خرجت إلى حيز الوجود. نتج عن ذلك صورة أكثر تعقيدا من تلك التي رسمها داروين، لكن رؤيته الأساسية للعملية التطورية، وبالأخص لدور الانتخاب الطبيعي في تعديل الكائنات الحية وخلق التنوع، تظل سليمة.
منطق التفسير الدارويني
تفسير داروين لكيفية تكيف الكائنات الحية مع البيئة مثير للاهتمام فلسفيا ، لأنه يستند إلى منطق مميز. لتقدير حسن منطقه، من المفيد مقارنة تفسيره بتفسير لامارك. ذهب لامارك إلى أنه من الممكن للكائنات الحية على المستوى الفردي أن تتكيف مع البيئة «أثناء فترة حياتها». فعلى سبيل المثال، جادل لامارك بأن أعناق الزرافات تزداد طولا لأن أسلافها من الزرافات كانت تمد أعناقها كي تبلغ الأشجار الطويلة، مما أدى إلى إطالة أعناقها؛ ومن ثم نقلت هذه الأعناق المعدلة إلى ذريتها. الآن وقد صرنا نعلم أن الخصائص المكتسبة لا تنتقل إلى الذرية، صار تفسير لامارك مشكوكا فيه تجريبيا. لكن ذلك ليس مربط الفرس. بل ما يثير الاهتمام هو التناقض المنطقي بين تفسيري لامارك وداروين. فتفسير لامارك يقول بأن «الأفراد» يتغيرون ليحسنوا من ملاءمتهم التكيفية للبيئة، بينما تفسير داروين يعنى «بالجماعة» لا الأفراد باعتبارها الوحدة التي تتغير. فالأفراد لا يخضعون لتغير تكيفي بناء على النظرية الداروينية؛ بل الجماعة هي التي تتغير عن طريق الإبقاء بشكل انتقائي على بعض العناصر المتغيرة والتخلص مما سواها.
عبر عالم الأحياء ريتشارد لونتين عن هذا بقوله إن نظرية لامارك تحولية بينما نظرية داروين تنوعية. يسري هذا الاختلاف على نطاق أوسع من علم الأحياء، كما يتضح من مثال ضربه إليوت سوبر. لنفترض أننا وجدنا أن التلاميذ في فصل معين يجيدون الموسيقى إلى حد يفوق المعتاد وأردنا معرفة السبب وراء ذلك. إحدى المنهجيات المحتملة للإجابة ستركز على كل تلميذ منفرد، وتسعى لتفسير قدراته الموسيقية. قد نكتشف على سبيل المثال، أن كلا من التلاميذ نشأ في أسرة موسيقية، أو بدأ تعلم العزف على البيانو في سن مبكرة، أو كان يحظى بتشجيع أبويه، إلى آخره. هذا تفسير تحولي؛ إذ يشرح كيف تحول كل طفل إلى موسيقي بارع. لكن ثمة نهجا آخر مختلف تماما للإجابة عن السؤال. وهو الإشارة إلى أنه كي يقبل أي تلميذ في الفصل من الأساس، يجب أن يحصل على أعلى الدرجات في امتحان موسيقي صعب. بمعنى أن التحاق التلاميذ بالفصل قد تحدد بواسطة عملية اصطفاء للتلاميذ بناء على قدراتهم الموسيقية؛ نتيجة لذلك ، لا يضم الفصل سوى التلاميذ البارعين في الموسيقى. هذا تفسير تنوعي.
في مثال تلاميذ المدرسة، ينوه سوبر بأن التفسيرين يشرحان بمهارة أمرين مختلفين. إذ يشرح التفسير الأول لماذا يمتلك تلاميذ الفصل قدرات موسيقية فائقة عوضا عن امتلاكهم قدرات أقل. أما التفسير الثاني فيشرح لماذا يضم الفصل ككل تلاميذ بارعين موسيقيا دون سواهم من التلاميذ الأقل براعة. إذن فالتفسير الأول يشرح حقائق عن التلاميذ على المستوى الفردي، بينما يشرح التفسير الثاني حقيقة عن تكوين الفصل. على هذا المنوال تشرح التفسيرات الداروينية في علم الأحياء الحقائق على مستوى الجماعة لا الفرد. على سبيل المثال، لا تفسر الداروينية السبب وراء كون فرو دب قطبي ما أبيض لا بنيا. لتفسير ذلك، سنشير إلى حقيقة أن هذا الدب قد ولد بجينات تسببت في جعل فروه أبيض؛ وهو ليس بتفسير داوريني بل نمائي. ما تفسره الداروينية هو لماذا تضم جماعة (أو نوع) الدب القطبي أفرادا ذوي فراء بيضاء، دون غيرهم ممن لهم فراء بنية؛ أو لماذا تتكرر صفة «الفرو الأبيض» في الدببة القطبية بنسبة 100٪.
ذهب إرنست ماير، وهو عالم تطوري بارز من القرن العشرين، إلى أن داروين استحدث نهجا جديدا لتحليل الطبيعة أطلق عليه «التفكير الجمعي». وهو مصطلح ليس له تعريف دقيق؛ لكن أحد محامله هو التعامل مع الجماعة باعتبارها وحدة التحليل المعنية واعتبار التباين داخلها خاصية «حقيقية» فيها لا مجرد حوادث عارضة. ماير محق في أن هذا جزء لا يتجزأ من الداروينية. كما رأينا، وجود التباين شرط أساسي لحدوث الانتخاب الطبيعي، والتفسيرات الداروينية معنية بالتغيير في الجماعات لا الفرد. علاوة على ذلك، يكرس علماء التطور الجدد جهدا كبيرا لدراسة سمات على مستوى المجموعة وتحليلها كميا، مثل مدى التباين الجيني داخل جماعة ما ومقدار الاختلاف في الصلاحية بين الأفراد المتباينين. وبالتالي، كان من إرث داروين إحداثه تحولا مفاهيميا، إذ جعل الجماعات محل دراسة مثلها مثل الأفراد.
الأسئلة المباشرة والأسئلة المطلقة
تحتل نظرية التطور مكانة فريدة في علم الأحياء الحديث. إذ تعد مبدأ تنظيميا أساسيا ينظم عددا هائلا من الحقائق التجريبية. فالكائنات الحديثة تحمل آثارا لا تنمحي لتاريخها التطوري، من بينها البصمات الوراثية والسمات التكيفية والتشابهات بين الأنواع التي تعكس وجود سلف مشترك لها. كتب عالم الأحياء ثيودوسيوس دوبجانسكي في عام 1973 يقول: «لا يكون أي شيء في علم الأحياء منطقيا إلا في ضوء التطور» وهو ادعاء يظل ثابتا بالدرجة نفسها حتى يومنا هذا. بالطبع لا تدخل الكثير من دراسات علم الأحياء في حيز علم الأحياء التطوري صراحة. فعالم البيئة الدارس للتنوع البيولوجي في غابة مطرية، أو عالم الأحياء الدقيقة الذي يحاول استنساخ فيروس ما، أو عالم الرئيسيات الذي يدرس قردة الشمبانزي في البرية، جميعهم معنيون بأحداث راهنة، لا بأحداث من الماضي البعيد. قد يعتقد المرء أن مثل هذه الأبحاث العادية كانت لتسلك المسار نفسه حتى لو كان داروين مخطئا وكانت قصة الخلق في سفر التكوين هي الصحيحة. هذا صحيح إلى حد ما، لكن في الواقع، يمثل التطور أساسا يستند إليه العديد من المباحث البيولوجية، وإن كان ظاهرها التركيز على الحاضر.
لماذا يحتل التطور تلك المرتبة من الأهمية في علم الأحياء؟ إحدى إجابات هذا السؤال هي أن التطور يقدم لنا فهما فريدا لا يتحقق إلا به. توضيحا لذلك، لنتأمل مقارنة يرجع الفضل في شهرتها إلى ماير، بين نوعين مختلفين من الأسئلة التي يطرحها علماء الأحياء. أسئلة مباشرة كالتي تستفهم عن طريقة عمل آلية بيولوجية ما. على سبيل المثال، كيف يجد سمك السلمون المهاجر طريقه عائدا إلى النهر الذي ولد فيه (أو «موطنه»)؟ أو كيف ينظم حيوان ثديي درجة حرارة جسمه؟ أو كيف تتحرك البكتيريا نحو الأكسجين في محيطها؟ تجاب الأسئلة من هذا النوع بوصف العوامل السببية التي تؤدي إلى نشأة الظاهرة محل التساؤل. في مثال سمك السلمون، الإجابة هي أن رائحة المجرى المائي الذي فقس فيه السلمون بيضه تنطبع في ذاكرته، ومن ثم يعتمد على هذه الذاكرة للعودة إليه بعد بلوغه. أما مثال البكتيريا، فالإجابة هي أن للبكتيريا مستقبلات تستشعر تركيز المركبات الكيميائية في البيئة؛ فيمكن للبكتيريا أن تسبح في تدرج التركيز الكيميائي عن طريق تدوير محركها السوطي.
في المقابل، تعني الأسئلة المطلقة بالميزة التطورية لا الآلية المباشرة. وهي عادة ما تسأل «لماذا» وليس «كيف». على سبيل المثال، لماذا يهاجر سمك السلمون عائدا إلى نهر مولده بدلا من أن يظل في مكانه؟ وهو سؤال منطقي، فالعودة إلى الموطن مكلفة من ناحية الطاقة، ومستهلكة للوقت وفيها مخاطرة. لماذا إذن يقوم بها سمك السلمون؟ هذا سؤال لا يمكن الإجابة عنه بدراسة تفاصيل آلية ملاحة سمك السلمون مهما كانت مشوقة. بل تتطلب إجابته البحث عن الميزة التطورية لعودة السلمون إلى موطنه؛ أي السبب الذي لأجله أحدث الانتخاب الطبيعي هذا السلوك في السلمون من الأساس. على سبيل المثال، إحدى الفرضيات المعقولة هي أن عودة السلمون إلى المجرى المائي الذي فقس فيه يتيح له إيجاد موطن ملائم للتبويض وبقاء صغاره، ومن ثم يعود عليه ذلك بفائدة متعلقة بصلاحيته. إن صحت تلك الفرضية كما يعتقد الكثير من علماء الأحياء، فهي تخبرنا عن «سبب» سلوك السلمون ذلك لا عن «كيفيته».
الأسئلة المباشرة تكون في الأغلب غير مرتبطة بالتاريخ التطوري. فحتى لو كان داروين مخطئا وكان السلمون من خلق الإله، يظل من الممكن طرح السؤال المتعلق بكيفية عودة السلمون إلى مجرى ولادته، والإجابة عليه بالطريقة نفسها فعليا. لكن ليس هذا شأن الأسئلة المطلقة. بل إن السؤال المطلق التقليدي يفترض مسبقا أن الصفة محل السؤال هي صفة تكيفية، أي إنها تطورت من الانتخاب الطبيعي إذ تورث ميزة في الصلاحية. للإجابة عن سؤال لماذا يمتلك الكائن الحي صفة ما، فإن عالم الأحياء سيسعى إلى تحديد ماهية هذه الميزة، أي إنه سيقدم تفسيرا تكيفيا. يستلزم هذا تقديم طرح يتعلق بمسار التاريخ التطوري (ولو ضمنيا على الأقل). فعالم الأحياء الذي يفسر سبب عودة السلمون إلى موطنه بأنه إيجاد موقع ملائم للتبويض إنما يقدم طرحا عن السبب الذي دفع الانتخاب الطبيعي إلى تطوير سلوك العودة إلى الموطن. وهو تفسير سوف يدحض لو تبين خطأ نظرية التطور.
تنبع مركزية التطور بالنسبة لعلم الأحياء من كونه يوضح كيفية نشأة عمليات التكيف، وحدها نظرية التطور تستطيع أن تجيب عن الأسئلة المطلقة التي تسأل «لماذا؟». تقدم مجالات مثل علم الأحياء الجزيئي وعلم الأحياء الخلوي وعلم الأحياء النمائي معرفة تفصيلية عن آليات عمل الكائنات الحية ومكوناتها الثانوية. وهي معرفة ثمينة من الناحية العلمية وذات فائدة كبيرة في حد ذاتها. لكن علم الأحياء التطوري يضيف لنا درجة أخرى مختلفة جوهريا من الفهم العلمي. إذ يتيح لنا أن نفهم التباين الذي نلاحظه في السمات العضوية بتفسيرها على أنها استجابات «منطقية» أو تكيفية للتحديات البيئية التي تواجهها الكائنات الحية. هذا نوع من الفهم مكمل للذي نحصل عليه من دراسة الآلية القريبة وإن كان يختلف عنه تماما، وهو أيضا دافع كبير للانجذاب الفلسفي إلى علم الأحياء التطوري.
على الرغم من أنه ينبغي أن نفرق بوضوح بين الأسئلة المباشرة والأسئلة المطلقة، فقد تتداخل أحيانا إجاباتهما. إذ قد تساهم معرفتنا بالماضي التطوري في فهمنا لآلية عمل الكائنات الحية في الحاضر. مجال الطب الدارويني خير مثال لذلك. المبحث الأساسي للطب هو آلية عمل جسم الإنسان في الوقت الحالي والأسباب المباشرة للمرض. لكن أنصار الطب الدارويني يجادلون بأن المنظور التطوري يمكن أن يساعد في فهمنا لذلك المبحث. لنأخذ السمنة مثالا. يخبرنا التطور أن التفضيلات الغذائية للبشر نشأت في بيئة مغايرة تماما للتي نعيش فيها اليوم، تندر فيها العناصر الغذائية، لذا كان اشتهاء الأغذية السكرية مفيدا. من ثم لا تتوافق بيئتنا الحالية وتفضيلاتنا الغذائية التي تطورت، وهو ما يفسر سبب نزوع البشر للإفراط في الطعام. لو صح هذا التفسير، وهو ما يعتقده الكثيرون، فقد يكون له تبعات عملية على آلية معالجة وباء السمنة، أو لتقييم النجاح المحتمل لتدخل معين. إذن، فالاعتبارات التطورية قد تساعدنا على فهم الآليات المباشرة بشكل أفضل.
لماذا نؤمن بالتطور؟
تعتبر نظرية التطور دعامة أساسية لعلم الأحياء الحديث، ولا يشكك أي عالم أحياء اليوم بجدية في صحتها. على الرغم من ذلك، غالبا ما نجد في المجتمع ككل إحجاما ملحوظا عن الاعتقاد بالتطور ، حتى في أوساط المتعلمين الذين يقبلون بصدر رحب الأركان الأخرى للرؤية العلمية الحديثة للعالم. (هذ الإحجام أقوى في بعض البلاد مما هو في غيرها.) فما السبب؟ يبدو أن ثمة عوامل ثلاثة تقف وراء ذلك.
أولا، التطور فكرة مربكة للغاية، قد يكون من الصعب قبولها عند أول تعرض لها. فأنت إن نظرت إلى حلزون موجود على نبتة فراولة في حديقتك على سبيل المثال، فسيتطلب قبولك فكرة أنك أنت والحلزون والنبتة تنحدرون من سلف واحد إذا ما تتبعنا سلالاتكم بالقدر الكافي تحولا فكريا هائلا. ومع هذا تقول نظرية التطور بصحته؛ فالسلف المشترك لشتى أشكال الحياة النباتية والحيوانية هو كائن أولي وحيد الخلية (يشبه الطحالب) يقدر أنه عاش منذ نحو 1,6 مليار سنة. إذن، هناك فجوة بين خبرتنا العادية لعالم الأحياء الذي يقدم لنا مجموعة من أشكال الحياة لا يخفى التمايز البين بينها، والفكرة التي يقوم عليها علم الأحياء التطوري، ألا وهي أن جميع أشكال الحياة تنحدر من سلف مشترك.
ثانيا، يزيح التطور البشر عن المكانة الفريدة التي وضعهم فيها الفكر الموروث. لقرون كان الاعتقاد السائد هو أن البشر يختلفون جوهريا عن سائر الكائنات الحية، حتى إنهم لا يخضعون للنظام الطبيعي. على سبيل المثال، ذهب ديكارت إلى أن الحيوانات غير البشرية مجرد آلات، بينما يملك البشر أرواحا. وما زال الاعتقاد بتفرد البشر بصورة أو بأخرى سائدا. لكن التطور يقوض هذا الاعتقاد. فهو يخبرنا بأن الإنسان العاقل ما هو إلا أحد أنواع الرئيسيات تشعب من الشمبانزي منذ ستة إلى ثمانية ملايين سنة مضت. بالطبع، يملك البشر سمات مميزة لا تملكها أغلب الكائنات الأخرى كاللغة والثقافة، لكن هذه السمات المميزة موجودة في ظل خلفية من السمات المشتركة. فمن منظور تطوري، فكرة الانفصال الجوهري بين البشر وباقي العالم الحي هي محض وهم.
ثالثا، وبكل وضوح، يتعارض التطور مع الكثير من العقائد الدينية، وبالأخص عقائد الأديان الإبراهيمية. على سبيل المثال، يقول سفر التكوين إن الإله خلق جميع الكائنات الحية منفصلة في ستة أيام منذ بضعة آلاف سنة. إذا أخذ هذا الادعاء على محمله الحرفي، فهو يتعارض بوضوح مع ما يخبرنا به التطور، ألا وهو أن الحياة قد تطورت على الأرض تدريجيا على مدى ما يقرب من أربعة مليارات سنة. لا عجب إذن أنه منذ زمن داروين إلى يومنا هذا، كان للكثير من معارضي التطور دافع ديني، صريحا كان أو مستترا.
تفسر هذه العوامل الثلاثة أسباب معارضة التطور لكنها لا تبررها. فتعارض فكرة علمية ما مع خبرتنا العادية أو مساسها بالكبرياء البشري أو تعارضها مع العقائد الدينية ليس سببا سائغا لرفضها. لكنه يثير سؤالا: كيف نتيقن أن نظرية التطور فعلا صحيحة؟ ما مدى قوة الأدلة عليها؟
كي نتناول هذه المسألة، نحتاج إلى أن نكون أكثر دقة بشأن ما نعنيه بنظرية التطور. رأينا أن داروين نفسه ناقش ثلاث أطروحات: (1) تطور الأنواع صفات جديدة بمرور الزمن؛ (2) الأنواع الحالية تنحدر من أسلاف مشتركة؛ (3) الانتخاب الطبيعي هو الوسيلة الرئيسية للتعديل التطوري. تختلف الأدلة على النقطتين (1) و(3) إلى حد ما. فلنركز على النقطة (2) ادعاء الانحدار من السلف المشترك، إذ إنها النقطة الأهم التي يسعى معارضو التطور إلى دحضها.
الصيغة الحديثة للأطروحة (2) هي فرضية شجرة الحياة الواحدة التي تقول إنه يمكن تتبع كل الأنواع الحالية إلى سلف مشترك واحد. السبب الرئيسي للاعتقاد بها لم يتغير منذ عصر داروين؛ إذ تفسر تلك الفرضية عددا كبيرا من الحقائق التي لا تفسير لها من دونها، وإلا يتحتم اعتبار هذه الحقائق صدفا بحتة. كان من بين الحقائق التي استشهد بها داروين هي التشابهات التشريحية المذهلة بين الأنواع المختلفة، مثل قوائم الخيول والأبقار. سرعان ما تبدو مثل هذه التشابهات منطقية في ضوء التطور. فالخيول والأبقار تنحدر من سلف مشترك ورثت منه بنيتها رباعية القوائم، وخضعت بعد ذلك لتعديل تطوري. لكن لو كانت الخيول والأبقار لا تنحدر من سلف مشترك بل خلق كل منها مستقلا، لما كنا لنتوقع أن يكون تشريحها متشابها على الإطلاق.
مجموعة أخرى من الحقائق التي تدل على وجود أصل مشترك، والتي لاحظها داروين أيضا، تأتي من علم الأجنة. تأمل حقيقة أن جميع أجنة الفقاريات تتشابه كثيرا في مراحلها الأولى حتى إنه يصعب التمييز بينها. أثناء نمو الجنين، يكتسب الصفات المميزة لمجموعته الفرعية من الفقاريات، كالطيور مثلا، ثم المميزة لنوعه في النهاية. وهذا منطقي في ضوء التطور. ترجع جميع الفقاريات إلى نوع واحد من الأسلاف تطور إلى سلالات مختلفة لكل منها صفاتها المميزة: الأجنحة للطيور، والخياشيم للأسماك، إلى آخره. تنشأ هذه الخصائص بعد أن يكتمل تصميم الجسم الأساسي للكائن الفقاري، حيث إنه من الصعب إحداث تغيير في مراحل النمو الأولى للجنين دون إلحاق آثار ضارة على الكائن ككل. نتيجة لذلك، تتشابه أجنة جميع الفقاريات في مراحلها المبكرة، ثم تظل تتمايز أثناء نموها الجنيني. لو أن كلا من الأنواع الفقارية خلق مستقلا، لما وجد سبب لتوقع هذه التشابهات.
أما السبب الأقوى للإيمان بفرضية شجرة الحياة الواحدة فلم يكن متاحا لداروين. إنه «عالمية الشفرة الجينية». لفهم ما يعنيه ذلك، نحتاج إلى معرفة بعض الأساسيات في علم الوراثة. يمكن اعتبار الجين مجموعة من التعليمات مدونة في الحمض النووي لبناء بروتين واحد. يتكون البروتين من سلسلة طويلة من الأحماض الأمينية المرتبطة بعضها ببعض. المقصود بالشفرة الجينية هو الطريقة التي من خلالها يحدد تسلسل الحمض النووي لجين ما تسلسل الأحماض الأمينية في البروتين المناظر. (بتعبير أدق، تقوم هذه الشفرة بترتيب مجموعة ثلاثية من النيوكليوتيدات لصنع حمض أميني واحد؛ انظر الفصل السادس.) يوجد عدد هائل من الشفرات الجينية الممكنة، تتوافق جميعها مع قوانين الكيمياء. لكن المذهل هو أن جميع الكائنات الحية، من الذباب إلى البشر مرورا بالبكتيريا، «تتماثل» في شفرتها الجينية (أو تكاد تتماثل). هذا منطقي تماما لو أن الكائنات الحية تنحدر من سلف مشترك، وإلا فهي صدفة بعيدة الاحتمال للغاية. إذ سيكون أشبه بتكرر نشأة لغة بشرية واحدة في عدة سياقات منفصلة. إذا اكتشف علماء الأنثروبولوجيا عددا من القبائل المنفصلة تتحدث اللغة نفسها بالضبط، فسيفترضون لا محالة أن هذه القبائل تفرعت من مجتمع لغوي واحد. الافتراض البديل القائل بأن كل قبيلة استحدثت بشكل مستقل اللغة نفسها هو افتراض غير معقول بالمرة باعتبار العدد اللامحدود من اللغات الممكنة. بالمثل، تقدم عالمية الشفرة الجينية في الكائنات في يومنا هذا دليلا دامغا على اشتراكها في أصل واحد.
يقال في بعض الأحيان، لا سيما على لسان المعارضين لعلم الأحياء التطوري، إن التطور «مجرد نظرية». وهي مقولة نحتاج إلى شيء من الحذر عند الخوض في تفسيرها. قطعا توجد نظرية تسمى «نظرية التطور»، وهي مجموعة المبادئ النظرية التي تفسر آلية عمل التطور، والتي سبق أن تطرقنا إلى بعضها. لكن هذه المقولة عادة ما تفسر بأن التطور ليس حقيقة ثابتة بل فرضية تكهنية يمكن لشخص عقلاني أن يطعن في صحتها. وتلك فكرة يجب التصدي لها. لما كنا لا نستطيع رؤية الماضي رأي العين، كان الادعاء القائل بانحدار الأنواع الحالية من أسلاف مشتركة لا يمكن الجزم به إلا بطريق غير مباشر، وهو الاستنباط. لكن ذلك ينطبق على العديد من الافتراضات العلمية. فنحن لا نستطيع رؤية الإلكترونات ولا الحضارات القديمة ولا نواة الشمس مباشرة، لكننا نعلم الكثير عن تلك الأشياء. الأدلة المؤيدة للتطور هائلة إلى حد يجعل التشكيك في صحتها بجدية غير ممكن. فمن يشك في التطور على أساس أنه «مجرد نظرية» فحري به أن يشكك في جميع أطروحات العلم الحديث أيضا إن كان مبدؤه ثابتا.
الفصل الثالث
الوظيفة والتكيف
إحدى السمات اللافتة في العلوم البيولوجية هي كثرة نزوعها إلى مفهوم «الوظيفة». تأمل العبارات التالية. وظيفة قوقعة السلطعون هي حماية أحشائه؛ وظيفة كليتي الإنسان هي تنقية الدم؛ وظيفة رقص ذكر طائر الجنة هي جذب الإناث للتزاوج. إن عبارات من هذا النوع، التي من الممكن أن نسميها «عبارات إسناد الوظيفة»، من الممكن أن نجدها في أي من مراجع علم الأحياء، وعادة ما تمر دون أن نلتفت إليها. وهي في ذلك تتباين تباينا لافتا مع العلوم غير الحيوية التي تكاد تخلو من أي حديث عن الوظيفة. فعلماء الجيولوجيا لا يناقشون وظيفة الأنهار الجليدية؛ وعلماء الفلك لا يناقشون وظيفة الكواكب؛ وعلماء الكيمياء لا يناقشون وظيفة الروابط التساهمية. ولو ناقشوا ذلك فلن يفهم قصدهم بسهولة. فلماذا إذن يكثر حديث علماء الأحياء عن الوظيفة، وما المقصود بها بالتحديد؟
الإجابة السطحية عن هذا السؤال تقول إن الحديث عن وظيفة عنصر بيولوجي ما هي ببساطة ذكر ما يفعله هذا العنصر أو وصف تأثيراته. من هذا المنظور، القول بأن وظيفة قوقعة السلطعون هي حماية أحشائه يعني أن تلك هي وظيفته الوحيدة؛ والقول إن وظيفة رقصة الطائر هي جذب الإناث للتزاوج يعني أن تلك هي وظيفتها الوحيدة؛ وهكذا. ولكن لا يمكن أن يكون هذا صحيحا تماما. ففي النهاية قوقعة السلطعون لها آثار أخرى بجانب حماية الأحشاء، مثل جعل التقاط السلطعون أيسر على الصيادين على سبيل المثال. لكننا لن نصف هذا بأنه وظيفة القوقعة. بالمثل، عندما يؤدي ذكر طائر الجنة رقصته للتودد، كثيرا ما سيجذب إليه الضواري لا الإناث فحسب؛ لكن جذب الضواري ليس وظيفة الرقصة، بل مجرد نتيجة يصادف أن تسببت فيها الرقصة. كما تظهر هذه الأمثلة، ليست كل آثار أي عنصر بيولوجي جزءا من وظيفته؛ أن نعتقد غير ذلك هو عدم إدراك للفارق بين الوظيفة الحقيقية وما يمكن أن نسميه «أثرا جانبيا غير مقصود». يستدعي علماء الأحياء ضمنيا هذا التمايز كلما استخدموا الاصطلاح الوظيفي.
تنشأ معضلة فلسفية عند هذا المنعطف. حيث إنه من السهولة أن يبدو أن للحديث الوظيفي في علم الأحياء بعدا «معياريا» قائما على أحكام قيمية. (في الفلسفة، يختلف المنهج المعياري عن الوصفي؛ إذ يتناول الأول ما يجب أن تكون عليه الأشياء بينما يتناول الثاني الأشياء على حالها الفعلي.) عندما يتحدث عالم أحياء عن وظيفة عنصر بيولوجي ما فهو يبدو وكأنما يتطرق إلى الغرض «المفترض» من هذا العنصر، وليس ما يقوم به هذا العنصر فعليا. ما يشير إليه هذا هو أنه في المواضع التي يكون الحديث عن الوظيفة منطقيا، يكون الحديث عن الخلل الوظيفي منطقيا أيضا. فالقوقعة التي لا تحمي أحشاء السلطعون أو الكلية التي لا تنقي الدم في الجسد، قد فشلتا في القيام بوظيفتيهما أو أصيبتا بخلل وظيفي. لكن هذا مربك نوعا ما. فمن الذي يقرر الغرض من عنصر بيولوجي ما؟ العلوم الطبيعية مختصة بوصف العالم كما هو، وليس إطلاق أحكام عن كيف يجب أن يكون. فهل علم الأحياء فعلا استثناء لهذا المبدأ؟ أو هل هناك سبيل للتغاضي عن البعد المعياري بتفسيره، ربما عن طريق تحويل عبارات إسناد الوظيفة إلى تعبيرات أخرى؟ نعود إلى هذا اللغز في موضع لاحق.
لعلك تتساءل إذا كانت تلك الضجة كلها سببها مجرد كلمة. الإجابة هي لا، لسببين. أولا، ما يثير تلك المسألة الفلسفية ليس «الوظيفة» وحدها، بل مجموعة أشمل من التعبيرات المستخدمة في علم الأحياء. تشتمل هذه المجموعة على تعبيرات أخرى مثل «من أجل» و«بغرض». ومن ثم، فإن سداة النبات هي من أجل صنع حبوب اللقاح، وطيور السنونو تهاجر إلى الجنوب بغرض الهروب من الشتاء القاسي. ثانيا، الظاهرة اللافتة هنا لا تخص اللغة فحسب، بل تخص أيضا نمطا مميزا من التفسير. نمطا يستلزم تفسير وجود عنصر بيولوجي ما أو تفسير طبيعته من خلال الحديث عن الغرض من هذا العنصر، أي وظيفته. على سبيل المثال، هب أننا نسأل لماذا يمتلك نبات الصبار شوكا. الإجابة هي: إن الغرض من شوك الصبار هو ردع آكلات العشب. أو هب أننا نسأل لماذا تمتلك الأسماك خياشيم. الإجابة هي: للأسماك خياشيم للتنفس تحت الماء. كما تبين هذه الأمثلة، غالبا ما يكون لذكر وظيفة العنصر البيولوجي دور رئيس في التفسيرات التي يقدمها علماء الأحياء.
هذا التفسيرات الوظيفية تتشابه بوضوح مع التفسيرات المطلقة (أو التكيفية) التي تطرقنا لها في الفصل السابق، التي تفسر خصائص الكائن الحي من خلال بيان إسهامها في دعم صلاحيته البيولوجية. في الواقع، قد يظن المرء أن التفسيرين - الوظيفي والتكيفي - هما في الحقيقة واحد. من هذا المنظور، تكون وظيفة عنصر بيولوجي ما هي ببساطة أهميته التكيفية، أي إسهامه المحدد في صلاحية الكائن الحي؛ وعملية تفسير وجود أو طبيعة ذلك العنصر، من خلال ذكر وظيفته، تكافئ طرح تفسير تكيفي، أو على الأحرى تكافئ القول بأن الانتخاب الطبيعي أدى إلى تطوره. هذا منظور جذاب، لكنه كما سنرى، ليس الطرح الوحيد لكيفية فهم الحديث الوظيفي في علم الأحياء.
الوظائف والأدوات
لقد ذكرنا أن العلوم الفيزيائية قلما تستخدم مفهوم الوظيفة. ولكن، يوجد سياق غير بيولوجي يشيع فيه الحديث عن الوظيفة، ألا وهو وصف الأدوات التي صنعها الإنسان. على سبيل المثال، نقول إن وظيفة الساعة الشمسية هي معرفة الوقت؛ ووظيفة العارضة هي حفظ اتزان القارب؛ ووظيفة الصمام هي الحفاظ على ضغط الهواء داخل الإطار. بخلاف الكائنات الحية، الأدوات صممها البشر بقصد أداء وظيفة معينة. وهذه الحقيقة تبدو لازمة لفهم المقصود بالحديث عن الوظيفة في هذا السياق. ما يجعل وظيفة الساعة الشمسية هي معرفة الوقت فعلا هو أن شخصا ما صممها عمدا بنية متابعة الوقت بدقة. وكذلك عارضة القارب وصمام الإطار. إذن وظيفة الأداة أو أحد أجزائها، تنشأ من قصد مصممها البشري.
تتشارك وظائف المصنوعات مع الوظائف الحيوية في أوجه لافتة. أولا، ينطبق الاختلاف بين الوظيفة وتأثيراتها الجانبية غير المقصودة بشكل مساو على الأدوات. فلعارضة القارب استخدامات إضافية بجانب حفظ اتزان القارب، مثل إيواء محار البرنقيل وتوفير موضع لتعليق موجه الدفة. لكن هذه ليست وظائف العارضة؛ ليست الأغراض التي قصد صانعو القارب أن تستخدم العارضة من أجلها. ثانيا، ينطبق مبدأ الخلل الوظيفي أيضا على الأدوات. فالساعة الشمسية التي لا تتتبع الوقت بدقة، أو الصمام الذي يسرب الهواء بهما خلل؛ إذ لا يعملان كما يجب. بالتالي فإن مفهوم أداء الوظيفة «على الوجه الصحيح» ينطبق على الأدوات، وهو يعني «بما يتفق مع مقاصد الصانع». ثالثا كما هو الحال في العناصر الحيوية، قد يفسر ذكر وظيفة أداة ما السبب وراء وجودها، أو سبب امتلاكها لخواصها. هب أن طفلا سأل عن سبب وجود العارضة في القارب وسبب وجود الصمام في الإطارات الهوائية. الإجابة المعقولة ستكون أن الغرض من العارضة هو حفظ اتزان القارب واستقراره، والغرض من الصمام هو الحفاظ على ضغط الهواء في الإطار.
بوضع تلك التشابهات في الاعتبار، قد يتساءل المرء إن كان الحديث عن الوظيفة إنما هو من مخلفات معتقدات عصر ما قبل الداروينية، عندما كان يعتقد أن الكائنات الحية مثل الأدوات قد صممت بغرض معين. من منظور الخلق الإلهي، يمكن فهم سمات الوظيفة من الناحية الطبيعانية باعتبارها إشارة لمقاصد الخالق (على افتراض أنه بالإمكان معرفة هذه المقاصد). يمكن تفسير العبارة القائلة بأن وظيفة هيكل السلطعون هي حماية أحشائه بأن الإله قد صمم الهيكل بغرض حماية الأحشاء؛ وبالمثل بالنسبة إلى عبارات إسناد الوظيفة الأخرى. إذن فربما يكون الحديث عن الوظيفة في علم الأحياء المعاصر مجرد إرث عابر من فترة زمنية سابقة، مثلما يتحدث علماء الفلك عن «شروق الشمس» على الرغم من أن لا أحد ما زال يعتقد أن الشمس تدور حول الأرض.
هذا طرح مترابط منطقيا، وهو يفسر بالتأكيد أوجه التشابه بين وظائف الأدوات والوظائف البيولوجية. لكنه ليس معقولا جدا. فعندما يستخدم علماء الأحياء المعاصرون الصور الدالة على الوظيفة، يعكسون انطباعا قويا بأنهم يستعملونها بالمعنى الحرفي، وأن ما يقولونه له معنى محدد غير مجازي. ما لم يكن الأمر كذلك، فسيصعب إيجاد أي منطق في العديد من الجدالات في علم الأحياء عن وظائف صفات معينة. على سبيل المثال، كان يقال قديما إن الزائدة الدودية البشرية ليس لها وظيفة؛ لكن الأبحاث الحديثة شككت في ذلك؛ إذ ذهبت إلى أن الزائدة الدودية لها وظيفة، وهي تخزين بكتيريا القناة الهضمية المفيدة. استعمل علماء الأحياء المشاركون في هذا البحث المصطلحات الدالة على الوظيفة عمدا؛ لذا يصعب تصديق أن مصطلحاتهم هي مجرد آثار باقية من رؤية ما قبل تطورية للعالم.
هناك طرح بديل يقول إن التشابهات بين وظائف الأدوات والوظائف البيولوجية تنشأ لأن الانتخاب الطبيعي يلعب دورا مماثلا لدور المصمم البشري. وهو اقتراح معقول نوعا ما، فكما رأينا في الفصل الثاني، الكائنات الحية التي تطورت عادة ما يتجلى فيها التصميم بوضوح، باعتبار ما فيها من تعقيد تكيفي بالغ. إذن هذا الطرح يقول إن الحديث عن وظيفة عنصر ما يكون معقولا إذا تحقق فيه شرطان. إما أن يكون فاعلا ما قد صممه متعمدا بغرض تأدية وظيفة ما، أو أن تتجلى فيه أمارات التصميم، أي إنه قد تطور بفعل الانتخاب الطبيعي نتيجة لتأثيره على الصلاحية. لو صح ذلك، فمن شأنه أن يفسر منطقية الحديث عن وظيفة الكلية أو الساعة الشمسية، لكن ليس عن وظيفة النهر الجليدي. يقودنا هذا الطرح مباشرة إلى أكثر التحليلات الفلسفية عن الحديث الوظيفي في علم الأحياء شعبية: نظرية سببية الوظائف.
نظرية سببية الوظائف
تعني دراسة «سببية» شيء ما تتبع تسلسل أسبابه. الفكرة الأساسية وراء النظرية السببية بسيطة، ألا وهي أن الحديث عن الوظيفة البيولوجية لعنصر ما يعادل الحديث عن السبب الذي أدى بالانتخاب الطبيعي لتطور هذا العنصر. تأمل رقصة طائر الجنة مرة أخرى. اعتبار أن الانتخاب الطبيعي أدى إلى تطور رقصة الطائر بسماتها الدقيقة، لأنها تجذب الإناث للتزاوج لا لأنها تجذب الأعداء لهي فرضية معقولة. معقولة لأن جذب الإناث له تأثير إيجابي على صلاحية الكائن الحي، على عكس جذب المفترسين. إذا صحت تلك الفرضية، فإذن النظرية السببية تقول إن وظيفة الرقصة هي جذب الإناث. بصفة أعم، تنص النظرية على أن وظيفة أي عنصر أو صفة بيولوجيين مرتبطة بالأثر الذي دفع الانتخاب الطبيعي إلى تفضيله. تعرف هذه النظرية أيضا باسم نظرية «التأثير المنتخب» للوظيفة.
لنأخذ الفراء الأبيض للدب القطبي مثالا آخر. لهذه الصفة عدة آثار، منها عكس ضوء الشمس وتمويه الدب أثناء الصيد، ومنح صغار الدببة القطبية مظهرا محببا يستحسنه رواد حديقة الحيوان. باعتبار ما نعرفه عن البيئة التي تطور فيها الدب القطبي، فمن المرجح جدا أن يكون الأثر الثاني - التمويه - هو السبب الذي أدى بالانتخاب الطبيعي إلى تطور الفراء الأبيض للدب القطبي. فالدب المموه جيدا لديه أفضلية انتخابية واضحة مقارنة بالدب الذي يفتقر إلى التمويه، لذا في المتوسط سيترك ذرية أكثر. لو صح ذلك، فالنظرية السببية تشير إلى أن التمويه هو وظيفة فراء الدب القطبي، بينما عكس ضوء الشمس وإضفاء مظهر محبب للبشر ليسا من وظائف الفراء. هذه هي النتيجة الصحيحة بديهيا، وتتوافق جيدا مع الاستخدام البيولوجي الفعلي.
تفسر النظرية السببية جيدا الكثير من الحديث عن الوظيفة في علم الأحياء، وهي بجانب ذلك لها ميزات أخرى. إذ تقدم أساسا راسخا للتمييز بين الوظيفة والأثر الجانبي، من حيثية سبب تفضيل الانتخاب الطبيعي للصفة. وتعلل الدور التفسيري الذي يلعبه إسناد وظيفة للصفة، لا سيما حقيقة أن الاستشهاد بوظيفة صفة ما يفسر سبب وجودها. تعد النظرية السببية أيضا بأن تنفي البعد المعياري الظاهري للحديث عن الوظائف عن طريق تفسيره. فهي تشير إلى أن الفارق بين الوظيفة والخلل الوظيفي لا يشتمل في الحقيقة على أحكام تقييمية حول الصورة التي «ينبغي» أن تكون عليها الكائنات الحية. فالقول بأن الكلية بها خلل وظيفي، يعني من منظور النظرية السببية ببساطة أن الكلية لم يعد لها الأثر الذي تطورت من أجله في الماضي. بمعنى أن ثمة حقيقة موضوعية حول الوظيفة التي «يفترض» أن تقوم بها الكلى وغيرها من الصفات البيولوجية، وهي حقيقة مستمدة من تاريخها التطوري.
يتعلق أحد التحديات التي تواجه النظرية السببية بفردانية الإسنادات الوظيفية التي تمنحها النظرية. عادة ما يشير علماء الأحياء إلى «وظيفة» الصفة، في إشارة إلى أن للصفة وظيفة واحدة فقط. لكن إذا كانت الوظيفة تعرف بأثر محدد، فغالبا ما سيكون للصفة الواحدة أكثر من وظيفة محتملة. على سبيل المثال، بدلا من أن نقول إن وظيفة الفرو الأبيض للدب القطبي هي التمويه، يمكن أن نقول على حد السواء بأن وظيفته هي السماح للدب بالصيد نهارا، أو تعزيز نجاح الدب في الصيد، أو المساعدة في تجنب تضوره جوعا؛ أو ببساطة زيادة صلاحيته. يؤدي فرو الدب كل هذه الوظائف، وسيكون اختيار أحدها باعتباره «السبب» وراء تفضيل الانتخاب الطبيعي للفرو الأبيض حكما اعتباطيا. على الرغم من صحة ذلك، فإن المشكلة هنا ليست خاصة بالنظرية السببية للوظيفة ولا حتى بعلم الأحياء. إذا وقع تأثير ما في نهاية سلسلة طويلة من الأسباب، فسيكون هناك عدة أسباب كل منها مرشح لأن يكون «السبب» الأصلي. هب أن أحدا سألك عن سبب قيام الحرب العالمية الأولى. الإجابات الممكنة تشمل : الطموحات الإمبريالية للقوى الأوروبية؛ وسباق التسلح اللاحق؛ والطلقة التي أصابت الأرشيدوق فيرديناند؛ وغيرها من الأسباب. إذن كيف نحدد «السبب» الأصلي؟ هذه معضلة فلسفية عامة إلى حد ما، كتبت فيها الكثير من المؤلفات. (أحد الحلول يذهب إلى أن تحديدنا «السبب» الأصلي هو مسألة براجماتية لا حقيقة موضوعية.) أيا ما كان حل هذه المعضلة، فمن المرجح أنه سيكون قابلا للتطبيق على النظرية السببية.
يأتي تحد آخر للنظرية السببية من السمات التي تطورت في الأصل لغرض معين ولكن استحوذ عليها فيما بعد غرض آخر. تظهر هذه الصفات، المعروفة باسم «التكيفات المسبقة»، بشكل متكرر في عملية التطور. على سبيل المثال، تطور ريش الطيور في الأساس بغرض التنظيم الحراري، لكن الانتخاب الطبيعي عدله فيما بعد بغرض تحسين أدائها الديناميكي الهوائي. فما هي إذن وظيفة الريش وفق النظرية السببية؟ الحفاظ على دفء الطيور أم مساعدتها للتحليق بكفاءة، أم كلاهما؟ لا تبدو أن هناك طريقة واضحة للإجابة عن هذا السؤال. لكن هذا لا يمس جوهر النظرية السببية لسببين. أولا، من الممكن تجاوز المشكلة جزئيا من خلال تنقيح إسنادات الوظائف. فريش الطيور لا يمثل فئة متجانسة؛ فبعض أنواع الريش مثل ريش الذيل اختصاصها التحليق، بينما تختص أنواع أخرى مثل الزغب بالحفاظ على الدفء. علاوة على ذلك، كل أنواع الريش لديها جوانب متعددة، كالشكل والملمس والحجم على سبيل المثال؛ بالتركيز على جانب محدد، سيكون من الممكن حصر الوظائف المحتملة. ثانيا، على أي حال لا تتفق آراء علماء الأحياء حول كيفية تناول الحديث عن الوظيفة في حالات التكيفات المسبقة. فكون التحليل الفلسفي لمعنى الحديث عن الوظائف لا يثمر عن إجابة واضحة هو أمر لا يؤخذ عليه.
على الرغم من مميزات النظرية السببية، فهي تشتمل على معنى ضمني يراه الكثيرون مشكلة. إذ تشير النظرية ضمنا إلى أنه حينما يستعمل عالم أحياء تعبيرا لإسناد وظيفة لصفة أو عضو ما، فهو يخبر بشيء ما ولو ضمنيا عن مسار التاريخ التطوري. هذا مقبول في بعض السياقات لكنه غير مستساغ في سياقات أخرى. لنأخذ القلب البشري مثالا. كما يعلم أي تلميذ في المدرسة، كان ويليام هارفي، وهو طبيب من القرن السابع عشر، هو من قال إن وظيفة القلب هي ضخ الدم في الجسد؛ ويجمع علماء الأحياء الجدد على أن هارفي كان محقا في هذا. لكن نظرية التطور لم تكن قد وضعت بعد في القرن السابع عشر، لذا عندما تحدث هارفي عن وظيفة القلب، فإنه من الواضح أنه لم يقصد «الأثر الذي يعزى إليه انتخاب القلب». إذا أصررنا على صحة النظرية السببية، فإذن نحن مجبرون على أن نستنتج أن هارفي لم يفهم ما تعنيه كلماته، أو أنه استخدم كلمة «وظيفة» بمعنى مختلف تماما عن علماء الأحياء الجدد. وكلا الاحتمالين مستبعدان.
هذا المثال متطرف لتوضيح نقطة أعم، وهي أن بعض الإسنادات الوظيفية في علم الأحياء لا يبدو أن لها علاقة بالتطور؛ وإنما تستنتج من دراسة آليات الكائنات الحية في الحاضر. وهذا ينطبق بالأخص على العلوم الطبية الحيوية. على سبيل المثال، عادة ما يحاول الباحثون الدارسون لأسباب مرض ما على المستوى الجزيئي أن يحددوا وظيفة المسار الكيميائي الحيوي الذي أدى إلى هذا المرض. لهذه الغاية، هم يقومون بدراسات تجريبية عن آلية عمل تلك المسارات وتأثيرها على الخلايا والأنسجة. هذا النوع من البحث لا يمت بصلة إلى التطور في ظاهره، لكنه عادة ما يؤدي إلى إسنادات وظيفية موثوق بها. تدعم هذه الملاحظة المنافس الرئيسي لنظرية السببية، ألا وهي نظرية «الدور السببي» للوظيفة.
نظرية «الدور السببي» للوظيفة
إن الفكرة الرئيسية التي تقوم عليها نظرية الدور السببي هي أن الإسنادات الوظيفية عادة ما تتم في سياق نوع معين من البحث العلمي، ألا وهو محاولة فهم كيفية عمل نظام أو عملية بيولوجية معقدة. تأمل التنظيم الحراري في الإنسان على سبيل المثال. فهو يشتمل على نظام تحكم، حيث تراقب منطقة تحت المهاد في الدماغ درجة حرارة الجسم وترسل نبضات لتحفيز الاستجابات العضوية الملائمة كالتعرق. يشتمل النظام على عدد كبير من الأجزاء المتخصصة والأنظمة الفرعية، لكل منها وظيفة محددة. لفهم آلية عمل النظام الكلي ، يجب أن نعرف إسهامات كل جزء منه. هنا يأتي مفهوم الوظيفة بالنسبة إلى نظرية الدور السببي. إن وظيفة جزء ما هي ببساطة إسهامه في عمل النظام الكلي، الذي يمكن النظام من أداء وظيفته. إذن وظيفة المستقبلات الحرارية في منطقة تحت المهاد هي قياس درجة حرارة الدم، بينما وظيفة الغدد العرقية هي إفراز العرق على سطح الجلد. بسبب أداء المستقبلات الحرارية والغدد العرقية هاتين الوظيفتين، يتمكن الجسم من الحفاظ على ثبات درجة حرارته.
لنأخذ الجهاز المناعي التكيفي في الفقاريات الذي يتخلص من مسببات الأمراض في الجسم مثالا آخر. يتكون ذلك النظام أيضا من عدة أجزاء، ألا وهي الخلايا التائية والبائية بمختلف أنواعها، التي يلعب كل منها دورا محددا؛ ويتطلب فهم كيفية عمل الجهاز المناعي معرفة ماهية هذه الأدوار. بالتالي فالخلايا التائية القاتلة تتعرف على الخلايا المصابة بفيروس وتقتلها، بينما الخلايا البائية ترتبط بالمستضدات وتنتج أجساما مضادة. هذه هي إذن وظائف الخلايا التائية والبائية من منظور نظرية الدور السببي، فبسبب أدائها تلك الأدوار يتمكن جهاز المناعة التكيفي من التخلص من مسببات الأمراض. باختصار، إن وظيفة عنصر ما هي مساهمته المحددة، أو دوره السببي، في عمل النظام الكلي؛ بينما الأثر الجانبي لأي عنصر هو ما يؤديه هذا العنصر لكنه لا يقوم بمثل هذه المساهمة.
لقد رأينا أن النظرية السببية تؤكد أن الإسنادات الوظيفية هي عادة ما تكون إجابات للسؤال المطلق «ما سبب وجود ...؟» (ما سبب وجود الشوك في الصبار؟ هو موجود لإبعاد آكلات العشب.) على النقيض، فإن نظرية الدور السببي تلفت الانتباه إلى السؤال المباشر، ألا وهو «كيف يعمل؟» (كيف يتخلص الجهاز المناعي من مسببات الأمراض؟ بواسطة الخلايا التائية والبائية التي تقتل الدخلاء وتنتج أجساما مضادة.) يحتل السؤال الأخير مركزا رئيسيا في العديد من الدراسات البيولوجية، لا سيما في مجالات مثل علم وظائف الأعضاء، وعلمي الأحياء الخلوي والجزيئي. مثل هذه الدراسات عادة ما تستلزم التركيز على بنية أو عملية معقدة، ودراسة التفاعلات السببية بين أجزائها المختلفة، ومحاولة تحديد ماهية المساهمة التي يقوم بها كل جزء. هنا تبرز أهمية الحديث عن الوظيفة، بالنسبة إلى نظرية الدور السببي.
الميزة الرئيسية لنظرية الدور السببي هي أنها تفسر النقطة التي أثارت إشكالا بالنسبة للنظرية السببية، وهي أن إسنادات الوظيفة غالبا ما تتم في سياق دراسة آلية عمل نظام حيوي في الوقت الحاضر، لا في سياق دراسة التاريخ التطوري. إن نظرية الدور السببي هي المسئولة عن حقيقة أن علماء الأحياء ما قبل داروين كانوا يعلمون الكثير عن الوظائف، وأن علماء الأحياء المعاصرين يسندون الوظائف في سياقات غير تطورية. وحتى لو خرج إلى الوجود فجأة كائن حي مكتمل البارحة، فهذا لن يحدث فارقا في صحة عبارة تقرير وظيفة أحد صفاته، إذا اعتبرنا الوظيفة دورا سببيا. لكن بالنسبة إلى النظرية السببية ستكون العبارة خاطئة بالضرورة، إذ ليس لذلك الكائن التاريخ التطوري اللازم لإكساب صفاته وظائفها.
رغم ذلك تتفق النظرية السببية ونظرية الدور السببي من الناحية العملية على كيفية تعيين الوظائف، ولهذا غالبا لا يلاحظ الفرق بينهما. لنعد إلى مثال القلب في الثدييات. سبب محاباة الانتخاب الطبيعي للقلب هو أنه يضخ الدم في جميع أنحاء الجسم؛ وصحيح أيضا أن ضخ الدم هو مساهمة القلب في عمل الجهاز القلبي الوعائي، وإلى ذلك تعزى آلية عمل القلب في الحاضر. بالمثل، السبب الذي دفع الانتخاب الطبيعي إلى تطوير شوك الصبار هو أنه يردع آكلات العشب، كذلك ردع آكلات العشب هو الدور السببي الذي يلعبه الشوك اليوم في النظام الدفاعي للصبار. إذن في هاتين الحالتين يتطابق التأثير المنتخب والدور السببي. ولكن هذا لا يحدث بالضرورة في جميع الحالات، وحتى إن حدث، تظل النظريتان مختلفتين حول أسباب «صحة» إسناد وظيفة معينة إلى صفة ما.
أحد الانتقادات لنظرية السببية يقول بأن النظرية في جوهرها تستلزم وجود مصدر للتصميم، وهو إما أن يكون نابعا من مقاصد مصمم أو من الانتخاب الطبيعي. لفهم هذا النقد، لاحظ أننا عندما شرحنا فكرة الدور السببي آنفا، تكلمنا عن «آلية تشغيل» نظام بيولوجي أو كيفية «عمله». لكن أليست تلك طريقة غير مباشرة للحديث عما يفترض أن يفعله النظام؟ عندما نحدد الدور السببي للغدد العرقية في نظام التنظيم الحراري، فنحن نفترض ضمنيا أن النظام يهدف إلى تحقيق هدف معين، ألا وهو الحفاظ على ثبات درجة حرارة الجسم. لكن بحسب هذا الانتقاد، هذا الافتراض غير مبرر إلا إذا كان النظام قد صمم بشكل واع لأجل هذا الهدف، أو كان الانتخاب الطبيعي قد طوره بغرض تحقيقه. باختصار، لا يمكننا الربط بين وظيفة عنصر ما ودوره السببي في نظام أكبر إلا إذا كان هذا النظام هو نتيجة لتصميم واع أو ما ينوب عنه، وهو الانتخاب الطبيعي. إذن في النهاية، تعتمد صحة الإسنادات الوظيفية الصحيحة في علم الأحياء على الانتخاب الطبيعي؛ من ثم فالنظرية السببية هي الرابحة.
هذا وجه انتقاد قوي لنظرية الدور السببي، لكنه ليس حاسما بالكلية. إذ ترى وجهة نظر بديلة أنه ينبغي لنا ببساطة أن نقر مفهومي الوظيفة كليهما، أو نكون «تعدديين» باصطلاح الفلاسفة. من المنظور التعددي، التأثير المنتخب والدور السببي مفهومان صحيحان للوظيفة البيولوجية، لكن كلا منهما مصمم لنوع مختلف من البحث. الأول له أهمية في السياقات التطورية التي تحاول الإجابة عن الأسئلة المطلقة المتعلقة بأسباب تطور السمات؛ والثاني له أهمية عندما نحاول الإجابة عن الأسئلة المباشرة المتعلقة بكيفية عمل الكائنات الحية. باعتبار أن هذين النوعين من الاستقصاء مختلفان جوهريا، يجادل التعدديون بأنه من الخطأ محاولة دمج مفهومي الوظيفة أو محاولة الاختيار بينهما؛ بل ينبغي أن نقبل الاثنين وأن نأمل أن يرشدنا السياق إلى الاختيار من بينهما. على الرغم من جاذبيتها، فإن وجهة النظر التعددية تثير العديد من الأسئلة المربكة، مثل لماذا نقبل استخدام كلمة واحدة لوصف مفهومين مختلفين تماما.
على الرغم من أن الجدال حول مسألة الوظيفة يدور في الأساس بين الفلاسفة، فإنه ذو صلة بالممارسة العملية لعلم الأحياء. أحد الأمثلة التي تشرح هذا مصدره الجدل الأخير في علم الأحياء حول «خردة الحمض النووي». تذكر أن الحمض النووي هو الجزيء الكبير الذي تتكون منه الجينات. ولكن في معظم الأنواع، بما فيها البشر، تشكل الجينات نسبة ضئيلة فقط من إجمالي محتوى الحمض النووي في الخلية. على مدى عقود كان العلماء مجمعين على أن الجزء الأكبر من الحمض النووي في الجينوم البشري لا وظيفة له. لكن في عام 2012 طعن باحثون من مشروع «إنكود» ليدحضوا هذا الإجماع. بناء على كمية ضخمة من البيانات التجريبية، ذهب الباحثون إلى أن معظم ما يطلق عليه خردة الحمض النووي له وظيفة كيميائية حيوية؛ إذ يلعب دورا حاسما في سلوك الخلايا والأنسجة. ولكن عالم الأحياء الكندي المرموق دبليو. فورد دوليتل شكك في هذا التفسير للبيانات. إذ جادل بأن باحثي مشروع «إنكود» يستخدمون ضمنيا معيارا متحررا للوظيفة، ألا وهو وجود أي تأثير كيميائي حيوي، وهذا من شأنه أن يخلط بين الوظيفة والأثر الجانبي. يذهب دوليتل إلى أنه إذا عرفنا الوظيفة بالأثر المحدد، كما يقترح، فسيظل من الممكن المحاججة لصالح تفسير «الخردة» التقليدي. أيا كان من يتبين أنه على حق، فإن هذا المثال يوضح كيف يمكن أن يكون لجدال علمي بعد فلسفي خفي.
الوظائف والبرنامج التكيفي
بافتراض أننا نقبل تفسير النظرية السببية لمعنى عبارات إسناد الوظيفة في علم الأحياء. هناك سؤال أبعد؛ ألا وهو كيف يمكننا التأكد من صحة تلك العبارات. باعتبار أن معرفتنا بالتاريخ التطوري غير كاملة، كيف يمكننا أن نعرف يقينا وظيفة السمة، أو أن لها وظيفة من الأساس؟ الإجابة الموجزة هي أنه لا يسعنا التيقن، لكن يمكننا في الغالب أن نصل إلى ما يشبه اليقين العملي. إذ في كثير من الأحيان، تكون البيئة التي تطور فيها نوع ما مماثلة لتلك التي يسكنها هذا النوع في الوقت الحاضر؛ لذا إذا كانت السمة لها أهمية تكيفية واضحة في بيئتها الحاضرة، فغالبا ما يكون من السهل إلى حد كبير تحديد سبب تطورها في الأساس، لا سيما إذا استطعنا إجراء مقارنات ذات صلة بين الأنواع. على سبيل المثال، يوفر فراء الدب القطبي الأبيض فائدة واضحة له أثناء الصيد في القطب الشمالي اليوم؛ ونحن نعلم أن الدببة القطبية تطورت حديثا من الدببة البنية التي تفوقها في الانتشار الجغرافي بكثير. إذن لا يوجد شك فعلي في أن التمويه هو السبب الذي دفع الانتخاب الطبيعي لأن يطور للدب القطبي فروه الأبيض. ليس هذا مثالا فريدا؛ مع ذلك يجب الإقرار بأنه في حالات يكون تمييز الوظائف، بمعنى التأثيرات المنتخبة، أكثر صعوبة.
إن مسألة كيفية تحديدنا بمصداقية وظائف الصفات كانت محل جدل كبير في علم الأحياء التطوري في القرن العشرين. في ورقة علمية شهيرة نشرت عام 1979، شن عالما الأحياء ستيفن جاي جولد وريتشارد لونتين هجوما على ما أطلقوا عليه البرنامج التكيفي في علم الأحياء. يشتمل هذا البرنامج على دراسة الكائنات الحية باعتبار أنها وصلت إلى درجة عالية من التكيف في المجمل، وأن سماتها لها وظائف قابلة للتحديد. عادة يعد المنطق التكيفي ناجحا، إذ إن العديد من الكائنات الحية قد وصلت بالفعل إلى درجة عالية من التكيف مع بيئتها بفضل الانتخاب الطبيعي. لم ينكر جولد ولونتين هذا، لكنهم اتهموا مناصري التكيفية بالخروج عن المنهج العلمي. إذ جادلا بأن التكيفيين يفترضون دون أي دليل أن لكل صفة وظيفة، وأنهم ببساطة يؤلفون قصصا عن ماهية هذه الوظائف المزعومة بدون أدلة كافية. (وأطلقوا عليها «قصص صادقة»، على اسم كتاب قصص رديارد كيبلينج للأطفال.) يرى جولد ولونتين إذن أن التكيفيين ارتكبوا نوعا من الانحياز المعرفي؛ ألا وهو تحفزهم لإيجاد وظيفة لأي شيء يبحثونه متجاهلين احتمال وجود صفات قد لا يكون لها أي تفسير وظيفي أو تكيفي على الإطلاق.
اقترح جولد ولونتين عدة أسباب لعدم وجود وظيفة لصفة ما في الكائن الحي، ومن ثم الأسباب التي قد تجعل المنطق التكيفي مضللا. وبنيا أول تلك الأسباب على تشبيه معماري لا ينسى. يشير مصطلح «عروة العقد» إلى المساحة المثلثية التي تتوسط أحد جانبي قوس منحن وإطار مستطيل أو قبة (شكل
3-1 ). في كاتدرائية سانت مارك في البندقية، زينت عروة العقد بلوحات أنيقة لتلاميذ المسيح الاثني عشر. لكن الاعتقاد بأن عروة العقد لها «غرض» سيكون اعتقادا خاطئا حتما؛ إذ لم يصنعها المهندس المعماري بغرض تزيينها. إنما عروة العقد ما هي إلا منتج ثانوي حتمي لبناء سقف مقبب. بالمثل، ذهب جولد ولونتين إلى أن العديد من صفات الكائنات الحية قد تكون منتجات ثانوية ليس لها وظيفة في حد ذاتها. أحد الأمثلة المحتملة لذلك هي الذقن البشرية. نظرا لأن القردة العليا لم يكن لها ذقون، فنحن نعلم أن الذقن تطور في وقت ما في سلالة أشباه البشر. لكن لماذا؟ على الرغم من أنه تم اقتراح ميزات تكيفية للذقن، مثل المساعدة في تخويف الأعداء في الشجارات، يعتقد الكثير من علماء الأحياء أن الذقن ليس إلا منتجا ثانويا للكيفية التي تنمو بها الجمجمة وعظام الفك في البشر. لو صح ذلك، فالذقن إذن بمثابة عروة عقد، ومن ثم لا يمكن إسناد تفسير وظيفي له. بالمثل، يرى البعض أن بعض جوانب العقل البشري كالوعي، هي بمثابة عروة عقد نشأت باعتبارها نتيجة ثانوية لزيادة حجم المخ.
شكل 3-1: عروة العقد هي مساحة مثلثة بين قوس منحن وإطار مستطيل أو قبة.
هناك سبب ثان لافتقار صفة إلى الوظيفة له علاقة بما قبله. ينشأ هذا السبب من حقيقة أن الجين الواحد قد يؤثر على عدة صفات. نتيجة لذلك، غالبا ما توجد ارتباطات وراثية بين الصفات، أي إن الكائن الحي الذي يحمل الصفة أ يرجح أن يكون حاملا للصفة ب أيضا. أي إنه إذا كان الانتخاب الطبيعي يحابي إحدى الصفتين، فستلازمها الأخرى أو ستتطفل عليها. على سبيل المثال، افترض أنه في نوع ما من النباتات، تتمتع تلك التي تمتلك أزهارا زاهية الألوان بأفضلية انتخابية على ذات الألوان الأبهت، إذ تكون أكثر جذبا للملقحات. افترض أيضا أنه لأسباب وراثية يرتبط امتلاك أزهار ملونة بامتلاكها أسدية قصيرة. افترض أن حجم السداة نفسه محايد انتخابيا، أي إنه لا يؤثر على الصلاحية. ومن ثم، إذا كان الانتخاب الطبيعي يؤدي بالنباتات إلى أن تطور أزهارا أزهى لونا، فسيؤدي بها إلى أن تمتلك أسدية أقصر. لكنه سيكون من الخطأ أن نسعى لإيجاد تفسير وظيفي لتطور أسدية أقصر في النباتات. فصفة قصر السداة لا وظيفة لها في حد ذاتها؛ بل إنها جاءت ملازمة لصفة تألق لون الأزهار، التي لها وظيفة، ألا وهي جذب الملقحات. المغزى هو أنه عندما يؤدي الانتخاب الطبيعي إلى تطور صفة لها وظيفة، فقد تلازمها أيضا صفة لا وظيفة لها.
السبب الثالث الذي قد يجعل افتراض الوظيفة مضللا ينبع من الصفات اللاوظيفية أو بقايا عملية التطور. (الزائدة الدودية أحد الأمثلة التقليدية لذلك، لكن كما سبق أن ذكرنا فإن افتقادها للوظيفة من عدمه لم يحسم بعد.) القشعريرة التي تصيب الإنسان هي مثال أفضل. فالقشعريرة عند البشر هي شكل متدهور من صفة موجودة في جميع الثدييات، ألا وهي انتصاب شعيرات الفرو استجابة للبرد أو الخوف. هذه الاستجابة تكيفية عند الكثير من الثدييات، إذ يساعد انتصاب الفراء على حبس الحرارة وقد يرهب الأعداء. لكن شعيرات جسد الإنسان أقصر من أن تؤدي أيا من الأمرين بفاعلية. لو أن باحثا يتبنى النظرة التكيفية ولا يدرك أن القشعريرة ليست «أصلية» في السلالة البشرية، فقد يفترض خطأ أن للقشعريرة وظيفة ما حتما عند البشر، وقد يقوده افتراضه ذلك إلى وضع قصة تخمينية لتفسير هذه الوظيفة. هذا بالطبع سيكون خاطئا. المغزى العام هو أن التطور لا يصمم كل نوع من الصفر، بل يبنى على ما هو موجود بالفعل؛ والصفات اللاوظيفية هي إحدى نتائج ذلك.
تقودنا هذه النقطة إلى السبب الرابع لقصور المنطق التكيفي، ألا وهو وجود ما يسمى «قيود النمو». فعملية النمو الجنيني التي بها تنمو اللاقحة إلى كائن حي بالغ، قد تحد كثيرا من التباينات المحتملة التي يختار منها الانتخاب الطبيعي. تأمل مثلا تصميم الجسد الرباعي الأطراف في كل الفقاريات البرية. نظرا لشيوع تصميم الجسد هذا، فقد يميل أحد ذو نظرة تكيفية إلى منحه سببا وظيفيا؛ أي القول بأن وجود أربعة أطراف له أفضلية تكيفية على أي عدد آخر من الأطراف. قد يكون هذا صحيحا؛ لكن يوجد تفسير بديل ألا وهو أنه ببساطة عندما تطور تصميم الجسد رباعي الأطراف لأول مرة، لم يكن ثمة سبيل لأن يلغيه التطور، باعتبار آلية عمل النمو. أي إنه لا توجد طريقة سهلة تعيد بها الطفرات الوراثية ترتيب تصميم الجسم الكامل الذي وضع في المراحل الأولى للنمو دون إحداث تأثيرات مدمرة في باقي أجزاء الجنين. إذا كان الأمر كذلك، فإن التفسير الصحيح لسبب شيوع تصميم الجسد الرباعي الأطراف من الناحية التصنيفية ليس هو التكيف مع البيئة فحسب، بل ينطوي أيضا على قيود نمائية.
توضح عروة العقد، وتلازم الصفات، والصفات اللاوظيفية، والقيود النمائية خطورة الافتراض دون أدلة قوية أن لكل صفة في كل كائن حي وظيفة أو أنها تكيفية. كان جولد ولونتين محقين في التركيز على هذا، وقد كان نقدهما بمثابة تصحيح مفيد لمسار الاتجاه التكيفي المخالف للمعايير في علم الأحياء (على الرغم من أنه يمكن القول إنهما صورا آراء خصومهما بشكل كاريكاتوري إلى حد ما). يدرك علماء الأحياء المعاصرون جيدا الصعوبة المنهجية في تحديد ما إذا كان لصفة ما وظيفة (بمعنى أثر منتخب) وإذا كانت كذلك، فما وظيفتها. إن أكثر المحاولات حذرا لتوضيح الوظيفة تتضمن مجموعة متنوعة من الأدلة بما فيها المقارنات بين الأنواع، والتحليل الوراثي، والتعديلات التجريبية لصفة ما لمعرفة تأثيرها على الصلاحية، وغيرها. في أفضل الحالات، تلتزم تلك الأبحاث بالمعايير العلمية الصارمة، وترقى إلى أكثر بكثير من مجرد تأليف قصة «صادقة». لكن يجب الاعتراف أيضا بأنه في الكثير من الأوساط البيولوجية ما يزال يوجد نزوع للبحث عن وظائف للسمات، رغم نقد جولد ولونتين. سواء كان هذا يعبر عن انحياز معرفي، أو كان استجابة منطقية لانتشار التعقيد التكيفي في الطبيعة، فهذه مسألة تحتمل الآراء.
ما خلص إليه جولد ولونتين هو أنه من الخطأ «تجزئة» كائن حي إلى مجموعة من السمات ثم البحث عن تفسيرات وظيفية لكل سمة منفردة. وإنما يجب التعامل مع الكائن الحي باعتباره «كلا متكاملا». وهو اقتراح وجاهته محل جدل. فصحيح أن النزوع إلى التجزئة هو سمة من سمات التفكير التكيفي؛ وهو قطعا لا يناسب جميع الحالات، لأن التطور لا يستطيع دائما أن يغير أحد أجزاء الكائن الحي دون إحداث تأثيرات غير مباشرة في مواضع أخرى منه. على سبيل المثال، إذا طورت الزرافات أعناقا أطول، فقد يؤدي ذلك في الوقت نفسه إلى تقليل سرعة ركضها؛ لذا لا يمكن تحسين طول العنق وسرعة الجري منفصلين. ولكن من الناحية العملية، كثيرا ما ثبت أنه من الممكن دراسة تطور صفة واحدة بمعزل نسبيا عن باقي صفات الكائن الحي. على سبيل المثال، يستطيع علماء الأحياء دراسة تطور رقصة طيور الجنة دون دراسة تفضيلاتها الغذائية، والعكس صحيح. لذلك في بعض الحالات على الأقل، لا تمثل معاملة الكائن الحي باعتباره مجموعة من الصفات المنفصلة عائقا أمام الفهم التطوري. كان جولد ولونتين محقين في لفت الانتباه إلى الميل إلى التجزئة المتغلغل في جزء كبير من المنطق التطوري، ولكن ما إذا كان هذا يمثل مشكلة أم لا، فذلك ينبغي تقييمه باعتبار كل حالة منفصلة.
الفصل الرابع
مستويات الانتخاب
إن مسألة «مستويات الانتخاب» هي أحد أهم المسائل في علم الأحياء التطوري، ومحل كثير من الجدل. لفهم المسألة، تأمل أحد التفسيرات الداروينية التقليدية كالتي ناقشناها في الفصل الثاني، على سبيل المثال لماذا تطورت صفة العدو بسرعة هائلة لدى الفهود. قد يكون التفسير كما يلي:
في الماضي، كان هناك تباين في سرعة عدو الفهود. وكانت الفهود الأسرع أقدر على اصطياد الفرائس، لذا كانت تتمتع بأفضلية في البقاء فتركت ذرية أكثر. علاوة على ذلك، كانت سرعة العدو وراثية؛ فكانت ذرية الفهود الأسرع تنزع إلى سرعة العدو. هكذا على مدى أجيال عديدة، تطورت سرعة عدو الفهود لتصير أسرع فأسرع.
وفق هذا التفسير، تحدث عملية الانتخاب الطبيعي التي تفسر تطور صفة ما على مستوى الكائن الفرد. فالبقاء التفاضلي «لأفراد من الفهود» - حقيقة أن بعض الفهود أصلح للبقاء من غيرها - هو الذي يؤدي إلى التغيير التطوري. (بعبارة أخرى، «وحدة الانتخاب» هي الفرد.) هناك نقطة وثيقة الصلة وهي أن الصفة المعنية - سرعة العدو - تفسر من خلال الميزة التي تمنحها الصفة للفهد الفرد، لا لكيان أكبر مثل نوع الفهود بأكمله مثلا. إذن لو صح ذلك التفسير، فستكون تلك الصفة صفة تكيفية للفهود المنفردة.
في معظم الوقت، يهتم المتخصصون في علم الأحياء التطوري بالانتخاب والتكيف على مستوى الفرد كما في مثال الفهد. لكن نظريا على الأقل، توجد احتمالات أخرى. فالعالم البيولوجي منظم في تسلسل هرمي، تندرج فيه الكيانات البيولوجية الأصغر تحت كيانات أكبر. يقع الكيان الذي نطلق عليه «الكائن الفردي» في مكان بالقرب من منتصف هذا التسلسل الهرمي. دون الفرد، نجد كيانات مثل الخلايا والكروموسومات والجينات؛ وأعلاه، نجد كيانات مثل العائلات والمستعمرات والأنواع. وقطعا، يمكن أن يخضع العديد من هذه الكيانات نظريا للتطور الدارويني، إذ ينطبق عليها أحد أشكال التكاثر. مثلما تؤدي الكائنات الحية إلى نشأة كائنات أخرى، كذلك تفعل الجينات والخلايا والمستعمرات والأنواع. فأكثر أنواع الانتخاب الطبيعي شيوعا، النوع الذي ينطوي على منافسة انتخابية بين الأفراد، ليس هو النوع الوحيد الممكن.
دون مستوى الفرد، يمكن تمييز نوعين من الانتخاب. الأول هو الانتخاب من بين الخطوط الخلوية المختلفة خلال عمر الكائن الحي متعدد الخلايا، والمعروف باسم «انتخاب الخلايا الجسدية». يحدث هذا في الجهاز المناعي للفقاريات وأثناء نمو الجهاز العصبي وعند الإصابة بمرض السرطان. في تلك العملية، الخلايا هي الكيانات التي تتباين، ومن ثم تتكاثر بشكل تفاضلي، وتنقل سماتها إلى نسلها. هذا الانتخاب الذي يحدث على مستوى الخلية يلعب دورا في النمو، لكنه نادرا ما يكون له تبعات تطورية طويلة الأمد في الكائنات الحية الحديثة، لأن تأثيراته تنحصر في فترة حياة الكائن الحي. أما النوع الثاني من الانتخاب دون الفردي فمختلف. إذ فيه يحدث انتخاب بين الجينات في الكائن الحي الواحد. وهو يرجع إلى أنه في التكاثر الجنسي، تنتقل نصف جينات الكائن الحي فقط إلى ذريته. لذلك يمكن أن يقع نوع من المنافسة الانتخابية تجد من خلاله بعض الجينات وسائل لزيادة احتمال انتقالها على حساب جينات أخرى. مثل هذا الانتخاب على المستوى الجيني له تبعات طويلة الأمد نفصلها فيما يلي.
لكن نقطة انطلاقنا ستكون الانتخاب فوق مستوى الفرد، والمعروف بشكل عام باسم «انتخاب المجموعة». ثمة خلاف دائر حول ما إذا كان الانتخاب الطبيعي يعمل على مستوى الجماعة، ومن ثم ما إذا كانت توجد صفات تطورت لأنها تفيد المجموعات لا الأفراد. هذا السؤال هو محور جدل دائر منذ عقود في علم الأحياء، ولا تبدو أي بوادر لحله، وهو ما قد يثير الدهشة.
الإيثار والانتخاب الجماعي
في السابق، لجأ علماء الأحياء إلى مبدأ الانتخاب الجماعي للمساعدة في حل لغز الإيثار في الطبيعة. مصطلح «الإيثار» في علم الأحياء يشير إلى أي صفة أو سلوك مكلف للكائن الحي الفرد، من حيث تقليله لصلاحيته وفق المفهوم الدارويني، لكنه يفيد الكائنات الأخرى. الإيثار بهذا المعنى موجود بكثرة في الطبيعة. تأمل النحلة التي تهاجم الدخلاء على الخلية بلدغهم. لما كانت النحلة تموت إثر استخدامها إبرة اللدغ، ففعلها قطعا لا يعزز من قدرتها على البقاء؛ إنما يكون المنتفع من فعلها أقرانها في الخلية. تأمل كذلك النداء التحذيري الذي يصدره قرد الفرفت عندما يرى حيوانا مفترسا. بإطلاقه ذلك النداء، يلفت القرد الانتباه إلى نفسه، وهو ما يضعه في خطر، ولكنه ينبه رفاقه إلى وجود خطر. أو تأمل بكتيريا الزائفة الزنجارية التي تطلق في البيئة مواد كيميائية تسمى حاملات الحديد استجابة لنقص الحديد. يعد هذا فعلا يعود بالضرر على البكتيريا نفسها، ولكنه يفيد البكتيريا المحيطة بها، إذ يحرر الحديد المرتبط بالمضيف من أجل الأيض البكتيري. توجد أمثلة لا حصر لها على ذلك.
ظاهريا، يبدو الإيثار محيرا. أليست النظرية التطورية تتنبأ بتطور الصفات التي تحسن الصلاحية البيولوجية للفرد نفسه لا غيره؟ على الرغم من ذلك فأثر سمات الإيثار عكس ذلك تماما. إذ يتكبد الفرد الذي يتصرف بإيثار خسارة لا يتكبدها نظراؤه الأنانيون، وعليه ينبغي أن يحابي الانتخاب الطبيعي الأنانيين. فالقرد الذي لا يطلق نداء تحذير أو النحلة التي لا تهاجم الدخلاء أو البكتيريا التي لا تصنع حاملات الحديد سيكون لها أفضلية انتخابية على غيرها مما لا تفعل تلك الأشياء، إذ تستفيد من إحسان الآخرين دون أن تتكبد هي أي خسائر. كيف إذن يمكن للإيثار أن يتماشى مع مفاهيم التطور الأساسية؟
هنا تبرز أهمية الانتخاب الجماعي. على الرغم من أن السلوك الإيثاري مكلف بالنسبة للفرد، فإنه يحتمل أن يكون ذا فائدة على مستوى الجماعة. أي إن الجماعة التي تتكون في الغالب من أفراد مؤثرين لغيرهم يتعاونون جميعا لأجل الصالح العام، قد تتمتع بأفضلية للبقاء على جماعة من الأفراد الأنانيين الذين لا يهتم كل منهم إلا بنفسه. لذلك إذا تصورنا عملية تتنافس فيها جماعات لا أفراد، فقد نجد أن الجماعات التي تزدهر هي تلك التي تشيع فيها سمات الإيثار. باختصار، يصعب تفسير الإيثار باعتباره نتيجة للانتخاب على مستوى الأفراد، لكنه قد يحتمل أن يتطور من خلال الانتخاب على مستوى الجماعة.
من اللافت أن منطق هذه الحجة حظي باستحسان داروين نفسه. فمع أنه كان ينزع إلى فكرة الانتخاب الفردي، فإنه مر سريعا على فكرة الانتخاب الجماعي أكثر من مرة. في كتابه «أصل الإنسان» (1871) ناقش داروين فكرة كيف يحتمل أن تكون سلوكيات التضحية بالذات، التي يخاطر فيها الفرد بحياته لأجل القبيلة، قد تطورت عند البشر الأوائل. إذا نظرنا من منظور الانتخاب الفردي، فسنرى أن ذلك سلوك يفترض أن ينبذه الانتخاب. كما قال داروين، «من كان يؤثر التضحية بحياته ... على خيانة رفاقه، ففي الأغلب لن يترك ذرية ترث طبعه النبيل». ولكنه ذهب إلى أن حدوث عملية انتخاب جماعي تتنافس فيها الجماعات قد يكون هو التفسير: «إن القبيلة التي تضم أفرادا كثرا ... مستعدون دائما لأن يمدوا يد العون بعضهم لبعض وأن يضحوا بأنفسهم من أجل الصالح العام، ستنتصر على معظم القبائل الأخرى؛ وسيعد ذلك انتخابا طبيعيا». هكذا فهم داروين أن الانتخاب الطبيعي يمكن أن يحدث على أكثر من مستوى هرمي، وأن الانتخاب على مستوى الجماعة يمكن أن يفسر أشياء لا يستطيع الانتخاب الفردي أن يفسرها.
نقد الانتخاب الجماعي
على الرغم من ريادة داروين في تناولها في وقت مبكر، ظلت مسألة مستويات الانتخاب خاملة لسنوات عديدة قبل أن يعيد علماء الأحياء إيقاظها في ستينيات القرن الماضي. كان أحد الأسباب الرئيسية لذلك هو كتاب نشره جورج إس ويليامز عام 1966 بعنوان «التكيف والانتخاب الطبيعي». كان هدف ويليامز المعلن هو أن يدخل شيئا من «الانضباط» على علم الأحياء التطوري. كان ما يثير قلقه هو وجود اتجاه منتشر بين علماء الأحياء في ذلك الوقت ينظر إلى التكيف من حيث منفعة الجماعة لا الفرد، غير مدركين على الأغلب أن الانتخاب الفردي لن يؤدي بالضرورة إلى نتائج مفيدة للمجموعة. أصبح هذا النهج الخاطئ للتفكير، الذي كشفه ويليامز بكفاءة، يعرف باسم «الانتخابية الجماعية اللاواعية» أو «مغالطة صالح الجماعة».
لتوضيح وجهة نظر ويليامز، لنتأمل حجة قدمها كونراد لورينز، عالم الأحياء النمساوي الحائز على جائزة نوبل عن أبحاثه الرائدة في سلوك الحيوان. أراد لورينز تفسير ظاهرة القتال الشكلي عند ذكور الغزال. يتواجه الذكران المتنافسان على الإناث مشابكين قرونهما الضخمة، ولكنهما نادرا ما يشتبكان في قتال فعلي. تساءل لورينز لماذا لا يقتل الغزال الأقوى منافسه؟ وكانت إجابته أنها ستكون خسارة للنوع إذا اشتبك الذكور في القتال مع رفقائها من نفس النوع على نحو متكرر. هل هذا تفسير جيد؟ ذهب ويليامز إلى أنه ليس كذلك. قد يكون في تقاتل الذكور خسارة للنوع فعلا، لكن هذا ليس سبب عدم اقتتالهم. أصر ويليامز على أن التفسير الصحيح يجب أن يوضح سبب كون هذا السلوك مفيدا للغزال الفرد، وليس لجماعة أكبر ينتمي إليها.
كي نفهم الخطأ في منطق لورينز أكثر، لنستعرض تشبيها. هب أن عالم أحياء يرغب في تفسير سبب امتلاك ديدان الأرض وظائف حيوية تمكنها من الحفر بكفاءة في التربة. تأمل الإجابة التالية: «يساعد الحفر في تهوية التربة، مما يحسن الصرف، مما يفيد النظام البيئي المحلي. ومن ثم، طور الانتخاب الطبيعي الوظائف الحيوية اللازمة للحفر لدى ديدان الأرض.» هل هذا تفسير جيد؟ يمكن القول إنه ليس كذلك. صحيح أن الحفر يؤدي إلى تهوية التربة، وهو ما يفيد النظام البيئي المحلي فعلا، إلا أن «هذا ليس سبب تطور سلوك الحفر لدى ديدان الأرض». كي يعد التفسير جيدا، يجب أن يوضح السبب الذي يجعل سلوك الحفر والوظائف الحيوية التي تسمح به مفيدا بالنسبة لدودة الأرض نفسها، لا لكيان أكبر كالنظام البيئي. كان هذا هو مقصد ويليامز الرئيسي.
عند طرحه لهذه الحجة، كان يفترض ويليامز أن الصفات محل البحث - مثل القتال الشكلي وفسيولوجيا دودة الأرض - تطورت عن طريق الانتخاب على مستوى الفرد. باعتبار هذا الافتراض، فمن الواضح أن وجهة نظر ويليامز صحيحة. إذ إن الانتخاب الفردي سيؤدي إلى تطور الصفات المفيدة على مستوى الفرد؛ مثل هذه الصفات قد تكون أو قد لا تكون، في المجمل، ذات فائدة للجماعة أو النوع الذي ينتمي إليه الفرد. وحتى إذا كانت هذه الصفات مفيدة للمجموعة، فهي ليست حالة تكيف جماعي حقيقية، بل هي ما أسماه ويليامز «الفائدة الجماعية العارضة». لملاحظة هذا الفارق، لنتأمل مجددا قدرة الفهد على العدو بسرعة. قد تحمل هذه الصفة بالفعل فائدة لصالح نوع الفهود ككل، إذ تساعدها على تجنب الانقراض، لكن ليس هذا هو السبب الذي أدى إلى تطور صفة العدو السريع لدى الفهود. العدو السريع هو صفة تكيفية لدى الفهود المنفردة، يصادف أنه مفيد للجماعة أيضا، لكنه ليس تكيفا على مستوى الجماعة. جادل ويليامز بأن عدم إدراك هذه النقطة المنطقية قد أدى إلى ارتباك كبير في علم الأحياء.
كان ويليامز يدرك أن الانتخاب على مستوى الجماعة ممكن الحدوث؛ وأنه إذا حدث، فسيؤدي إلى تكيف جماعي حقيقي، أي تطور الميزات المفيدة للجماعة لأنها مفيدة للجماعة. ولكنه جادل بأنه من غير المرجح أن يكون الانتخاب الجماعي عاملا مهما في التطور. هذا لأن المدة الزمنية لجيل من الأفراد عادة ما تكون أقصر من تلك التي للمجموعات، لذا فالانتخاب الفردي هو بطبيعته الأكثر تأثيرا. من ثم ذهب ويليامز إلى أنه يجب على علماء الأحياء عدم اللجوء إلى حجة انتخاب المجموعة ما لم يكن ذلك ضروريا للغاية. هذا الجانب من حجة ويليامز أكثر إثارة للجدل من حجته المنطقية المذكورة أعلاه (المقبولة على نطاق واسع). يوافق العديد من علماء الأحياء ويليامز في أن الانتخاب الجماعي له تأثير تطوري ضعيف، وأنه توجد نماذج رياضية تدعم هذا الاستنتاج؛ ومع ذلك توجد أقلية معتبرة تختلف مع هذا. فإجابة هذا السؤال لم تحسم بعد.
ماذا عن الإيثار؟ كما رأينا، فإن السبب التقليدي للانجذاب إلى الانتخاب الجماعي كان تفسيره لكيفية تطور الإيثار، باعتبار أنه غير مفيد على مستوى الفرد. لكن إذا لم يكن الانتخاب الجماعي هو الإجابة، فما هي إذن؟ هذا سؤال يقودنا مباشرة إلى فكرة انتخاب الأقارب، وهي من أشهر أفكار علم الأحياء التطوري في القرن العشرين.
انتخاب الأقارب
الفكرة الأساسية لانتخاب الأقارب واضحة ومباشرة. تأمل جماعة تضم نوعين من الكائنات الحية، الإيثارية والأنانية، يسلك كل منهما سلوكا مختلفا تماما. يأتي الأفراد الإيثاريون بأفعال مكلفة بالنسبة لهم لكنها تفيد الآخرين، مثل تنبيههم لوجود خطر. بينما لا يأتي الأفراد الأنانيون بمثل تلك الأفعال. دعنا نسأل: أي النوعين سيفضله الانتخاب الطبيعي؟ إذا استبعدنا احتمال الانتخاب الجماعي، فسيبدو أن الانتخاب سيفضل الفرد الأناني. فالأفراد الأنانيون يستفيدون من وجود أفراد آخرين إيثاريين في الجماعة دون تكبد أي تكلفة. فبالتالي يفترض أن ينحي الانتخاب الطبيعي الأفراد الإيثاريين.
هذه الحجة صحيحة، لكنها تستند إلى افتراض محوري. إذ تفترض أن الأفراد الإيثاريين يساعدون أفراد الجماعة الآخرين دون تمييز، أي إن أفعالهم الإيثارية تعود بالنفع على الأفراد الإيثاريين والأنانيين على حد سواء. وهو افتراض يحتمل الصحة والخطأ. لكن ماذا لو افترضنا أن الإيثاريين يميزون؛ أي إنهم يفضلون مساعدة الإيثاريين الآخرين بينما يمتنعون عن مساعدة الأفراد الأنانيين. عندئذ سيختلف الوضع تماما. فعلى الرغم من أن الإيثاريين في تلك الحالة يتكبدون تكلفة لا يتكبدها نظراؤهم الأنانيون، فإن منافع أفعالهم الإيثارية حينئذ ستعود على الإيثاريين الآخرين، لا على جميع أفراد المجموعة. نظريا، يمكن أن يؤدي ذلك إلى موازنة التكلفة، مما يؤدي إلى تطور الإيثار.
الطريقة الأكثر بديهية لنشأة تلك المعاملة التفضيلية هي أن يساعد الإيثاريون أقاربهم البيولوجيين. لما كان الأقارب يتشابهون وراثيا، فإذا اخترنا أي جين في فرد إيثاري، فهناك احتمال يفوق العشوائي لامتلاك قريبه نسخة من هذا الجين أيضا. الآن بما أننا حددنا أن سلوك الإيثار متأصل في الفرد، فلا بد أن يكون له أساس وراثي، أي لا بد أن يكون هناك جين «مختص» بالإيثار. (هذا اختصار لمقولة تفصيلها «جين يهيئ الكائن الحي للتصرف بإيثار في ظروف معينة».) بالتالي، بوجود احتمال يفوق العشوائي، فإن أقارب الفرد الإيثاري سيكونون هم أيضا حاملين لجين الإيثار؛ وبهذا يكون التأثير المجمل لفعل الإيثار هو زيادة انتشار جين الإيثار بين أفراد الجماعة. باختصار، إذا كان الأفراد الإيثاريون يساعدون أقاربهم البيولوجيين بدلا من أفراد من المجتمع مختارين عشوائيا، وإذا كان للإيثار أساس وراثي، إذن فإن الانتخاب الطبيعي يمكن أن يؤدي إلى تطور الإيثار.
كان أول من طرح هذه الحجة البسيطة هو عالم الأحياء الإنجليزي ويليام دي هاملتون في مقال له نشر عام 1964. بين فيه أن الإيثار سوف يتطور إذا استوفى شرطا معينا، يعرف باسم «قاعدة هاملتون». تنص القاعدة على أن
rb >
c ، حيث
c
التكلفة التي يدفعها المؤثر، و
b
الفائدة التي تعود على المتلقي، وكلاهما يقاس من حيث الصلاحية البيولوجية. أما الحد الأخير
r ، فيمثل «معامل العلاقة» بين الفرد الإيثاري والمتلقي، ويقيس مدى قرابتهما. كلما زادت قيمة
r ، رجح احتمال امتلاك متلقي الفعل الإيثاري لجين الإيثار. في أي جماعة تقليدية، تساوي درجة القرابة بين الفرد وأبنائه
r = 1/2 ، وبينه وأشقائه من نفس الوالدين
r = 1/2 ، وبينه وبين أحفاده
r = 1/4 ، وبينه وبين أبناء عمومته المباشرين
r = 1/8 . إذن ما تخبرنا إياه قاعدة هاملتون هو أن الإيثار سيتطور ما دامت التكلفة التي يدفعها الفرد الإيثاري ستعود بنفع على أقاربه القريبين.
أطلق على الآلية الانتخابية التي وصفها هاملتون اسم «انتخاب الأقارب»، مع أنه هو نفسه لم يستعمل ذلك المصطلح، وسرعان ما أصبحت هذه الآلية هي التفسير القياسي لكيفية تطور الإيثار. تفترض نظرية انتخاب الأقارب أنه من الأرجح أن الكائنات الحية تتصرف بإيثار تجاه الأقارب أكثر من غيرهم؛ وأن الإيثار سيكون أشد كلما كانت العلاقة أقرب. أكدت هذه الافتراضات الواسعة تجريبيا. على سبيل المثال، في أنواع متعددة من الطيور، من الأرجح أن تساعد الطيور «المساعدة» الأقارب في تربية صغارها عن أن تساعد الطيور التي لا تربطها بها قرابة. في قرود المكاك اليابانية، توجه الأفعال الإيثارية، مثل الدفاع عن الآخرين من الهجوم، تجاه الأقارب المقربين تفضيلا. وفي العديد من مستعمرات الحشرات الاجتماعية، التي يكرس فيها العمال أنفسهم لحماية المستعمرة ولمساعدة الجهود التكاثرية للملكة، توجد درجة عالية من الارتباط الجيني داخل المستعمرة. بصفة عامة، يعد الإيثار في الطبيعة أمرا شائعا جدا بين الأقارب، ولكنه نادر جدا بين غير الأقارب؛ وهو بالضبط ما تفترضه نظرية انتخاب الأقارب.
جدير بالذكر أن انتخاب الأقارب لا يتطلب أن تكون الكائنات الحية قادرة على التمييز بين الأقارب وغير الأقارب، ولا على حساب معاملات العلاقة. في الواقع، تستطيع العديد من الحيوانات تمييز أقاربها، في الأغلب عن طريق الرائحة، لكن هذا لا يهم. ما يهم هو أنه يفترض أن الكائن الحي يتصرف بإيثار تجاه آخرين هم أقاربه فعلا. قد يفعل ذلك بامتلاكه القدرة على التمييز بين من هم أقاربه ومن ليسوا كذلك؛ لكن ثمة طريقة أخرى وهي استخدام مؤشر قرب للاستدلال على القرابة. على سبيل المثال، إذا تصرف الكائن الحي بإيثار تجاه من هم في محيطه المباشر، فغالبا ما ستئول مساعدته إلى أحد أقاربه، إذ ينزع الأقارب إلى العيش في جوار بعضهم. تستغل طيور الوقواق بالتحديد هذه الحقيقة، إذ تستغل الميل الفطري للطيور لرعاية الصغار في أعشاشها.
هل تنطبق نظرية انتخاب الأقارب على البشر أيضا؟ هذا جانب من سؤال أشمل نناقشه في الفصل السابع، حول إذا كان من الممكن لعلم الأحياء التطوري أن يسلط الضوء على السلوك البشري. سنكتفي بتعليقين فقط الآن. أولا، ينطبق الافتراض العام بأن الكائنات الحية تختلف معاملتها للأقارب عن غير الأقارب على البشر. على سبيل المثال، يقدم معظم البشر مساعدات مالية كبيرة لأقاربهم المباشرين، أما لغيرهم فتكون المساعدات ضئيلة. في هذا الجانب، يتوافق السلوك الاجتماعي للبشر مع نظرية انتخاب الأقارب. ثانيا، على عكس الأنواع الأخرى، ينخرط البشر عادة في مساع تعاونية مع غير الأقارب. إذ تقوم المؤسسات مثل الشركات والمدارس والحكومات، التي هي جوهر المجتمع البشري، في الأساس على رغبتنا في التعاون مع الآخرين. هذا الجانب من سلوكنا الاجتماعي لا تتنبأ به نظرية انتخاب الأقارب.
على الرغم من أن مبدأ انتخاب الأقارب مقبول بشكل واسع في علم الأحياء، فإنه محاط ببعض الجدل. من أوجه هذا الجدل هو علاقة انتخاب الأقارب بالانتخاب الجماعي التقليدي الذي ناقشه داروين. كان هاملتون يقصد في الأصل أن يكون انتخاب الأقارب بديلا للانتخاب الجماعي؛ أي طريقة لتفسير تطور الإيثار دون ذكر المميزات على مستوى الجماعة. كانت هذه أيضا الطريقة التي نظر بها جي سي ويليامز إلى المسألة، وهي ما تزال وجهة نظر سائدة اليوم. بالفعل، نشأ جيل من المتخصصين في علم الأحياء التطوري على فكرة أن الانتخاب الجماعي مفهوم إشكالي بينما انتخاب الأقارب مقبول. ولكن الأزمنة قد تغيرت. على غير المتوقع نوعا ما، يجادل العديد من علماء الأحياء المعاصرين بأن كلا من انتخاب الأقارب والانتخاب الجماعي ليسا مفهومين متنافسين بل متساويان في الحقيقة، إذ يقدمان وجهتي نظر مختلفتين عن العملية البيولوجية الأساسية نفسها.
لفهم ما تستند إليه وجهة النظر تلك، لنعد إلى مثال إبرة اللدغ الشائك في نحلة العسل. من منظور الانتخاب الجماعي قد يشير تفسير سبب تطور إبرة اللدغ إلى فائدة البقاء التي تمنحها للمستعمرة كلها. أما التفسير من منظور انتخاب الأقارب فسيشير لحقيقة أن الشغالة تربطها صلة قرابة وثيقة بالملكة، لذا فبناء على قاعدة هاملتون ينبغي أن يكون لدى الشغالة استعداد لأن تضحي بنفسها إذا كانت تضحيتها تعود بفائدة كافية على الملكة. قد يبدو هذان التفسيران مختلفين، ولكنهما في الواقع متشابهان؛ لأن بقاء المستعمرة لازم للنجاح التكاثري للملكة. قطعا إذا ترجمنا كلا من افتراض أن صفة ما في النحلة «تفيد المستعمرة» وأنها «تفيد الملكة» إلى تعبير رياضي دقيق، سيتضح أنهما سيان. والدليل على ذلك هو أن نماذج انتخاب الأقارب والانتخاب الجماعي تشترك في بنية رياضية مشابهة؛ لذلك يمكن غالبا ترجمة تفسيرات الانتخاب الجماعي باصطلاح انتخاب الأقارب والعكس صحيح. هذا يدعم فكرة أنه في بعض الحالات على الأقل، يكون الاختيار بين انتخاب المجموعة وانتخاب الأقارب محكوما بالعادة لا بحقيقة تجريبية.
توضح مسألة العلاقة بين انتخاب الأقارب والانتخاب الجماعي أحد الجوانب اللافتة للجدل الدائر حول مستويات الانتخاب في علم الأحياء، والذي يفسر سبب التفات الفلاسفة له. يتضمن الجدل مزيجا مثيرا للفضول من الأسئلة التجريبية والمفاهيمية، التي غالبا ما تتداخل. للوهلة الأولى، قد تبدو مسألة مستويات الانتخاب تجريبية بحتة. باعتبار أن الانتخاب الطبيعي قد يحدث على أكثر من مستوى واحد، أليس كل ما نحتاجه هو تحديد المستوى (أو المستويات) التي يحدث فيها أو التي سبق أن حدث فيها؟ في ظل وجود أدلة تجريبية كافية، ألا يكون ذلك سؤالا له إجابة مباشرة؟ في الحقيقة، ليس الأمر بتلك البساطة. بالطبع، يحتكم الجدل إلى البيانات التجريبية، لكنه لا يقف عندها. حيث إنه ليس من النادر أن يجد المرء مؤلفين يتفقون حول الحقائق البيولوجية الأساسية في حالة معينة، لكن يختلفون حول كيفية تحديد مستوى (أو مستويات) الانتخاب. هذه الخلافات ليست خلافات علمية «عادية» يمكن حلها بجمع البيانات، ولكنها ذات بعد مفاهيمي، بل في بعض الحالات بعد أيديولوجي.
النظرة المرتكزة على الجين للتطور
في كتابه «الجين الأناني» (1976)، طرح ريتشارد دوكينز وجهة نظر جديدة ثورية لمسألة مستويات الانتخاب، في سياق دفاعه الشهير عن نظرته «المرتكزة على الجين» للتطور. ذهب دوكينز إلى أن النشاط التطوري الفعلي يحدث على مستوى الجين، لذا فمن الأفضل أن نبحث الانتخاب والتكيف على هذا المستوى. انطلق دوكينز من الفكرة الداروينية الجديدة التي مفادها أن كل التغير التطوري في نهاية المطاف يعزى إلى شيوع بعض الجينات في جماعة وانحسار غيرها. لذا ذهب إلى أنه يمكننا اعتبار كل جين يخوض منافسة لتوريث أكبر عدد ممكن من نسخه للأجيال القادمة. والكائنات الحية ما هي إلا «مركبات» أو «آلات بقاء» صنعتها الجينات بغرض مساعدتها في هذه المهمة. لذا فإن الصفات الظاهرية التي نراها في الطبيعة، مثل أجنحة الطيور وخياشيم الأسماك، ليست موجودة لأنها تفيد الكائنات الحية المفردة الموجودة فيها هذه الصفات، ناهيك عن الجماعات التي تنتمي إليها تلك الأفراد. بل تلك الصفات موجودة لتفيد الجينات التي أدت إلى نشأتها! تقوم الجينات ب «برمجة» مضيفها على إيجاد الصفات، بما فيها السلوكيات، التي من شأنها تعزيز فرص الجينات نفسها للانتقال إلى الجيل التالي. جادل دوكينز بأن «المستفيد النهائي» من العملية التطورية هو بالتالي الجين نفسه.
من المهم أن نكون واضحين بشأن ما يعنيه دوكينز بحديثه عن تنافس الجينات على توريث نسخ منها للأجيال القادمة. هو لا يعني أن الجينات داخل الكائن الحي الواحد تكون في تناحر دائم فيما بينها، فهذا ليس صحيحا. على الرغم من حدوث منافسة انتخابية بين الجينات داخل الكائن الحي، إلا أنها تكون نادرة نسبيا. ففي معظم الأحيان، تتعاون الجينات في الكائن الحي، لأن لديها مصلحة مشتركة تتمثل في بقاء مضيفها وتكاثره. إنما يعني دوكينز أن كل جين يتنافس مع «أليلاته» داخل المجموعة. أليلات الجين هي الأشكال المختلفة للجين التي يمكن أن تشغل نفس الموضع في الكروموسوم؛ يختلف تسلسل الحمض النووي لكل أليل اختلافا طفيفا، مما يؤدي إلى اختلافات في النمط الظاهري. إن أي جين يخوض بالضرورة مباراة يتوازن فيها المكسب والخسارة مع أليلاته؛ إذ لا يمكن أن ينتشر في المجموعة إلا إذا قلت أليلاته. لذلك يمكننا أن نعتبر أن كل جين «يحاول» التغلب على أليلاته، من خلال تأثيره على الكائن الحي المضيف.
يدلل دوكينز على صحة نظرته للتطور منطقيا وتجريبيا. إذ يجادل بأن الجينات منطقيا لها مكانة مميزة مقارنة بسواها من الكائنات الحية، مما يمنحها تأهيلا فريدا لأن تلعب دور المستفيد في عملية التطور. فالجينات «مستنسخات»، أي إنها كيانات تصنع منها نسخا. بفضل دقة استنساخ الحمض النووي، عادة ما يكون أي جين في جيل ما نسخة تكاد تكون طبق الأصل منه في السلف الذي جاء منه. لكن الكائنات الحية ليست كذلك. تتكاثر الكائنات الحية أيضا؛ ولكن التكاثر الجنسي يعني أن الذرية تحمل مزيجا من المادة الوراثية من كلا الأبوين. الجينات الموجودة اليوم منحدرة دون تغيير تقريبا عن الجينات التي كانت موجودة منذ مئات الآلاف من السنين؛ لكن الشيء نفسه لا ينطبق على الكائنات الحية المفردة. لذلك، فإن الجينات لها ديمومة لا توجد في الكائنات الحية، كما يطرح دوكينز؛ لذلك في النهاية، صفات الكائن الحي موجودة لمنفعة الجينات.
من الناحية التجريبية، يجادل دوكينز بأن وجهة نظره المرتكزة على الجين تساعد في تفسير العديد من الظواهر البيولوجية. إحدى هذه الظواهر هي الإيثار. فكما رأينا، يصعب فهم الإيثار من منظور الكائن الحي الفرد: لماذا يدفع تكلفة لمساعدة الآخرين؟ ولكن من منظور الجين، فإن الأساس المنطقي لذلك واضح. فبجعله الكائن الحي المضيف يتصرف بإيثار تجاه الأقارب، الذين يرجح أيضا أن يكونوا حاملين لنسخة من الجين، فإن الجين يساعد نفسه بطريق غير مباشر! لذا فإن النقطة الجوهرية لنظرية انتخاب الأقارب - القائلة بأن سلوك الكائنات الحية يختلف بالضرورة تجاه الأقارب عنه تجاه غيرهم - تبدو منطقية تماما من المنظور المرتكز على الجينات. بصفة أعم، إذا اعتبرنا صفات الكائن الحي استراتيجيات وضعتها الجينات لتساعد في انتشارها، كما يصر دوكينز، يمكننا أن نرى على الفور أن هناك استراتيجيتين يمكن للجين أن يستخدمهما. تتمثل الاستراتيجية المباشرة، التي تستخدمها معظم الجينات، في إنتاج صفات تضمن بقاء الكائن المضيف لها وتكاثره. أما الاستراتيجية غير المباشرة، التي يستخدمها القليل من الجينات، فتتمثل في جعل الكائن المضيف يتصرف بإيثار تجاه أقاربه.
فئة أخرى من الظواهر التي يمكن أن تبرزها وجهة النظر المرتكزة على الجينات هي الجينات «الخارجة عن القانون». وهي الجينات التي تنتشر على حساب جينات أخرى في الكائن الحي نفسه، أي عن طريق الانتخاب على مستوى الجين. تذكر أنه نتيجة للتكاثر الجنسي، لا تنتقل الجينات الموجودة في كائن حي واحد إلى الجيل التالي كاملة. بل ينتج الكائن الحي الأمشاج التي تندمج مع أمشاج أخرى لإنتاج اللاقحة. الأمشاج أحادية، أي إنها تحتوي على كروموسوم واحد فقط من كل زوجين من الكروموسومات. وهذا يعني أن كل مشيج يحمل نصف جينات الكائن الحي فقط. في معظم الأوقات، تكون تلك العملية عادلة، لذا فاحتمال انتقال أي جين إلى كل مشيج يساوي النصف. لكن بعض الجينات ابتكرت طرقا للتحايل على النظام بغرض الانتقال إلى أكثر من نصيبها العادل من الأمشاج، والذي من الواضح أنه لصالحها. تكون تلك الجينات خارجة عن القانون، وتعرف أيضا باسم «العناصر الوراثية الأنانية» أو «الجينات المفرطة الأنانية». غالبا ما تكون لهذه الجينات تأثيرات ضارة على النمط الظاهري للكائن المضيف، مما يقلل من صلاحيته البيولوجية؛ لكنها قادرة على الانتشار بين أفراد مجموعة بما لها من ميزة انتقالية.
تلك الجينات الخارجة عن القانون استثناءات من المصلحة المشتركة التي عادة ما تكون لها الغلبة بين الجينات داخل الكائن الحي الواحد: فهم ينفعون أنفسهم على حساب الجماعة. بالفعل، غالبا ما يولد الخارجون صراعا جينيا داخل الكائن الحي، تحاول خلاله الجينات الأخرى تطوير طرق لقمع تصرفات الجينات الخارجة عن القانون، وبالتالي استعادة الانسجام. في معظم الأوقات، يكون القمع ناجحا؛ ولولاه لما وجدت كائنات مثلنا. من وجهة نظر الانتخاب الفردي، يصعب فهم الجينات الخارجة عن القانون لأنها عادة ما تضر بالكائن الحي نفسه عوضا عن أن تفيده. كما أنها لا تعود بأي فائدة تعويضية على أقارب الفرد، ولا على أي كيان اجتماعي قد ينتمي إليه، ولا على النوع كله. ولكن من وجهة النظر المرتكزة على الجينات، فإن تصرفات الجينات الخارجة عن القانون منطقية تماما. مثل كل الجينات، هي ببساطة تبحث عن منفعتها، وقد ابتكرت طريقة جديدة لاكتساب ميزة تطورية جعلها التكاثر الجنسي ممكنة.
كيف ترتبط وجهة نظر دوكينز المرتكزة على الجينات بالجدل التقليدي حول مستويات الانتخاب الذي وضع مؤيدي الانتخاب الفردي في مواجهة مع مؤيدي الانتخاب الجماعي؟ ذهب دوكينز في أعماله المبكرة إلى أن كلا طرفي هذا النقاش على خطأ؛ فالطريقة الصحيحة للنظر في التطور هي من حيث الانتخاب على مستوى الجينات، وليس الأفراد أو الجماعات. ولكن، تبنى دوكينز في أعماله الأخيرة خطا مختلفا، بحجة أن نظريته المرتكزة على الجينات لا يقصد بها أن تكون بديلا تجريبيا للانتخاب الفردي العادي ولا للانتخاب الجماعي. إنما هي ببساطة تقدم منظورا مختلفا للتطور مفيدا من الناحية التجريبية في سياقات معينة. يمكننا أن ننظر إلى التطور إما بالطريقة الداروينية القياسية، باعتباره ينطوي على الانتخاب بين الكائنات الحية المنفردة (أو ربما الجماعات في بعض الحالات)؛ أو يمكننا تبديل المنظور والنظر للعملية التطورية باعتبارها انتخابا من بين الجينات. يقترح دوكينز أن كلا المنظورين يحتملان الصحة والخطأ.
إن فكرة المنظورين البديلين هذه مقنعة، لكنها لا تتوافق مع التركيز الذي منحه دوكينز للجينات الخارجة عن القانون. فكما رأينا، تلك الجينات لا تفيد الكائن الحي الفرد ولا جماعته. لذلك فيما يتعلق بالجينات الخارجة عن القانون، لا يبدو أن حرية تبديل وجهة النظر موجودة. كيف يحل هذا الإشكال؟ الطريقة الأمثل هي التمييز بوضوح بين «عملية» الانتخاب على مستوى الجين من «منظور» مرتكز على الجينات وعمليات الانتخاب التي تحدث على مستويات أخرى. (هذا التمييز موجود في أعمال دوكينز، ولكنه لم يصغ بطريقة مباشرة.) تشير عملية الانتخاب على مستوى الجينات إلى الانتخاب بين الجينات داخل كائن حي واحد، كما في حالة الجينات الخارجة عن القانون. إذن الانتخاب على مستوى الجين هو في حد ذاته مستوى مستقل من الانتخاب، يختلف عن الانتخاب على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة. نظرا لأن معظم الجينات ليست خارجة عن القانون، فإن عملية الانتخاب على مستوى الجينات غير شائعة نسبيا. ومع ذلك، يمكن دائما تبني منظور جيني لعمليات الانتخاب التي تحدث على مستويات أخرى، كالمستوى الفردي. حيث إن التأثير الإجمالي للانتخاب الفردي هو انتشار بعض الجينات على حساب أليلاتها. لذلك، إذا أردنا، يمكننا اعتبار الصفات التي تتطور عن طريق الانتخاب الفردي مثل سرعة عدو الفهد تكيفات لصالح الجينات.
التحولات الرئيسية في التطور
في الخمسة والعشرين عاما الماضية، أعادت مجموعة الدراسات التي بدأها جون مينارد سميث ويورس ساتماري عن «التحولات الرئيسية في التطور» إحياء الجدل حول مستويات الانتخاب. تحدث هذه التحولات عندما تتجمع وحدات بيولوجية صغيرة، لديها في الأصل القدرة على البقاء والتكاثر بمفردها، في وحدة أكبر مكونة مستوى جديدا في التسلسل الهرمي البيولوجي. يعتقد أن مثل هذه التحولات تكرر حدوثها على مدى تاريخ الحياة. ربما كان الانتقال الأول من المضاعفات المنفردة (المكونة من الحمض النووي الريبوزي) إلى شبكات من المضاعفات المضمنة داخل تقسيمات مستقلة. ثم تضمنت تحولات لاحقة التحول من الجينات المستقلة إلى كروموسومات تتكون من عدد من الجينات المتصلة ماديا؛ والتحول من بدائيات النوى (أو الخلايا الشبيهة بالبكتيريا) إلى حقيقيات النوى التي تحتوي على عضيات (مثل الميتوكوندريا والبلازميدات)؛ والتحول من حقيقيات النوى وحيدة الخلية (مثل الأميبا) إلى الكائنات متعددة الخلايا (مثل معظم الحيوانات والنباتات)؛ والتحول من الكائنات الحية المنفردة (مثل الدبابير) إلى المستعمرات المتكاملة (مثل النحل). في كل من تلك الحالات، انطوت عملية التحول على تطور وحدات بيولوجية مستقلة لتصبح أجزاء من كل أكبر. التحدي هو أن نفهم هذا من المنظور الدارويني. لماذا كان من المفيد للوحدات الأصغر أن تضحي بفرديتها، وأن تتعاون فيما بينها، وأن تشكل نفسها في هيئة مجتمع؟
عندما نبحث مسألة التحولات الرئيسية، نصطدم مباشرة بمسألة مستويات الانتخاب. لنأخذ التحول إلى التعددية الخلوية مثالا. ربما كان أقدم كائن متعدد الخلايا عبارة عن تكتل فضفاض من بضع مئات من الخلايا أشبه بمستعمرة منه بكائن «حقيقي». وبمرور الوقت، تطورت هذه الخلايا إلى وحدة شديدة التماسك تحتوي على تريليونات من الخلايا تختص كل منها بمهام معينة، وتتعاون جميعها من أجل الصالح العام. ولكن لماذا لم يؤد الانتخاب من بين الخلايا إلى الإخلال بتكامل الكائن متعدد الخلايا الناشئ منها؟ إذ كما نعلم، لا يلزم أن يكون للانتخاب على مستوى ما آثار مفيدة على المستويات الأعلى. طرحت إجابات مختلفة لهذا اللغز. كان أحدها اللجوء إلى نظرية انتخاب الأقارب: هل يحتمل أن تكون الخلايا داخل هذا التكتل المتعدد الخلايا الناشئ أقارب، أو حتى مستنسخة من بعضها، ولهذا السبب تعاونت؟ يمكن أن يحدث هذا إذا تطورت دورة حياة الكائن الحي بحيث يمر بمرحلة الخلية الواحدة؛ وهو بالضبط ما نراه في معظم النباتات والحيوانات الحديثة التي تنمو من لاقحة واحدة. هذا يضمن أن يكون بين الخلايا المكونة ارتباط نسيلي، أو شبه نسيلي. (وفق قاعدة هاملتون، الارتباط النسيلي يعني أن
r = 1 .) وفقا لهذه النظرية، فإن تفسير سبب تخلي الخلايا الفردية عن استقلالها وتطورها إلى أجزاء من وحدة أكبر هو أنه بقيامها بذلك، تتمكن من مساعدة أقاربها الجينيين.
ترتبت على الدراسات حول التحولات الرئيسية آثار مفاهيمية لافتة. أولها أنها تشير إلى أن الصياغة التقليدية لمسألة مستويات الانتخاب كانت إلى حد ما قاصرة. إن الصياغة التقليدية، التي اتبعناها في الفقرة السابقة، تعتبر وجود التسلسل الهرمي البيولوجي أمرا مسلما به، كما لو كان حقيقة مطلقة عن العالم. لكن بالطبع، التسلسل الهرمي البيولوجي هو في حد ذاته نتاج للتطور؛ فمن الواضح أن الكيانات الأعلى في التسلسل الهرمي، مثل الكائنات متعددة الخلايا، لم تكن موجودة في فجر الحياة على الأرض. وهو ما ينطبق أيضا على الخلايا والكروموسومات. لذلك، نظريا نحن بحاجة إلى نظرية تطورية تشرح كيف ظهر التسلسل الهرمي البيولوجي إلى الوجود، لا تتعامل معه باعتباره من المسلمات. من منظور التحولات الرئيسية، لا يكفي بحث الانتخاب والتكيف على مستويات هرمية موجودة مسبقا؛ بل نحتاج كذلك إلى أن نفهم كيف تطورت مستويات التسلسل الهرمي في الأساس.
هذا يعيد إبراز الأهمية الملحة للجدل حول مستويات الانتخاب. كان بعض علماء الأحياء يميلون إلى مناقشة الجدل التقليدي باعتباره زوبعة في فنجان؛ بحجة أن الانتخاب على مستوى الكائنات الحية المنفردة هو القوة التطورية الوحيدة المهمة فعليا، بغض النظر عن الاحتمالات النظرية الأخرى. لكن في ضوء التحولات الكبرى، يصعب الدفاع عن هذا الموقف. فما نسميه «كائنا حيا فردا» هو في حد ذاته مكون من مجموعة من خلايا بينها تعاون وثيق؛ والخلية الحقيقية النواة هي نفسها تعتبر جماعة من نوع ما، إذ تكونت من اندماج خليتين بدائيتي النواة مستقلتين. باختصار، إن «الكائنات المنفردة» الموجودة اليوم لم تكن موجودة منذ الأزل، ومن المفارقات أنها تطورت إلى أفراد محكمة الاتساق من خلال عملية انتخاب على مستوى الجماعة (حيث تعني كلمة «جماعة» هنا مجموعة من الخلايا). لذلك، لا بد أن يكون انتخاب قد حدث في الماضي على مستويات غير مستوى الكائن الحي الفرد، بغض النظر عن إذا كان لا يزال يحدث اليوم أم لا. من هذا المنظور الأشمل، يتبين أن الحجة القائلة بأن الانتخاب الفردي هو «الأهم من الناحية العملية» هي حجة ضعيفة.
أما الأثر المفاهيمي الثاني اللافت الذي تشير إليه الدراسات المتعلقة بالتحولات الرئيسية هو أن كل أشكال الحياة على الأرض اجتماعية بشكل ما. بمعنى أن جميع الكائنات الحية، بما فيها أنت وأنا، هي فعليا جماعات اجتماعية معقدة، مكونة من وحدات أصغر، مثل الخلايا والعضيات، تنحدر من أسلاف مستقلة. هذه فكرة لافتة للغاية. ذلك أن كون مستعمرات الحشرات أو قطعان قرود البابون جماعات اجتماعية هي حقيقة واضحة، لكن حقيقة أن كل كائن حي متعدد الخلايا، بل في الواقع كل خلية حقيقية النواة، هي أيضا جماعة اجتماعية ليست واضحة بالقدر نفسه، وإن كانت صحيحة. تلك الرؤية الاجتماعية للحياة تجبرنا على إعادة التفكير في ماهية «الفرد»، وتجعلنا نتساءل إذا كان التمييز بين «الأفراد» و«الجماعات» مسألة متعلقة بالسياق. (بمعنى أنه يحتمل اعتبار كيان واحد فردا في بعض السياقات وجماعة في سياقات أخرى.) ويساعدنا ذلك على فهم لماذا يجب أن يكون للمفاهيم الأساسية لنظرية التطور الاجتماعي، مثل الانتخاب الجماعي وانتخاب الأقارب وقاعدة هاملتون، التي وضعت في الأصل لتفسير سلوكيات حيوانية معينة، مجال تطبيق أوسع بكثير.
الفصل الخامس
الأنواع والتصنيف
يتضمن جزء مهم من البحث العلمي تصنيف الأشياء محل الدراسة إلى أنواع أو فئات. فيصنف الفيزيائيون الجسيمات الأساسية إلى باريونات أو لبتونات أو ميزونات حسب كتلتها. ويصنف علماء الفلك المجرات إلى إهليجية أو لولبية أو غير منتظمة حسب شكلها الظاهر. ويصنف الجيولوجيون الصخور إلى نارية أو رسوبية أو متحولة حسب كيفية تشكلها. أحد أهداف التصنيف هو إيصال المعلومات. فأنت إذا وجدت صخرة وأخبرك عالم جيولوجيا أنها نارية، فتلك معلومة تخبرك الكثير عن سلوكها المرجح. لذلك ينبغي أن يجمع مخطط التصنيف الجيد بين العناصر التي تتشابه في الجوانب ذات الأهمية ومن ثم يتوقع أن يكون سلوكها مشابها.
يثير التصنيف في العلوم قضية فلسفية عميقة. لاحظ أنه نظريا يمكن تصنيف جميع العناصر بأكثر من طريقة. على سبيل المثال، يمكن تصنيف الجسيمات الأولية من خلال اتجاه اللف المغزلي لها بدلا من كتلتها، مما ينتج عنه تقسيمها إلى نوعين: البوزونات والفرميونات. كيف إذن نختار بين طرق التصنيف المختلفة؟ هل ثمة طريقة «صحيحة» لتصنيف الكائنات الحية في مجال معين، أم أن جميع مخططات التصنيف هي في النهاية اعتباطية؟ هذا سؤال يثار بصفة عامة، لكن تركيزنا هنا ينصب على إجابته من جانب مجال التصنيف البيولوجي، أو علم التصنيف.
تقليديا، صنف علماء الأحياء الكائنات الحية باستخدام نظام لينيوس، الذي سمي باسم كارل لينيوس عالم الطبيعة السويدي الذي عاش في القرن الثامن. أساسيات نظام لينيوس واضحة ومباشرة. أولا، يدرج كل كائن حي تحت نوع، ويدرج كل نوع تحت جنس، وكل جنس تحت فصيلة، وكل فصيلة تحت رتبة، وكل رتبة تحت طائفة، وكل طائفة تحت شعبة، وكل شعبة تحت مملكة. وبالتالي فإن الأنواع هي الوحدة التصنيفية الأساسية؛ بينما الأجناس والفصائل والرتب وما إلى ذلك تسمى «الرتب التصنيفية العليا». لنأخذ مثالا، قطتي الأليفة تنتمي إلى نوع القط المنزلي (فيليس كاتوس)، الذي يشكل جنبا إلى جنب مع حفنة من أنواع القطط الصغيرة الأخرى جنس القطط. هذا الجنس نفسه ينتمي إلى فصيلة السنوريات، رتبة اللواحم، طائفة الثدييات، شعبة الحبليات، مملكة الحيوان. لاحظ أن الاسم اللاتيني للنوع يشير إلى الجنس الذي ينتمي إليه، ولكن ليس أكثر من ذلك.
من السمات البارزة لنظام لينيوس هيكله الهرمي. إذ يشكل عدد من الأنواع جنسا واحدا، ويشكل عدد من الأجناس فصيلة واحدة، وهكذا. لذلك كلما تحركنا لأعلى، قل عدد الأصناف في كل رتبة تصنيفية. في قاعدة الهرم توجد حرفيا ملايين الأنواع، ولكن في قمته لا يوجد سوى عدد قليل من الممالك: الحيوانات والنباتات والفطريات والطلائعيات والعتائق والبكتيريا. ليس لكل الأنظمة التصنيفية في العلوم ذلك الترتيب الهرمي. على سبيل المثال، العناصر الكيميائية مرتبة في مجموعات وفق العمود الرأسي الذي تقع فيه في الجدول الدوري؛ لكن هذه المجموعات لا تندرج تحت مجموعات أخرى كما في نظام لينيوس. أحد الأسئلة المثيرة للاهتمام، وسنعود إليه، هو «لماذا» يجب أن يكون التصنيف البيولوجي هرميا.
خدم نظام لينيوس علماء الأحياء جيدا لسنوات، ولا تزال بعض عناصره مستخدمة حتى يومنا هذا. هذا مستغرب نوعا ما لأن الرؤية العلمية للعالم التي يستند إليها قد تغيرت كثيرا. ينتمي لينيوس إلى عصر ما قبل الداروينية وكان مسيحيا متدينا مؤمنا بقصة الخلق التوراتية. اعتبر لينيوس نظام التصنيف الذي وضعه محاولة لاكتشاف التقسيمات الموضوعية للكائنات الحية التي خلقها الرب الموجودة منذ الأزل. كان لينيوس يستغرب تماما فكرة انحدار الأنواع المعاصرة من أسلاف مشتركة.
لفهم كيف يمكن لنظام لينيوس أن يظل صامدا بعد التحول من نظرة خلق الإله للعالم إلى النظرة التطورية، تذكر أن التطور عملية بطيئة للغاية. لذلك على الرغم من أن جميع أشكال الحياة قد انحدرت من سلف مشترك، فإن هذا يتوافق مع وجود انفصالات بين الكائنات الحية الموجودة اليوم. وهي قطعا انفصالات يمكن تحديدها. فالظاهر أن الكائنات الحية تتجمع في أصناف منفصلة الكثير منها يمكن تحديده بسهولة. ففي نهاية المطاف، يختلف مظهر الهامستر موضوعيا عن الفأر أو السنجاب؛ مع أننا إذا تتبعنا أسلافهم بما يكفي، فسنصل إلى شكل من الحياة لا يسهل إدراجه تحت أي من هذه الأصناف الثلاثة. لذا فإن حقيقة التطور لا تقوض تلقائيا محاولة إيجاد طريقة موضوعية لتصنيف الكائنات الحية المعاصرة. في الواقع، لا يزال علماء الأحياء المعاصرون يعترفون بالعديد من الأنواع وبعض التصنيفات العليا التي وضعها لينيوس.
هذا وقد أدى ظهور علم الأحياء التطوري في النهاية إلى تغييرات أساسية في التصنيف البيولوجي. بالفعل من الناحية النظرية والعملية. تجلت أهمية علم التصنيف، أو «النظاميات الحيوية» كما يسمى اليوم باعتباره تخصصا مستقلا في القرن العشرين، نتيجة وجود احتياج إلى استيضاح المبادئ المستخدمة في التصنيف. الغريب أن علماء الأحياء لم يكونوا دائما متفقين على هذه المبادئ، وهو ما يرجع جزئيا إلى اختلافات فلسفية متعلقة بها. أدى ذلك إلى جدل مطول حول التصنيف البيولوجي بدأ في السبعينيات ولا يزال مستمرا حتى يومنا هذا، شارك فيه الفلاسفة بإسهامات كبيرة.
تنقسم مشكلة التصنيف البيولوجي إلى قسمين. أولا، كيف ينبغي أن تصنف الكائنات الحية تحت الأنواع؟ ثانيا، ما إن نفرغ من ذلك، كيف ينبغي تنظيم الأنواع بعد ذلك في الأصناف الأعلى؟ على الرغم من أن هذين السؤالين مترابطان إلا أن كلا منهما يثير مسائل مختلفة نوعا ما، لذا يستحقان معالجة منفصلة.
مشكلة النوع
كثيرا ما يناقش علماء الأحياء ما يسمونه «مشكلة النوع». ويقصد بها مشكلة وضع تعريف دقيق للنوع. من المستغرب إلى حد ما أنه لا يوجد اتفاق حول هذا الأمر. إذ تكثر التعريفات المتنافسة للنوع، أو «مفاهيم النوع» كما يطلق عليها. هذا الخلاف له تبعات عملية. إذ كثيرا ما يختلف علماء الأحياء حول عدد الأنواع التي تحتوي عليها أصنوفة معينة فعليا. على سبيل المثال، تأمل فصيلة البقريات وهي من الثدييات المجترة مشقوقة الظلف (والتي تشمل البيسون والظباء والأغنام والماشية). تقليديا، كان يعتقد أن فصيلة البقريات تحتوي على 143 نوعا حاليا. ولكن في عام 2011، أوصت مجموعة من الخبراء باعتماد 279 نوعا من البقريات؛ لا نتيجة لأي اكتشافات تجريبية جديدة، بل لأنهم تبنوا مفهوما مختلفا للنوع. وقد رفض خبراء آخرون هذا الاقتراح واعتبروه تضخما تصنيفيا لا مبرر له. مثل هذه الخلافات هي تبعات لعدم إيجاد حل لمشكلة النوع بعد.
غالبا ما يتفاجأ غير المتخصصين في علم الأحياء بوجود مشكلة متعلقة بالنوع. فكلمة «نوع» هي كلمة دارجة في اللغة الإنجليزية، ويشبه معناها الدارج إلى حد كبير معناها الاصطلاحي في علم الأحياء. علاوة على ذلك، يمكن لمن لم يدرس علم الأحياء إصدار أحكام صحيحة بشأن انتساب الكائنات إلى الأنواع. إذ يستطيع طفل في الثالثة من العمر أن يخبرنا أن حيوانين ما في الحديقة هما كلبان، حتى لو كانا من سلالتين مختلفتين؛ وسيؤكد عالم الأحياء أن الطفل على صواب؛ فالكلبان ينتميان بالفعل إلى نوع واحد، ألا وهو نوع الكلب المنزلي (كانيس فاميلياريس). ومن ثم من الطبيعي أن نعتقد أن انتماء كائن حي ما إلى نوع ما هو أمر واضح مسلم به. وهو الرأي الذي يقبله دون شك أغلب غير المتخصصين في علم الأحياء.
تتوافق وجهة النظر المنطقية هذه مع النسخ المختلفة من عقيدة «الأصناف الطبيعية» الفلسفية، التي شاعت منذ عصر أرسطو. تنص هذه العقيدة على أن هناك طرقا لترتيب الأشياء في أصناف طبيعية بمعنى أنها تتوافق مع التقسيمات الموجودة بالفعل في العالم، لا التي تعكس المصالح البشرية. العناصر والمركبات الكيميائية هي أصناف طبيعية نموذجية. تأمل على سبيل المثال كل الكتل المصنوعة من الذهب الخالص في الكون. هذه الكتل هي من صنف «الذهب» لأنها متشابهة من ناحية أساسية: الذرات التي تكونها لها العدد الذري 79. على النقيض من ذلك، فإن قطعة من الذهب الكاذب (بيريت الحديد) لا تنتمي إلى هذا الصنف، على الرغم من تشابهه مع الذهب في بعض النواحي، لأنه مركب يتكون من ذرات من نوع مختلف (الحديد والكبريت). وبالمثل، فقد ذهب الكثيرون إلى أن الأنواع هي بمثابة الأصناف الطبيعية لعلم الأحياء.
ولكن في الواقع، فإن الأنواع البيولوجية تختلف إلى حد ما عن الأصناف الطبيعية التي نجدها في الكيمياء والفيزياء. في صنف مثل الذهب، يمكننا أن نشير إلى خاصية واحدة - أن له العدد الذري 79 - وهي خاصية ضرورية وكافية لنسبته إلى صنف الذهب، وبالتالي تعد تلك الخاصية «جوهر» الذهب. لكن هذا غير ممكن بوجه عام في الأنواع البيولوجية. والسبب بسيط؛ ففي كل نوع، نجد تباينات كبيرة بين الكائنات الحية المكونة له. تؤدي الطفرات باستمرار إلى ظهور متغيرات جينية جديدة، ولا ينفك التكاثر الجنسي «يخلط» الجينات، مما يؤدي إلى اختلافات جينية كبيرة بين الكائنات الحية داخل النوع الواحد. علاوة على ذلك، فإن التركيب الجيني لأي نوع يتغير مع تطوره بمرور الوقت. لذلك على عكس الذهب، لا يسهل تحديد خاصية ضرورية وكافية لانتماء حيوان ما إلى نوع الكلب المنزلي على سبيل المثال.
هذا لا يعني إنكار أنه، عمليا، يمكن لعلماء الأحياء في كثير من الأحيان تحديد النوع الذي ينتمي إليه الكائن الحي من خلال تسلسل حمضه النووي. في الواقع، غالبا ما يكون ذلك «الترميز الشريطي للحمض النووي» كما يسمى طريقة موثوق فيها إلى حد ما لتصنيف الأنواع. لأنه من الممكن عادة العثور على تسلسل من الحمض النووي يظهر تباينا طفيفا نسبيا داخل النوع الواحد ولكنه يتباين باختلاف الأنواع. ومع ذلك، لا يصلح الترميز الشريطي للحمض النووي دائما، وحتى في الحالات التي يصلح فيها، فإنه لا يظهر أن الانتساب إلى نوع ما يتحدد من خلال «جوهر جيني» ثابت، كما تتطلب العقيدة التقليدية للأصناف الطبيعية.
في «أصل الأنواع» قدم داروين منظورا مثيرا للاهتمام لمشكلة النوع. لقد لاحظ أن علماء الأحياء غالبا ما يقرون مجموعات تصنيفية من الكائنات الحية دون مستوى النوع؛ إذ يتحدثون عن «الضروب» و«السلالات» و«الأعراق». (يكثر كذلك استخدام مصطلح «النويع» اليوم.) تنشأ الحاجة إلى مثل هذه المصطلحات لأنه غالبا يمكن تمييز مجموعات داخل النوع الواحد، لكنها لا تتباين بما يكفي لاعتبارها أنواعا منفصلة. لكن ما الحد الفاصل؟ ما الذي يحدد إذا كان لدينا تباينان لنوع واحد لا نوعين مختلفين؟ ذهب داروين إلى أنه لا يمكن وضع حد فاصل لذلك. فقد كتب:
إني أعتبر كلمة «الأنواع» اصطلاحا اعتباطيا أطلق لاستيفاء وجوه التدليل على جمع من الأفراد تشتد بينهم المشابهة، وأن ذلك الاصطلاح لا يفترق في جوهره ولا في مدلوله عن كلمة «ضروب» وهي الاصطلاح الذي أطلق على جمع من الأفراد تكون صفاته أقل ثباتا وأكثر تباينا من صفات الأنواع.
إن افتراض داروين وجود عنصر من الاعتباطية في تحديد ما يعتبر نوعا لهو أمر مفاجئ نوعا ما، باعتبار عنوان كتابه. لكن هل داروين محق في افتراضه؟ في النصف الثاني من القرن العشرين، ترسخت لدى العديد من علماء الأحياء قناعة بأن الأنواع هي وحدات حقيقية موجودة في الطبيعة، وليست تجميعات اعتباطية، استنادا إلى أنها «منعزلة تكاثريا». هذا يعني أن الكائنات الحية داخل النوع الواحد يمكن أن يتزاوج بعضها مع بعض لإنتاج ذرية خصبة، ولكن ذلك غير ممكن بين الأنواع المختلفة. أيد إرنست ماير تعريف الأنواع من حيث الانعزال التكاثري، وربما يكون «مفهوم النوع البيولوجي» الذي طرحه ماير هو أشهر محاولة لحل مشكلة النوع.
مفهوم النوع البيولوجي
الفكرة الرئيسية وراء مفهوم النوع البيولوجي هي أن التشابهات والفجوات بين الكائنات الحية التي تدعم محاولة تقسيم الكائنات إلى أنواع، تنشأ في المقام الأول بسبب «تقييد تدفق الجينات». لفهم هذا، تأمل نوعين مرتبطين ارتباطا وثيقا، على سبيل المثال الشمبانزي الشائع (بان تروجلوديت) والبونوبو (بان بانيسكس). لهذين النوعين سلف مشترك حديث، لكنهما يختلفان اختلافا واضحا في المظهر والسلوك. ظهرت الاختلافات بين الشمبانزي والبونوبو في البدء ولا تزال قائمة حتى يومنا هذا، لأن هاتين الجماعتين لا تتزاوج كل منهما من الأخرى. ونتيجة لذلك، فإن الجينات المتحورة التي تنشأ في قرود البونوبو لا يمكنها «التدفق» إلى المجموع الجيني للشمبانزي والعكس صحيح. هذا ما سمح للمجموعتين بالانقسام جينيا في الأساس وهو ما يفسر سبب احتفاظهما بهوياتهما المميزة اليوم. وإذا اختار نوعا الشمبانزي والبونوبو أن يتزاوجا، فستتلاشى الاختلافات بينهما بسرعة.
مفهوم النوع البيولوجي هو محاولة لتعميم هذا المبدأ ليكون تعريفا صريحا للنوع. على حد تعبير ماير: «الأنواع هي جماعات من المجموعات الطبيعية التي تتزاوج فيما بينها أو يحتمل أن تتزاوج فيما بينها، والمعزولة تكاثريا عن المجموعات الأخرى المماثلة». هذا تعريف أنيق، وغالبا ما تتوافق الأنواع التي يقرها مع الأنواع التي تعرف عليها علماء أحياء سابقون على نحو وثيق. ومن ثم يدعم مفهوم النوع البيولوجي فكرة أن الحدود بين الأنواع حقيقية لا عرفية. أيضا، يشير مفهوم النوع البيولوجي إلى أن هناك تمايزا نظريا بين الضروب (التنويعات) والأنواع، على عكس ما اعتقد داروين. لنأخذ على سبيل المثال العقاب الذهبي الأوروبي والأمريكي. يعتبرهما مفهوم النوع البيولوجي ضربين لنوع واحد وليس نوعين منفصلين، إذ يمكنهما نظريا التزاوج وإنتاج ذرية قابلة للحياة (حتى لو كانا نادرا ما يفعلان ذلك). على النقيض من ذلك، يعد العقاب الأرقط والعقاب الذهبي نوعين منفصلين، إذ لا يمكن لأفرادهما التزاوج فيما بينها.
مثل مفهوم النوع البيولوجي نقلة مهمة في فهمنا للأنواع، ولا يزال يستخدم على نطاق واسع حتى اليوم. ومع ذلك، فإن له أوجه قصور. أولا، هو لا ينطبق إلا على الكائنات الحية التي تتكاثر جنسيا؛ غير أن العديد من الكائنات الحية تتكاثر لاجنسيا، بما فيها معظم الميكروبات وبعض النباتات والفطريات وقلة من الحيوانات. بالنسبة إلى مثل هذه الكائنات الحية، لا يقدم مفهوم النوع البيولوجي فهما لماهية الأنواع، لذا فهو في أفضل الأحوال حل جزئي لمشكلة النوع.
علاوة على ذلك، فإن الانعزال التكاثري ليس دائما مسألة ثابتة، بل لها درجات متفاوتة. غالبا ما يكون للأنواع التي تربطها صلة وثيقة، والتي تعيش في مواقع متجاورة (مناطق هجينة) تلتقي فيها نطاقات سكناها؛ في هذه المناطق، يحدث قدر محدود من التهجين الذي ينتج عنه ذرية خصبة في بعض الأحيان على الأقل، لكن يظل كل من النوعين محتفظا بهويته المميزة. غالبا ما تنشأ المناطق الهجينة عندما يكون نوع ما في طور الانقسام إلى نوعين، ولكن يمكن لتلك المناطق أن تظل موجودة لفترة طويلة. بين النباتات على وجه الخصوص، يشيع كثيرا التهجين بين الكائنات الحية التي تنتمي إلى أنواع متمايزة بوضوح. لذلك إذا طبق مفهوم النوع البيولوجي بحذافيره على تلك الحالات، فسيعطينا إجابة «خاطئة».
تمثل «الأنواع الحلقية» تحديا آخر لمفهوم النوع البيولوجي. وهو مصطلح يصف نوعا يتكون من عدد من المجموعات المرتبة جغرافيا في حلقة، تستطيع كل مجموعة منها أن تتزاوج مع جارتها المباشرة، لكن المجموعتين اللتين تحتلان طرفي الحلقة لا يمكنهما التزاوج. على سبيل المثال، يتكون نوع السلمندر «إنساتينا إسشولتزي» من عدد من المجموعات المتمايزة، مرتبة في شكل حلقي حول جبال وادي سنترال فالي في كاليفورنيا (شكل
5-1 ). يمكن لكل مجموعة أن تتزاوج مع مجموعة مجاورة، لكن المجموعة في الطرف الغربي من الحلقة (
X ) لا يمكن أن تتزاوج مع تلك الموجودة في الطرف الشرقي (
Y ). يشكل هذا نوع من المفارقة بالنسبة إلى مفهوم النوع البيولوجي. لمعرفة السبب، دعونا نسأل هل تنتمي المجموعتان
X
و
Y
إلى النوع نفسه أم لا؟ نظرا لأنهما لا يستطيعان التزاوج، يفترض أن تكون الإجابة «لا». ومع ذلك، فإن
X
و
A
ينتميان للنوع نفسه، إذ يمكنهما التزاوج؛ وبالمثل بالنسبة إلى المجموعات
A
و
B ، و
B
و
C ، و
C
و
D ، وهكذا. من ثم نستنتج منطقيا أن المجموعتين
X
و
Y
ينتميان للنوع نفسه في نهاية المطاف! لذا فإن محاولة تعريف الأنواع بمعيار إمكان التزاوج فيما بينها تؤدي إلى مفارقة منطقية.
شكل 5-1: تشكل المجموعات المحلية لنوع سلمندر (إنساتينا إسشولتزي) حلقة لا يمكن أن يحدث فيها تزاوج بين المجموعة التي تقع في أقصى الطرف الغربي وتلك التي في أقصى الطرف الشرقي.
على الرغم من أن الأنواع الحلقية تشكل مشكلة منطقية مثيرة للاهتمام، فإنها لا تهدم مفهوم النوع البيولوجي لسببين. أولا، إن هذه الأنواع نادرة نسبيا في الطبيعة. ثانيا، يعتقد عادة أنها تمثل مرحلة في عملية الانتواع، أي إن المجموعتين على طرفي الحلقة هما نوعان جديدان في بداياتهما. بشكل عام، يستغرق انقسام نوع واحد إلى مجموعتين منعزلتين تكاثريا آلاف الأجيال؛ من ثم يتوقع وجود أشكال انتقالية ومجموعات وضعها غير محسوم. من هذا المنظور، لا يشير وجود الأنواع الحلقية إلى قصور في مفهوم النوع البيولوجي يمكن معالجته بوضع تعريف أفضل، ولكنه يعكس حقيقة أنه لن تكون هناك دائما حدود فاصلة بين الأنواع باعتبار آلية عمل التطور.
دفعت أوجه القصور في مفهوم النوع البيولوجي إلى تطوير بدائل مختلفة. وتشمل «مفهوم النوع البيئي» و«مفهوم النوع الفيلوجيني» و«مفهوم النوع المورفولوجي» وغيرها. في الواقع، وجدت دراسة استقصائية حديثة ما لا يقل عن ثلاثين مفهوما للنوع في المؤلفات البيولوجية المنشورة. تتنوع الدوافع وراء هذه المفاهيم. بعضها مصمم للتطبيق على مجالات من الأصناف أوسع من الذي يستهدفه مفهوم النوع البيولوجي، بما فيها التصنيفات اللاجنسية؛ وبعضها مصمم ليكون أسهل في التطبيق العملي من مفهوم النوع البيولوجي؛ وبعضها مصمم ليعكس حقيقة أن التدفق الجيني المحدود ليس هو العامل الوحيد المسئول عن الحفاظ على الهويات المميزة للأنواع. لكل من مفاهيم الأنواع هذه مزاياها، وكل منها يتوافق بصفة عامة مع بعض الأصناف، لكن لم ينل أي منها إجماعا مطلقا.
في ظل هذا الوضع، أليس من الأحرى التخلي عن فكرة الأنواع البيولوجية نفسها؟ هذا اقتراح طرح عدة مرات، لكنه خيار أخير. إذ تختصر فئات الأنواع مجموعة كبيرة من المعرفة البيولوجية؛ ومن الناحية العملية، غالبا ما تكون معرفة النوع الذي ينتمي إليه الكائن الحي مسألة محورية. إذا صادف عالم طيور طائرا غير مألوف على سبيل المثال، فإن أول ما سيود معرفته هو النوع الذي ينتمي إليه، إذ يمنحه ذلك معلومات قيمة حول سماته وسلوكه وبيئته. لذلك على الرغم من عدم وجود تعريف واف لها، فإن تصنيف النوع شائع الاستخدام لا غنى عنه. وصف جون مينارد سميث ذلك ببلاغة إذ كتب:
أي محاولة لتقسيم جميع الكائنات الحية، الماضية والآنية، إلى مجموعات بينها حدود فاصلة لا وسط بينها، محكوم عليها بالفشل. ولذا يواجه عالم التصنيف تناقضا بين الضرورة العملية والاستحالة النظرية لمهمته.
لذلك يواصل علماء الأحياء معاملة الأنواع باعتبارها مجموعات بينها حدود فاصلة، واضعين في اعتبارهم أن هذا ليس إلا تقديرا تقريبيا للواقع.
الأنواع باعتبارها أفرادا
في أواخر سبعينيات القرن العشرين، قدم عالم الأحياء مايكل جيزلين والفيلسوف ديفيد هال تشخيصا مشوقا لمشكلة الأنواع. فقد ذهبا إلى أن المشكلة بصيغتها التقليدية تستند على افتراض خاطئ، ألا وهو أن النوع البيولوجي هو صنف أو فئة من شيء. عوضا عن ذلك ذهبا إلى أن النوع هو فرد معقد؛ أي إنه شيء في حد ذاته. لفهم هذا، تأمل فردا بيولوجيا عاديا مثل ريد رم (حصان السباق البريطاني من السبعينيات). ولد ريد رم في زمان ومكان معينين، وكان عمره محدودا؛ إذ مات عام 1995. وبالمثل، يخرج النوع البيولوجي إلى الوجود في زمان ومكان معينين عندما يقع الانتواع، ويستمر النوع لفترة معينة حتى ينقرض. على النقيض من ذلك، فإن النوع الأصيل غير مقيد بزمان ولا مكان. تأمل نوع الذهب. تعتبر قطعة ما من المادة في أي مكان في الكون ذهبا، بغض النظر عن منشأها، ما دام لذراتها العدد الذري 79. لذا نظريا، إذا تدمر جميع الذهب الموجود في الكون فسيمكن بعد ذلك بسنوات تصنيع المزيد منه. لكن الأنواع ليست كذلك، كما يجادل جيزلين وهال. ما إن ينقرض أحد الأنواع، تنتفي منطقيا إمكانية عودته إلى الوجود، تماما مثلما تنتفي إمكانية عودتي أنا أو أنت من الموت.
لم يدافع جيزلين وهال عن أي مفهوم محدد للنوع، ولم يسعيا إلى وضع معيار لتحديد الأنواع فعليا في هذا المجال. بدلا من ذلك، سعيا إلى إعادة توجيه دفة النقاش حول النوع عن طريق مراجعة أساسه الفلسفي. كذلك لم ينكر جيزلين وهال أن «فئة» النوع هي صنف. يندرج ضمن فئة النوع أفراد مثل الإنسان العاقل، والكلب المنزلي، والقط المنزلي وسائر الأنواع الأخرى. إذ كان افتراضهما هو أن كل فئة تصنيف للنوع هي فرد لا صنف. هذا يعني أن العلاقة بين الكائن الحي ونوعه هي علاقة الجزء بالكل، لا علاقة انتماء فرد إلى صنف. لفهم هذا، تأمل العلاقة بين خلية معينة في جسم الحصان ريد رم وريد رم نفسه. هذه علاقة جزئية؛ فالخلية جزء من ريد رم، وليست من أفراد ريد رم. وبالمثل، فإن العلاقة بين ريد رم و«إكيوس فيروس كابالوس» (نوع الخيول المستأنسة) هي علاقة جزء بكل وفقا لجيزلين وهال.
تبدو فكرة الأنواع باعتبارها أفرادا غريبة للوهلة الأولى. حيث إن الأنواع تختلف عن الأفراد البيولوجيين «العاديين» من حيث إن الكائنات الحية المكونة للنوع ليست ملتحمة. غير أن هذا الاختلاف سطحي تماما. فأفراد النمل في مستعمرة ليسوا ملتحمين أيضا، لكننا ننزع إلى اعتبار المستعمرة بأكملها فردا. علاوة على ذلك، فإن معاملة الأنواع باعتبارها أفرادا له مزايا واضحة. فهو بالأخص يساعد على التوفيق بين الاعتقاد الراسخ لدى علماء الأحياء منذ فترة طويلة بأن بعض الأنواع على الأقل هي وحدات حقيقية في الطبيعة وليست تجمعات اعتباطية، وحقيقة أنها لا تمتلك «جواهر وراثية» وأن الكائنات المكونة لها تتباين. إذا كان النوع صنفا طبيعيا، فيلزم أن نتوقع وجود شرط ضروري وكاف للانتماء إلى النوع؛ كما هو الحال بالنسبة للذهب على سبيل المثال. ويفترض أن يؤدي عدم إيجاد مثل هذا الشرط إلى التشكيك فيما إذا كان الصنف يمثل تقسيما حقيقيا في الطبيعة. ولكن، إذا كان النوع فردا معقدا، وكانت الكائنات الحية المكونة له هي أجزاؤه لا أفراده، فسينتفي ذلك التوقع. فالأجزاء المكونة له ليست مكونة له بحكم امتلاكها خاصية أساسية ما، أو استيفائها لشرط ما ضروري وكاف لإلحاقها به. ومن ثم يتوافق غياب مثل هذه الخاصية تماما مع حقيقة الكل.
لفهم هذه النقطة، تأمل مثالا غير بيولوجي. المكتب الخاص بي له سطح زجاجي وأرجل فولاذية. لذا فإن المكتب يتكون من جزأين - السطح والأرجل - غير متماثلين جوهريا. لكن هذا لا يمنعهما من أن يكونا جزأين لكل واحد. علاوة على ذلك، حتى لو كانا متشابهين جوهريا، إذا كان كلاهما مصنوعا من الفولاذ على سبيل المثال، فلن يكون ذلك هو السبب الذي يجعلهما أجزاء من طاولة واحدة. ينطبق الشيء نفسه على علاقات الجزء والكل البيولوجية. فالخلايا في جسدي متشابهة جدا من الناحية الوراثية، لكن ليس ذلك هو ما يجعلها جزءا مني. فالخلية المتحورة في كبدي لا تزال جزءا مني، بينما الخلية الموجودة في توءمي المتطابق ليست جزءا مني، على الرغم من كونها متطابقة وراثيا مع خلاياي. ينطبق الشيء نفسه على الكائنات الحية والأنواع، من المنظور الذي يعتبر الأنواع أفرادا. فالتباين الجيني الواسع الذي نجده بين الكائنات الحية في الأنواع لا يؤثر بأي حال من الأحوال على حقيقة النوع، ما دمنا نعتبر النوع فردا لا صنفا.
رأى هال أن فكرة الأنواع باعتبارها أفرادا لها آثار فلسفية قوية. الأول هو أننا لا ينبغي أن نتوقع اكتشاف قوانين علمية تنطبق على جميع الكائنات الحية التي يتألف منها نوع معين دون سواها. إن أحد الاعتقادات القديمة في فلسفة العلم، ناقشناه في الفصل الأول، ينظر للعلم باعتباره بحثا عن قوانين لا استثناءات لها للصيغة «لجميع عناصر
x ، إذا كانت
x
تنتمي إلى الصنف
F
فإن
x
تنتمي إلى الصنف
G .» (جميع الإلكترونات شحنتها سالبة؛ جميع المعادن موصلة للكهرباء؛ جميع الكواكب تدور حول الشمس.) الآن إذا افترضنا أن نوعا ما هو صنف طبيعي، ومن ثم مرشح للانتماء إلى
F
حسب المخطط المذكور، فقد نتوقع أن يكتشف علماء الأحياء سمات (مرشحة للانتماء إلى
G ) تنطبق على جميع الكائنات الحية في نوع ما دون غيرها. ولكن إذا كانت الأنواع أفرادا معقدة أجزاؤها هي الكائنات الحية المكونة لها، فسينتفي هذا التوقع ، ولن يكون النوع مرشحا للانتماء إلى
F
من الأساس. إن حقيقة صعوبة إيجاد تعميمات لا تقبل الاستثناءات حول انتماء أفراد لنوع بيولوجي ما تدعم بطريق غير مباشر فرضية الأنواع باعتبارها أفرادا.
أما الأثر الفلسفي الثاني فيتعلق بالنقاش القديم حول الطبيعة البشرية. افترض العلماء على مر العصور أن هناك شيئا يدعى الطبيعة البشرية؛ أي خاصية أساسية تحدد «ماهية الإنسان». (طرحت عدة احتمالات لتلك الصفة.) يبدو الاعتقاد بوجود الطبيعة البشرية منطقيا لأن البشر يختلفون بوضوح عن الشمبانزي، أقرب أقربائنا الأحياء. لكن هال يرى أنه لأن نوع الإنسان العاقل فرد وليس صنفا، فلا توجد خاصية تحدد جوهر الإنسانية. هذا لا يعني إنكار أن البشر لديهم سمات يفتقر إليها الشمبانزي بالطبع، وإنما يعني رفض الفرضية القائلة إن امتلاك شخص ما لمجموعة معينة من السمات يجعله إنسانا. إذا كان هال على حق، فهذا يعني أن جانبا كبيرا من الجدل التقليدي حول الطبيعة البشرية يستند إلى افتراض خاطئ.
نظاميات تطور السلالات
بعد الاتفاق على تعيين الكائنات الحية لأنواع، تكون الخطوة التالية في التصنيف البيولوجي هي تنظيم الأنواع في تصنيفات أعلى. ما هي المبادئ التي يجب استخدامها للقيام بذلك؟ إن الإجابة المعيارية يقدمها لنا علم نظاميات تطور السلالات، المعروف أيضا باسم التصنيف التفرعي (الكلاديسيات)، وهو المنهج التصنيفي السائد اليوم. إن الفكرة الرئيسية لنظاميات تطور السلالات هي أن التصنيف يجب أن «يعكس التاريخ التطوري»، أي إنه يجب تصنيف الأنواع وفقا لمدى ارتباطها. بتعبير أدق، يجب أن تكون جميع المجموعات التصنيفية فوق مستوى النوع، سواء كانت أجناسا أو فصائل أو رتبا أو غيرها، أحادية العرق وفقا لنظاميات تطور السلالات.
المجموعة الأحادية العرق، أو الفرع الحيوي، هي المجموعة التي «تضم فقط جميع أحفاد نوع سلف واحد». بعبارة أخرى، يجب أن تشترك الأنواع في المجموعة أحادية العرق في سلف واحد «ليس سلفا» لأي نوع خارج المجموعة. للمجموعات الأحادية العرق أحجام مختلفة. في أحد أقصى الطرفين، تشكل جميع الأنواع التي وجدت يوما مجموعة أحادية العرق، بافتراض أن الحياة على الأرض نشأت مرة واحدة فقط. على الطرف النقيض، توجد مجموعات أحادية العرق مكونة من نوعين فقط؛ إذا لم ينحدر سواهما من سلف مشترك. وفق نظاميات تطور السلالات، لا ينبغي الاعتراف بالمجموعات غير الأحادية العرق في التصنيف البيولوجي، بغض النظر عن مدى تشابه أعضائها؛ إذ تعتبر أنها تجميعات «اصطناعية» وليست «حقيقية».
لاستيعاب مفهوم أحادية العرق، تأمل شكل
5-2 ، وهو شجرة تطور السلالات التي تصور نمط الأسلاف بين الرئيسيات. تصور التفرعات الموجودة في الشجرة أحداث الانتواع، التي ينقسم عندها نسل أحد الأسلاف إلى اثنين. تشكل الرئيسيات مجموعة أحادية العرق لأنها تضم فقط كل أحفاد سلف مشترك (عاش قبل حوالي 63 مليون سنة)، كما هو موضح في قاعدة الشكل.
شكل 5-2: سلالة مجموعات الرئيسيات الأساسية.
يندرج تحت الرئيسيات عدد من المجموعات الأحادية العرق الأصغر. على سبيل المثال، المجموعة المعروفة باسم فصيلة القرد العظيم {الأورانجوتان، الغوريلا، الشمبانزي، البونوبو، الإنسان}، هي مجموعة أحادية العرق؛ فهي تضم فقط جميع أحفاد نوع واحد من السلف، وتنقسم عند النقطة المميزة بعلامة
x . على النقيض من ذلك، فإن مجموعة {الغوريلا، البونوبو، البشر} ليست أحادية العرق. على الرغم من أن الأنواع في هذه المجموعة لها سلف مشترك، لكن هذا السلف هو أيضا سلف للشمبانزي، غير الموجود في المجموعة. بالنظر إلى شجرة تطور السلالات، من السهل تحديد ما إذا كانت أي مجموعة أحادية العرق أم لا؛ فما عليك سوى تتبع أعضائها حتى تجد السلف المشترك لهم، ثم تتحقق لمعرفة ما إذا كان لهذا السلف أي أحفاد ليسوا في المجموعة.
إن اشتراط أن تكون جميع الأصناف أحادية العرق أمر منطقي من المنظور التطوري. علاوة على ذلك، فإن هذا عادة ما يؤدي إلى تصنيفات معقولة بيولوجيا، بمعنى تجميع الأنواع التي لها سمات مشتركة. هذا لأن الأنواع في أي مجموعة أحادية العرق سيكون لها في العموم سمات مميزة تعرف باسم «التماثلات»، ورثتها من سلفها المشترك. على سبيل المثال، جميع الأنواع في فصيلة القردة العليا كبيرة حجما مقارنة بالرئيسيات الأخرى، وتفتقر إلى الذيل، وتظهر ازدواجا واضحا في الهيئة الجنسية (الاختلافات بين الذكور والإناث ). على النقيض من ذلك، تفتقر الجبون والقرود التي ليست من عائلة القردة العليا إلى بعض تلك السمات أو كلها. لذلك، يمكن إجراء تعميمات بيولوجية مثيرة للاهتمام حول أنواع القردة العليا لا تنطبق على الأنواع خارج تلك الفصيلة.
لكن في حالات أخرى، يؤدي شرط أحادية العرق إلى وضع تصنيفات «غير طبيعية». أحد الأمثلة المعروفة يخص طائفة الزواحف. تقليديا، أدرجت السحالي والتماسيح في طائفة الزواحف، ولكن الطيور مدرجة في طائفة منفصلة تسمى «أفيس». هذا منطقي بيولوجيا للغاية، لأن للطيور تشريحا ووظائف فريدة خاصة بها تختلف تماما عن تلك الخاصة بالسحالي والتماسيح والزواحف الأخرى. ومع ذلك، فقد اتضح أن طائفة الزواحف ليست أحادية العرق، كما يوضح شكل
5-3 . فالجد المشترك للسحالي والتماسيح هو أيضا سلف الطيور. لذا فإن وضع السحالي والتماسيح معا في مجموعة لا تشمل الطيور يخالف شرط أحادية العرق. لذلك، يوصي علماء نظاميات تطور السلالات بالتخلي عن التصنيف التقليدي؛ يجب ألا نعترف بطائفة الزواحف من الأساس لأنها ليست فئة تصنيف حقيقية. فهم يرون أنه ببساطة من الخطأ الاعتقاد بوجود الزواحف.
شكل 5-3: طائفة الزواحف ليست أحادية العرق، إذ لا تتضمن الطيور.
كان مثال طائفة الزواحف ونماذج أخرى شبيهة، محور نقاش حاد بين مؤيدي نظاميات تطور السلالات ومدرستين تصنيفيتين متنافستين في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. وفقا للمدرسة «الظاهرية» (الفينيتكس)، لا ينبغي أن يكون للتصنيف أي علاقة بالتاريخ التطوري، بل يجب الاعتماد بدلا من ذلك على أوجه التشابه الملحوظة بين الأنواع. ويجب أن يكون الهدف هو تجميع الأنواع المتشابهة معا، بغض النظر عن الأصل المشترك. لذا فإن المدرسة الظاهرية تتعارض تماما مع نظاميات تطور السلالات. تحاول المدرسة الثالثة، وهي مدرسة «التصنيف التطوري»، سلوك نهج وسط بينهما. من منظورها، يجب أن يعكس التصنيف التاريخ التطوري، لكن أحادية العرق الصارمة ليست حتمية. لكن إذا حادت بعض الأنواع داخل المجموعة الأحادية العرق بشكل كبير عن بقية المجموعة، فقد يكون حذف هذه الأنواع مبررا. إذن، يعتبر علماء التصنيف التطوري طائفة الزواحف فئة تصنيف حقيقية، على الرغم من استبعاد الطيور منها، باعتبار أن الطيور قد طورت سمات فريدة لا توجد في الزواحف الأخرى.
يجادل أنصار نظاميات تطور السلالات بأن منهجيتهم في التصنيف «موضوعية» على عكس منهجية تصنيف علماء المدرسة الظاهرية وعلماء التصنيف التطوري. وفي ذلك شيء من الصحة. إذ تستند تصنيفات علماء المدرسة الظاهرية على أوجه التشابه بين الأنواع، والحكم بالتشابه يشوبه شيء من عدم الموضوعية. فأي نوعين سيتشابهان في بعض النواحي ويتباينان في نواح أخرى. على سبيل المثال، قد يتشابه نوعان من الحشرات تماما من الناحية التشريحية لكن تختلف عادتهما الغذائية، إذن ما هي «النواحي» التي نعتبرها كي نحكم بالتشابه؟ تلك مشكلة يواجهها علماء التصنيف التطوري أيضا. إذ يتعين عليهم إطلاق أحكام حول مدى الاختلاف بين المجموعات؛ مثل الحكم بأن الطيور قد حادت كثيرا عن أصناف الزواحف المعتادة. تستند مثل هذه الأحكام جزئيا إلى «الحكم البيولوجي السليم»، لذلك لا يمكن أن تكون مطلقة الموضوعية. بالمقارنة، فإن معيار أحادية العرق واضح تماما؛ فالمجموعة إما أن تكون أحادية العرق أو ليست أحادية العرق (رغم أننا قد لا نعرف أيهما هي). هذا أحد الأسباب التي تجعل منهجية نظاميات تطور السلالات هي السائدة في التصنيف البيولوجي اليوم.
في الأيام الأولى لعلم نظاميات تطور السلالات، اتهمته أصوات معارضة له بأنه أدخل قدرا من عدم اليقين على التصنيف. فلا بأس باشتراط أن تكون التصنيفات أحادية العرق، ولكن ذلك تصنيف استخداماته محدودة ما لم نتمكن من معرفة ما إذا كانت مجموعة معينة أحادية العرق أم لا. وهذا بدوره يتطلب حسن دراية بشجرة تطور السلالات الحقيقية، وهي دراية لا يمكن تحصيلها إلا بطريق الاستدلال غير المباشر. لذا في نهج نظاميات تطور السلالات، في كل تصنيف نضعه ننشئ فرضية ضمنية حول علاقات النسب بين الأنواع المعنية؛ وقد يتبين فيما بعد أن تلك الفرضية خاطئة. وهكذا يظل التصنيف البيولوجي غير مكتمل، عرضة للمراجعة كلما ازدادت معرفتنا بتطور السلالات.
هذا تخوف مشروع، فمن المؤكد أن شرط أحادية العرق استلزم إجراء الكثير من المراجعات التصنيفية. لكن في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة ، تحسنت قدرة العلماء كثيرا على استنباط أشجار تطور السلالات. إذ منحهم علم الأحياء الجزيئي مصدرا خصبا للبيانات يتمثل في تسلسلات الحمض النووي للكائنات الحية. في السابق، كانت نظاميات تطور السلالات تضطر إلى الاعتماد على السمات المورفولوجية - مثل شكل الجمجمة والبنية الهيكلية - في إعادة هيكلتها لعلاقات النسب بين الأنواع. لكن تسلسلات الحمض النووي توفر طريقة أكثر موثوقية لتحديد هذه العلاقات، وهو ما يرجع إلى خصوصية هذه التسلسلات وكذلك إلى عددها الهائل. علاوة على ذلك، طورت طرق إحصائية معقدة لتحليل البيانات الجزيئية التي تمكن علماء الأحياء من الوصول إلى مستويات من اليقين بشأن علاقات النسب أعلى من ذي قبل. أحد الأمثلة العديدة على ذلك هو أن البيانات الجزيئية ساعدت في حل جدال قديم حول ما إذا كان البشر يتشاركون سلفا مشتركا أكثر حداثة مع الشمبانزي أم الغوريلا. (الجواب هو الشمبانزي.) لذا فإن الاعتراض القائل بأن التصنيف على أساس العرق يولد الكثير من عدم اليقين التصنيفي لم يعد له وزن كما كان في السابق.
أخيرا، ما العلاقة بين نظاميات تطور السلالات ومخطط لينيوس التقليدي للتصنيف؟ يحتفظ علم نظاميات تطور السلالات ببعض جوانب مخطط لينيوس، كطبيعة التصنيف الهرمية على سبيل المثال. كما يتبين من الشكل
5-2 ، دائما ما تندرج المجموعات أحادية العرق تحت بعضها، دون أن تتداخل؛ لذلك إذا استوفي شرط أحادية العرق، فسيكون للتصنيف الناتج تلقائيا بنية هرمية. ولكن ثمة جوانب أخرى من مخطط لينيوس لا تتوافق مع نظاميات تطور السلالات. تذكر أن كل تصنيف في مخطط لينيوس له رتبة معينة: الجنس، والفصيلة، والرتبة، وما إلى ذلك. من منظور نظاميات تطور السلالات، فإن هذه الرتب ليس لها معنى في ذاتها؛ لا يوجد أساس راسخ يتحدد بناء عليه إن كانت أي مجموعة أحادية العرق جنسا أم طائفة على سبيل المثال. لهذا السبب يرى بعض علماء الأحياء أنه يجب الاستغناء عن رتب التصنيف في مخطط لينيوس تماما؛ لكن تظل تلك وجهة نظر الأقلية.
الفصل السادس
الجينات
لعل أحد أشهر الكيانات التي يتناولها علماء الأحياء هو «الجين ». إذ رسخت في الوعي الجمعي فكرة أن جينات الكائنات الحية وفيها البشر هي المسئولة عن العديد من صفاتها الملاحظة مثل لون البشرة. فغالبا ما تتصدر التطورات في مجال علم الوراثة عناوين الصحف، لا سيما عندما تكون لها علاقة بصحة البشر. في الواقع، لا يكاد يمر أسبوع دون أن يعلن الباحثون في مجال الطب عن اكتشاف جين متسبب في نشأة مرض ما. أحد الأمثلة الشهيرة على ذلك هو اكتشاف فريق تابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في سنة 1993 للجين المسبب لمرض هنتينجتون، وهو أحد أمراض التنكس العصبي المميتة. كانت الجينات كذلك هي موضوع أحد أضخم الجهود البحثية التعاونية في علم الأحياء، ألا وهو مشروع الجينوم البشري الذي استمر من سنة 1991 إلى سنة 2003. لا عجب أن وصفت مؤرخة علم الأحياء إيفيلين فوكس كيلر القرن العشرين بأنه «قرن الجين».
لنبدأ بسؤال قد يبدو بسيطا على عكس حقيقته: ما الجين بالضبط؟ باعتبار المكانة البارزة لعلم الوراثة بين العلوم الحيوية، من المستغرب إلى حد ما أنه لا توجد إجابة مرضية من سطر واحد على هذا السؤال. هذا ليس تناقضا كما يبدو، إذ يوجد العديد من المفاهيم العلمية المهمة التي لا يمكن وضع تعريف دقيق لها؛ مفهوم النوع الذي ناقشناه في الفصل الخامس أحد أمثلة ذلك. ولكن في حالة الجين، فإن الأسباب التي تجعل تعريفه على نحو دقيق أمرا صعبا لافتة للغاية وتطرح عددا من الأفكار الفلسفية الدقيقة والمهمة. لفهم هذه الأسباب، نحتاج إلى الخوض قليلا في تاريخ علم الوراثة.
الوراثة المندلية والكلاسيكية
ترجع نشأة علم الوراثة إلى دراسات الراهب التشيكي جريجور مندل في ستينيات القرن التاسع عشر. أجرى مندل تجارب في تربية نباتات البازلاء لدراسة كيفية انتقال سمات نباتية معينة عبر الأجيال. كانت إحدى هذه السمات هي شكل حبات البازلاء في النباتات، والتي تكون إما مستديرة أو مجعدة. في تجربته الشهيرة، بدأ مندل بسلالتين نقيتين من النباتات، إحداهما لها حبات بازلاء مستديرة والأخرى مجعدة. بعدها هجن مندل السلالتين لإنتاج جيل من النباتات الهجينة. هذه النباتات الهجينة
F1 (وهو رمز يشير إلى «الجيل الأول من الأبناء»)، كانت حبات البازلاء فيها جميعها مستديرة؛ فبدا أن سمة التجعد قد اختفت من المجموعة (الشكل
6-1 ). بعد ذلك، هجن مندل نباتات الجيل الأول الهجينة
F1
مع بعضها لإنتاج الجيل الثاني
F2 . فوجد أن
3/4
نباتات الجيل الثاني
F2
كانت حبات البازلاء فيها مستديرة بينما
1/4
منها كانت حبات البازلاء فيها مجعدة. إذن بطريقة غامضة، ظهرت سمة التجعد مجددا. وكأنما كانت القدرة على إنتاج البازلاء المجعدة خاملة في نباتات
F2 ، حتى نشطت بطريقة ما في نباتات
F2 . وجد مندل أن الأمر نفسه ينطبق على سمات أخرى للنباتات تحتمل وجهين. في كل حالة، كانت هجائن
F2
متشابهة جميعا، بينما ظهر في
1/4
من نباتات
F2
التباين الذي كان غائبا في الجيل
F2 .
شكل 6-1: في تجربة مندل، كانت جميع حبات البازلاء في نباتات الجيل
F1
مستديرة، بينما في الجيل
F2
تباينت حبات البازلاء في النباتات، فكانت نسبة الحبات المستديرة إلى المجعدة
1:3 .
قدم مندل تفسيرا عبقريا لهذه النتيجة رغم بساطته. إذ ذهب إلى أن شكل حبات البازلاء في النبات يتحدد بناء على زوجين من «العوامل». يرث النبات عاملا واحدا من كل من أبويه. العوامل نوعان:
R (للحبات المستديرة) و
W (للحبات المجعدة). من ثم توجد ثلاثة أنواع محتملة من النباتات:
RR
و
RW
و
WW . النبتة من نوع
RR
سوف تكون حبات البازلاء فيها مستديرة، في حين أن النبتة من نوع
WW
ستكون حبات البازلاء فيها مجعدة. ماذا عن نبتة من النوع
RW ؟ افترض مندل أن حبات البازلاء فيها ستكون مستديرة، لأن العامل
R «سائد» والعامل
W «متنح». هذا يعني أنه لا يمكن التمييز بين النبات من النوعين
RR
و
RW . أخيرا، اقترح مندل أن زوجين من العوامل في النبتة الواحدة «ينفصلان»، إذ ينقل النبات أحد الزوجين فقط عشوائيا لكل من ذريته. يعرف هذا باسم «قانون الفصل». استطاع مندل أن يفسر نتائجه التجريبية بتلك المعطيات. كانت سلالتاه النقيتان الأوليان اللتان هجنهما من النوع
RR
و
WW
على التوالي. لذلك كانت النباتات الهجينة من الجيل
F1
كلها من النوع
RW ، ومن ثم كانت حبات البازلاء فيها جميعا مستديرة. ثم أنتجت النباتات الهجينة من الجيل
F2
بواسطة تهجين
RW × RW . لذلك وفقا لقانون الفصل، يجب أن نتوقع وجود الأنواع الثلاثة في نباتات الجيل الثاني
F2
بنسبة
1/4
للنوع
RR
و
1/24
للنوع
RW
و
1/4
للنوع
WW . نظرا لأن كلا النوعين
RR
و
RW
لهما حبات مستديرة، فذلك يعني أن
3/4
نباتات الجيل
F2
ستكون حباتها مستديرة و
1/4
ستكون حباتها مجعدة، كانت تلك بالضبط هي نتائج مندل التجريبية.
وضع مندل قانونا ثانيا يهدف إلى شرح مجموعة أعقد من النتائج التجريبية التي تخص وراثة صفات متعددة. تأمل صفتين، مثل شكل البازلاء ولون الزهرة، لكل منهما تباينان (الحبات المجعدة مقابل المستديرة، والصفراء مقابل الخضراء). من ثم هناك أربع مجموعات محتملة لصفات الحبات: مجعدة وصفراء، مجعدة وخضراء، مستديرة وصفراء، مستديرة وخضراء. مرة أخرى، درس مندل نسب مختلف المجموعات المحتملة لهذه الصفات في الذرية الناتجة عن التهجين. وجد أنه يمكن تفسير البيانات بفرضية أن كل صفة يتحكم فيها زوجان من العوامل، وفقا لقانونه الأول، ينفصل كل منهما عن الآخر بشكل مستقل. إيضاحا لمعنى ذلك، تأمل نباتا من النوع
RW/YG ، أي إن العامل
R
والعامل
W
يتحكمان في شكل الحبات، والعامل
Y
والعامل
G
يتحكمان في لون الزهرة. سينقل النبات إلى كل فرد من ذريته إما العامل
R
أو العامل
W ، وإما العامل
Y
أو العامل
G . ينص قانون مندل الثاني على أن انتقال أي من العاملين
R
أو
W
من أحد الأبوين إلى فرد من الذرية ليس له أي تأثير على انتقال أي من العاملين
Y
أو
G . يعرف ذلك باسم «قانون التوزيع المستقل».
لم يلتفت أحد إلى دراسات مندل أثناء حياته، لكن في مطلع القرن التالي أعيد اكتشافها، وسرعان ما لاقت قبولا واسعا. أصبحت «عوامل» مندل تعرف باسم «الجينات» (وهو مصطلح وضعه فيلهلم جوهانسن في سنة 1903)، وأصبحت التباينات المختلفة لكل عامل تسمى «الأليلات». واكتشفت العديد من الصفات التي ينطبق عليها نمط الوراثة المندلي. أدى ذلك إلى نشأة عهد علم الوراثة الكلاسيكية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، الذي ارتبط ارتباطا وثيقا بتجارب توماس هانت مورجان على ذبابة الفاكهة «دروسوفيلا» في جامعة كولومبيا. اعتمد علم الوراثة الكلاسيكية على النهج الذي استخدمه مندل، ألا وهو التهجين بين مختلف السلالات ودراسة نسب الأنواع المختلفة من الذرية. لكنه تجاوز دراسات مندل في أحد الجوانب، وهو إدراك أن قانونه الثاني لا يصلح لجميع الحالات؛ فبعض الجينات تنزع إلى أن تورث معا، أو أن تكون «مرتبطة». (صرنا نعلم اليوم أن السبب في ذلك هو أن هذه الجينات تقع على نفس الكروموسوم.) وضع علماء الوراثة الكلاسيكيون «خرائط ارتباط» مفصلة تحدد مدى نزوع الجينات المختلفة للانتقال معا في الكائن الحي.
كان أحد الاكتشافات المهمة للوراثة الكلاسيكية هو أن العلاقة بين الجينات والسمات غالبا ما تكون أعقد مما تصورها مندل. قد تتأثر صفة ظاهرية واحدة بعدة جينات، وقد يؤثر جين واحد على عدة صفات. في حالة ذبابة الفاكهة، وجد مورجان أن لون العين يتأثر بحدوث طفرات فيما لا يقل عن خمسة وعشرين جينا مختلفا. غير أن مورجان كان يرى أنه لا يزال بإمكاننا القول بشكل منطقي إن جينا متحورا واحدا هو «السبب» وراء امتلاك ذبابة للون عين معين غير معتاد، بمعنى أن الاختلاف بين لون العين في هذه الذبابة وغيرها من الذباب يرجع إلى أنها تحمل نسخة متحورة من الجين المعني بخلاف غيرها من الذباب (افترض مورجان افتراضا مثيرا للجدل وهو أن ذلك هو المعنى القياسي لكلمة «السبب» في الاصطلاح العلمي). اليوم غالبا ما يعبر عن وجهة نظر مورجان بالقول إن بعض الجينات «تحدث فارقا» في الصفات الظاهرية. أي إنه لا يوجد جين يؤدي بنفسه إلى ظهور صفة ما، ولكن التباينات الجينية لجين واحد قد تفسر تباينات النمط الظاهري. هذا هو ما يقصده الباحثون الطبيون بالأساس عندما يتحدثون عن «جين مسئول عن سرطان الثدي» على سبيل المثال.
جدير بالذكر أن الجين في الوراثة المندلية والكلاسيكية كان كيانا نظريا، وليس شيئا مدركا بالملاحظة المباشرة. كانت الجينات كيانات افترضت لتفسير البيانات المستمدة من تجارب التهجين، مثلما افترض علماء الفيزياء في القرن التاسع عشر وجود الذرات لتفسير البيانات التي حصلوا عليها. كي تؤدي الجينات ذلك الدور التفسيري، يتعين أن تنتقل بطريقة ما من الآباء إلى الذرية، وأن يكون لها تأثير منهجي على السمات التي تظهر في الذرية. ولكن لم يكن معروفا بالضبط كيف تفعل الجينات ذلك، ولا أين توجد ولا مما تتكون. بعض علماء الوراثة الكلاسيكية كانوا يعتقدون أن الجينات ليست كيانات فعلية من الأساس، تماما مثلما اعتبر بعض علماء الفيزياء الأوائل الذرات مجرد كيانات افتراضية مفيدة لا جسيمات مادية حقيقية. في محاضرته التي ألقاها لحصوله على جائزة نوبل في سنة 1933، أشار مورجان إلى أن علماء الوراثة يختلفون فيما بينهم حول حقيقة الجينات، لكنه يرى أن ذلك لا يهم. فقد كتب: «في المستوى الذي تجرى فيه التجارب الجينية، لا يهم البتة إن كان الجين وحدة افتراضية أو جسيما ماديا.»
في الخمسة والثمانين عاما التي تلت كتابة مورجان لذلك، تغير الوضع كثيرا. إذ تحول الجين من كونه كيانا افتراضيا إلى شيء نعرف الكثير عن بنيته ووظيفته على المستوى الجزيئي، بل نستطيع إجراء تعديلات عليه تجريبيا. إلى جانب أهميته من الناحية العلمية البحتة، فإن لهذا التحول أهمية فلسفية، إذ يرتبط بأحد المباحث الأساسية لفلسفة العلم، ألا وهو فهم كيفية تطور المفاهيم العلمية بمرور الوقت و«تبلورها» في ذهن العالم.
علم الوراثة الجزيئي
خرج علم الوراثة الجزيئي إلى الوجود في خمسينيات القرن العشرين، وكان نتاجا لجهود ممتدة لفهم الأساس المادي للوراثة. نظرا لأن الكائنات الحية تتطور من خلية واحدة، فمن المفترض أن تكون المادة الجينية متضمنة داخل الخلية. ولكن مم تتكون هذه المادة؟ في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، كان يعتقد أن الإجابة هي البروتين. حيث إنه كان من المعروف أن البروتينات لها نشاط تحفيزي، لتسريع التفاعلات الكيميائية في الخلايا؛ لذلك إذا كانت الجينات مكونة من بروتينات فإن هذا من شأنه أن يفسر قدرتها على التأثير على صفات الكائن الحي أثناء نموه. بالمقارنة، لم يكن الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (يشار إليه بالحمض النووي أو دي إن إيه)، وهو مادة موجودة في الكروموسومات، مرشح واعد، لأنه عبارة عن جزيء خامل ومستقر للغاية. ولكن بحلول عام 1950، أشارت مجموعة من الأدلة التجريبية أن الحمض النووي هو في الواقع المادة الوراثية، مما دفع الباحثين لمحاولة تحديد تركيبه. أثمر ذلك عن أحد أشهر الوقائع في تاريخ علم الأحياء؛ ألا وهو نموذج اللولب المزدوج للحمض النووي الذي وضعه جيمس واتسون وفرانسيس كريك، ونشر عام 1953.
كان اكتشاف واتسون وكريك المذهل المبني على دراسات سابقة قامت بها روزاليند فرانكلين، هو أن بنية الحمض النووي مناسبة تماما لأن تؤدي وظيفة المادة الوراثية أو الجينية. فقد بينا أن جزيء الحمض النووي يتكون من شريطين متشابكين في بنية حلزونية (الشكل
6-2 ). يتكون كل شريط من سلسلة طويلة من الوحدات المتكررة تسمى النيوكليوتيدات، تصل بينها روابط تساهمية. يحتوي كل نيوكليوتيد على ثلاث وحدات فرعية، إحداها مركب يحتوي على النيتروجين يسمى القاعدة. القواعد أربعة أنواع: الأدينين (
A )، والسيتوزين (
C )، والجوانين (
G )، والثايمين (
T ). تربط بين شريطي جزيء الحمض النووي الواحد روابط هيدروجينية تتكون بين قواعد كل منهما. لزاما، يقترن
C
مع
G
و
A
مع
T ؛ وهو مبدأ يعرف باسم «تكامل الأزواج القاعدية». هذا يعني أن تسلسل القواعد على شريط واحد من جزيء الحمض النووي، الذي يمكن تمثيله بسلسلة طويلة من الأحرف الأربعة
A
و
C
و
G
و
T ، يحدد التسلسل على الشريط المقابل. أدرك واتسون وكريك أن هذا يشير إلى وجود آلية محتملة لنسخ المادة الجينية؛ ألا وهي فصل الشريطين، واستخدام كل منهما نموذجا لتخليق شريط جديد. هذا بالضبط ما يحدث في عملية تضاعف الحمض النووي، وهو ما يفسر كيف تنسخ الجينات بدقة من خلية إلى أخرى، وبالتالي من الوالد إلى الذرية.
شكل 6-2: يتكون الحمض النووي من شريطين، يتكون كل منهما من سلسلة طويلة من النيوكليوتيدات المترابطة. يتصل الشريطان بروابط بين قواعد النيوكليوتيدات.
أدى ظهور علم الوراثة الجزيئي إلى إدراك علمي جديد لماهية الجينات وآلية عملها. الفكرة الأساسية هي أن الجين هو جزء معين من الحمض النووي يقع على الكروموسوم؛ وأن كل جين ينتج عنه منتج جيني معين (بروتين) في كل خلية، وبالتالي يؤثر على صفات الكائن الحي؛ وأن البروتين الناتج يعتمد على التسلسل الدقيق لقواعد النيوكليوتيدات في الجين. تنشأ الطفرات نتيجة أخطاء في عملية مضاعفة الحمض النووي ، مما ينتج عنه جين له تسلسل نيوكليوتيدات مختلف، وبالتبعية بروتين مختلف. بشكل عام، هذا هو «مفهوم الجين الجزيئي» الذي تبلور في ستينيات القرن العشرين.
لإدراك هذا المفهوم بشكل أفضل، تذكر أن البروتينات في الخلية تقوم بجميع الأنشطة الخلوية المهمة، وهي ضرورية لبنية أنسجة وأعضاء الكائن الحي وعملها. يتكون البروتين من سلسلة طويلة من الأحماض الأمينية المتصلة في سلسلة عديد الببتيد. يحدد التسلسل الخطي للأحماض الأمينية في البروتين، الذي يسمى البنية الأولية، الشكل الثلاثي الأبعاد للبروتين، والذي بدوره يحدد سلوك البروتين. يفترض مفهوم الجين الجزيئي وجود تناظر مباشر بين التسلسل الخطي لقواعد النيوكليوتيدات في الجين والتسلسل الخطي للأحماض الأمينية في البروتين الذي ينتجه الجين. (أشار كريك إلى هذا التناظر باسم «فرضية التسلسل».) وهذا يعني أن أي تغيير في تسلسل النيوكليوتيدات في الجين، بسبب طفرة على سبيل المثال، سيكون له تأثير محدد تماما على تسلسل الأحماض الأمينية في البروتين الناتج.
ترسخ مفهوم الجين الجزيئي إبان فك الشفرة الوراثية في الستينيات. لفهم هذا، نحتاج إلى وصف موجز لعملية التعبير الجيني، التي تنتج بواسطتها الجينات منتجاتها البروتينية. لهذه العملية مرحلتان: النسخ والترجمة. في مرحلة النسخ، ينسخ جزء من الحمض النووي إلى الحمض النووي الريبي (آر إن إيه)، الذي يتكون من شريط واحد فقط. يكون شريط الحمض النووي الريبي الناتج مطابقا في تسلسله لأحد شريطي الحمض النووي، باستثناء أن اليوراسيل (
U ) يحل محل الثايمين (
T ). في الكائنات الحية الحقيقية النواة (التي تشمل جميع النباتات والحيوانات)، يخضع شريط الحمض النووي الريبي الأولي للمعالجة لإنتاج الحمض النووي الريبوزي الرسول (إم آر إن إيه) الناضج، والذي يترك بعد ذلك نواة الخلية. في مرحلة الترجمة، تفك شفرة الحمض النووي الريبوزي الرسول في «مصنع» خلوي يسمى الريبوسوم حيث تتكون سلسلة عديد الببتيد النامية بإضافة الأحماض الأمينية، واحدا تلو الآخر.
يتحدد الحمض الأميني الذي يضاف إلى السلسلة من خلال تسلسل النيوكليوتيدات في الحمض النووي الريبوزي الرسول. كل كودون أو مجموعة ثلاثية من النيوكليوتيدات تناظر واحدا من عشرين حمضا أمينيا مختلفا؛ من ثم، تناظر المجموعة الثلاثية
CAG
على سبيل المثال الحمض الأميني ليوسين. هذا التناظر هو الشفرة الجينية، وهي تكاد تكون عامة في جميع الكائنات الحية. في جوهرها، تعني الشفرة الجينية أن تسلسل قواعد النيوكليوتيدات في الجين يمكن اعتباره تعليمات مكتوبة لبناء بروتين بتسلسل حمض أميني معين.
في السنوات التي أعقبت فك الشفرة الجينية، تقدم علم الوراثة الجزيئي بخطى حثيثة. إذ كشف عن تعقيدات التعبير الجيني مما أدى إلى تحول في فهم علماء الأحياء لكيفية عمل الخلايا ونمو الكائنات الحية وتأثير الجينات على السمات الظاهرية. علاوة على ذلك، بفضل التقدم التكنولوجي الملحوظ، تمكن علماء الأحياء بعد ذلك بقليل من تعديل الجينات تجريبيا، باستخدام أساليب مثل قطع ولصق تسلسلات الحمض النووي، وإزالة مقاطع من هذه التسلسلات، ونقل الحمض النووي من كائن حي إلى آخر. لا تزال تقنيات محسنة تطور ل «تعديل الجينوم» إلى يومنا هذا (مثل تقنية كريسبر التي تصدرت عناوين الأخبار في سنة 2015). نتيجة لهذه التطورات، تحولت الجينات من كونها أشياء خاملة تخضع للدراسة إلى كيانات يمكن تعديلها إن أردنا.
في الثمانينيات والتسعينيات، طورت التكنولوجيا اللازمة لتحديد تسلسل الجينات، أي لتحديد تسلسل النيوكليوتيدات الدقيق. خلص ذلك إلى مشروع الجينوم البشري، الذي نشر التسلسل الكامل لجميع الجينات البشرية في عام 2003. منذ ذلك الحين، حددت تسلسلات جينومات العديد من الأنواع الأخرى، وتطور سريعا مجال علم الجينوم، الذي يدرس الجينوم الكامل وكيفية عمله. لقد أدى علم الجينوم بالفعل إلى تطورات طبية جديدة، لا سيما في علم الأورام، ويمكن أن يؤدي إلى تحول أيضا في مجالات أخرى مثل الزراعة. لقد قطع علم الوراثة شوطا طويلا منذ نشأته المتواضعة من تجارب مندل على نبات البازلاء.
أهو اختزال؟
ما العلاقة بين الجين في علم الوراثة المندلي أو الكلاسيكي والجين في علم الوراثة الجزيئي؟ لطالما شغل هذا السؤال فلاسفة علم الأحياء. إحدى الإجابات المنطقية هي أنهما واحد. أي إن الكيان الافتراضي الذي افترضه مندل وعلماء الوراثة الكلاسيكية لتفسير بياناتهم تبين أنه كيان له وجود حقيقي، باعتباره جزءا من الحمض النووي يشفر بروتين ما. وفقا لوجهة النظر هذه، على الرغم من وجود مفهومين مختلفين للجين - المندلي والجزيئي - فإن هذين المفهومين يشيران إلى شيء واحد في الواقع.
هذه الإجابة معقولة. فاستمرار إشارة مفهومين مختلفين إلى عنصر واحد هي فكرة مألوفة في الفلسفة، وكذلك استمرار إشارة مصطلح علمي واحد إلى الشيء نفسه على الرغم من التغييرات الكبيرة في المعتقدات العلمية الهامة المرتبطة به. على سبيل المثال، يمكن القول إن مصطلح «إلكترون» كما يستخدمه الفيزيائيون المعاصرون وكما استخدمه فيزيائيو أواخر القرن التاسع عشر يشير إلى شيء واحد، على الرغم من تغير النظرية الفيزيائية بشكل كبير خلال هذه الفترة. لذلك، على الرغم من أن مندل وعلماء الوراثة الكلاسيكية لم يعرفوا شيئا عن الحمض النووي أو الشفرة الجينية، فمن المنطقي تماما أن نقترح أنهم عندما تحدثوا عن «عامل» أو «جين»، في سياق تجارب التهجين التي أجروها، كانوا في الواقع يشيرون إلى مقطع من الحمض النووي يشفر بروتينا ما.
يتوازى افتراض تطابق الجين عند مندل مع الجين الجزيئي مع فكرة أنه يمكن «اختزال» علم الوراثة المندلي في علم الوراثة الجزيئي. غالبا ما يتحدث الفلاسفة عن اختزال فرع من فروع العلم في فرع آخر، مما يعني تفسير مبادئ الفرع الأول من خلال مفاهيم الفرع الآخر. أحد الأمثلة على ذلك هو اختزال الديناميكا الحرارية الكلاسيكية في الميكانيكا الإحصائية. تصف الديناميكا الحرارية نظاما فيزيائيا مغلقا (مثل أسطوانة غاز مضغوطة بواسطة مكبس) من حيث خصائصه الكبيرة مثل درجة الحرارة؛ بينما تصف الميكانيكا الإحصائية النظام نفسه باعتباره تجمعا لجسيمات مجهرية متحركة. يمكن اشتقاق قوانين الديناميكا الحرارية من الميكانيكا الإحصائية، لذا فإن هذه الأخيرة تقدم تفسيرا أعمق لظواهر الديناميكا الحرارية. يتم الوصول إلى هذا الاشتقاق بمساعدة «المبادئ الجسرية» التي تربط مفردات النظريتين، مثل «درجة حرارة الغاز هي متوسط الطاقة الحركية لجزيئاته». وبالمثل، اعتبر بعض الفلاسفة مقولة «الجين هو مقطع من الحمض النووي يشفر بروتينا ما» مبدأ جسري يربط بين علم الوراثة المندلي والجزيئي.
للوهلة الأولى، يبدو هذا طرحا معقولا للغاية. من الواضح أن علم الوراثة الكلاسيكية كان مصيبا في شيء؛ إذ تبين أن أنماط الوراثة التي اكتشفها حقيقية، وأن التفسير الذي قدمه لتلك الأنماط من حيثية انفصال الجينات وفقا لقوانين مندل صحيح بصفة عامة. لكن التفسير كان غير مكتمل في جوهره نظرا لعدم معرفة ماهية الجينات وكيفية انتقالها وكيفية تأثيرها على نمو الكائن الحي. وهي تفاصيل وضحها علم الوراثة الجزيئي الذي يقدم شرحا أعمق للظواهر الوراثية، وبالتالي يمكن اختزال الوراثة المندلية والكلاسيكية فيه وفقا لذلك الطرح.
على الرغم من معقوليته في البداية، فقد قابل فلاسفة علم الأحياء هذا الاقتراح الاختزالي برفض واسع. كان من أوائل الاعتراضات ذلك الذي طرحه فيليب كيتشر، والقائل بأنه لشرح سبب صحة قانون مندل للفصل، لا نحتاج إلا للإشارة إلى أن الجينات تستقر على الكروموسومات التي توجد في أزواج، وإلى أنه أثناء الانقسام المنصف أو الميوزي (عملية الانقسام الخلوي التي تنتج خلايا أحادية المجموعة الكروموسومية)، تنقسم الكروموسومات في كل زوجين؛ لذلك يصبح في كل مشيج كروموسوم واحد فقط من كل زوجين. هذا التفسير خلوي أو على مستوى الخلية، وليس على المستوى الجزيئي. يرى كيتشر أن إضافة «تفاصيل جزيئية دقيقة» لا يجعل التفسير أفضل، ومن ثم لا يفسر علم الوراثة الجزيئي حقا قانون الفصل.
يقوم اعتراض ثان على أن المبدأ الجسري المزعوم الذي يربط بين علم الوراثة المندلي والجزيئي خاطئ، أو هو على الأقل تبسيط مخل، استنادا إلى أن بعض مقاطع الحمض النووي تعتبر جينات مندلية ولكن ليست جينات جزيئية، والعكس صحيح. أحد أسباب ذلك هو أن الجزء الأكبر من الحمض النووي في جينوم أي نوع لا يشفر بروتينات؛ وهي حقيقة لم تكن معروفة لواضعي مفهوم الجين الجزيئي. تلعب بعض تسلسلات الحمض النووي غير المشفرة دورا رئيسيا في تنظيم التعبير الجيني، أي إنها تؤثر على تحديد أي جينات تنسخ ومتى. هذا يسمح للخلية بإنتاج منتج بروتيني عند الحاجة، وهي الآلية التي تضمن تمايز الخلايا، أي إنتاج أنواع مختلفة من الخلايا والأنسجة في الكائن الحي النامي. بشكل حاسم، يمكن أن تؤثر الطفرات في الحمض النووي غير المشفر على سمات الكائن الحي بقدر ما تؤثر الطفرات في الجينات الجزيئية. يعتبر تسلسل الحمض النووي غير المشفر جينا مندليا إذا كان له تأثير نظامي على النمط الظاهري، كأن تؤدي تباينات ذلك التسلسل إلى صور مختلفة لصفة ما. باختصار، إن تشفير البروتين ليس الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يلعب بها تسلسل الحمض النووي دور جين مندلي.
الاعتراض الثالث هو أن بعض المفاهيم الجينية المندلية تستعصي على التعريف من الناحية الجزيئية. أحد أمثلة ذلك هو مفهوم «السيادة». فلا بد من وجود تفسير على المستوى الجزيئي لسبب سيادة جين على أليلاته؛ أي لسبب تطابق الكائنات الحية التي لديها نسخة واحدة من الجين في النمط الظاهري مع تلك التي تحمل نسختين. قد يكون التفسير معقدا، ولكنه ممكن من حيث المبدأ. ومع ذلك، على حد علمنا، لا توجد سمة جزيئية واحدة مشتركة بين جميع الجينات السائدة فقط. أي إن فئة الجينات السائدة تفتقر إلى أي قواسم مشتركة بينها يمكن وصفها جزيئيا. (بلغة الفلاسفة، لدى السيادة «تحققية متعددة» على المستوى الجزيئي.) وبالتالي، بعض الأنماط الوراثية لا يمكن وصفها إلا باستخدام مفاهيم مندلية.
يرى اعتراض رابع أن العلاقة بين علم الوراثة الجزيئي والمندلي أكثر تعقيدا مما توحي به الصورة الاختزالية. ارتبط الجين المندلي/الكلاسيكي بممارسة تجريبية ونمط تفكير معينين، لا يستعاض عنهما بعلم الوراثة الجزيئي. في الواقع، لا يزال مفهوم الجين المندلي قائما إلى اليوم، على عكس ما توقعه المنظور الاختزالي. على سبيل المثال، لا يزال المتخصصون في علم الأحياء التطوري يستخدمون مفهوم الجين المندلي عندما يبنون نماذج رياضية لانتشار الجينات في جماعة ما. المقصود بالجين أساسا في مثل هذه النماذج هو أي جسيم ينتقل كما هو من الأبوين إلى الذرية، ممتثلا لقانون الفصل وله تأثير نظامي على النمط الظاهري. وبالمثل، فإن فكرة «الجين الأناني» لريتشارد دوكينز التي نوقشت في الفصل الرابع، تستند إلى حد كبير على مفهوم الجين المندلي. كما يشير دوكينز، سواء كان «الجين الأناني» جينا بالمعنى الجزيئي أم لا، فهذا لا يغير شيئا في منطق حجته.
قد يبدو إجماع الفلاسفة على عدم اختزال علم الوراثة المندلي في علم الوراثة الجزيئي مستغربا. إذ غالبا ما يصور علم الأحياء الجزيئي، على أنه انتصار للمنهج الاختزالي في العلم؛ وهو منهج دراسة الأنظمة الأكبر من خلال دراسة كيفية عمل أجزائها الدقيقة، وهي صورة صحيحة. كيف إذن يمكن أن تكون الطريقة الاختزالية قد خدمت علم الأحياء الجزيئي بشكل جيد، ومع ذلك فإن الجين المندلي غير قابل للاختزال إلى الجين الجزيئي؟ في الواقع، لا يوجد تناقض حقيقي هنا. حيث إنه إذا خضع نظام ما، بيولوجيا أو فيزيائيا، للبحث الاختزالي، فهذا لا يستتبع إمكان استبعاد كل نمط يظهره النظام على المستوى الكلي لصالح نمط على المستوى الجزئي. أن يدين علم الأحياء الجزيئي بنجاحه للمنهج الاختزالي هو بالتالي أمر يتوافق تماما مع أنه ما يزال لمفاهيم الوراثة المندلية دور مهم لتلعبه.
ما الجين؟
دعونا نعود إلى مسألة ماهية الجين. حتى لو نحينا علم الوراثة المندلي وركزنا فقط على علم الوراثة الجزيئي، فإن هذا السؤال لا يزال غير مباشر. حيث إنه منذ سبعينيات القرن العشرين، وللمفارقة، أدت اكتشافات في علم الأحياء الجزيئي نفسه إلى تقويض مفهوم الجين الجزيئي التقليدي تدريجيا. بالفعل، يتحدث بعض المؤلفين عن «انحلال» هذا المفهوم على أساس أنه تبين أنه تقريب للواقع غير كامل إلى حد بعيد.
تنظيم الجينات الذي سبق أن وصفناه هو أحد أسباب المشكلة. بصفة عامة، لا تكون تسلسلات الحمض النووي غير المشفرة التي تنظم عملية نسخ الجينات مجاورة للمناطق التي تشفر البروتينات، بل قد تكون بعيدة جدا عنها؛ علاوة على ذلك، تؤثر بعض التسلسلات غير المشفرة على نسخ العديد من مناطق تشفير البروتين. ولا يتفق علماء الأحياء على ما إذا كانت التسلسلات غير المشفرة، بما فيها التسلسل المحفز الذي يستهل عملية النسخ، تعد جزءا من الجين أم لا. إذا كان يفترض أن يتضمن الجين كل الحمض النووي المسئول عن صنع بروتين وفقا للمفهوم التقليدي للجين الجزيئي، فيجب تضمينه هذه التسلسلات. لكن تضمينها يجعل الجين كيانا غريبا إلى حد ما تتناثر أجزاؤه في شتى أرجاء الجينوم.
ظاهرة «الوصل البديل» أكثر إشكالية. في حقيقيات النوى، تخضع نسخة الحمض النووي الريبوزي الأولية لتعديل جوهري لإنتاج الحمض النووي الريبوزي الرسول الناضج الذي سيترجم. إذ تحذف منه «الإنترونات» وتوصل «الإكسونات» المتبقية. ولكن هذا الوصل يمكن أن يحدث بأكثر من طريقة، مما يعني أن تسلسلا واحدا من الحمض النووي يمكن في الواقع أن ينشأ منه عدة بروتينات مختلفة. كان يعتقد في السابق أن الوصل البديل نادر، لكننا صرنا نعرف الآن أنه شائع الحدوث. تستخدمه الكائنات الحية لمصلحتها، إذ إنه يزيد كثيرا من عدد البروتينات التي يمكن تكوينها من تسلسل واحد من الحمض النووي. لكن الوصل البديل يجعلنا نتشكك في المفهوم التقليدي للجين الجزيئي، لأنه يقوض فرضية التسلسل التي وضعها كريك. فقد تبين أن تصور الجين جزءا من الحمض النووي يشفر بروتينا واحدا هو تصور مبسط حد المبالغة.
تتعقد الصورة أكثر في ظل اكتشافات أخرى. على سبيل المثال، يمكن أن تبدأ عملية الترجمة من نقاط مختلفة على الحمض النووي الريبوزي الرسول، لذلك يمكن لنسخة واحدة من الحمض النووي الريبوزي الرسول أن تنتج عددا من البروتينات المختلفة. علاوة على ذلك، تنتج بعض البروتينات من نسخة حمض نووي ريبوزي مستمدة من تسلسلات متعددة من الحمض النووي، قد تكون موجودة في أجزاء متباعدة في الجينوم. وفي حالات «الجينات المتداخلة»، يمكن أن يتشارك (ما يعتبر عادة) جينان منفصلان تسلسل نيوكليوتيد واحد. تثير مثل هذه التعقيدات، وغيرها الكثير، أسئلة صعبة حول تحديد تسلسلات الحمض النووي التي ينبغي اعتبارها جينات، وسبب ذلك.
في أغلب الأوقات، يتراخى علماء الوراثة العمليون إلى حد ما في الإجابة عن تلك الأسئلة. فمن الجلي أن أبحاثهم اليومية العادية تسير بسلاسة دون الحاجة إلى تقرير ما يجب اعتباره جينا. وهذا بحد ذاته مثير للاهتمام من منظور فلسفي. إذ وفق وجهة نظر شائعة، تتميز المعرفة العلمية عن المعرفة العادية بأنها أدق. وعلم الوراثة الجزيئي بالتأكيد يتميز بمستوى عال جدا من الدقة «التجريبية ». ومن الطبيعي أن نعتقد أن هذه الدقة التجريبية تسير جنبا إلى جنب مع الدقة المفاهيمية؛ أي إنه لا بد أن المصطلحات العلمية الرئيسية معرفة بدقة. تظهر مسألة الجينات أن الأمر ليس دائما كذلك.
الجينات والمعلومات
لطالما كانت فكرة احتواء الجينات على «معلومات» سمة أساسية لعلم الوراثة الجزيئي. فكثيرا ما يقال إن المعلومات الجينية تنتقل من الآباء إلى الأبناء، وإنها توجه عملية نمو الجنين إلى فرد بالغ. تلك مصطلحات مربكة للغاية لو تأملناها، وإن كانت مألوفة. فمعظم العلوم لا تستخدم لغة «المعلومات» لوصف العمليات السببية التي تدرسها. لماذا إذن يستخدم علماء الوراثة مثل هذه اللغة لوصف عمليتي نسخ الحمض النووي والتعبير الجيني، وماذا يعني ذلك؟
أحد المعاني المقبولة للكلمة هو أن المعلومات هي ما يوجد أينما أمكننا التنبؤ بشيء ما بناء على شيء آخر. على سبيل المثال، يحتوي لون السحب على معلومات حول احتمال هطول الأمطار، إذ يتنبأ الأول بوقوع الأخير. بهذا المعنى، تحتوي الجينات بالتأكيد على معلومات حول سمات النمط الظاهري التي تسببها، وحول البروتينات التي تشفرها. على سبيل المثال، إن الجين الذي يؤثر على لون عين الكائن الحي سيحتوي بالتالي على معلومات حول تلك الصفة. ولكن، من غير المرجح أن يكون هذا ما يقصده علماء الأحياء بالمعلومات الجينية. إذ بهذا المعنى، يمكن أن يقال أيضا إن الخصائص البيئية تحتوي على «معلومات» حول الصفات الظاهرية. فدرجة الحرارة التي تحضن فيها البذرة تتنبأ بطول النبات البالغ؛ لكن علماء الأحياء لا يتحدثون عن «المعلومات البيئية». من ثم لا بد أن ثمة سببا آخر وراء استخدام اللغة المعلوماتية في مجال الجينات.
إحدى الأطروحات الشائعة تعزو السبب إلى حقيقة أن الشفرة الجينية «اعتباطية». ما يعنيه هذا هو أن التناظر بين المجموعات الثلاثية من النيوكليوتيدات والأحماض الأمينية، الذي يحدد البروتين الذي يصنعه تسلسل معين من الحمض النووي، ليس لازما كيميائيا. فلا يوجد سبب كيميائي يجعل
CAC
مناظرا للهستيدين لا الليوسين على سبيل المثال. (لهذا السبب كان لا بد من فك الشفرة الجينية تجريبيا؛ إذ لا يمكن استنتاجها من قوانين الكيمياء). تعني اعتباطية الشفرة الجينية أن العلاقة بين الحمض النووي والبروتين تشبه العلاقة بين إشارة ومعناها. تأمل على سبيل المثال كلمة في أي لغة طبيعية، أو إشارة مرور. كلاهما يحمل معلومات بحكم المعاني التي عينها لهما العرف. لأن ذلك العرف يحتمل الاختلاف، فالمعاني اعتباطية لا محالة. ونظرا لأن الشفرة الجينية اعتباطية أيضا، فإن هذا يخولنا لأن نعتبر تسلسل حمض نووي محتويا على معلومات حول البنية الأساسية للبروتين، لا مجرد متسبب في هذه البنية فحسب.
قدم جون مينارد سميث طرحا مختلفا، يرجع فيه سبب استخدام اللغة المعلوماتية في علم الوراثة إلى بعض الحقائق عن التعبير الجيني. تحتوي جينات جميع الكائنات الحية على تسلسلات تنظيمية تؤدي وظيفة «مفاتيح» تشغل الجين أو توقف عمله. تفعل هذه التسلسلات ذلك عن طريق الارتباط ببروتينات معروفة باسم عوامل النسخ. هذه البروتينات شفرتها جينات أخرى في الجينوم. من حيث المبدأ، يمكن لأي عامل نسخ تشغيل أي جين إذا طور هذا العامل تسلسل تنظيمي مناسب. إذن تلك عملية تتضمن عنصرا من الاعتباطية أيضا. وبالتالي يمكننا اعتبار أن أحد الجينات «يرسل إشارة» إلى جين آخر فيه أمر بالتشغيل أو الإيقاف. تكمن أهمية هذا في أنه أينما يحدث إرسال لإشارات، يكون من المنطقي الحديث عن المعلومات. فالرقصة الاهتزازية للنحلة هي إشارة وظيفتها توجيه النحل الآخر إلى الرحيق؛ ومن ثم تحتوي الرقصة على معلومات حول موقع الرحيق. وبالمثل، يمكننا اعتبار الجينات مرسلات ومستقبلات للمعلومات، باعتبار أن تنظيم الجينات يعتمد على نظام إشارات تطور تدريجيا.
على النقيض من هذه الاقتراحات، يرى بعض المؤلفين أن الحديث عن المعلومات الجينية يمكن الاستغناء عنه لأنه لا يلعب دورا نظريا جادا في علم الأحياء. (وصف الفيلسوفان سهوترا ساركار وبول جريفيث المعلومات الجينية بأنها «مجاز» متنكر في رداء مفهوم علمي دقيق). ذهب آخرون إلى أبعد من ذلك إذ رأوا أن المعلومات الجينية مفهوم ضار، لأنه يرتبط بتصور خاطئ عن كل من النمو والوراثة. كان وما زال هناك نزعة سائدة لافتراض أن الجينوم يحتوي على مجموعة كاملة من التعليمات لإنشاء كائن حي، وأن الجينات هي المتحكم الأوحد في نمو الكائن الحي. على حد تعبير فوكس كيلر، ينظر إلى الجينوم باعتباره «مجموعة تنفيذية من التعليمات الإدارية». هذا الرأي ليس خاطئا تماما - فلا شك أن للجينات دورا أساسيا في النمو - لكنه ليس صحيحا تماما أيضا، لسببين. أولا، اتضح أن الجينات نفسها لا «تقرر» متى وأين تصنع منتجاتها البروتينية؛ بل تنظم الخلية التعبير الجيني استجابة للظروف البيئية. لذا فإن الجينوم كيان «تفاعلي»، وسلوكه يخضع جزئيا لسيطرة البيئة. ثانيا، صرنا نعلم الآن أن التغييرات المستحثة بيئيا في حالة تعبير الجين، والمعروفة باسم «علامات الوراثة فوق الجينية»، تنتقل أحيانا من الآباء إلى الأبناء، ويمكن أن تؤثر على صفات الذرية. لذا فإن تسلسل الحمض النووي الخطي في حد ذاته ليس المصدر الموروث الوحيد الذي تعتمد عليه الكائنات الحية في نموها.
لهذين السببين، سيكون اعتبار الجينوم محتويا على مجموعة ثابتة من التعليمات، أو مخططا لبناء كائن حي تبسيطا مفرطا. أولئك الذين يعارضون الحديث عن المعلومات الجينية يخشون من أنه يشجع على هذا التبسيط المفرط. يبقى أن نرى ما إذا كانت الأجيال القادمة من علماء الأحياء سوف تلتفت إلى نقدهم ذلك.
الفصل السابع
السلوك البشري والعقل والثقافة
إن نوعنا البشري، الإنسان العاقل «الهومو سابينس»، ليس نوعا عاديا. يبدو أن ذكاءنا واستخدامنا للغة واختراعاتنا الثقافية وبراعتنا التكنولوجية ومؤسساتنا الاجتماعية تميزنا عن سائر الأنواع الأخرى، حتى عن رفاقنا من القردة العليا. يقال أحيانا إن هذا منظور واهم، أو نتاج مركزية إنسانية غير مبررة، لكن هذه وجهة نظر الأقلية. بالطبع، يجب أن نحذر الوقوع في فخ التقليل من شأن التعقيد الذي تتمتع به الحيوانات غير البشرية، فقد تبين أن العديد من السمات التي كان يعتقد في السابق أنها مقتصرة على البشر، مثل استخدام الأدوات، وجدت لدى أنواع أخرى أيضا. لكن يظل من شبه المؤكد أن أي مراقب غير متحيز من كوكب آخر سوف يلتفت إلى تميز نوع الإنسان العاقل. ففي النهاية، لم يذهب أي نوع آخر إلى القمر، أو يبني دار أوبرا، أو يخترع الديمقراطية البرلمانية، أو يدمر البيئة الطبيعية كما فعلنا.
هل يمكن لعلم الأحياء أن يسهم بأي قدر في تسليط الضوء على البشرية وإنجازاتها؟ إحدى الطرق للإجابة عن هذا السؤال هي التساؤل عما إذا كان يمكن تفسير السلوك البشري من منظور بيولوجي؛ فأنماط سلوكنا هي منشأ أسلوب حياتنا المميز. انقسم العلماء في إجابتهم عن هذا السؤال الأخير إلى فريقين متناقضين. يشير أولئك الذين يجيبون ب «نعم» إلى أن الإنسان العاقل هو نوع متطور مثل أي نوع آخر وأن العقل البشري هو عضو متطور، وأن الانتخاب الطبيعي هو الذي شكل السلوك البشري بقدر ما شكل السلوك الحيواني. أما أولئك الذين يجيبون ب «لا» فيقرون بأن البشر قد تطوروا ولكنهم يرون أننا سمونا فوق طبيعتنا البيولوجية إلى حد كبير. فهم يزعمون أن سلوكيات البشر تعتمد على الأعراف الاجتماعية والتوقعات الثقافية أكثر من اعتمادها على الجينات. من ثم تقع مسئولية تفسير السلوك البشري على عاتق العلوم الاجتماعية مثل الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع لا على عاتق علم الأحياء. لا عجب إذن أن العديد من علماء الاجتماع التقليديين يؤيدون وجهة النظر هذه.
كما هو شأن معظم الانقسامات الفكرية، يوجد متسع لإجابة وسط، على عكس ما يدعي المتطرفون من كلا الفريقين. أولا، يمكن لعلم الأحياء أن يسلط الضوء على بعض جوانب السلوك البشري دون غيرها؛ إذ لا يلزم أن يسلط الضوء عليها جميعا وإلا استبعدناه. على سبيل المثال، قد تكون تفضيلاتنا الغذائية ذات أصل بيولوجي، لكن مشاركتنا في الرياضات المنظمة ليست كذلك على الأرجح. ثانيا، قد يعتمد وجود تفسير بيولوجي على «معيار» وصفنا للسلوك البشري. إذا كان ذلك المعيار فضفاضا، فقد نجد قواسم سلوكية مشتركة تعكس طبيعتنا البيولوجية المشتركة؛ ولكن إن ضيقنا المعيار، فقد نجد اختلافات سلوكية غير بيولوجية الأصل. على سبيل المثال، يعتبر الارتباط الزوجي صفة بشرية عامة، لكن عادات الزواج المحددة تختلف من مجتمع إلى آخر. هذا يعني أن التفسيرات البيولوجية وغير البيولوجية للسلوك البشري سيكون كل منها مكملا للآخر في بعض الأحيان، إذ ستختلف الجوانب التي يرتكز إليها كلا التفسيرين. ثالثا، أركان تلك المناظرة تحتمل الطعن في صحتها. نظرا إلى أن السلوك البشري نتاج عوامل سببية متعددة، يعتبر بعض العلماء ثنائية التفسير البيولوجي وغير البيولوجي لا تصح. هذه الاعتبارات الثلاثة تعني أن مساحة الاحتمالات كبيرة جدا، لذلك يجب أن نتشكك في أي محاولة لطرح إجابة مبسطة لسؤال ما إذا كان علم الأحياء يمكن أن يخبرنا بأي شيء مفيد عن السلوك البشري.
الطبيعة مقابل التنشئة
معظم الناس على دراية بجدلية الطبيعة والتنشئة، التي تبحث ما إذا كانت العوامل الموروثة أو تلك البيئية هي التي «تجعلنا ما نحن عليه». لطالما شغلت تلك القضية العلماء وغيرهم، وهي قضية من شأنها أن تثير انفعالات قوية. أحد أسباب ذلك هو أن من يقفون على جانب «الطبيعة» بالأخص من الجدل، غالبا ما كانت لديهم أجندات سياسية مبطنة. على سبيل المثال، كان علماء العصر الفيكتوري العديدون الذين رأوا أن جينات الأشخاص «ضعاف الأذهان» (عادة يقصدون أولئك الذين يعانون من صعوبات التعلم) هي جينات رديئة، من علماء تحسين النسل الداعين إلى التعقيم الإجباري لمنع تدهور تجميعة الجينات. حديثا، في سنة 1994، نشر عالما النفس تشارلز هيرنشتاين وريتشارد موراي كتابهما «منحنى الجرس»، الذي زعموا فيه أن السود في الولايات المتحدة يسجلون درجات أقل من البيض في اختبارات الذكاء بسبب جيناتهم، لا بسبب الفقر أو عدم المساواة في التعليم. استنادا إلى هذا الادعاء (المرفوض بشدة)، دعا هيرنشتاين وموراي إلى إنهاء المساعدات الحكومية للفقراء، والتي رأوا أنها تشجع الأفراد ذوي الذكاء المنخفض على التكاثر. وتوجد أمثلة مشابهة بوفرة.
هل يمكننا مناقشة مسألة الطبيعة والتنشئة من منظور علمي بحت، بمنأى عن جميع المضامين الاجتماعية والسياسية؟ هذه في حد ذاتها قضية مثيرة للجدل. فكما ذهب الفيلسوف ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر في طرح شهير إلى أنه لا يمكن للمرء الاستدلال على ما «يجب» أن يكون بما هو «قائم» بالفعل. وفقا لهيوم، تختلف المقولات التي تصف العالم كما هو قائم اختلافا جوهريا عن تلك التي تصف ما يجب أن يكون عليه. لا تزال مقولة هيوم تلك شائعة إلى اليوم؛ فهي تدعم وجهة النظر السائدة التي ترى أن مهمة العلماء هي اكتشاف الحقائق الموضوعية، ومهمة صانعي القرار والمشرعين هي تقرير ما يجب فعله بهذه الحقائق. عند تطبيقه على جدلية الطبيعة والتنشئة، فإن هذا يعني أننا يجب أن نفصل بشكل قاطع السؤال العلمي حول ما إذا كانت صفة بشرية ما جينية الأصل عن السؤال السياسي حول ما يجب أن يفعله المجتمع بهذه المعلومة، هذا إذا كان هناك أي شيء يمكن للمجتمع أن يفعله. على سبيل المثال، تأصل المثلية الجنسية «في الجينات» من عدمه مسألة لا علاقة لها على الإطلاق بما إذا كان ينبغي منح المثليين حقوقا مساوية للمغايرين جنسيا، والأمر سيان بالنسبة لصفات أخرى.
على الرغم من أن هذا يبدو منطقيا، فإن فكرة أن العلم متجرد تماما من القيم وأنه لا يهتم إلا ب «الحقائق الموضوعية»، هي فكرة ساذجة إلى حد ما، لسببين. أولا، يمكن أن تكون الأحكام القيمية حاضرة ضمنا في وصف العلماء للعالم. فالعلماء الفيكتوريون الذين أرادوا منع «ضعاف الذهن» من التكاثر لم يرتكبوا فحسب خطأ تجاوز حدود العلم والشرود إلى مسائل السياسة العامة. بل وقعوا أيضا في خطأ أكبر، وهو الاعتقاد بأن «ضعف الذهن» صفة صحيحة في المقام الأول؛ وقد انعكس هذا الاعتقاد في قناعاتهم الأيديولوجية. ثانيا، يحتاج العلماء إلى تحديد ما سيبحثونه، وغالبا ما يكون للأحكام القيمية تأثير على هذه القرارات. كتب هيرنشتاين وموراي كتابا كاملا عن الاختلافات بين الأعراق في درجات معدل الذكاء، لكن لم يوضحا في أي موضع لماذا ينبغي أن يهتم بها أي أحد. وبالمثل، يكرس المتخصصون في علم النفس التطوري الحديث (طالع القسم التالي) جهودا كبيرة لدراسة الاختلافات المزعومة بين مخ الذكر والأنثى، لكنهم نادرا ما يفسرون سبب أهمية هذه الاختلافات، حتى لو كانت موجودة. وبالتالي فإن اختيار «الحقائق الموضوعية» المراد دراستها قد يعكس في حد ذاته القيم الفردية أو المجتمعية.
هذه التحفظات مهمة، ولكن لا يزال من المنطقي محاولة معالجة المشكلة من ناحية موضوعية بحتة. دعونا بعد ذلك نسأل ماذا يخبرنا علم الأحياء الحديث عن سؤال الطبيعة والتنشئة التقليدي؟ أحد الدروس المستفادة هو أنه في كثير من الحالات، لا يكون السؤال في الحقيقة محددا جيدا. قد يبدو هذا مفاجئا لأن علماء الأحياء كما نعلم يميزون بين التأثيرات الجينية والبيئية على الصفات الظاهرية للكائن الحي، وهو ما يناظر تمييز غير المتخصصين بين الطبيعة والتنشئة. علاوة على ذلك، في الطب الحيوي، غالبا ما توصف بعض الأمراض بأنها «وراثية»، بينما في دراسة سلوك الحيوان، غالبا ما توصف بعض السلوكيات على مستوى الأنواع بأنها «فطرية»؛ ويبدو أن كلا المصطلحين مرادفان لعبارة «بسبب الطبيعة». إذن ما الذي يجعل التمييز بين الطبيعة والتنشئة مشكلا؟
أحد الأسباب ينبع من علم الأحياء النمائي. إذ اتضح أن العوامل الجينية والبيئية دائما ما تشتركان في تطور الصفة، لا سيما الصفات المعقدة مثل السلوكيات. نتيجة لذلك، حتى الصفات المصنفة تقليديا على أنها «وراثية» قد تكون عرضة للتعديل البيئي. أحد الأمثلة الكلاسيكية هو مرض بيلة الفينيل كيتون الذي يصيب الإنسان، وهو ينتج عن طفرة تؤثر على القدرة على استقلاب الحمض الأميني فينيل ألانين، مما يؤدي إلى تلف في المخ. ولكن، إذا لزم الرضيع المصاب بالطفرة نظاما غذائيا منخفض الفينيل ألانين، فإن مخه سوف يتطور بشكل طبيعي. لذا في الحقيقة، بيلة الفينيل كيتون ليس مرضا «وراثيا» بحتا؛ لأنه ناتج عن اجتماع عامل وراثي (الطفرة) وعامل بيئي (تناول الفينيل ألانين)، ولا يتسبب أي منهما في الضرر منفردا. هذا يعني أن سؤال الطبيعة والتنشئة غير محكم «على مستوى الفرد». بمعنى أنه ليس من المنطقي أن نسأل إن كانت إصابة مريض معين ببيلة الفينيل كيتون ناتجة عن جيناته «أم» عن استهلاكه للفينيل ألانين؛ إذ إنها نتيجة اجتماع السببين. ينطبق نفس المغزى بشكل عام على شتى أنواع الصفات.
جدير بالذكر، أن السؤال قد يظل منطقيا على مستوى الجماعة. أي إنه لا يزال بإمكاننا أن نسأل إذا كانت «الاختلافات» في النمط الظاهري بين أفراد جماعة ما جينية أم بيئية الأصل. إذا كان جميع أفراد جماعة ما يتبعون نظاما غذائيا غنيا بالفينيل ألانين، فإن إصابة بعضهم ببيلة الفينيل كيتون دون غيرهم ستكون نتيجة للاختلافات الجينية بينهم. وفي الواقع، فإن العلماء الذين يدرسون علم الوراثة السلوكي البشري عادة ما يركزون على مستوى المجموعة. وأداتهم الرئيسية هي «تحليل قابلية الانتقال بالوراثة». يتضمن ذلك دراسة الأقارب من أجل الوصول إلى تقدير عددي لقابلية صفة ما للانتقال بالوراثة، وهو يعرف بأنه الجزء من تباين الصفة الذي يرجع إلى التباين الجيني. لتوضيح المنطق، افترض أنه وجد أن توءمين متطابقين انفصلا عند الولادة، يتشابهان في بعض الصفات أكثر من فردين مختارين عشوائيا من الجماعة. لأن التوءمين نشآ في بيئتين مختلفتين، يمكننا أن نستنتج أن التشابه بينهما يرجع على الأرجح إلى الجينات المشتركة، من ثم فالصفات المشتركة لها قابلية عالية للانتقال بالوراثة. وجد أن قابلية العديد من الصفات السلوكية والمعرفية البشرية للانتقال بالوراثة متوسطة إلى عالية. وهي تشمل سمات شخصية مثل الانبساط وليونة الطبع؛ وسمات إدراكية مثل معدل الذكاء والمهارة الموسيقية؛ والاضطرابات النفسية مثل القلق والفصام؛ والمواقف الاجتماعية مثل المحافظة والتدين. يرى العديد من الباحثين أن هذا يشير إلى أن التأثيرات الجينية على السلوك البشري جوهرية.
ولكن التفسير الصحيح لتحليل قابلية الانتقال بالوراثة محل جدل. أنصار ذلك التحليل يرونه أداة دقيقة من الناحية الكمية لمعالجة مسألة الطبيعة والتنشئة التقليدية. هذا مبرر في بعض الأحيان، ولكن يثير عددا من التعقيدات. أولا، تعتبر قابلية صفة ما للتوريث نسبية بطبيعتها، ويمكن أن تختلف اختلافا كبيرا من مجموعة إلى أخرى. ثانيا، من الخطأ مساواة قابلية الانتقال بالوراثة العالية بالعامل «الوراثي» والمنخفضة بالعامل «البيئي»، على عكس ما يعتقد أحيانا. لنأخذ مثالا صفة امتلاك ساقين في البشر. في مجموعة نموذجية، سيكون الأشخاص الوحيدون الذين لا يملكون ساقين قد فقدوا إحداهما أو كلتيهما في حادث؛ من ثم فإن الاختلافات في هذه الصفة ليست وراثية. وهذا يعني أن قابلية انتقال صفة امتلاك الساقين بالوراثة تقترب من الصفر؛ لكن سيكون من الخطأ البين أن نستنبط من ذلك أن الجينات لا تلعب دورا في تفسير سبب تطور صفة الساقين لدى الإنسان. ثالثا، أينما يوجد «تفاعل وراثي-بيئي»، يفقد تحليل قابلية الانتقال بالوراثة جزءا كبيرا من معناه. في هذا السياق، «التفاعل» يعني أن التأثير السببي للجين على صفة ما يعتمد في حد ذاته على البيئة. على سبيل المثال، قد يزيد جين معين من خطر الإصابة باضطرابات القلق في المناخات الدافئة، ولكنه يقلله في المناخات الباردة. في مثل هذه الحالات، تتشابك الطبيعة والتنشئة بشكل لا ينفصم، حتى على مستوى الجماعة. أخيرا، يحدث «الارتباط الجيني-البيئي» عندما يرجح أن يواجه الأفراد المتشابهون جينيا بيئات متشابهة. كما هو الحال مع التفاعل، يمنع هذا الارتباط تحليل قابلية الانتقال بالوراثة من الوقوف على حد فاصل بين التأثيرات الجينية والبيئية.
لنلخص ما سبق. على المستوى الفردي، تنشأ جميع الصفات من مزيج من العوامل الجينية والبيئية، ولا معنى هنا لسؤال أيهما أهم. على مستوى المجموعة، يمكن أحيانا قياس الأهمية النسبية للعوامل الجينية والبيئية في تفسير الاختلافات بين الصفات كميا، ولكن ليس في كل الحالات. تنطبق هاتان النقطتان على جميع الصفات، ومن بينها الصفات السلوكية والإدراكية للإنسان. لذا، على الرغم من أن علم الأحياء قد لا يحل جدلية الطبيعة والتنشئة الأزلية، فهو بالتأكيد يساعد في توضيح معناها.
من علم الأحياء الاجتماعي إلى علم النفس التطوري
في سبعينيات القرن العشرين، قدم علم الأحياء الاجتماعي الناشئ نهجا جديدا جريئا لدراسة السلوك البشري. وقد طبق علم الأحياء الاجتماعي بريادة إدوارد ويلسون عالم الأحياء بجامعة هارفرد نظرية التطور على السلوك الاجتماعي للبشر، وعلى بنية المجتمع البشري بشكل عام. كانت الفرضية الأساسية هي أن الجينات لها تأثير قوي على السلوك البشري وأنه قد تطور بالانتخاب الطبيعي؛ لذلك يمكن تقديم تفسيرات داروينية لسلوكيات واتفاقات اجتماعية معينة. أحد أوضح أمثلة ويلسون كان «حظر زنا المحارم». فعلى الرغم من اختلاف الأعراف الجنسية بشكل كبير بين المجتمعات البشرية، فإن زنا المحارم محظور في جميعها تقريبا؛ كما أن البشر ينفرون منه غريزيا. فما السبب؟ طرحت تفسيرات أنثروبولوجية مختلفة، لكن ويلسون ذهب إلى أنه يوجد تفسير دارويني بسيط لذلك. غالبا ما تظهر عيوب خلقية في ذرية الأزواج من المحارم، لذلك كان هناك ضغط انتخابي قوي لتنحية زنا المحارم. ويرى ويلسون أن هذا هو السبب في أن النفور من زنا المحارم تطور لدى الأفراد وفي حظر المجتمعات له. مثال آخر أكثر استنادا إلى التخمين هو وجود المثلية الجنسية في الذكور. مستشهدا بنظرية انتخاب الأقارب، ذهب ويلسون إلى أنه على الرغم من أن السلوك المثلي يؤدي إلى انخفاض صلاحية الذكر الفرد، فإنه ربما يمنح ميزات في الصلاحية غير مباشرة لأقاربه. من ثم، يمكن للانتخاب الطبيعي أن يبقي على جينات المثلية الجنسية في مجموعة ما.
كان علم الأحياء الاجتماعي محط جدل شديد في السبعينيات، وكان جانب كبير من ذلك الجدل متطرفا، وغالبا ما كان يحظى بمتابعة إعلامية. اعتبره نقاده مشروعا رجعيا من شأنه أن يفتح الباب لعلم تحسين النسل. إذا ما نظرنا إلى الماضي، فسيتضح لنا أن العديد من النقاد كانت تحركهم دوافع سياسية فأساءوا عرض دراسات ويلسون. لكن أثيرت أيضا انتقادات علمية سليمة، ثلاثة منها تستحق الذكر. أولا، كان توقع ويلسون الواثق بأن العلوم الاجتماعية ستصبح «فرعا من علم الأحياء» توقع لا يستند إلى أدلة. فاعتماد نهج تطوري للسلوك البشري لا يعني بالضرورة الاستغناء عن علماء الاجتماع. فعلماء الاجتماع يهتمون عادة بالتفسيرات المباشرة لا المطلقة (راجع الفصل الثاني). ثانيا، نزع علماء الأحياء الاجتماعية إلى المبالغة في تبسيط العلاقة بين الجينات والسلوك، وغالبا ما يتحدثون كما لو أن الجينات تحدد أنماط سلوك معينة بشكل حاسم. وهذا افتراض غير صحيح لأنه يتجاهل العوامل البيئية، ويتجاهل دور الإدراك في إنتاج السلوك البشري. ثالثا، تكون تفسيرات علم الاجتماع الحيوي أكثر منطقية عندما يكون السلوك عاما (مثل تجنب زنا المحارم). ولكن كثيرا من السلوكيات البشرية «طيعة» للغاية، أي إنها عرضة للتغيير وفق الظروف، ومتباينة عبر الثقافات.
اعتمد علم النفس التطوري هذين النقدين الأخيرين، وهو تخصص ظهر في الثمانينيات خليفة لعلم الأحياء الاجتماعي، ووصل إلى أوجه في يومنا هذا. كان الإسهام الرئيسي لعلم النفس التطوري هو البحث عن تفسيرات تكيفية لا للسلوك البشري بشكل مباشر، بل لأسسه المعرفية أو النفسية. يرى أنصاره أنه على الرغم من أن السلوك البشري متغير وخاضع للتأثير الثقافي، إلا أنه يوجد مع ذلك تكوين نفسي عام يشترك فيه جميع البشر طوره الانتخاب الطبيعي، وهو يحكم بقوة سلوكنا. ويرون أنه يتكون من مجموعة من «الوحدات العقلية» تختص كل منها بوظيفة محددة. ينتج السلوك الفعلي عن تشغيل وحدة ما في موقف محدد. من أمثلة ذلك وحدة لمعالجة اللغة، ووحدة للتعرف على وجوه الآخرين، ووحدة لاختيار الشريك، ووحدة لاكتشاف «الغش» في التعاملات الاجتماعية. تتناقض فكرة الوحدات العقلية المتعددة، التي يطلق عليها أحيانا نموذج «سكين الجيش السويسري»، مع وجهة النظر التقليدية القائلة بأن البشر يؤدون مهام مختلفة باستخدام آلية نفسية واحدة متعددة الوظائف. يرى علماء النفس التطوريون أن التنظيم ذا الوحدات أكثر كفاءة؛ لأنه يسمح بإنتاج السلوك التكيفي بسهولة أكبر.
على الرغم من أن علم النفس التطوري يعتمد على التكيف في جوهره، فإن أنصاره لا يعتقدون أن سلوك الإنسان الحديث تكيفي في جميع الحالات. فهم يرون أن العقل البشري متكيف بشكل جيد على أسلوب حياة الصيد وجمع الثمار الذي ساد في معظم مراحل التطور البشري. ولكن في آخر 12 ألف سنة، طرأت على البيئة تغيرات سريعة لم يتح للتطور الجيني الوقت الكافي لمسايرتها. لذلك يمكن أن تؤدي «عقولنا المتكيفة على العصر الحجري» إلى سلوكيات غير متكيفة على العالم الحديث. هذه الفرضية المعروفة باسم «عدم التطابق التطوري» معقولة تماما في بعض الحالات. على سبيل المثال، كان اشتهاؤنا للسكر على الأرجح تكيفيا في البيئات التي تطور فيها هذا الاشتهاء ولكنه يؤدي إلى السمنة في البيئات الحديثة التي يتوافر فيها السكر بكثرة. تشمل بعض الأمثلة الأكثر إثارة للجدل السلوكيات الإدمانية، والضغط العصبي في أماكن العمل، واكتئاب ما بعد الولادة، وقد قيل إن كلا منها ينشأ من ميول نفسية متطورة كانت ستعد تكيفية في العصر البليستوسيني.
على الرغم من أن علم النفس التطوري أفضل منهجيا من علم الأحياء الاجتماعي، وأنه أدى إلى الكثير من الأبحاث المثيرة للاهتمام، فإنه لم يسلم من الجدل. أحد أسباب ذلك هو هوس بعض علماء النفس التطوريين الفضوليين بالسلوكيات الجنسية البشرية (وفيها الاغتصاب)، والاختلافات بين الذكور والإناث؛ وهي موضوعات حساسة لا محالة. أيضا، يرى نقاده أن الاعتقادات الفكرية لعلماء النفس التطوريين، مثل إيمانهم بوجود تكوين نفسي عام للبشر وبالوحدات العقلية التي تتحكم بها الجينات، تتجاوز الأدلة المتاحة. يتهم اتجاه نقدي آخر علم النفس التطوري بتبنيه التكيفية الساذجة التي انتقدها جولد ولونتين (راجع الفصل الثالث)، والتي تفترض مسبقا أنه يمكن إيجاد تفسير تكيفي لأي صفة. على الرغم من أن هذه الانتقادات وجيهة، لا سيما المتعلقة بأبحاث شهيرة في علم النفس التطوري، فإن أفضل أبحاث هذا المجال تتوافق مع أعلى المعايير العلمية.
النقد الأخير، الذي يمكن في الواقع توجيهه إلى كل النظريات التي تفترض أساسا وراثيا للسلوك البشري، هو أنها تتعارض مع إحساسنا بالإرادة الحرة. نحن البشر نعتقد بديهيا أن أفعالنا ناتجة عن اختياراتنا الواعية، أي إننا فاعلون متصرفون. لكن يبدو أن وجود تأثيرات جينية قوية على سلوكنا، أو على تركيبنا النفسي الأساسي، يزعزع هذا الاعتقاد. على سبيل المثال، على الأرجح ستجيب امرأة تسأل عن سبب زواجها من رجل أعمال ناجح بأنها تحبه. ولكن كيف يمكن أن يتوافق ذلك مع افتراض علماء النفس التطوريين أن النساء لديهن «وحدة اختيار زوج» في تركيبهن تقودهن للبحث عن أزواج من ذكور ذوي مكانة عالية؟ علاوة على ذلك، هو يهدد أيضا تحمل الأشخاص لمسئولية أفعالهم. إذا كان لدى الذكور البالغين جينات تجعلهم عدوانيين، فكيف يمكننا أن نلوم الذكر على فعل عدواني أثناء القيادة؟ ألن يستطيع أن يتذرع بأن «جيناته هي التي دفعته إلى ذلك»؟
يوجد ردان لهذه الحجة. أولا، لا أحد يقترح بجدية أن السلوك البشري تحكمه بالكامل الجينات. إنما على الأكثر، قد تكون هناك نزعات وراثية متفاوتة في شدتها، لسلوكيات معينة. ثانيا، والأهم من ذلك، أن ما يهدد إحساسنا بالإرادة الحرة هو في الحقيقة فكرة أن سلوكنا ناجم عن سبب ما لا عن اختيار حر؛ كون السبب «جينيا» من عدمه لا يهم. فالأسباب البيئية تهدد إحساسنا بحرية الإرادة بالقدر نفسه. افترض أنه اتضح أن السلوك العدواني لذكر بالغ ناتج عن عقاب جسدي تعرض له في طفولته. يظل بإمكان الرجل الذي ارتكب فعلا عدوانيا أثناء القيادة أن يدعي البراءة زاعما أن تجارب طفولته، لا جيناته، هي التي دفعته إلى ذلك الفعل. كما يوضح هذا المثال، فإن إيجاد مكان للإرادة الحرة في عالم تسوده الأسباب هي مسألة فلسفية عامة جدا تنشأ في شتى المجالات. فهي لا تقتصر على علم الأحياء الاجتماعي أو علم النفس التطوري، لذلك لا ينبغي أن تعتبر اعتراضا على هاتين النظريتين فقط.
التطور الثقافي
هناك نهج مختلف تماما لتطبيق الأفكار الداروينية على السلوك البشري يعرف باسم التطور الثقافي، أو نظرية الوراثة المزدوجة. وهي نظرية تنطلق من ملاحظة وجود اختلافات ثقافية هائلة بين الجماعات البشرية. تأمل على سبيل المثال اختلاف الترتيبات العائلية والممارسات الجنائزية والأساليب المعمارية حول العالم. نظرا لأن هذه الاختلافات الثقافية نشأت سريعا، في غضون بضعة آلاف من السنين، يمكننا أن نجزم بأنها لا تنبع من الاختلافات الجينية. لذا يبدو أن الثقافة البشرية «مستقلة» عن الأسباب البيولوجية. على الرغم من ذلك، يظل من الممكن أن تتطور الثقافة من خلال عملية شبيهة بالداروينية. حيث إن لدى البشر مصدرين متوازيين للوراثة، جينيا وثقافيا. مثلما نرث الجينات من آبائنا البيولوجيين، فإننا نرث الممارسات والمعتقدات الثقافية من «آبائنا الثقافيين»؛ الذين قد يكونون آباءنا البيولوجيين أو أعضاء آخرين في جماعتنا الاجتماعية. هذا يعني أنه من حيث المبدأ، يمكن أن يؤثر الانتخاب الطبيعي على الاختلافات الثقافية وكذلك الجينية، مما يؤدي إلى انتشار بعض الممارسات الثقافية بين السكان وانحسار بعضها.
يؤكد أنصار التطور الثقافي أن هذا قد حدث بالفعل. تأمل على سبيل المثال تطور تخزين الطعام بمرور الزمن. في معظم تاريخنا، كنا صيادين جامعين رحلا. بدأ هذا يتغير منذ نحو 10 آلاف عام، عندما بدأ البشر يزرعون المحاصيل ويستأنسون الحيوانات في عدد من المواقع المختلفة حول العالم. ثم انتشرت تربية الحيوانات والزراعة بسرعة لتحل محل نمط الحياة التقليدي الذي يعتمد على الصيد وجمع الثمار، وفي غضون بضعة آلاف من السنين صارت موجودة في جميع أنحاء العالم. كان هذا يرجع إلى المحاكاة حين رأت الجماعات التي تعتمد على الصيد وجمع الثمار فوائد الزراعة فتحولت إليها، وكذلك إلى الغزو والاستعمار. بالطبع، لطالما عرف العلماء أن انتشار الزراعة أدى إلى تحول جذري في البشرية. لكن الادعاء المميز لنظرية التطور الثقافي هو أنها كانت عملية داروينية في حقيقتها، تفوق فيها تباين ثقافي له الأفضلية (الزراعة) على تباين أقل تفوقا (البحث عن المؤن)، وهو مماثل للطريقة التي تتفوق بها التنوعات الجينية التي لها الأفضلية على أليلاتها في عملية التطور البيولوجي المعتادة.
في حالة التطور الجيني، الأثر التراكمي للانتخاب الطبيعي هو تكيف الجماعات مع بيئتها وخلق التباين، كما رأينا في الفصل الثاني. يجادل أنصار التطور الثقافي بأن الأمر نفسه ينطبق عندما يسري الانتخاب الطبيعي على التباين الثقافي. للتوضيح، تأمل القدرة المذهلة للبشر على التكيف مع بيئتهم المحلية، والتي سمحت للبشر بأن يصبحوا أكثر الأنواع انتشارا ونجاحا على هذا الكوكب. تأمل على سبيل المثال مهارات بناء الأكواخ الجليدية لدى شعب الإنويت، ومهارات الصيد لدى شعب بوشمن في كالاهاري، أو مهارات بناء القوارب لدى شعب الفايكنج، تلك جميعها كانت مهارات ضرورية للبقاء على قيد الحياة في البيئات المعنية. وهي مهارات تنتقل ثقافيا وليس وراثيا. لا يوجد «جين أكواخ جليدية» نقله شعب الإنويت إلى ذريته؛ بل كانوا يعلمون صغارهم تلك المهارة التي صقلت تدريجيا على مدى أجيال عديدة. وينطبق الشيء نفسه على العديد من الممارسات الثقافية الأخرى. وبالتالي فإن التطور الثقافي أمر بالغ الأهمية في تفسير كيفية تكيف المجموعات البشرية مع بيئاتها، وكيف تظهر الاختلافات الثقافية بينها وتستمر.
ما العلاقة بين التطور الثقافي والتطور البيولوجي (أو الجيني)؟ من ناحية، يعتمد الأول على الثاني، لكنهما من ناحية أخرى مستقلان. لإدراك اعتماد التطور الثقافي على التطور البيولوجي، لاحظ أن الممارسات الثقافية لا يمكن أن تنشأ وتنتشر إلا بسبب القدرات الإدراكية للبشر، والتي تطورت هي نفسها عن طريق التطور البيولوجي. على سبيل المثال، ما جعل ابتكار الزراعة وانتشارها اللاحق ممكنا هو امتلاك البشر القدر اللازم من الذكاء والتواصل والقدرة على محاكاة سلوكيات الغير. فلولا أن التطور البيولوجي أدى إلى امتلاك الإنسان الإدراك اللازم لما نشأ التطور الثقافي من الأساس. أما لإدراك استقلالهما، فلاحظ أن التطور الثقافي لا يعتمد على وجود التباين الجيني، ويحدث بمقياس زمني أسرع بكثير من التطور البيولوجي. يمكن للتباينات الثقافية أن تجتاح جماعة بشرية بسرعة أكبر بكثير من التنوعات الجينية، فبينما تنتقل الجينات عموديا فقط (من الآباء إلى الأبناء)، تستطيع الثقافة أن تنتقل أفقيا. من ثم فإن السرعة التي يمكن أن ينتشر بها الجين المتحور يحكمها فترة حياة الجيل، بينما لا يخضع انتشار تباين ثقافي جديد لمثل ذلك القيد.
في بعض الحالات، يحدث تفاعل مثير للاهتمام بين التطور الثقافي والبيولوجي. المثال التقليدي هو انتشار مزارع الألبان. بدأ استئناس الماشية بغرض استهلاك حليبها الغني بالمغذيات منذ آلاف السنين، وانتشر عن طريق التطور الثقافي. ولكن نجاح هذه الممارسة الثقافية كان محدودا بسبب حقيقة أن معظم البشر يفتقرون إلى القدرة على هضم اللاكتوز. أدى ظهور مزارع الألبان إلى ضغط انتخابي ملح لإيجاد جين من شأنه أن يساعد في هضم اللاكتوز. في النهاية ظهر مثل هذا الجين وانتشر عن طريق التطور «البيولوجي» عبر شمال أوروبا والشرق الأوسط، حيث يوجد اليوم بنسب عالية. في المقابل، لم ينتشر جين إنزيم اللاكتيز في المناطق التي لم تتبن مزارع الألبان، ولا يزال موجودا بنسب منخفضة لدى معظم السكان اليوم في آسيا على سبيل المثال. أي إننا وجدنا ارتباطا وثيقا بين وجود منطقة لها تاريخ في إنشاء مزارع الألبان ووجود الجين لهضم اللاكتوز. النقطة المهمة التي تجب ملاحظتها هنا هي التفاعل بين التطور البيولوجي والثقافي. فقد أدى انتشار ممارسة ثقافية - مزارع الألبان - إلى خلق الظروف اللازمة لعملية التطور البيولوجي لتغيير التكوين الجيني للمجموعة التي انتشرت فيها هذه الممارسة الثقافية، مما سمح لهذه المجموعة بعد ذلك بتحصيل الفوائد الكاملة لهذه الممارسة. يعرف هذا التفاعل باسم «التطور الجيني-الثقافي المشترك».
قدم ريتشارد دوكينز نظرية مهمة في التطور الثقافي في كتابه «الجين الأناني». وصف دوكينز عملية تطورية ينفرد بها جنسنا البشري، تتنافس فيها كيانات تدعى «الميمات» على موضع في العقل البشري. يقصد بالميم وحدة معلومات ثقافية، مثل أغنية أو طقس ديني، مثلما يعد الجين وحدة للمعلومات الوراثية. رأى دوكينز أن الميمات، على غرار الجينات، «مستنسخات»، أي كيانات تصنع منها نسخ.
بفضل نزعة الإنسان إلى المحاكاة، تنتقل الميمات من عقل شخص إلى آخر، ومن حين لآخر تحدث أخطاء في النسخ. رأى دوكينز أن انتشار الميمات يخضع للمبادئ الداروينية بصفة عامة. الميمات الأصلح للنسخ لأي سبب كان، ستسود «تجميعة الميمات». وهذا هو السبب في وجود أغاني البوب الجذابة والديانات التي تحث أتباعها على الدعوة لاعتناقها؛ فتلك هي الاستراتيجيات التي تساعد الميمات المعنية (الأغنية والدين) على الانتشار. تصور دوكينز نشأة علم مستقبلي للميمات، يناظر علم الوراثة، يدرس المبادئ التي تنتشر بها الميمات في جماعة.
على الرغم من أن طرح دوكينز كان ثاقبا، لم يؤت علم الميمات ثماره وتحاشى معظم أنصار التطور الثقافي الحديث مفهوم الميم. يرجع هذا جزئيا إلى عدم وجود تعريف واضح لما يعد ميما أو لكيفية تحديده. فيبدو أنه لا توجد طريقة واضحة ل «تجزئة» ممارسة ثقافية معقدة إلى وحدات متمايزة. فهل نعتبر الدين المسيحي ميما واحدا أم عدة ميمات، على سبيل المثال؟ علاوة على ذلك، ارتبط مفهوم دوكينز للميم باعتقادات فكرية معينة ليست من جوهر نظرية التطور الثقافي، مثل الادعاء المثير للجدل بأن الميمات «تطفلت» على العقل البشري لمصلحتها الخاصة. وأخيرا، أدى مفهوم الميم بالنقاد إلى الاستعجال في صرف نظرهم عن أهمية التطور الثقافي، على أساس أن التشابه بين الجينات والميمات متخيل ولا أساس له من الصحة. لهذه الأسباب، لا ينبغي ربط نظرية التطور الثقافي بمفهوم الميم.
إحدى القضايا الفلسفية المثيرة للاهتمام هي ما إذا كان ينبغي اعتبار التطور الثقافي والتطور البيولوجي نوعين متشابهين من التطور. هل كلاهما تجسيد لنفس المنطق الدارويني المجرد؟ يرى أنصار التطور الثقافي أنهما كذلك، لكن النقاد يشيرون إلى اختلافات شتى. أحدها هو أن الثقافة يمكن أن تنتقل أفقيا ورأسيا. على الرغم من صحة ذلك، يمكن القول إن هذا لا يجعل التطور الثقافي مختلفا جوهريا عن نظيره البيولوجي. على الرغم من أن الانتقال الأفقي للجينات لا يحدث في البشر، إلا أنه ليس مستحيلا بيولوجيا، بل إنه شائع جدا في البكتيريا. هناك فارق أكبر وهو أن المتغيرات الثقافية الجديدة لا تنشأ عادة عن طريق الصدفة، كما تفعل المتغيرات الجينية الجديدة، بل هي اختراعات بشرية متعمدة. على سبيل المثال، من الأرجح استبعاد أن يكون تحسين معين أدخل على تصميم القارب الطويل ناتجا عن حدث عشوائي، بل هو صادر عن صانع قوارب ذكي من شعب الفايكنج أدرك أن التصميم الحالي يمكن تحسينه. الاختلاف الأخير في هذا الشأن هو أن الوراثة الثقافية «لاماركية»، بمعنى أن التعديلات التي تجرى على صفة ثقافية معينة أثناء حياة الفرد يمكن أن تنتقل لذريته. على النقيض من ذلك، فإن الوراثة البيولوجية ليست لاماركية في العادة، إذ لا تنتقل التغييرات التي تتسبب بها البيئة للكائن الحي عموما إلى ذريته.
هذان الاختلافان الأخيران مهمان، لكن لا ينبغي إعطاؤهما أكبر من حجمهما. حقيقة أن تباينا ثقافيا جديدا نشأ بشكل متعمد، ولم يظهر بشكل عشوائي، تتوافق تماما مع «انتشاره» بعد ذلك بنمط دارويني، أي إن انتشاره يرجع إلى الميزة التكيفية التي يمنحها ذلك التباين لمستخدميه. وبالمثل، فإن حقيقة أن الوراثة الثقافية لاماركية تتوافق مع التعامل مع انتشار الثقافة باعتباره عملية داروينية. من ناحية، كان داروين نفسه يؤمن بانتقال السمات المكتسبة بالوراثة؛ وكان الداروينيون الجدد هم من رفضوا الوراثة اللاماركية. علاوة على ذلك، أظهرت اكتشافات حديثة في مجال علم الوراثة فوق الجينية أنه في حالات معينة، تكون الوراثة البيولوجية في حد ذاتها لاماركية، إذ يمكن أن تنتقل التغيرات المكتسبة الموجودة في «علامات الوراثة فوق الجينية»، ولكنها غير موجودة في تسلسل الحمض النووي إلى الجيل التالي. لهذا السبب أيضا، لا ينبغي أن نستبعد فكرة أن التطور الثقافي هو عملية داروينية حقيقية.
أخيرا، هناك علاقة مثيرة للاهتمام بين التطور الثقافي ومسألة مستويات الانتخاب التي نوقشت في الفصل الخامس. لقد رأينا أنه بينما تتطور معظم الصفات البيولوجية بسبب الميزة التي تمنحها الكائن الحي، فإن هذا لا يحدث في جميع الحالات. بل هناك احتمال آخر وهو أن الصفة تتطور لأنها مفيدة للجماعة، أي نتيجة للانتخاب على مستوى الجماعة. ينطبق ذلك أيضا على الصفات الثقافية. من المفترض أن يعود أسلوب زراعة محسن ينتشر بين المجموعة بالفائدة على كل مزارع يستخدمه. لكن بعض الممارسات الثقافية الأخرى قد تتطور عن طريق الانتخاب الجماعي. على سبيل المثال، لدى العديد من المجتمعات التقليدية أنظمة معقدة من القواعد الاجتماعية التي تنظم سلوك أفرادها. تلك القواعد يفرضها أفراد يعاقبون أي فرد ينتهكها. معاقبة المخالف للقواعد عمل إيثاري، لأنه مكلف على المستوى الفردي ولكنه مفيد للمجموعة. ومن ثم، فإنه من المرجح أن تكون الأعراف الاجتماعية قد تطورت عن طريق انتخاب جماعي ثقافي.
في الفصل الخامس، رأينا أن الانتخاب على مستوى الجماعات كثيرا ما كان يتشكك فيه في علم الأحياء. ولكن من المثير للاهتمام أن الاعتراضات التقليدية على الانتخاب الجماعي الجيني قد لا تنطبق على نظيره الثقافي. على وجه الخصوص، أحد الاعتراضات هو أن الهجرة بين الجماعات سرعان ما ستجعلها متجانسة وراثيا، ومن ثم ستؤدي إلى تقليل التباين بين الجماعات اللازم للانتخاب الجماعي. لكن في الجانب الثقافي لا تنشأ مثل هذه المشكلة. فالهجرة بين الجماعات البشرية لا تجعلها تلقائيا متجانسة ثقافيا؛ لأن المهاجرين غالبا ما يتبنون الممارسات الثقافية لجماعتهم الجديدة. على الرغم من أن الجدل حول هذه النقطة لا يزال دائرا، فإن الدلائل تشير إلى أن الانتخاب الجماعي قد يكون قوة أكثر فاعلية في المجال الثقافي منه في المجال الجيني.
إيجازا، بينما يركز علم الأحياء الاجتماعي وعلم النفس التطوري على التطور البيولوجي للسلوك البشري وأسسه المعرفية، تسلك نظرية التطور الثقافي نهجا مختلفا تماما. يشير وجود اختلافات ثقافية بين البشر، وحقيقة الوراثة الجينية-الثقافية المزدوجة، إلى أن عملية التطور الثقافي تعمل بالتوازي مع عملية التطور الجيني في المجتمعات البشرية، بل تتفاعل معها أحيانا. لقد أنتجت هذه النظرية دراسات تجريبية مذهلة، وأثارت أسئلة فلسفية مثيرة للاهتمام، مثل ما إذا كان التطور الثقافي والبيولوجي متشابهين جوهريا أم لا.
خاتمة
ماذا نستخلص من هذا العرض الموجز لفلسفة علم الأحياء؟ بالإضافة إلى الدروس المستفادة المحددة المذكورة في كل فصل، فإن أهم درس مستفاد بصفة عامة هو أن القضايا الفلسفية شائعة في علم الأحياء. يعني هذا أن التأملات الفلسفية في علم الأحياء تلعب دورا مهما. تساعد الفلسفة في تعميق فهمنا لصورة العالم التي يرسمها علم الأحياء المعاصر من خلال تدقيقها في معاني المفاهيم البيولوجية، ودراسة الآثار المترتبة على النظريات البيولوجية، واستكشاف منطق التفسيرات البيولوجية.
قراءات إضافية
الفصل الأول: لماذا فلسفة علم الأحياء؟
Good overviews of the philosophy of biology include
Sex and Death
by Kim Sterelny and Paul Griffiths (University of Chicago Press, 1999);
, by Alex Rosenberg and Daniel McShea (Routledge, 2008); and
by Peter Godfrey-Smith (Princeton University Press, 2016). Also useful are two collections of articles:
A Companion to Philosophy of Biology , edited by Sahotra Sarkar and Anya Plutynski (Blackwell, 2008); and
The Cambridge Companion to the Philosophy of Biology , edited by David L. Hull and Michael Ruse (Cambridge University Press, 2007).
الفصل الثاني: التطور والانتخاب الطبيعي
Darwin’s argument is set out in
On the Origin of Species (John Murray, 1859). Paley’s design argument can be found in his
Natural Theology (J. Faulder, 1802). A good discussion of Darwin and Paley is Francisco J. Ayala’s 'Darwin’s greatest discovery: design without designer’,
Academy of Sciences
vol. 104, 2007. A good introduction to the neo-Darwinian theory is John Maynard Smith’s
The Theory of Evolution (Cambridge University Press, 1993). The logic of Darwinian explanation is explored by Elliott Sober in
The Nature of Selection (University of Chicago Press, 1984), and by Daniel Dennett in
Darwin’s Dangerous Idea (Penguin, 1995). The proximate/ultimate distinction was set out by Ernst Mayr in 'Cause and effect in biology’,
Science
vol. 134, 1961, and is critically re-assessed by Kevin N. Laland et al. in 'Cause and effect in biology revisited’,
Science
vol. 334, 2011. The evidence in favour of evolution is set out in Jerry Coyne’s
Why Evolution is True (Oxford University Press, 2010). Elliott Sober’s
Evidence and Evolution (Cambridge University Press, 2008) is an advanced discussion of how evolutionary hypotheses can be tested against data.
الفصل الثالث: الوظيفة والتكيف
Good discussions of biological function include Philip Kitcher’s 'Function and design’ and
both reprinted in D. Hull and M. Ruse (eds.)
(Oxford University Press, 1998). The aetiological theory is set out by Karen Neander in 'The teleological notion of “function”’,
Australasian Journal of
vol. 69, 1991. The causal role theory derives from Robert Cummins’s article 'Functional analysis’,
The Journal of
vol. 72, 1975. The orthodox junk DNA viewpoint is challenged by Joseph Ecker et al. in 'Genomics: ENCODE explained’,
Nature
vol. 489, 2012. W. Ford Doolittle replies in 'Is junk DNA bunk? A critique of ENCODE’,
Academy of Sciences
vol. 110, 2013. Stephen Jay Gould and Richard Lewontin’s critique of adaptationism is found in 'The spandrels of San Marco and the Panglossian paradigm’,
Society B , vol. 205, 1979. A special issue of the journal
Biology and
2009 contains papers re-assessing Gould and Lewontin’s critique on the thirtieth anniversary of its publication.
الفصل الرابع: مستويات الانتخاب
of selection include Elizabeth Lloyd’s article 'Units and levels of selection’ in the online
Stanford Encyclopedia of Philosophy , and Samir Okasha’s
Evolution and the Levels of Selection (Oxford University Press, 2006). George Williams’s critique of group selection is found in his
Adaptation and Natural Selection (Princeton University Press, 1966), and discussed by Elliott Sober in
The Nature of Selection (University of Chicago Press, 1984). Hamilton’s original papers on kin selection/inclusive fitness are reprinted in his collection
Narrow Roads of Gene Land
vol. 1 (Oxford University Press, 1998). A recent philosophical discussion of Hamilton’s work is Jonathan Birch’s
The Philosophy of Social Evolution (Oxford University Press, 2017). The kin versus group selection issue is examined by Elliott Sober and David Sloan Wilson in
Unto Others (Oxford University
kin and group selection’,
British Journal for the Philosophy of Science , vol. 67, 2015. Dawkins’s gene’s eye view of evolution is set out in
The Selfish Gene (Oxford University Press, 1976), and
The Extended Phenotype (Oxford University
ideas is found in Kim Sterelny and Paul Griffith’s
Sex and Death (University of Chicago Press, 1999). The major transitions discussion stems from John Maynard Smith and Eörs Szathmáry’s
The Major Transitions in Evolution (Oxford University Press, 1995); good philosophical treatments include Peter Godfrey-Smith’s
Darwinian Populations (Oxford University Press, 2009), and the collection
The Major Transitions in Evolution Revisited , edited by Kim Sterelny and Brett Calcott (MIT Press, 2011).
الفصل الخامس: الأنواع والتصنيف
Marc Ereshefsky’s article 'Species’, in the online
Stanford Encyclopedia of Philosophy , offers a good overview of the species problem. Book-length treatments include John Wilkins’s
Species (University of California Press, 2009) and Robert Richards’s
The Species Problem (Cambridge University Press, 2010). Mayr’s biological species concept is set out in his
Animal Species and Evolution (Harvard University Press, 1963). A useful overview of species concepts is Jerry Coyne and H. Allen Orr’s 'Speciation’ in A. Rosenberg and R. Arp (eds.)
(Blackwell, 2009). The species-as-individuals thesis is set out by David Hull in 'A matter of individuality’,
45, 1978; a good discussion is Thomas Reydon’s 'Species are individuals, or are they?’,
70, 2003. The widespread consensus that species do not have essences is challenged by Michael Devitt in 'Resurrecting biological essentialism’,
Science
75, 2008. The Linnaean classification system is discussed in Marc Ereshefsky’s
The Poverty of the Linnaean Hierarchy (Cambridge University Press, 2001). A useful introduction to phylogenetic systematics is found in David Hull’s 'Contemporary systematic philosophies’, in E. Sober (ed.)
Conceptual Issues in Evolutionary Biology (MIT Press, 2008).
الفصل السادس: الجينات
Evelyn Fox Keller’s
The Century of the Gene (Harvard University Press, 2000) discusses genetics in historical perspective. Paul Griffiths’ and Karola Stotz’s
Genetics and Philosophy (Cambridge University Press, 2013) offers a broad overview of philosophical issues in genetics. Philip Kitcher’s article '1953 and all that’, in
The Philosophical Review
43, 1984, is the
locus classicus
for the view that Mendelian genetics cannot be reduced to molecular genetics. Alternative perspectives on reductionism are found in Sahotra Sarkar’s
Genetics and Reductionism (Cambridge University Press, 1998), and Ken Waters’s 'Molecular genetics’, in the online
Stanford Encyclopedia of
. The gene concept is examined at length by Hans-Jörg Rheinberger and Staffan Muller-Wille in the article 'Gene’ in the online
Stanford Encyclopedia of Philosophy , and in their book
The Gene (University of Chicago Press, 2018). The idea of genetic information is defended by John Maynard Smith in 'The concept of information in biology’,
67, 2000; it is critiqued by Paul Griffiths in 'Genetic information: a metaphor in search of a theory’,
68, 2001; and by Sahotra Sarkar in 'Decoding coding: information and DNA’, in his
Molecular Models of Life (MIT Press, 2004).
الفصل السابع: السلوك البشري والعقل والثقافة
A good overview of how evolutionary biology can be applied to the study of human behaviour is Kevin Laland and Gillian Brown’s
Sense and Nonsense (Oxford University Press, 2002). Kenneth Schaffner’s book
Behaving: What’s Genetic, What’s Not, and Why Should We Care? (Oxford University Press, 2016) offers a searching discussion of behaviour genetics, heritability analysis, and the challenges to the nature-nurture dichotomy. Edward O. Wilson’s
On Human Nature (Harvard University Press, 1978) is the original defence of human sociobiology; Wilson’s ideas are critiqued by Philip Kitcher in
Vaulting Ambition (MIT Press, 1985). John Tooby and Leda Cosmides outline evolutionary psychology in their 'The psychological foundations of culture’, in H. Barkow, L. Cosmides, and J. Tooby (eds.)
The Adapted Mind (Oxford University Press, 1992). Good philosophical discussions include Steve Downes’s article 'Evolutionary psychology’ in the online
Stanford Encyclopedia of Philosophy , and David Buller’s book
Adapting Minds (MIT Press, 2005). Cultural evolution theory is outlined by Peter Richerson and Robert Boyd in their book
Not by Genes Alone (University of Chicago Press, 2005). Good philosophical discussions include Tim Lewens’s book
Cultural Evolution (Oxford University Press, 2015), and his article of the same name in the
Stanford Encyclopedia of
. Cecilia Heyes’ book
Cognitive Gadgets (Cambridge University Press, 2018) integrates cultural evolution with aspects of evolutionary psychology.
مصادر الصور
(3-1) A spandrel (5-1) Local populations of Ensatina eschscholtzii (Redrawn with permission. American Society of Ichthyologists and Herpetologists (ASIH)). (5-2) Phylogeny of the major primate groups (5-3) Reptilia (6-1) Mendel’s experiment (6-2) DNA is composed of two strands
صفحه نامشخص